علم الجمال
أطروحة التعبير في الهندسة
عدنان المبارك
لغاية أمد قريب ُُفسِِّّرت الهندسة geometry ( تعني باليونانية قياس - metres الأرض - geo ) بصورة لا تربطها بأغراض التعبير. فالزخرف الهندسي لايقوم مثلا بأيّ وظيفة أخرى غير الزينة. إلا أن بعض الباحثين يؤكد على نشوئه الدال على مخاوف معينة في الإنسان أو أنه يعبّر عن مساع ٍ ما لديه. ومعلوم أن المنظر الألماني المعروف فلهلم فورنغير W.Worringer طرح مفهوما مفاده أن الإنسان القديم أراد الحد من إعتباطية عالم الظواهر من خلال رموز الضرورة بواسطة الصور الهندسية . فهذا الإنسان الذي أقلقته وأجهدته الحياة بحث عن كل ما هو غير حيّ يزيل القلق من الغد ويحل محل الإستمرارية الثابتة. ويكتب أيضا في مؤلفه المعروف ( الفن الغوطي ) بأن الخلق الفني كان لدى الإنسان القديم إنفلاتا من الحياة وعشوائيتها ، والإبقاء بأسلوب تعبيري على شيء هو أسمى من الظواهر وذي طابع ثابت. إذن لم ينشأ الزخرف الهندسي ، وفق فورنغير، من الحاجات العملية ولا من الرغبة في التزيين بل كان تعبيرا عن هروب الإنسان من عالم الظواهر البصرية التي أثارت قلقه بتنوعها وتغيراتها وعشوائيتها. فهو لم يقدر على تنسيقها في نظام مترابط للأسباب والنتائج. وفي الوقت ذاته خلق عالماً لكل ما هو مستقر وأكيد ومطمئن ، عالم القيم الثابتة والمطلقة والتي صارت مضامينا دينية عندما تمّ جمعها.
معلوم أن الخط المستقيم لا وجود له ، بالأساس، في الطبيعة. وعندما رسم الإنسان القديم هذا الخط كان مدركا لأستقلاليته عن القوانين الطبيعية ( العضوية ) ، كما كان يعي بأنه يفعل شيئا يتجاوز الآخر الحي ، شيئا غير بيولوجي ولا يحوي أيّ تقديم أو تمثيل للحياة. فلاغرابة إذن في أنه ربط بهذه الخطوط المستقيمة والشخوص المخلوقة منها ، مشاعره الدينية. إن هذه الخطوط و الشخوص والأحساس بالمطلق كانت ، على السواء ، خارجية ، متسامية transcendent أزاء الطبيعة التي تؤثر على الحواس حسب. وفي كلتى الحالتين حصل إجتياز عالم الظواهر البصرية ( المرئية ). وبذلك نشأ الوعي بوجود تماثل بين العناصر الهندسية وكلّ ما هو إلهي وضروري . وقبل أن تخدم الهندسة الأغراض العملية ( القياسات ) وتصبح علما كانت تؤدي وظيفة تعبيرية. فلقد كانت بالنسبة للإنسان هروبا من القلق كما عبرت عن الأحاسيس المتسامية والآلوهية والمطلق. وبين الوظائف المذكورة تبين أن الأولى كانت الأقل بقاءا. فالإتصال المتكرر والمستمر بين الإنسان وظواهر الطبيعة أدى الى إدراكها وفهمها وإكتشاف أحوال الترابط والإعتماد المتبادل بينها، كما قاد الى المهارة في نشوء إحداها نتيجة قيام الأخرى وبذلك زال تدريجيا القلق و الخوف اللذان رافقا إحتكاك الإنسان بالطبيعة. وبهذه الصورة أصبح العالم الخارجي أليفا. ومع تقدم معرفة الإنسان بهذا العالم إزدادت ثقته به ايضا. ونتيجة لذلك تبدل الفن أيضا وصار تقديميا. ومنذها بدأت الهندسة تخدم الأغراض العملية سواء في الحياة أو الفن. ومن الصعب إدراك تطورالعمارة والتصوير والنحت الأنتيكي بدون المعرفة الهندسية التي مكنت من وضع القواعد والنسب التي أصبحت فيما بعد لدى الأغريق وغيرهم ، أساس الجمال. الا أن تلك الهندسة كانت غير مرئية. فقد حجبتها ( طبيعية ) الأشكال المستعارة من الواقع المراقَب والتي لم يتذكرها المتلقي المندهش بالأشكال العضوية للطبيعة والتي شملت البنية أو الهيكل. لقد تبين أن الوظيفة التعبيرية للعناصر الهندسية والتي يكون أساسها التعبير عن المطلق ، هي الأكثر ديمومة. وفي الحقيقة أحدثت الثقافة الأوربية ، هنا ، تغيرات جوهرية إعتمدت بالدرجة الرئيسية على الإختفاء النسبي لأحاسيس الآلوهية كشيء يحوي التسامي المطلق ويتخطى كل ما هومعلوم. فتصوّر الإله إرتبط لدرجة معينة بالواقع الأرضي. وفي الدين اليوناني كانت متقدمة للغاية عملية ( أنسنة ) الآلهة. كما إنتقلت العناصر
الأنثرومورفولوجية فيما بعد الى المسيحية . فالمسيح أصبح إنسانا بالمعنى المورفولوجي . وهكذا فالآلوهية كفت عن أن تكون ظاهرة لا صلة لها بالعالم المحيط بالإنسان. ومنذها ظهرت مفاهيم ما يسمى بتقديس المادة. وفي النتيجة فقدت الأشكال الهندسية دورها في التعبير عن المطلق ولكن الى حد معين .
لقد صارت الخطوط المستقيمة والدوائر والمثلثات وغيرها أشياءً عادية أي غير نادرة الا أن بساطتها وسهولة مسك الشكل فيها قد دفع الى قيامها بمهمة التعبير عن مضامين معينة يصعب طرحها في حقل فني آخر بالأساليب الأخرى. وهذه المضامين خصت قوانين العالم الطبيعي الشمولية أو الواقع المتسامي الذي يكون مدركا بشتى السبل. وغالبما نلقى ، هنا ، من يقول بأن ما يخدم التعبير عن المضامين العامة هو اللغة التي تتعامل كلماتها مع العام أي مع أصناف الشيء وليس الخاص. فنطاق الأفكار والتصورات المرتبطة بهذا المصطلح وذاك ليس بالثابت ، فمثلاً قد يكون بهذا الضيق أو تلك السعة. وفي المصطلح الفلسفي توجد أسماء كثيرة ذات نطاق إستخدام با لغ السعة. مثلا كلمة الوجود تعني كل ما هو موجود فعلا في حين أن لغة الفنون التشكيلية هي الملموس ، فالمصوّر يقدم برتقالة ، نخلة ، إنسانا معينا, وبذلك يتم تقييد العام الا أن الفنانين سعوا منذ القدم الى التغلب على هذه المحدوديات عن طريقين : التجريد والرمز.
وفي الحقيقة يكون التجريد الجزء الأساسي من عمل الفنان الذي يعيد خلق الواقع المرئي. وهذا الفعل هو نتيجة لموقفين. الأول ينشأ عندما تنبذ عناصر ( الموتيف ) بسبب إستحالة مسكها عند إستخدام تقنية فنية معينة ( مثل الحركة في التصوير أو النحت ) أو لإعتقاد الفنان بأنها ليست بالمهمة أو الضرورية من الناحية الفنية. وفي الحالة الثانية يرتبط فعل التجريد بالبحث عن جوهر الشيء المعاد خلقه. وهذا يخص الأسلوب الأرسطوطاليسي في فهم المحاكاة وتقديم الواقع في الفن حيث يتم التأكيد ، بدل الإستنساخ الأمين والسلبي ، على إستخلاص الصفات العامة أي النموذجية والضرورية والمناسِبة لإظهارالأشياء. وفي المحصلة تنشأ صورة تعميمية محرومة من صفات الأشياء الملموسة التي تعتبرعابرة وجاءت بها المصادفة لكنها تظهر جوهر تلك الأشياء .
وإذا كانت عملية التجريد قد قطعت أشواطا بعيدة ونبذت صفات كثيرة يصل الفنان حينها الى الأشكال الهندسية .. وهذا رأي الكثيرين من فناني ومنظري العصور الحديثة. ويكفي أن نذكر هنا سيزان الذي نظرالى كامل تعقيد أشكال الطبيعة من خلال ثلاثة أشكال هندسية هي الأسطوانة والكرة والمخروط ، أو التكعيبيين أو ممثلي الفن التجريدي الذين تناولوا مشاهد الطبيعة من خلال الأشكال المهندسة أو تحويلها الى عناصر هندسية .
وفي ( يومياته ) يكتب باول كلي : يمضي نظري بعيدا وهو يتغلغل دائما في أجمل الأشياء . وغالبما يقولون بأنني عاجز عن رؤيته . إن الفن هو رمز عملية الخلق عامة. والرب لم يكترث البتة لمراحل ترافقت زمنيا بفعل ( الصدفة ) .
وقد ينشأ هنا مثل هذا السؤال : أين هي حدود فعل التجريد وأين تنتهي عملية تحّول الصورة ( الشبيه) الى الرمز ( التجريد) ، وما هو الفارق بينهما ؟ وقد تصعب الإجابة إذا لم نأخذ بمعيار
النسبية عند تقدير الفعل التجريدي. ومعلوم أن الرموز تعبر، بالأساس ، عن مضامين لاتطالها حاسة النظر أو المخيلة. فهي إما أن تكون مضامينا تصوّرية صرفة ذات طابع تجريدي واسع و إما مضامينا تخص الواقع التجاوزي ( المتسامي ) الذي لا نتعرف عليه عن طريق الحواس .
وعادة ً تكون مصادر الرمزية ُمدرَكة بأسلوبين : عقلاني وغير عقلاني. الثاني تشكل تحت تأثير أفكار كارل يونغ القائل بأن الرموز تنشأ نتيجة العمليات الجارية في لاوعينا والتي ُتطرَح علينا جاهزة. كذلك فهي تنشأ في الذهن تلقائيا وتأتي الى العالم بكامل ( سلاحها ) شأن أ الربّة أثينا الأسطورية التي ولدت مدججة بالسلاح من رأس زيوس ، أو كما يقول يونغ فالعمل الرمزي يصوغ شكله بنفسه و( ما أراد المؤلف أن يفعله يكون مرفوضا ، وما لم يرد قبوله عليه أن يقبله ). فنحن لانخلق أيّ شيء عن وعي بل نقوم بتفسيرٍ عند إستخدام عقلنا ، وهذا التفسير ليس بالكامل على الدوام. فالمضمون الدلائلي للرمزلا يمكن إستغلاله كاملا. أما الأسلوب العقلاني في إدراك الرمز فهو يفترض أن الرمز هو الشيء المدرك حسيا لكنه لا يستند الى عامل التماثل الذي لا يعتمد بدوره على الشبه في المظهر.
وتساعدنا التقاليد ا لفيثاغورسية على فهم مباديء التمثيل الرمزي المميِّز للهيئات الهندسية . وقد تمثلت عناية فيثاغورس بالأعداد والهيئات في خلق ( المتتابعات ) الرياضية المنطقية أوالمباديء الأخرى التي قد تطبّق في الحياة اليومية. وكما يجد كولن ولسن في كتابه الممتع ( المستور The Occult ) فعقل الفيلسوف اليوناني كان يرتكز على التماثل analogy ومبدأ أن كل حقيقة خاصة يمكن أن تكون رمزا لشيء أكبر. مثلا تكون ثلاثة هي المثلث وأربعة هي المربع وهكذا دواليك. بهذه الصورة ُمنحت الأعدادُ الملموسية ولم ُيفصل الكم عن النوع . وكان منطلق نظام فيثاغورس الصوتى ثلاثة فواصل موسيقية intervals تنشأ عند تقصير الأوتار في الأماكن المناسبة : الدرجة الثامنة في السلم الموسيقي octava ( 1 : 2 ) والخامسة quint ( 2: 3 ) والرابعة quarta( 3 : 4) . أما مباديء الهارموني فهي تكون مفهومة كمرافقة صوتية لوترين مختلفين وفق العلاقة الرياضية 2 : 1 , 3 : 2 , 4 : 3 . وعلى هذه الأعداد ( أي من واحد الى أربعة ) علق الفيثاغورسيون أهمية خاصة . فمجموعها ( 1+2+3+4 )هو العدد عشرة وهو رقم مقدس .. وإعتقدوا بأنهم حين إكتشفوا الجوهر العددي للهارموني الموسيقي أفلحوا في التعرف على هارموني كل وجود كامن في الأسرارالمماثلة للعلاقات العددية. وكما يقول ولسن وجد الفيثاغورسيون أن الخلق يبدأ من الوحدة الربانية والصرفة ، من عدد ( واحد) ثم يتطور حتى الرباعي المقدس. فالأعداد الأربعة الأولى تلد عشرة أي العدد المقدس الذي يبدأ منه كل شيء. ولكي ندرك هذا المفهوم بالشكل الصحيح لابد من الإشارة الى أن الفيثاغورسيين فهموا الوحدة بشكل مغاير لفهمنا. فلدينا يكون ( واحد ) هو العنصر الصحيح لتحقيق الجمع ( مثلا 1+1 +1 +1 = 4) بينما رأى الفيثاغورسيون العكس صحيحا. أي أن الوحدة أعلى من جميع الأعداد وليس من الممكن جمع الوحدة. فالأعداد لم تنشأ نتيجة عملية الجمع أو مضاعفة المفرد بل من إنقسام الوحدة الأولية. كذلك فالفهم الفيثاغورسي لإشكاليات العدد يمكن الأخذ به في الحقل الهندسي. مثلا ينشأ المثلث حين توضع أربع نقط قي صف واحد وفوقه أخر من ثلاث وثالث من إثنتين ورابع من واحدة . وهذا يثبت أن المثلث عند الفيثاغورسيين رمز أسطوري أيضا...
إن هذا العرض الموجز لمبدأ الفهم من خلال التماثل يسمح بإدراك ماهية الصلة بين عنصرين غير متشابهين بصرياً . وكما يقول أرسطوطاليس في ( الميتافيزيقا ) فقد أخذ الفيثاغورسيون بالكثير من أحوال التماثل عند النظر الى اشياء غير موجودة أو ناشئة. فهذه الخاصية للأعداد تمثل العدالة والثانية الروح والثالثة العقل والرابعة الحظ وهلم جرا. ويحصل هذا التمثيل إذا إعتمدت علاقات الأشياء بالأعداد والأشكال الهندسية والتي تمكن من التعبير عن الأولى من خلال الثانية ، على أسس معقدة تخص مباديء الوجود نفسه. ووفق الفيثاغورسيين فكل شيء في الطبيعة منمنذج في الأعداد ، ومن خلال العلاقات الناشئة بينها يمكن كشف جوهر جميع الأشياء. ومعلوم أن مفاهيمهم أثرت على معظم الفلاسفة والفنانين ا . وهي من خلال أفلاطون وبويثيوس Boethius ألقت بتأثيرها على الفن الروماني . فالمثلث المتساوي الأضلاع يرمز في هذا الفن الى الآلوهية وليس لجماله بل لخصائصه الهندسية. وعامة كان المثلث ُيعتبر الشكلُ الأول ولأن كل شكل يمكن أن يقسم الى مثلثات كثيرة عندما ترسم الخطوط من وسطها الى زواياها . إذن كل مثلث ينقسم الى مثلثات وليس الى غيرها. كذلك فالمثلث المتساوي الزوايا الناشيء نتيجة لتقسيم المثلث المتساوي الأضلاع الى نصفين ، هو ذلك الشيء الذي يعبّر عن الإنسان. وهذا التغيير مرتبط بظاهرة فقدان التوازن الذي يميز المثلث المتساوي الأضلاع .
ووفق منظور مباديء التماثل بين هيئات هندسية معينة وأحوال وجود تجاوزية transcendent ومثالية ideal كان يراعى مبدأ الوعي بوجود صفات مشتركة رغم أنها تتكشف بأشكال متباينة. ومن هذه الصفات هناك الكمال . وقد إكتشف الكمال ، بمعناه الأستيتيكي ن في بعض الأشكال الهندسية والأفكار القائلة بأن العالم المرئي ُبني وفق مبدأ الكمال أو أنه الكمال ، حسب أفلاطون ، أو حين تتم المطابقة بين الآلهة والعالم ذاته ، حسب الرواقيين والحلوليين ، أو أنه الرب كما قال ديكارت ولايبنتس، رغم أنه في لاهوت العصر الوسيط المسيحي وُضِع الربُ فوق الكمال الذي كان يدرك بالمعنى الأنثولوجي والتقني والأخلاقي ، وفي كل منها إقترب هذا الكمال من الأشياء المُدرَكة قابلة التصور والتي يمكن مسكها بالصور، أو أنه كان يبتعد عنها أيضا. أما الفنانون الذين أرادوا التعبير عن فكرة الكمال فلقد كان عليهم العثور على المعادل الرمزي والمرئي. وكان بالإمكان البحث عنه في الواقع المحيط بنا وإختيار ماهو أكثر كمالا فيه الا أنهم توجهوا في الغالب نحو الهندسة باحثين فيها عن العناصر التي قد توميء بفضل صفاتها المدركة حسيا ووفق مبدأ التماثل ، الى الكمال اللامادي. وهناك من يجد أن الشكل الهندسي المنتظم هو مدخل الى الكمال والنموذج. فالهندسة تتجاوز كلَّ لاكمالٍ سببه الإنحطاط المرتبط بجريان الزمن. كما أنها رؤيا المطلق الذي يسعى اليه الإنسان.
ولابد لكل إضطراب يتعرض له الكمال وكل تناقض تتصف به الأشياء المرموز اليها ، من أن يعثر ، وفق مبدأ التماثل ، على إنعكاس له في الأشكال الهندسية التي هي محض رموز. وبقدر ما يكون لعبة النقائض فليس بإستطاعته أن يحتوي على أيّ معنى من معاني الدائرة التي ترمز ، هنا ، الى الوحدة والكمال.
كذلك يمكن أن يكون نطاق المعاني المرموز اليها بواسطة الأشكال الهندسية أوسع بكثير. ومرةً قال المعماري الإيطالي المعروف بالاديو A. Palladio عن الشكل الدائري بأنه مغلق بمحيط واحد لا يمكن العثور فيه على البداية ولا النهاية كما لا يمكن التمييز بين شكل وآخر ، فالبعض شبيه بالآخر وكلها تسهم في شكل الكل كما أن هذا الشكل الذي يكون محيطه بنفس البعد في كل نقطة عن مركزه يصلح ، برأي بالاديو ، أفضل من غيره ل( إدراك الوحدة والجوهراللامنتهي وعدالة الرب ). وهذه الأمثلة خصت المباديء الأساسية التي تتحكم بالعالم والوجود التجاوزي أوالمثالي أيضا. وتمَّ التعبير عنها بواسطة الرمز الهندسي في التصوير والنحت والعمارة في كل مكان .
وقام فنانو القرن العشرين بأكبر المحاولات الساعية الى خلق وسائط هندسية غير تقديمية ( أي تجريدية ) ورمزية للتعبير عن الأغراض المذكورة . وأبرز مثال يقدّمه بييت موندريان الذي كان واقعا ، شأن فاسيلي كاندينسكي ، تحت تأثير الثيوصوفية أي المذهب القائل بالفناء بالذات والبقاء بالله. وقد بحث هذا الفنان الهولندي الكبير عن القوانين العامة للوجود مستثنياً المظهر الخارجي للأشياء الطبيعية. وفي البدء أخذ بأسلوب منهجي لعملية التجريد محاولا الكشف عماهو شمولي من خلال نبذ الصفات الطارئة للأشياء .الا أن هذا الطريق ، وكما ذكر في طروحاته النظرية ، قد سمح له بتحقيق مستو معين للتعميم حسب ، أي أنه لم يصل الى ما يسمى بالقياسية regularity الأكثر عمومية. وكانت خطوته الأولى الإنفصال عن تقاليد المحاكاة في الفن والأخذ بالمبدأ الرمزي. وكان يرى أن جوهر الوجود تعبرعنه العلاقة بين قوتين كونيتين خالقتين وهما كل ما هو نشِط دينامي أي العنصر الذكوري الذي يجسّده الخط الشاقولي ، والعنصر الأنثوي أي كل ماهو سلبي ويرمز اليه الخط الأفقي. وعلامة الصليب التي تنشأ من الأخذ بهذين العنصريين البسيطين بزاوية قائمة كان لدى موندريان التصوّرَ التشكيلي للكون.
وكان يبدو أمراً ممكناً أن إستخدام الرموز الهندسية يتيح التعبير، بواسطة التماثل العام ، عن العامل الشمولي للعالم. وكما قال موندريان فالحكمة القديمة طرحت العلاقة الأبدية بين العنصرين الداخلى أي الروحي ، والخارجي أي الطبيعة ، وذلك بمساعدة علامة الصليب. وهذا الرمز قد يكون رغم ذلك وسيطة تعبيرٍ للتصوير التجريدي الفعلي شأن أيّ رمز آخر، ولأن الرمز هو تقييد من ناحيةٍ وإشارة مطلقة من ناحية أخرى. ولهذا السبب كان موندريان يدرس إمكانية التعبيرالمباشر للعلاقات التجريدية التي إعتبرها جوهر الواقع. وطالما أن المادة تحجب العلاقات نجد أن موندريان قد سعى الى الحد من الشكل واللون وخصائصهما الطبيعية التي تؤثر على حواسنا. وهكذا نبذ كل ما هو مشكل وكل ما يميز الرمزية الهندسية التي تتصرف بملموسيات حسية كالهيئات المشكلة figures سواء المرسومة منها أو الملونة والتي ترتبط في الذهن بفكرة شيء عام ومثالي ، ومن أجل تصوير العلاقات ذاتها كما قال. ولإظهار العلاقات ذاتها ( بالرغم من أنها على درجة كبيرة من الشمولية ) لجأ موندريان الى التبسيط النسبي للوسائط التشكيلية تجريدها من كل معنى. وكان القصد أيضا التوصل الى تحييدها وجعلها حواملاً غير ملحوظة لتلك العلاقات. وكانت الأشكال الهندسية وسائطاً تشكيلية من جديد إلا أنها بدون توجهات المحاكاة أو الأخرى الرمزية .
ويصعب القول أن موندريان وصل الى غايته الا أن المرحلة النيويوركية في فنه كانت لجوءا الى الرمز أي حين رسم تلك الخطوط الشاقولية والأفقية المتقاطعة والمكونة من تلك المربعات الصغيرة المملوءة بالألوان الفاقعة. وبرأي ميشيل سيفو M. seuphor كانت تلك اللوحات صورة رمزية لنيويورك بشوارعها المستقيمة المتقاطعة بزوايا قائمة وبأضوائها الساطعة وغير ذلك.
يرى كلود ليفي – ستروس أن الظواهرالأساسية للحياة الذهنيية والتي تقرر وتحدد أشكالها الأكثر شمولية توجد على مستوى التفكير اللاواعي. ومباديء هذا التفكير يراها مشتركة لدى جميع الناس ، وهي مرتبطة بالمباديء الأساسية لعمل عقولهم ، وفي نتائج هذا العمل يمكن ( العثور على أشكال نشاطٍ تخصنا والآخرين ، وهي شرط كل حياة ذهنية لكل الناس والأزمنة ).
أوليست الأشكال الهندسية الأساسية من ثمار هذا التفكير اللاواعي ؟ وفي عام 1921 كتب أوزنفان A.Ozenfant وجينيريه ( لي كوربيزيه ) : إذا أريتَ أيّا كان من البشر ، فرنسيا أم زنجيا أم آسيويا ، كرة البليارد ( وهي التجسيد الأكمل للكرة التي صنعها الإنسان ) لإكتشف كل واحد من هؤلاء البشر ذات التحسس بالفورم ، وهو تحسس غير متبدل وأوليّ .
وقد يكون منظر الأشكال الهندسية مثيرا لأعمق طبقات اللاوعي من تفكيرنا أي التي هي مشتركة بين جميع البشر. وليس بصدفة أن قال مؤسسا مدرسة ( النقائية Purisme ) هذان أن الإنسان حيوان هندسي. فروحه خلقت الهندسة التي تلائم أعمق حاجاتنا الى النظام ، والأعمال التي تؤثر فينا أكثر من غيرها هي التي تكون مدركة فيها الهندسة. وهو أمر محتمل أن الهندسة لاتعبر عن شيء محدد وأن مسعى الفنانين في تحويل عناصرها الى إشارات هو أمر غير جوهري وطاريء يرتبط بثقافة ما أو حقبة تأريخية معينة. الا أن هذا لايعني إنتفاء وظيفة الهندسة في توفير الإتصال بين الناس والذي يتم على مستوى التفكير اللاواعي أو لا يتيح لي أن اكتشف في النتاج المُهندَس على يد الإنسان الاخر شيئا كامنا في أعمق طبقات عقلي وأناي ...
أطروحة التعبير في الهندسة
عدنان المبارك
لغاية أمد قريب ُُفسِِّّرت الهندسة geometry ( تعني باليونانية قياس - metres الأرض - geo ) بصورة لا تربطها بأغراض التعبير. فالزخرف الهندسي لايقوم مثلا بأيّ وظيفة أخرى غير الزينة. إلا أن بعض الباحثين يؤكد على نشوئه الدال على مخاوف معينة في الإنسان أو أنه يعبّر عن مساع ٍ ما لديه. ومعلوم أن المنظر الألماني المعروف فلهلم فورنغير W.Worringer طرح مفهوما مفاده أن الإنسان القديم أراد الحد من إعتباطية عالم الظواهر من خلال رموز الضرورة بواسطة الصور الهندسية . فهذا الإنسان الذي أقلقته وأجهدته الحياة بحث عن كل ما هو غير حيّ يزيل القلق من الغد ويحل محل الإستمرارية الثابتة. ويكتب أيضا في مؤلفه المعروف ( الفن الغوطي ) بأن الخلق الفني كان لدى الإنسان القديم إنفلاتا من الحياة وعشوائيتها ، والإبقاء بأسلوب تعبيري على شيء هو أسمى من الظواهر وذي طابع ثابت. إذن لم ينشأ الزخرف الهندسي ، وفق فورنغير، من الحاجات العملية ولا من الرغبة في التزيين بل كان تعبيرا عن هروب الإنسان من عالم الظواهر البصرية التي أثارت قلقه بتنوعها وتغيراتها وعشوائيتها. فهو لم يقدر على تنسيقها في نظام مترابط للأسباب والنتائج. وفي الوقت ذاته خلق عالماً لكل ما هو مستقر وأكيد ومطمئن ، عالم القيم الثابتة والمطلقة والتي صارت مضامينا دينية عندما تمّ جمعها.
معلوم أن الخط المستقيم لا وجود له ، بالأساس، في الطبيعة. وعندما رسم الإنسان القديم هذا الخط كان مدركا لأستقلاليته عن القوانين الطبيعية ( العضوية ) ، كما كان يعي بأنه يفعل شيئا يتجاوز الآخر الحي ، شيئا غير بيولوجي ولا يحوي أيّ تقديم أو تمثيل للحياة. فلاغرابة إذن في أنه ربط بهذه الخطوط المستقيمة والشخوص المخلوقة منها ، مشاعره الدينية. إن هذه الخطوط و الشخوص والأحساس بالمطلق كانت ، على السواء ، خارجية ، متسامية transcendent أزاء الطبيعة التي تؤثر على الحواس حسب. وفي كلتى الحالتين حصل إجتياز عالم الظواهر البصرية ( المرئية ). وبذلك نشأ الوعي بوجود تماثل بين العناصر الهندسية وكلّ ما هو إلهي وضروري . وقبل أن تخدم الهندسة الأغراض العملية ( القياسات ) وتصبح علما كانت تؤدي وظيفة تعبيرية. فلقد كانت بالنسبة للإنسان هروبا من القلق كما عبرت عن الأحاسيس المتسامية والآلوهية والمطلق. وبين الوظائف المذكورة تبين أن الأولى كانت الأقل بقاءا. فالإتصال المتكرر والمستمر بين الإنسان وظواهر الطبيعة أدى الى إدراكها وفهمها وإكتشاف أحوال الترابط والإعتماد المتبادل بينها، كما قاد الى المهارة في نشوء إحداها نتيجة قيام الأخرى وبذلك زال تدريجيا القلق و الخوف اللذان رافقا إحتكاك الإنسان بالطبيعة. وبهذه الصورة أصبح العالم الخارجي أليفا. ومع تقدم معرفة الإنسان بهذا العالم إزدادت ثقته به ايضا. ونتيجة لذلك تبدل الفن أيضا وصار تقديميا. ومنذها بدأت الهندسة تخدم الأغراض العملية سواء في الحياة أو الفن. ومن الصعب إدراك تطورالعمارة والتصوير والنحت الأنتيكي بدون المعرفة الهندسية التي مكنت من وضع القواعد والنسب التي أصبحت فيما بعد لدى الأغريق وغيرهم ، أساس الجمال. الا أن تلك الهندسة كانت غير مرئية. فقد حجبتها ( طبيعية ) الأشكال المستعارة من الواقع المراقَب والتي لم يتذكرها المتلقي المندهش بالأشكال العضوية للطبيعة والتي شملت البنية أو الهيكل. لقد تبين أن الوظيفة التعبيرية للعناصر الهندسية والتي يكون أساسها التعبير عن المطلق ، هي الأكثر ديمومة. وفي الحقيقة أحدثت الثقافة الأوربية ، هنا ، تغيرات جوهرية إعتمدت بالدرجة الرئيسية على الإختفاء النسبي لأحاسيس الآلوهية كشيء يحوي التسامي المطلق ويتخطى كل ما هومعلوم. فتصوّر الإله إرتبط لدرجة معينة بالواقع الأرضي. وفي الدين اليوناني كانت متقدمة للغاية عملية ( أنسنة ) الآلهة. كما إنتقلت العناصر
الأنثرومورفولوجية فيما بعد الى المسيحية . فالمسيح أصبح إنسانا بالمعنى المورفولوجي . وهكذا فالآلوهية كفت عن أن تكون ظاهرة لا صلة لها بالعالم المحيط بالإنسان. ومنذها ظهرت مفاهيم ما يسمى بتقديس المادة. وفي النتيجة فقدت الأشكال الهندسية دورها في التعبير عن المطلق ولكن الى حد معين .
لقد صارت الخطوط المستقيمة والدوائر والمثلثات وغيرها أشياءً عادية أي غير نادرة الا أن بساطتها وسهولة مسك الشكل فيها قد دفع الى قيامها بمهمة التعبير عن مضامين معينة يصعب طرحها في حقل فني آخر بالأساليب الأخرى. وهذه المضامين خصت قوانين العالم الطبيعي الشمولية أو الواقع المتسامي الذي يكون مدركا بشتى السبل. وغالبما نلقى ، هنا ، من يقول بأن ما يخدم التعبير عن المضامين العامة هو اللغة التي تتعامل كلماتها مع العام أي مع أصناف الشيء وليس الخاص. فنطاق الأفكار والتصورات المرتبطة بهذا المصطلح وذاك ليس بالثابت ، فمثلاً قد يكون بهذا الضيق أو تلك السعة. وفي المصطلح الفلسفي توجد أسماء كثيرة ذات نطاق إستخدام با لغ السعة. مثلا كلمة الوجود تعني كل ما هو موجود فعلا في حين أن لغة الفنون التشكيلية هي الملموس ، فالمصوّر يقدم برتقالة ، نخلة ، إنسانا معينا, وبذلك يتم تقييد العام الا أن الفنانين سعوا منذ القدم الى التغلب على هذه المحدوديات عن طريقين : التجريد والرمز.
وفي الحقيقة يكون التجريد الجزء الأساسي من عمل الفنان الذي يعيد خلق الواقع المرئي. وهذا الفعل هو نتيجة لموقفين. الأول ينشأ عندما تنبذ عناصر ( الموتيف ) بسبب إستحالة مسكها عند إستخدام تقنية فنية معينة ( مثل الحركة في التصوير أو النحت ) أو لإعتقاد الفنان بأنها ليست بالمهمة أو الضرورية من الناحية الفنية. وفي الحالة الثانية يرتبط فعل التجريد بالبحث عن جوهر الشيء المعاد خلقه. وهذا يخص الأسلوب الأرسطوطاليسي في فهم المحاكاة وتقديم الواقع في الفن حيث يتم التأكيد ، بدل الإستنساخ الأمين والسلبي ، على إستخلاص الصفات العامة أي النموذجية والضرورية والمناسِبة لإظهارالأشياء. وفي المحصلة تنشأ صورة تعميمية محرومة من صفات الأشياء الملموسة التي تعتبرعابرة وجاءت بها المصادفة لكنها تظهر جوهر تلك الأشياء .
وإذا كانت عملية التجريد قد قطعت أشواطا بعيدة ونبذت صفات كثيرة يصل الفنان حينها الى الأشكال الهندسية .. وهذا رأي الكثيرين من فناني ومنظري العصور الحديثة. ويكفي أن نذكر هنا سيزان الذي نظرالى كامل تعقيد أشكال الطبيعة من خلال ثلاثة أشكال هندسية هي الأسطوانة والكرة والمخروط ، أو التكعيبيين أو ممثلي الفن التجريدي الذين تناولوا مشاهد الطبيعة من خلال الأشكال المهندسة أو تحويلها الى عناصر هندسية .
وفي ( يومياته ) يكتب باول كلي : يمضي نظري بعيدا وهو يتغلغل دائما في أجمل الأشياء . وغالبما يقولون بأنني عاجز عن رؤيته . إن الفن هو رمز عملية الخلق عامة. والرب لم يكترث البتة لمراحل ترافقت زمنيا بفعل ( الصدفة ) .
وقد ينشأ هنا مثل هذا السؤال : أين هي حدود فعل التجريد وأين تنتهي عملية تحّول الصورة ( الشبيه) الى الرمز ( التجريد) ، وما هو الفارق بينهما ؟ وقد تصعب الإجابة إذا لم نأخذ بمعيار
النسبية عند تقدير الفعل التجريدي. ومعلوم أن الرموز تعبر، بالأساس ، عن مضامين لاتطالها حاسة النظر أو المخيلة. فهي إما أن تكون مضامينا تصوّرية صرفة ذات طابع تجريدي واسع و إما مضامينا تخص الواقع التجاوزي ( المتسامي ) الذي لا نتعرف عليه عن طريق الحواس .
وعادة ً تكون مصادر الرمزية ُمدرَكة بأسلوبين : عقلاني وغير عقلاني. الثاني تشكل تحت تأثير أفكار كارل يونغ القائل بأن الرموز تنشأ نتيجة العمليات الجارية في لاوعينا والتي ُتطرَح علينا جاهزة. كذلك فهي تنشأ في الذهن تلقائيا وتأتي الى العالم بكامل ( سلاحها ) شأن أ الربّة أثينا الأسطورية التي ولدت مدججة بالسلاح من رأس زيوس ، أو كما يقول يونغ فالعمل الرمزي يصوغ شكله بنفسه و( ما أراد المؤلف أن يفعله يكون مرفوضا ، وما لم يرد قبوله عليه أن يقبله ). فنحن لانخلق أيّ شيء عن وعي بل نقوم بتفسيرٍ عند إستخدام عقلنا ، وهذا التفسير ليس بالكامل على الدوام. فالمضمون الدلائلي للرمزلا يمكن إستغلاله كاملا. أما الأسلوب العقلاني في إدراك الرمز فهو يفترض أن الرمز هو الشيء المدرك حسيا لكنه لا يستند الى عامل التماثل الذي لا يعتمد بدوره على الشبه في المظهر.
وتساعدنا التقاليد ا لفيثاغورسية على فهم مباديء التمثيل الرمزي المميِّز للهيئات الهندسية . وقد تمثلت عناية فيثاغورس بالأعداد والهيئات في خلق ( المتتابعات ) الرياضية المنطقية أوالمباديء الأخرى التي قد تطبّق في الحياة اليومية. وكما يجد كولن ولسن في كتابه الممتع ( المستور The Occult ) فعقل الفيلسوف اليوناني كان يرتكز على التماثل analogy ومبدأ أن كل حقيقة خاصة يمكن أن تكون رمزا لشيء أكبر. مثلا تكون ثلاثة هي المثلث وأربعة هي المربع وهكذا دواليك. بهذه الصورة ُمنحت الأعدادُ الملموسية ولم ُيفصل الكم عن النوع . وكان منطلق نظام فيثاغورس الصوتى ثلاثة فواصل موسيقية intervals تنشأ عند تقصير الأوتار في الأماكن المناسبة : الدرجة الثامنة في السلم الموسيقي octava ( 1 : 2 ) والخامسة quint ( 2: 3 ) والرابعة quarta( 3 : 4) . أما مباديء الهارموني فهي تكون مفهومة كمرافقة صوتية لوترين مختلفين وفق العلاقة الرياضية 2 : 1 , 3 : 2 , 4 : 3 . وعلى هذه الأعداد ( أي من واحد الى أربعة ) علق الفيثاغورسيون أهمية خاصة . فمجموعها ( 1+2+3+4 )هو العدد عشرة وهو رقم مقدس .. وإعتقدوا بأنهم حين إكتشفوا الجوهر العددي للهارموني الموسيقي أفلحوا في التعرف على هارموني كل وجود كامن في الأسرارالمماثلة للعلاقات العددية. وكما يقول ولسن وجد الفيثاغورسيون أن الخلق يبدأ من الوحدة الربانية والصرفة ، من عدد ( واحد) ثم يتطور حتى الرباعي المقدس. فالأعداد الأربعة الأولى تلد عشرة أي العدد المقدس الذي يبدأ منه كل شيء. ولكي ندرك هذا المفهوم بالشكل الصحيح لابد من الإشارة الى أن الفيثاغورسيين فهموا الوحدة بشكل مغاير لفهمنا. فلدينا يكون ( واحد ) هو العنصر الصحيح لتحقيق الجمع ( مثلا 1+1 +1 +1 = 4) بينما رأى الفيثاغورسيون العكس صحيحا. أي أن الوحدة أعلى من جميع الأعداد وليس من الممكن جمع الوحدة. فالأعداد لم تنشأ نتيجة عملية الجمع أو مضاعفة المفرد بل من إنقسام الوحدة الأولية. كذلك فالفهم الفيثاغورسي لإشكاليات العدد يمكن الأخذ به في الحقل الهندسي. مثلا ينشأ المثلث حين توضع أربع نقط قي صف واحد وفوقه أخر من ثلاث وثالث من إثنتين ورابع من واحدة . وهذا يثبت أن المثلث عند الفيثاغورسيين رمز أسطوري أيضا...
إن هذا العرض الموجز لمبدأ الفهم من خلال التماثل يسمح بإدراك ماهية الصلة بين عنصرين غير متشابهين بصرياً . وكما يقول أرسطوطاليس في ( الميتافيزيقا ) فقد أخذ الفيثاغورسيون بالكثير من أحوال التماثل عند النظر الى اشياء غير موجودة أو ناشئة. فهذه الخاصية للأعداد تمثل العدالة والثانية الروح والثالثة العقل والرابعة الحظ وهلم جرا. ويحصل هذا التمثيل إذا إعتمدت علاقات الأشياء بالأعداد والأشكال الهندسية والتي تمكن من التعبير عن الأولى من خلال الثانية ، على أسس معقدة تخص مباديء الوجود نفسه. ووفق الفيثاغورسيين فكل شيء في الطبيعة منمنذج في الأعداد ، ومن خلال العلاقات الناشئة بينها يمكن كشف جوهر جميع الأشياء. ومعلوم أن مفاهيمهم أثرت على معظم الفلاسفة والفنانين ا . وهي من خلال أفلاطون وبويثيوس Boethius ألقت بتأثيرها على الفن الروماني . فالمثلث المتساوي الأضلاع يرمز في هذا الفن الى الآلوهية وليس لجماله بل لخصائصه الهندسية. وعامة كان المثلث ُيعتبر الشكلُ الأول ولأن كل شكل يمكن أن يقسم الى مثلثات كثيرة عندما ترسم الخطوط من وسطها الى زواياها . إذن كل مثلث ينقسم الى مثلثات وليس الى غيرها. كذلك فالمثلث المتساوي الزوايا الناشيء نتيجة لتقسيم المثلث المتساوي الأضلاع الى نصفين ، هو ذلك الشيء الذي يعبّر عن الإنسان. وهذا التغيير مرتبط بظاهرة فقدان التوازن الذي يميز المثلث المتساوي الأضلاع .
ووفق منظور مباديء التماثل بين هيئات هندسية معينة وأحوال وجود تجاوزية transcendent ومثالية ideal كان يراعى مبدأ الوعي بوجود صفات مشتركة رغم أنها تتكشف بأشكال متباينة. ومن هذه الصفات هناك الكمال . وقد إكتشف الكمال ، بمعناه الأستيتيكي ن في بعض الأشكال الهندسية والأفكار القائلة بأن العالم المرئي ُبني وفق مبدأ الكمال أو أنه الكمال ، حسب أفلاطون ، أو حين تتم المطابقة بين الآلهة والعالم ذاته ، حسب الرواقيين والحلوليين ، أو أنه الرب كما قال ديكارت ولايبنتس، رغم أنه في لاهوت العصر الوسيط المسيحي وُضِع الربُ فوق الكمال الذي كان يدرك بالمعنى الأنثولوجي والتقني والأخلاقي ، وفي كل منها إقترب هذا الكمال من الأشياء المُدرَكة قابلة التصور والتي يمكن مسكها بالصور، أو أنه كان يبتعد عنها أيضا. أما الفنانون الذين أرادوا التعبير عن فكرة الكمال فلقد كان عليهم العثور على المعادل الرمزي والمرئي. وكان بالإمكان البحث عنه في الواقع المحيط بنا وإختيار ماهو أكثر كمالا فيه الا أنهم توجهوا في الغالب نحو الهندسة باحثين فيها عن العناصر التي قد توميء بفضل صفاتها المدركة حسيا ووفق مبدأ التماثل ، الى الكمال اللامادي. وهناك من يجد أن الشكل الهندسي المنتظم هو مدخل الى الكمال والنموذج. فالهندسة تتجاوز كلَّ لاكمالٍ سببه الإنحطاط المرتبط بجريان الزمن. كما أنها رؤيا المطلق الذي يسعى اليه الإنسان.
ولابد لكل إضطراب يتعرض له الكمال وكل تناقض تتصف به الأشياء المرموز اليها ، من أن يعثر ، وفق مبدأ التماثل ، على إنعكاس له في الأشكال الهندسية التي هي محض رموز. وبقدر ما يكون لعبة النقائض فليس بإستطاعته أن يحتوي على أيّ معنى من معاني الدائرة التي ترمز ، هنا ، الى الوحدة والكمال.
كذلك يمكن أن يكون نطاق المعاني المرموز اليها بواسطة الأشكال الهندسية أوسع بكثير. ومرةً قال المعماري الإيطالي المعروف بالاديو A. Palladio عن الشكل الدائري بأنه مغلق بمحيط واحد لا يمكن العثور فيه على البداية ولا النهاية كما لا يمكن التمييز بين شكل وآخر ، فالبعض شبيه بالآخر وكلها تسهم في شكل الكل كما أن هذا الشكل الذي يكون محيطه بنفس البعد في كل نقطة عن مركزه يصلح ، برأي بالاديو ، أفضل من غيره ل( إدراك الوحدة والجوهراللامنتهي وعدالة الرب ). وهذه الأمثلة خصت المباديء الأساسية التي تتحكم بالعالم والوجود التجاوزي أوالمثالي أيضا. وتمَّ التعبير عنها بواسطة الرمز الهندسي في التصوير والنحت والعمارة في كل مكان .
وقام فنانو القرن العشرين بأكبر المحاولات الساعية الى خلق وسائط هندسية غير تقديمية ( أي تجريدية ) ورمزية للتعبير عن الأغراض المذكورة . وأبرز مثال يقدّمه بييت موندريان الذي كان واقعا ، شأن فاسيلي كاندينسكي ، تحت تأثير الثيوصوفية أي المذهب القائل بالفناء بالذات والبقاء بالله. وقد بحث هذا الفنان الهولندي الكبير عن القوانين العامة للوجود مستثنياً المظهر الخارجي للأشياء الطبيعية. وفي البدء أخذ بأسلوب منهجي لعملية التجريد محاولا الكشف عماهو شمولي من خلال نبذ الصفات الطارئة للأشياء .الا أن هذا الطريق ، وكما ذكر في طروحاته النظرية ، قد سمح له بتحقيق مستو معين للتعميم حسب ، أي أنه لم يصل الى ما يسمى بالقياسية regularity الأكثر عمومية. وكانت خطوته الأولى الإنفصال عن تقاليد المحاكاة في الفن والأخذ بالمبدأ الرمزي. وكان يرى أن جوهر الوجود تعبرعنه العلاقة بين قوتين كونيتين خالقتين وهما كل ما هو نشِط دينامي أي العنصر الذكوري الذي يجسّده الخط الشاقولي ، والعنصر الأنثوي أي كل ماهو سلبي ويرمز اليه الخط الأفقي. وعلامة الصليب التي تنشأ من الأخذ بهذين العنصريين البسيطين بزاوية قائمة كان لدى موندريان التصوّرَ التشكيلي للكون.
وكان يبدو أمراً ممكناً أن إستخدام الرموز الهندسية يتيح التعبير، بواسطة التماثل العام ، عن العامل الشمولي للعالم. وكما قال موندريان فالحكمة القديمة طرحت العلاقة الأبدية بين العنصرين الداخلى أي الروحي ، والخارجي أي الطبيعة ، وذلك بمساعدة علامة الصليب. وهذا الرمز قد يكون رغم ذلك وسيطة تعبيرٍ للتصوير التجريدي الفعلي شأن أيّ رمز آخر، ولأن الرمز هو تقييد من ناحيةٍ وإشارة مطلقة من ناحية أخرى. ولهذا السبب كان موندريان يدرس إمكانية التعبيرالمباشر للعلاقات التجريدية التي إعتبرها جوهر الواقع. وطالما أن المادة تحجب العلاقات نجد أن موندريان قد سعى الى الحد من الشكل واللون وخصائصهما الطبيعية التي تؤثر على حواسنا. وهكذا نبذ كل ما هو مشكل وكل ما يميز الرمزية الهندسية التي تتصرف بملموسيات حسية كالهيئات المشكلة figures سواء المرسومة منها أو الملونة والتي ترتبط في الذهن بفكرة شيء عام ومثالي ، ومن أجل تصوير العلاقات ذاتها كما قال. ولإظهار العلاقات ذاتها ( بالرغم من أنها على درجة كبيرة من الشمولية ) لجأ موندريان الى التبسيط النسبي للوسائط التشكيلية تجريدها من كل معنى. وكان القصد أيضا التوصل الى تحييدها وجعلها حواملاً غير ملحوظة لتلك العلاقات. وكانت الأشكال الهندسية وسائطاً تشكيلية من جديد إلا أنها بدون توجهات المحاكاة أو الأخرى الرمزية .
ويصعب القول أن موندريان وصل الى غايته الا أن المرحلة النيويوركية في فنه كانت لجوءا الى الرمز أي حين رسم تلك الخطوط الشاقولية والأفقية المتقاطعة والمكونة من تلك المربعات الصغيرة المملوءة بالألوان الفاقعة. وبرأي ميشيل سيفو M. seuphor كانت تلك اللوحات صورة رمزية لنيويورك بشوارعها المستقيمة المتقاطعة بزوايا قائمة وبأضوائها الساطعة وغير ذلك.
يرى كلود ليفي – ستروس أن الظواهرالأساسية للحياة الذهنيية والتي تقرر وتحدد أشكالها الأكثر شمولية توجد على مستوى التفكير اللاواعي. ومباديء هذا التفكير يراها مشتركة لدى جميع الناس ، وهي مرتبطة بالمباديء الأساسية لعمل عقولهم ، وفي نتائج هذا العمل يمكن ( العثور على أشكال نشاطٍ تخصنا والآخرين ، وهي شرط كل حياة ذهنية لكل الناس والأزمنة ).
أوليست الأشكال الهندسية الأساسية من ثمار هذا التفكير اللاواعي ؟ وفي عام 1921 كتب أوزنفان A.Ozenfant وجينيريه ( لي كوربيزيه ) : إذا أريتَ أيّا كان من البشر ، فرنسيا أم زنجيا أم آسيويا ، كرة البليارد ( وهي التجسيد الأكمل للكرة التي صنعها الإنسان ) لإكتشف كل واحد من هؤلاء البشر ذات التحسس بالفورم ، وهو تحسس غير متبدل وأوليّ .
وقد يكون منظر الأشكال الهندسية مثيرا لأعمق طبقات اللاوعي من تفكيرنا أي التي هي مشتركة بين جميع البشر. وليس بصدفة أن قال مؤسسا مدرسة ( النقائية Purisme ) هذان أن الإنسان حيوان هندسي. فروحه خلقت الهندسة التي تلائم أعمق حاجاتنا الى النظام ، والأعمال التي تؤثر فينا أكثر من غيرها هي التي تكون مدركة فيها الهندسة. وهو أمر محتمل أن الهندسة لاتعبر عن شيء محدد وأن مسعى الفنانين في تحويل عناصرها الى إشارات هو أمر غير جوهري وطاريء يرتبط بثقافة ما أو حقبة تأريخية معينة. الا أن هذا لايعني إنتفاء وظيفة الهندسة في توفير الإتصال بين الناس والذي يتم على مستوى التفكير اللاواعي أو لا يتيح لي أن اكتشف في النتاج المُهندَس على يد الإنسان الاخر شيئا كامنا في أعمق طبقات عقلي وأناي ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق