نصوص
غيمة النار
المتوكل طه
قطراتُ الجمرة تحت البحر تتضور منذ الأزل
المُبْهم، هي نطفة السلطان المخلوع، ليبقى على سرج الهتاف وسنابك النصر المثخن
بالسباع الصرعى. رآها النسر فهوى مثل السهم النيزك، وبمنقاره الفدائي فثأ اللؤلؤة
المحظوظة، فصعدت حتى بلغت السطح المجعّد، وكنتُ أطيش على زجاجي الرخو، فانسربت حتى
دخلت الإبرة إلى نخاعي. فما بالي أحمل هذي الذّرات المصبوبة، كأنها الدم الملكيّ
الذي يتوجني ابنَ رسولٍ لم يدرك رفعته النبوية؟
***
غزالة حامل بأجنّتها تقطع الدرّب إلى شجرها،
فتضربها مركبةُ الجيش، فتطير الغزالةُ وتسّاقط حبّاتُ رحْمها المدمّاة، وتتدحرج
بعيداً مشقوقة البطن، والفوران الأحمرُ يتدفّق، والزغب مهروس تحت العجلات!
جاء الفلاّحون من القرى المجاورة، ولمّوا أشلاء
الغزالة، وجمعوا معها الأجنّة المسحوقة، وأقاموا عليها الصلاة!
يقولون: نبعٌ من عصافير مضيئة يتدفق عالياً
كنافورة من شذرات لامعة ترسم شكل قلب مكان ارتطام الحديد مع أمّ الصغار.
ويقولون: ناي يعلو كالغبش أو الغلالة يتكوّر
كبطن الحامل وينفجر رذاذاً بلّورياً، حيث انسحقت الشمسُ مع نجومها التي لم ترَ
النور.
ويقولون: بكاء خفيف يصدر عن الحجارة والأغصان
وجذوع الشجر وأنامل العشب وتبر التراب في فضاء استشهاد الحامل الصعب.
ويقولون: إن جمرات بيضاء تنبض في الليل، كلما
وسوست العتمة وادلَهمَّ الليل، فتخرج الطيور من أعشاشها تؤنس وحدة البياض الشجاع.
ويقولون: ما فتئت قطرات ندى بطنها المخمليّ
ترهج كالذهب على جنبات الطريق، وإن الشجن يعلو كلما عصفت الرياح، أو مرّت العجلات
القاتلة.
وقالوا: إن الغزال المكحّل الذي فَقدَ غزالته
المدهومة قد تحزَّمَ بالإثمد، وجنّحت شظاياه على بُعد وردة من الحاجز المنعوف.
***
بستان الشوك مليء بالتين ومراهقة اللوز،
والطير حبيس الأعشاش، ونزّ الخيط الوردي إلى أن رفّ على شباك امرأة عذراء، ووقف
على صحن الكفّ، وكادت تشكو، وهبطت حبّتان، نـَفـَرتا كالكرسنّة الألماس، ففهم
الريش وتعافى، وعاد إلى لبن الحبّات.
***
السيدة العمياء/ العدالة ما زالت عمياء.
فاشعلوا أيها السائرون دماءكم لتقودوا الطريق الى الميزان.
***
ثمة حيوان منقرض، يستيقظ في جسد حثّيّ، يبدو
متماسكاً ببدلته وربطة عُنقه، ويلوّح بسبابته محذّراً الأرضَ من الدوران.
إنه يريدها أن تقف أمامه مطأطئة الرأس، عارية
الصدر، وتفرد جسدها جسراً لوحوشه اللاهثة، والدم يتدلى خيوطاً غليظة من أشداقها !
هو أبن المسخ، الذي أقْنَعَهُ صمتُ العقود،
بأنه أكبر من مكوّنات الخليقة، وأعلى من مآذن الصلاة.
إنه بلا أيّ ملمح آدمي، أو كثافة بشرية. وعلى
العلماء أن يبدأوا البحث عن مخلوقات مهولة، تلبس أزياء روما، وتنسى بأنها أكثر
هشاشة من حرف الهواء الذي يخرج من بيت النمل الوثني، الذي أخذ شكل أفواهها
المعتوهة.
***
صدى الصيحات، عادةً ما يتلاشى، إلاّ صيحات الدم
!
***
لن تخفى تلك اللفحة الحارة، فالمزمار خمرة
نافذة، وهذا الفيضان بعض آثاره، وذلك النهار بعض نوافذه، وأكاد أخرج من هيكلي
لأمسك بفضّته السابحة، وما زلت على قناعة تامة بأنه وحش النضارة والفرح، الذي أضعه
على رأسي، وأمشي على مياهه العذبة.
***
هيرودوس، الإمبراطور المجنون الذي كان يصيب
الحديد بالرعب، قد أكلته الديدان وهو يعاني من سكرات الموت في أريحا، التي لم تكن
حينها شرفة للقمر والليل البهيج، بل كانت مُلوحةً ورطوبةً وذباباً زاد من معاناة
الإمبراطور المختنق بقلبه المتضخم ورئتيه المنتفختين بالماء وبحشرجته الذابحة.
هيرودوس هذا طلب من معاونيه، وهو على فراش
العذاب، أن يقتلوا يوم موته ألفاً من علية القوم، حتى تنوح النساء والبيوت، ويحسب
الناس أن ذلك العويل هو حزن على هيرودوس.
***
السجين الذي استعصى على مربعات الاحتواء، وعلى
الحذف والإلغاء والإضافة، انفجرت لعبته بين يديه، فالرسّام الوهاب ضاق به ذرعاً،
وكان يريده بحجم جُرْمه القصير الضئيل، لكنه طائر من أرض العماليق يئزّ على
المنارات، فيشعلها بوعوده الأكيدة، إنه الآن حُرّ مثل مُلصقه الذي يحرس المدينةَ
والناسُ نيام.
***
أوقفه الحاجز، كانوا مستنفرين كالطوفان، وبعد
أن أتمّوا حفلة الذّل والتفتيش والتنبيش عن الهواء، قالوا لامرأته أن تخلع كل
ملابسها، فثمة وطن سينفجر في بطنها، وارتفع الصراخ الوحشي المجنون، وانغلق العقل-
سيعرّونها غـَصْباً-... وبعد دقائق كان دمه يشق جداول نحو الشجر اليابس على حافة
المجنزرات، وامرأة تستلقي دون ثياب!
***
مثلما تركتم أجسادَكم للرصاصِ أيها الفارهونَ
الذين أخطأَتْهم صُدفةُ الضرورةِ- وكان ذلك في حُلمٍ مصنوعٍ من جلودِ العبيد-
اتركوا باقةَ الوردِ البسيطةِ وغربالَ البكاءِ الناشفِ، وخلّوا الوعلَ ينزُو قبل
أن تصطادَهُ الأنفاسُ، فقد كان الطريدةَ والصّيادَ. وهو نحنُ المُسرنمون الشهودُ
على الصفقةِ. واتركوا الرأسين العاشقين ليأتيَ صوتُ البحرِ العارم! ومثلما تركتُم
المقصلةَ صَدِئَةً لِغَلبةِ الخَرسِ وهدوءِ التأويلِ وألعابِ النساءِ
المستريحاتِ.. اتركونا في وديانِ الجنونِ البريئة. فالحقيقة ما تُريدون سَمَاعهُ
عن النارِ أو الانكسارِ.. بعد أنْ خاتلتم البرَّ والَفرَسَ، ووأدتم الأغنيةَ،
وتركتمونا ننتظرُ مواقيتَ موتنا ونخيطُ أكفاننَا بأقلامنا في أزمانِ اللّهو
والحليب القليل، وجعلتمونا آباءً لأطفالٍ يستثمِرون ويرقصون على موتِ ثوبِ
الحكايةِ والحقل. والحقيقةُ أنكم قبيلةُ الحداثةِ الميّتةِ التي لَبسِتْ قِناعَ
قاتلها ولعبتْ أدوارَهُ الُمفزعَةَ، في أرضِ كنعانِنا القَديمةِ، وأرضِ نبيّكم
الجديدةِ، فنحنُ الفائضون عن الحاجةِ.. الذين باعت أُمُّهمُ شَعرها وساقهم
الطوفانُ إلى عُنفٍ خائبٍ لم يحمل في أحشائه النبيَّ المنُتظَر. ولم تعرفوا أن
الذي يقتل فَرْدَاً عليه أن يحفر قبرين، فلماذا آثرتم الرايةَ النقيضةَ وذبحتُم
الصباحَ؟ وفي شرايين أبنائكم خريرُ النارِ ودفءُ الدم الذي جعلتموه مفارقةً
للذريعة الكابية! ولماذا.. وقد وضعتم إطارَ الطريقِ إلى الموتِ فلا تتركونا
نترنّحُ قليلاً، ونَصْرُخُ قليلاً، ونبكي كما لم تبكِ الآلهةُ المذبوحُة من
جِذْعِها فوقَ جُثَث أبنائِها؟ فاتركوناَ.. واتركونا نبكي على الشجاعِ الذي لن
تراه البيوت.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق