قصة قصيرة
حين عدنا إلى النيرفانا
عدنان المبارك
- الى الصديق عادل كامل
- عندما كنت يافعا وقريبا من مستهل الحياة نظرت بكل يقظة ، فرأيت أن جميع الأشياء هي مادة للانحلال . بوذا
الفنطزة جينوم محترم في كل جسم . بعضهم يربط الفنطزة بخيوط غيرمرئية بهذا الواقع الذي يقترب بسرعة كبيرة من البلادة المطلقة. عين كاف يركز في فنطزته على واقع تعاسة الكائن الحي سواء أكان انسانا أو حيوانا. ويخال اليّ أن فنطزته ستصل الى عالم النبات أيضا ، ولربما الى الجماد والتابوات الرئيسية في حياتنا النمالية . ليست نمالية ! فهذه الحشرات لا تصرخ وتخلق ضوضاء لأتفه الأسباب ، لا حجمها الصغير يسمح بذلك ولا أشغالها الكثيرة. من المناسب القول : ضفدعية . فهذا المتقافزة تجيد عمل الضجيج وأن تجعجع بلا طحن. عين كاف أقنعني منذ قصصه الأولى بأن الفنطازيا درع متين سواء أمام السلطة ، أيّ سلطة ، والآخرين والله أيضا. حوارات قصصه نبيهة ذكية تريد مسك أخطر قضايانا ، وغالبما يفلح. فيما يخص الحوار أنا لا أبتعد عن اللجوء اليه في سردياتي وغيرها وحتى أني أصاب بنوع ليس بالخفيف من الإحباط اذا لم ألق تجاوبا في الدخول معي في حوار. مثل هذا الإحباط يقودني الى اختيار آخر : الحوار مع النفس. في الواقع لهذا مزايا كثيرة ، فبسرعة يمكن تحويله الى هذيان أو هلوسة أو خطاب جماهيري أو تحريضى على القتل والأضطهاد الخ ، أو كلام هاملتي. أقول هذا ولأني في حيرة من أمري - أقصد كتابة نص سردي جديد. بعد تفكير ليس بالطويل وجدت أن خير مخرج هو الأخذ بالاثنين : الحوار والمونولوغ بشتى أصنافه. طيّب ، أنتهيت من موضوع الحوار والمونولوغ. والآن أيّ مضمون لسرديتي القادمة. ضعفي مزمن إزاء القضايا الكبرى مثل الزمن والكون والوجود ولغز السلطة في الكون أو أجزاء منه ، وهنا سأستخدم المونولوج ، أما الحوار فبمقدور فنطزتي المتواضعة أن تدبر الأمر ( لابد من القول ، وبكل صدق ، أني أخذت منذ العام الماضي ، وبالضبط منذ الثالث عشر من تشرين الثاني ، وهو يوم ميلادي الثمانين ، أميل الى الثرثرة وحتى أني صرت أعاملها ، ماركسيا ، كفائض للقيمة. أظنه زاء دال من نبهني الى أن الثرثرة عملية تفريغ برميل القمامة الموجود في الوعي. أعجبني هذا المجاز. أما ما يخص اللاوعي فقد فشل زاء دال في الإجابة على سؤالي لكنه في النهاية اتفق معي حين ذكرت مقولة أن الهذيان والهلوسة والانفصال المتقطع في الكلام عن الواقع الاعتيادي هي كلها رمي لأثقال اللاوعي ) خاصة أنه لا تفتقد دائما المواضيع. بالفعل ، حصل الاختيار بلا عقبات وتحت عنوان : ( الكون وعين كاف وأنا ). هذا مجرد مخطط وقد أدخل شخوصا أخرى...
طيّب ، ها نحن الاثنين جالسان على ساحل نهرنا وبدأنا الكلام ، بصوت خافت عن آخر ألاعيب الحكومة :
أنا : هذه حكومة بائسة شأن سابقاتها وجاراتها. بلاغتها مستعارة من هذا وذاك. لكن لنترك هذا الموضوع ولنطلق العنان لفنطازيتنا صوب الفضاء الخارجي مثلا !
عين كاف : موضوع شائق جدا وحتى أني على كامل الاستعداد لترك حيواناتي لكن لأجل محدّد ، والذهاب الى كوننا الحبيب !
أنا : بكل موضوعية وتواضع أقول : لاتنقصنا نحن الآثنين روح الفنطازيا والنظرة الثاقبة الى واقعنا أيضا. هل تعرف بأن الكاتب العربي يبتعد عن الفنطازيا خشية أن يتهم بانعدام الجدية في أعماله وكونه يكتب عن عالم بعيد وليس عن هذا الواقع وذاك. المفارقة الكبرى هنا أن هذا الكاتب يصدق أقوال كهذه وكأن سرديات ويلز ومن سبقه وكامل أدب الخيال العلمي كتبه بطرانون لبطرانين ، والأثنان أعميان أو أحولان والا كيف تجاهل واقع مثل هذا والذي بحّت فيه أصوات الاستعاثة.
عين كاف : كلامك قند ، وهذا رأيي من زمان : أن ندخل هذا الواقع في ماكنة فرم اللحم كي يخرج منها آخر رغم أنه لا يزال لحما.
أنا : اذا سمحت ، سأدخل في ماكنة الفرم الفنطازيا كي تخرج واقعا آخر. الأستاذ القديم فرويد الذي من الصعب الاتفاق معه على طول الخط ، كتب مرة أن تصاعد الفنطازيا واشتدادها يسبّب العصاب والذهان ناهيك عن أنها المراحل النفسية الأسبق التي تمهد الطريق لأعراض المعاناة والإحباط الى آخره . وهنا ربط الأستاذ بين الفنطازيا وأحلام النوم التي هي محض فنطازيات كما أحلام اليقظة. أكاد أقول هنا ، بالأحرى أكرر قول خالتي أم ستار ( يا ستّار ! ) ، اذ كيف تحشر الفنطازيا نفسها في كل مكان ! أها ، تكلم الأستاذ أيضا عنا نحن الخائبون من كتّاب اليوم ، فقد وجدنا نمارس أحلام اليقظة ، ونخلق أبطالا يجسّدون كل مساويء التمركز في الأنا. قد تتفق معي بأنه يبالغ وليس قليلا ، اذ ما أكثر الأبطال المضّحين وحتى بحياتهم من أجل مثل عليا معيّنة. أنا لا أتهم الأستاذ بأنه متعصب لأفكاره لكن قد يساعده مثل هذا التفسير ، ولا أتذكر أين قرأت عنه ، على أن المفارقة تكمن هنا في أن الايثار هو تمركز معيّن في الأنا. يرى أستاذنا أن الكاتب المعاصر صار يطّشر أناه من خلال مراقبتها بمنظار دقيق جدا. فيما يخص الفنطازيا يجد أستاذنا أن الكاتب الحالم في اليقظة يسعى وبكل حرص على اخفاء فنطازيته أمام الآخرين... السبب ؟ هو يخجل منها ( لعلمك يا صديقي أنا لا أخجل بفضل لجوئي الى التمويه ! ) ولا يريد أن يسبب الشعور بالبغض لدى القاريء. الأستاذ يذكّرنا هنا بأن الأنا هي موطن الخوف. غريمه الأستاذ يونغ يعالج الموضوع من جانب آخر ، ولا حاجة الى القول بأنه يسلط على هذه الإشكالية وغيرها ضوءا آخر. ويكتب عني وعنك و بقية الخائبين بأن سرّ الكتابة شبيه بسرّ الارادة الحرة ، أنها اشكالية تجاوزية يعجز علم النفس عن حلها. كل ما يقدر عليه توصيفها. لا أخطيء اذا قلت بأنك تجدني قد ابتعدت عن الموضوع أي الفنطازيا وأحلام النوم واليقظة. بكل تواضع أقول باسمي واسمك بأن مثل هذه المواضيع صارت من اختصاصنا ، ومن هنا اقتراحي بالانتقال الى مواضيع أخرى طالما اتخذنا القرار بترك الأرض لأهلها من حيوان ونبات وجماد و... خرافات الى آخره. أنت موافق ؟
عين كاف : كل ما قلته صحيح. أأكيد أننا سنمارس الكتابة في الفضاء الخارجي أيضا ؟
أنا : ولم لا ، ولو أني أفضل اللجوء الى التمويه الذي صار عندي يقترب من خداع النفس. لكن لايهم. فكل واحد يخدع نفسه مرات ومرات قبل أن يقول له الموت : كفى !
عين كاف : كلامك قند مرة أخرى . أنا شخصيا أغادر عالمنا أكثر من عشر مرات في اليوم وأروح برفقة الفنطازيا الى أماكن مجهولة وأخرى معروفة. لك أن تتصور بأني رقصت البارحة لوحدي في صحراء بلا آفاق ، وكانت الموسيقى تنطلق بمختلف الايقاعات ، من الفالس والتانغو والجاز وحتى أني زعقت بمقام ( زوروني بالسنة ). أن تنسى يا صديقي آلآم الوجود وأفعال الانسان العاقل وتطلق اللامعقول من قمقممه هي سعادة لاتضاهيها تلك السعادة الموعودة. في هذا العمر صرت يا عزيزي أؤمن عميقا بما قاله بليز باسكال عن هوس المعرفة : طالما لا يمكن أن تكون شموليا وتعرف كل شيء عما يمكن معرفته كاملا ، عليك أن تعرف القليل عن كل شيء. وهو أجمل حقا أن تعرف شيئا عن الكل من أن تعرف كل شيء عن أمر واحد. والشيء الأجمل هو مثل هذه الشمولية. فلو كان ممكنا امتلاك هذا وذاك يكون هو الأحسن . لكن اذا كان لابد من الاختيار ينبغي أختيار المعرفة أي القليل عن كل شيء ...
أنا : لا أريد مقاطعتك ، لكن من لعنات الانسان هو أنه يريد معرفة كاملة والا ليبق أميّا وجاهلا ، وحجته ، هنا ، أن الآخرين يتكفلون بانقاذه من جهله عند الضرورة.
عين كاف – هذا صحيح لكن ليس دائما. وفي الأخير ليست هي مشكلتي. ما أرغب قوله الآن هو أننا قررنا ترك الأرض لأهلها ، وقد يكونوا الشرعيين ، ومعنى هذا أننا نترك مشاكلهم لهم. قل لي هل تفزعك ، وكما أفزعت باسكال ، هذه الفضاءات التي لانهاية لها ؟
أنا : أنا فزع أيضا ، بل كلي دهشة واستغراب مثله حين أفكر بأنه قد أختير لي مثل هذا المكان من بين كل هذه الفضاءات .
عين كاف : طبيعي ومنطقي أنك في حالة كهذه ، فأنت تلك القصبة الباسكالية الأكثر ضعفا لكنها المفكرة ، ولا أعرف هل هذا امتياز أم لعنة. باسكال الذي عرف المفارقة جيدا نسي وكما يبدو أن العقل الذي أمتدح قوته هو عرضة للكنس في أي لحظة ، ولأن هذه الطبيعة الجبارة هي هكذا...
أنا : أنا أقول هذه المرة : كلامك قند. لكن قل لي الا تضحكك كل هذه اليوتوبيات ؟ أعترف بأني حين أشعر بالكآبة بل ذلك النوع السافل من اليأس ألجأ الى قراءة اليوتوبيا تماما كما يفعل الانسان الذي يأكله الضجر ويبحث عن فلم كوميدي أو سيرك ربما جاء الى المدينة. مفارقتنا الكبرى هو أننا نريد الرحيل من فضائنا ، أقصد جحيمنا ، تماما كما لو أن الأرض وحدها قد اخترعت هذه النار. لم أقل لك بأن قراري بترك الأرض لم يأت بسهولة ، فخشيتي كانت أن لا يكون ذا فائدة ما مثل هذا القفز في المجهول. لكن بعد محادثتنا هذه اكتشفت أن هذا القرار اتخذ بكل تسرع. أنا لا أقدر على الشكاية من أحوالي المادية ، فالجدّ ترك لي هذا البيت الصغير ، ومن السهولة تحويله الى صومعة بوذية ! لحظة ! هل تذكر تلك التجربة من قبل ثلاث وعشرين سنة حين رحنا لبضعة أيام مع النيرفانا ، آه ، تلك التجربة العظمى في حياتي والتي أرغمنا على انهائها بسبب اقتحام إحدى شراذم ذاك الانقلاب إلى البيت. كانوا يبحثون عن ابن العم الذي أعتبروه عنصرا خطرا على سلطتهم الجديدة. عزيزي عين كاف ! ليس اليأس ما يدفعني الى القول بأن لا فائدة من مغامرتنا الفضائية المخطط لها بل أخشى أن أفقد كل الفرص رغم أنها فقيرة ومعدومة الأمل. خشيتي الأولى أن لا أكون قد خيبت ظنك إذا غيّرت الرأي وواصلت تلك التجربة النيرفانائية القديمة. وليس لأنها مأمونة بل لأن البقاء معها في البيت أفضل بكثير من انتظار فرصة العثور على فضاء آخر ، أو الانزواء في صحراء ما. سأتعبد من جديد إلى البراهما الذي استغربت في البداية من أنه بأربع رؤوس وأربع أذرع. الانطفاء ، الانطفاء واختفاء الوجود الفردي والرغبات و الشهوات. لا أتذكر الآن ولو بيتا واحدا من قصيدتي عن النيرفانا. الكولسترول لعنة هذا الجسد الذي يرمزوبكل وضوح إلى اللعنة الكبرى : أن تكون ( هنا والآن ) لمدة تبدو ميكروسكوبية إذا قارنتها بما يحدث في احد فضاءات الكون الأخرى.
اذا وافقت أعدك بأن البيت سيكون مهيئا في أربعة أيام كي نروح مع تلك الغالية – النيرفانا !
عين كاف : عزيزي ! لا زالت أمامنا فرص كثيرة كي نمارس الجنون ونرحل بصورة غير مشروعة إلى أحد تلك الفضاءات . لكن قل لي هل ثلاجتك فارغة أم بقي فيها شيء من الطعام .لا أسأل عن الشراب ، فأكيد أن هناك قنينة في زاوية ستتظاهر أيها الماكر بأنك نسيت تماما أمرها ! والآن لنسرع ، فالشمس على وشك الاختفاء ، وأنا لا أحب السير في الظلام. هل تعرف أني غالبما أدندن حين أكون وحيدا بإحدى بستات صديقة الملّاية ...
- أستر بارك ، آيار ، مايس 2015
*
رسالة من عين كاف إلى عدنان المبارك :
بعد أن قرأت قصتك ( حين عدنا إلى النيرفانا ) (1)، وقد اخترت عين كاف ـ الذي سمحت لي إن أتحرى عنه بوصفه يقبع داخلي، أو يمثلني، بشكل ما من الأشكال ـ لفت نظري انك عثرت على أول قفل ـ في حياتي ـ كان علي ّ ألا ابحث له عن مفتاح؛ قفل بمعنى استحالة مغادرة لغزه، وإلا كيف جعلني أتحول إلى منقب يقودني لأدراك استحالة إجراء تسوية ما من التسويات. واعني بهذا القفل كلمة بوذا. فانا كنت فجعت بها منذ رأيت النور يسمح لي بمعرفة أن الظلمات بلا حافات، من جهة، وان النور ذاته ليس إلا عتمة مقارنة بالأنوار المنتشرة في مناطق متفرقة من كوننا، كضوء الكوزرات، الأسرع من سرعة ضوء شمسنا بـ 8 ـ 12 مرة، حيث تتحول أشعة نجمنا إلى جدار معتم، من جهة أخرى. دون إهمال إن أشعة شمسنا تتخللها مادة فحم حالكة رغم إننا نبتهج بسطوعها الخادع. أليس هذا هو أول قناع، لم نصنعه نحن الفانين، بل صنعته الشمس! فأنت أمسكت بالذي وجوده يعادل عدمه تماما ً! (2) فأعيد قراءة الصدمة التي واجهها بوذا بالمعنى الذي لا يتركها من غير تفكيك، كي أقول: أنا لا يعنيني الزوال...، وفناء كل ما يجنيه ويحصل عليه الإنسان، فالعالم ـ من اصغر جزيئاته إلى أكبرها، دون إهمال تكون القشرة العليا المتخصصة بالعمليات الذهنية، مشيدة فوق طبقة من الخلايا تتضمن فترة الثدييات، وأسفلها تاريخنا عندما كنا ننتمي إلى الزواحف ـ كي أسعى ـ بهذه الإرادة العمياء أو بإغراءاتها وتنويعاتها ـ للحلم بوجود نهاية افتراضية هي أس (اللعبة) بمنطقها الباحث عن خاتمة، وليس عن ديمومة. فالكل ـ رغم مشهد الاندثار المادي ـ يبذل كل ما يمتلك لقلب اللا شرعية إلى (نظام مشروع) والى (قانون) والى (ثوابت أبدية) وفي كون لا يسمح للمصادفة أن تحدث إلا مرة واحدة!...، وهكذا فانا لم ابحث عن (ملكية) كي أحافظ على ديمومتها، وهي قد أصبحت قيد الزوال، أو ربما بوصفها زائلة قبل أن تتمتع بحضورها الغريب. وها أنا انشغل بما شغل بوذا: القناع! فالصور اللانهائية للكيانات ـ من الأحادية إلى المركبة والى ما بعدها ـ مرغمة في اتخاذ موقف الدفاع ....، موقف المفترس، بما يمتلك من أدوات راحت تتقدم بتقدم تاريخ الاشتباك...، فموقف الدفاع سيغدو مشروعا ً، ومبررا ً للهجوم، لأن العدالة ـ هنا ـ لا تمتلك ما يمتلكه الزوال، لكن لا احد لديه قدرة الاعتراف بحق الآخر ـ كحق الاختيارـ قبل الانشغال بمصيره. ودعني أوضح قليلا ً استحالة عزل الدفاع عن الهجوم، فلافتراس لا يحصل بدافع الضرورة، كالجائع وهو يفترس كل ما يجده أمامه، بسبب الغريزة، بل راح يتسلى بضحاياه. ربما يبدو هذا هو امتياز الإنسان، ولكن التمعن في تاريخ الأشياء ـ كتأمل مجرة تلتهم مجرة أخرى عبر زمن يستقر مليون سنة ـ يوضح إن الافتراس هو نظام سابق على تعديلاته، بالبحث عن تسوية منطقية، أخلاقية، وربما ثقافية. فالقتل غدا تسلية تتجاوز مفهوم الإشباع، نحو المتعة الخالصة! نحو: القتل من اجل القتل، الشبيهة بالفن من اجل الفن، أو جمع المال من اجل جمع المال! متع خالصة، تفرض ضرورتها باختراع أقنعتها، وتمويهاتها، وخداعها، فماذا افعل وأنا أدرك إن أصل (الأنا) ـ وكل ملكية ـ ما هي إلا سلاسل من الاغتصابات، فان لم تدافع عن كيانك، بالبداهة ـ الإرادة العمياء كما وصفها شوبنهاور ، وبإرادة البقاء بحسب دارون ـ تهلك، وتغيب! فهل باستطاعتي اختيار غيابي ـ أو موتي الحر ـ غيابي وأنا مكبل بأنساق برمجة عنيدة تخفي ما تظهر، وتظهر ما تتستر عليه؟ فانا فجعت ليس لأن الأشياء تتلاشى، بل لأنها وجدت لتحفر قانونها الذي تصنع منه سلطة، تارة، ومعارضة لها، تارة أخرى. فالفكاهة لا تستقيم مع الأسى، ولا تختلط، كما اختلطت بحضورنا نحن الأكثر رغبة باختراع تسليات على حساب الآم المليارات. وإلا كيف أغلق فمي وأنا اعرف أن هناك 17 ألف طفل يموتون يوميا ً، وان هناك مليار مدقع، وملياري إنسان يعيشون تحت خط الفقر، وهناك ملايين المنكوبين بالنزوح، والتهجير، والانخلاع، والاغتيال، والمحو....؟ فهل امتلك قدرة الحصول على خلاص، ما لم أتمتع بجبروت القاتل، وبخصائص المعادن؟
فانا إذا ً لم انشغل باستنطاق الآخرين في حديقتي، لأنك لمحّت إلى حالة النبات، والى حالة الحيوان، والتحول إلى غبار أو إلى أثير ـ فانا لست ضيفا ً فيها، أي في الدنيا، بل أنا وجدت وليس لدي ّ إلا أن أرى الجميع يكملون دورتهم....، يستكملون كل ما يستحيل أن تكون له نهاية، لأنها ليست ناقصة أو مبتورة، هذه الدورة خارج نطاق مشاهدتنا لها، الأمر الذي يدفع بالشك إلى أقصاه: كيف أتحدث عن أمر اجهله...، وما مغزى الزعم بالصدق، والأمانة، والموضوعية....، في أمر خارج نطاق أدواتي المحدودة، وهي قيد الانحلال، والتلاشي....؟ بل وكأنني اغوي الآخر بأننا وجدنا لغاية ما هي، بحسب هذا المشهد، أكثر من عودة إلى قانون الأقوى، والأكثر مكرا ً، والى: استبدال أو تغيير اللا شرعية إلى نظام للطاعة...، والولاء..؟
ستقول لي: هكذا وجدنا أنفسنا/ مصائرنا، في موقف الشبهات...، ولسبب ما من الأسباب اخترنا الكتابة بدل الصمت، واخترنا البحث عن فضاءات نائية، بدل القبول بعفن (حضارات) ـ لو وضعت تحت المجهر فان رائحتها لن تترك فراغا ً إلا وملأته ـ لظهرت قواعدها جلية على مدى التاريخ من الويلات، والانتهاكات، بعد مسيرة طويلة من المواجهات، كلها عملت بإرادة جعلت اللعبة تمتد، لتبلغ ذروتها، في عصرنا: ونحن نراه يبرهن انه محكوم بالزوال، قبل غوايات هذه المعرفة، أو طيفها، أو حتى شبحها.
سأقول لك: أنا لم أهمل هذا الإشكال، اللغز، لأنني تساءلت أيضا ً: أي فايرس أو داء أو جرثومة لم تسمح لنا إلا أن نحافظ على النظام نفسه/ سلاسل المواجهات والتنكيل والمعاقبات، بحجة الوصول إلى (النيرفانا) ـ كالحلول التي اختارها عدد من النساك، والكهنة، والمتصوفة، بوصفها حلا ً مشروعا ً، وربما شرعيا ً، في مواجهة لعبة الفناء، والقهر غير المبرر، حتى وفق قواعده المعلنة، فالبحث عن (التام) و (الكامل) والذي لا يفنى، يرجعنا إلى لحظة الصدمة بأننا وجدنا كي نغيب. وهنا يغدو الخلاص الفردي، لهذه (الأنا) خيانة! وإلا كيف تجد من يأمر بالقتل، والذبح، بهدوء، من اجل الحصول على ركن للخلاص، في مكان ما، في المجهول، الذي يزعم انه واضح كوضوح الشمس! وهو يتسلى بضحاياه، بل يخترع آلاف الوسائل كي يحافظ على ديمومة هذه الفكاهة. فأنت تجد ما يسمى بالقادة أو الزعماء الكبار، تجدهم يأمرون بإبادة الملايين، ليس بحثا ً عن الموارد، والمكاسب، والمستقبل حسب، بل من اجل تعزيز قانون الفكاهة الخالص! وإلا كيف تصدق أن هناك ربا ً ما، لدي أي شعب من الشعوب، لا عمل لديه، سوى إنزال العقاب بمخلوقات هي اوهن من طيور في قفص، أو جرذان في مصيدة؟
ستقول: ها أنت تحفر في المجهول..؟
عندما أعيد النظر باختيارنا للكتابة، بمعزل عن الأصوات، وباقي الحواس، وما تخفيه، وتتستر عليه، وبمعزل عن محركاتها غير المرئية، أجدها ـ كما تابعت ولادتها في المدينة التي ولدت فيها، سومر ـ أجدها خالية من الغموض. فالقول بأولوية الكلمة كالقول بأولوية القناع.....، فيخّيل إلي ّ إن مهمة (البشر) تحددت، أو برمجت، وفق هذا النسق: الذي لا يزول يستدعي الفانين، والمحدودين، لمنحه الشرعية، شرعية الوجود، وليس العكس. لكن الكتابة ولدت مع الحساب، أي مع التراكم، ومع التطور، أي تطور القشرة العليا، أي الدماغ، لكن الغريب لا احد يريد أن يحصي عدد المهن، والحرف، والمكتشفات، التي اخترعها وابتكرها سكان سومر، لأنه ـ ببساطة ـ قد تمت إبادتهم، ومحوهم، مثلما تم استبعاد (الحقيقة) من اجل الحفاظ على أقنعتها. وجعل التصورات بديلا ً للذي نراه لا يدوم أكثر مسافة تلاشيه.
ستقول: ما الجديد...؟
أقول: إن استحالة أن أكون (أنا) كاستحالة أن امتلك (حرية) محارب اعزل في مواجهة تاريخ طويل مزدحم بأدوات التعذيب، وبفنون القسوة، والاستئصال، والاجتثاث، حد المحو. وقد سمحت لأحد شركائي ـ في الحديقة ـ أن يصرخ: أنا مشبوه، متهم، ما دمت على قيد الحياة. واذكر إنني كتبت، قبل عشرين سنة: الفنان مشبوه! فسألني زميل: ماذا تقصد...؟ قلت له: اسأل سارتر! والآن أبوح لك: الفنان زنديق، خارج عن الملة، جاحد، كافر...، ولا يستحق إلا أن يعامل معاملة من يتم رمي جثثهم إلى المزابل، أو تقطع رقابهم أمام ديمقراطيات العالم كافة! فالجديد ـ هنا ـ هو قناع ما قبل (القديم)، لأنني، ببساطة، أحاول التستر بنيرفانا أبدية، يمارسها النبات، وأنا، بفعل تجددها ابعد من مشروع تجدد السلع، وإعلاناتها...!
فاسمع صوتك الخفيض، المشبع بضباب يوم بارد من أيام البصرة، وليس من وارشو، ولا من المدن الأخرى التي سكنتها، مادام سكنك لم يغادر قبرك الأبدي، وأنت تجد ولادتك قد صارت مكملة لنقصها المتواصل، تهمس عبر المسافات:
ـ انه العقاب...
فاعترف، لك ولنفسي، علانية، ولمن يحفر في ظلمات هذه الكلمات: انه ليس العقاب ـ مستبعدا ً صخرة سيزيف بوصفها حدثا ً رمزيا ً، بعد ان تم استبعاد واقعيته ـ بل البحث عن هذا العدو/ الفيروس، وهو الداء إزاء هذا الذي لا يفنى، وهو الذي لا يبخل بمنحنا قدرات متجدد على اختراع الأقنعة، والتمويهات، والخداع. بوذا لم يوهم أحدا ً بأكثر من الاستقامة، مثل لاوتسي الذي قال: ضع خطوتك في الطريق السليم! بعيدا ًعن اللا متناهي، وتلميذه غاندي، امسك بالدرب: العصيان السلمي. بدءا ً بالملح، دفاعا ً عن حقوق: الجميع. فاكتشف إنني أكافح للامساك بقليل من موتي....، لكن اللامعقول ـ وهو الاصلب في نظام عصر الدعاية، أي عصر الأقنعة، والغش ـ لا يسمح لي بأكثر من دفاع اختيار الموت، وهو ـ كما قال ادلر ـ الذي اكتسب ايجابيته بما يمتلكه من السلب. انه شبيه بمثال: إن مضار (الخمر) أكثر من منافعه، وهو الذي يسمح للبشر بارتكاب أخس، أفظع، أنذل، أوسخ الجرائم مادام اليأس من رحمة الرحمن ليس إلا خيانة، بل كفرا ً.
ستقول: هو ذا فائض اللا معقول...
وخطر ببالي مثال آخر حيث كنت أتحدث مع زميل لي عبر ألنت عما يفجع الصخور، في بلداننا، وفي عالمنا، فطلب مني، ببساطة، أن اقرأ قبل النوم، دعاء الشجرة، وأواصل قراءة دعاء الصخور، وعند الفجر، أعيد قراءة دعاء العدم! فقلت له: منذ زمن بعيد لم اعد مدمنا ً، لا على المخدرات، ولا على العقاقير المهلوسة، ولا على الأفيون، ولا على الحلم بالحصول على حديقة في الأعالي. وطلبت منه أن يراجع هذه الإشكالية، في الفكر السومري، عندما سأل الفقير الغني: لماذا لم تستجب الإله لي، وأنا أؤدي لها الفرائض، والطاعة، والقرابين، وأنا أراها تفرط في ثروات الظالمين، وقسوة الحاكمين. فقال له: الإله أعلى من أن تكون عالية كي تستجيب لك! ثم انك لم تخلق إلا من الوحل، واليه تعود! وها أنا قرأت دعاء: الغبار، فانا جئت من المجهول، وسأكمل ـ بموتي ـ دورته.
وسأقول: أحسنت...! فانا قاومت أن أكون الشر ـ رغم أنني خلقت لنقله ـ وقاومت الظلمات، رغم إنها ـ بحسب الفيزياء ـ لا تترك أشعة من غير سواد/ وعتمة، وإنني قاومت الكسب الحرام، رغم إنني لا امتلك قدرة الفرار مادامت المنافي، شبيهة بنظام حديقتي، تكونها أقفاصها، ونظامها الهرمي قبل ذلك. هل اذكر لك لماذا أغلقت الباب وحرمت على نفسي مغادرة قبري، سأقول، ببساطة، إن صاحب الجريدة التي كنت اعمل فيها، عاملني ككلب، فلم يدفع أجور عملي، لأشهر، فأخبرته برسالة: لست كلبا ً. كما إن ما تدفعه الصحف، لا يساوي ثمن الورق، والحبر، رغم إن بعضها تعد من المؤسسات الكبرى. وآخر خمس مقالات نشرت لي في مجلة تابعة لوزارة الثقافة، لم تصرف مكافآتها، بسبب التقشف، أو إفلاس الوزارة، وهو الإفلاس المقابل لتبديد مبلغ مقداره ألف ألف مليار أنفقت خلال الأعوام المنصرمة.
وها أنا أراك تفكر بالإصغاء إلى ما لم أبح به...، فأقول:
ـ تخيّل إن مقنعا ً يتهمني بأنني كنت مكلفا ً بمراقبته...، غير مدرك إنني كنت أعمى امشي خلف أعمى.....، وحتى هذا الأعمى، عندما بحثت عنه، لم أجده.
والآن أراك تهز رأسك، من غير صوت، فأسمعك تقول لي: الكل في المصيدة!
فلا أجد ردا ً إلا بالبحث عن منفذ كي أعود إلى (حديقتي)، فهناك، أروض الحقائق، كي انتزع الأقنعة، الواحد بعد الآخر، من قناع النمر إلى قناع الثعلب، ومن قناع الغزال إلى قناع الخنزير، ومن قناع الغراب إلى قناع البلبل.....الخ، كي اكتشف أخيرا ً إن المثل السومري ـ الذي طالما كان يتردد داخل رأسي ـ: ما من امرأة ولدت ابنا ً بريئا ً قط! يسمح للمصيبة/ الخطيئة/ الكارثة/ أن تصبح قناعا ً جمعيا ً. وبمعنى ما، من اجل الدقة، فها أنت تراني أتشبث بظل قناع يسمح لي بالدفاع عن نفسي، أو عن ما تبقى منها. فاشعر تماما ً إنني أصبحت كيانا ً لا مرئيا ً، ولكنني مازالت مبرمجا ً بالوهم كي لا انشغل بصناعة (سلعة) ما، للأسف، مضى زمنها...، لأنني أصبحت ـ كما في تجربتي وأنا أتحول إلى نبات والى ذرات والى أثير ـ ورقة تتدلى...: ورقة لا تمتلك مصيرها كي تأخذ دورها في سلم الارتقاء: من كيان لا يراه احد...، إلى الحضارات العمياء. وكل هذا يحصل كي تمتد ديمومة هذا (الزائل) ـ المنحدر من الأصل ـ بمساعدة برمجة تجعل الزائل يغوينا بإقامة أفظع المذابح للأطفال والنساء دفاعا ً عن الذي لا تدركه عقولنا الواهنة، العاطلة والمعطلة عن العمل، وإبصارنا الكليلة، بحجة انه خاطب صانعي المجازر، عبر التاريخ، ووعدهم بالأبدية الخالية من الشوائب!
فاضطر أخيرا ً لاستحضار دقتك في الملاحظة، كي تراني هربت من قفصي، لكن للانتساب، في هذه المرة، إلى مملكة النبات، لعلي، بعد قرون، لا اخدع بالعواء، ولا بالكلمات، وتصبح جريمتي محصنة، لا تمسها يد الإثم، وخارج نطاق الشبهات، فلا شطط غواية، تجرجرنا إلى السيرك، ولا شفافية مزيفة تقذفنا ابعد من قاع الحضيض.
عادل كامل
1/6/2015
*
1 ـ ومعنى نرفاناـ بحسب الموسوعة هو: مفهوم النيرفانا في البوذية الجاينية هي حالة الخلو من المعاناة.تعتبر الـ (نيرفانا) هي حالة الانطفاء الكامل التي يصل إليها الإنسان بعد فترة طويلة من التأمل العميق، فلا يشعر بالمؤثرات الخارجية المحيطة به على الإطلاق، أي أنه يصبح منفصلا تماما بذهنه وجسده عن العالم الخارجي، والهدف من ذلك هو شحن طاقات الروح من أجل تحقيق النشوة والسعادة القصوى والقناعة وقتل الشهوات، ليبتعد الإنسان بهذه الحالة عن كل المشاعر السلبية من الاكتئاب والحزن والقلق وغيرها. ويصل الكهنة البوذيون والفقراء الهنود إلى حالة الـ (نيرفانا) بعد فترات طويلة جدا من التأمل العميق، إلا أن الأمر وبطبيعة الحال صعب جدا على عامة الناس، وكل ما ذكرناه واقعي تماما على الرغم مما يبدو عليه الأمر من مجرد فكرة فلسفية. وبقي أن نذكر أن أصل كلمة (نيرفانا) من لغة الهند الأدبية القديمة ويطلق عليها اسم (اللغة السنسكريتية).
2 ـ البابليون هم أول من تحدث عن العدم، وعندما أحرجوا بتعريف الوجود، قالوا انه العدم الممتد. لكن هذا لا يخلو من تأثير المفهوم السومري للدورات، بدءا ً بدورة الذرة، وانتهاء ً بدورة الكون. وهو الذي سمح للدهرين والمرجأة والملحدين بخلافات كبرى مع وعاظ السلاطين، بل ومع الأديان نفسها.
حين عدنا إلى النيرفانا
عدنان المبارك
- الى الصديق عادل كامل
- عندما كنت يافعا وقريبا من مستهل الحياة نظرت بكل يقظة ، فرأيت أن جميع الأشياء هي مادة للانحلال . بوذا
الفنطزة جينوم محترم في كل جسم . بعضهم يربط الفنطزة بخيوط غيرمرئية بهذا الواقع الذي يقترب بسرعة كبيرة من البلادة المطلقة. عين كاف يركز في فنطزته على واقع تعاسة الكائن الحي سواء أكان انسانا أو حيوانا. ويخال اليّ أن فنطزته ستصل الى عالم النبات أيضا ، ولربما الى الجماد والتابوات الرئيسية في حياتنا النمالية . ليست نمالية ! فهذه الحشرات لا تصرخ وتخلق ضوضاء لأتفه الأسباب ، لا حجمها الصغير يسمح بذلك ولا أشغالها الكثيرة. من المناسب القول : ضفدعية . فهذا المتقافزة تجيد عمل الضجيج وأن تجعجع بلا طحن. عين كاف أقنعني منذ قصصه الأولى بأن الفنطازيا درع متين سواء أمام السلطة ، أيّ سلطة ، والآخرين والله أيضا. حوارات قصصه نبيهة ذكية تريد مسك أخطر قضايانا ، وغالبما يفلح. فيما يخص الحوار أنا لا أبتعد عن اللجوء اليه في سردياتي وغيرها وحتى أني أصاب بنوع ليس بالخفيف من الإحباط اذا لم ألق تجاوبا في الدخول معي في حوار. مثل هذا الإحباط يقودني الى اختيار آخر : الحوار مع النفس. في الواقع لهذا مزايا كثيرة ، فبسرعة يمكن تحويله الى هذيان أو هلوسة أو خطاب جماهيري أو تحريضى على القتل والأضطهاد الخ ، أو كلام هاملتي. أقول هذا ولأني في حيرة من أمري - أقصد كتابة نص سردي جديد. بعد تفكير ليس بالطويل وجدت أن خير مخرج هو الأخذ بالاثنين : الحوار والمونولوغ بشتى أصنافه. طيّب ، أنتهيت من موضوع الحوار والمونولوغ. والآن أيّ مضمون لسرديتي القادمة. ضعفي مزمن إزاء القضايا الكبرى مثل الزمن والكون والوجود ولغز السلطة في الكون أو أجزاء منه ، وهنا سأستخدم المونولوج ، أما الحوار فبمقدور فنطزتي المتواضعة أن تدبر الأمر ( لابد من القول ، وبكل صدق ، أني أخذت منذ العام الماضي ، وبالضبط منذ الثالث عشر من تشرين الثاني ، وهو يوم ميلادي الثمانين ، أميل الى الثرثرة وحتى أني صرت أعاملها ، ماركسيا ، كفائض للقيمة. أظنه زاء دال من نبهني الى أن الثرثرة عملية تفريغ برميل القمامة الموجود في الوعي. أعجبني هذا المجاز. أما ما يخص اللاوعي فقد فشل زاء دال في الإجابة على سؤالي لكنه في النهاية اتفق معي حين ذكرت مقولة أن الهذيان والهلوسة والانفصال المتقطع في الكلام عن الواقع الاعتيادي هي كلها رمي لأثقال اللاوعي ) خاصة أنه لا تفتقد دائما المواضيع. بالفعل ، حصل الاختيار بلا عقبات وتحت عنوان : ( الكون وعين كاف وأنا ). هذا مجرد مخطط وقد أدخل شخوصا أخرى...
طيّب ، ها نحن الاثنين جالسان على ساحل نهرنا وبدأنا الكلام ، بصوت خافت عن آخر ألاعيب الحكومة :
أنا : هذه حكومة بائسة شأن سابقاتها وجاراتها. بلاغتها مستعارة من هذا وذاك. لكن لنترك هذا الموضوع ولنطلق العنان لفنطازيتنا صوب الفضاء الخارجي مثلا !
عين كاف : موضوع شائق جدا وحتى أني على كامل الاستعداد لترك حيواناتي لكن لأجل محدّد ، والذهاب الى كوننا الحبيب !
أنا : بكل موضوعية وتواضع أقول : لاتنقصنا نحن الآثنين روح الفنطازيا والنظرة الثاقبة الى واقعنا أيضا. هل تعرف بأن الكاتب العربي يبتعد عن الفنطازيا خشية أن يتهم بانعدام الجدية في أعماله وكونه يكتب عن عالم بعيد وليس عن هذا الواقع وذاك. المفارقة الكبرى هنا أن هذا الكاتب يصدق أقوال كهذه وكأن سرديات ويلز ومن سبقه وكامل أدب الخيال العلمي كتبه بطرانون لبطرانين ، والأثنان أعميان أو أحولان والا كيف تجاهل واقع مثل هذا والذي بحّت فيه أصوات الاستعاثة.
عين كاف : كلامك قند ، وهذا رأيي من زمان : أن ندخل هذا الواقع في ماكنة فرم اللحم كي يخرج منها آخر رغم أنه لا يزال لحما.
أنا : اذا سمحت ، سأدخل في ماكنة الفرم الفنطازيا كي تخرج واقعا آخر. الأستاذ القديم فرويد الذي من الصعب الاتفاق معه على طول الخط ، كتب مرة أن تصاعد الفنطازيا واشتدادها يسبّب العصاب والذهان ناهيك عن أنها المراحل النفسية الأسبق التي تمهد الطريق لأعراض المعاناة والإحباط الى آخره . وهنا ربط الأستاذ بين الفنطازيا وأحلام النوم التي هي محض فنطازيات كما أحلام اليقظة. أكاد أقول هنا ، بالأحرى أكرر قول خالتي أم ستار ( يا ستّار ! ) ، اذ كيف تحشر الفنطازيا نفسها في كل مكان ! أها ، تكلم الأستاذ أيضا عنا نحن الخائبون من كتّاب اليوم ، فقد وجدنا نمارس أحلام اليقظة ، ونخلق أبطالا يجسّدون كل مساويء التمركز في الأنا. قد تتفق معي بأنه يبالغ وليس قليلا ، اذ ما أكثر الأبطال المضّحين وحتى بحياتهم من أجل مثل عليا معيّنة. أنا لا أتهم الأستاذ بأنه متعصب لأفكاره لكن قد يساعده مثل هذا التفسير ، ولا أتذكر أين قرأت عنه ، على أن المفارقة تكمن هنا في أن الايثار هو تمركز معيّن في الأنا. يرى أستاذنا أن الكاتب المعاصر صار يطّشر أناه من خلال مراقبتها بمنظار دقيق جدا. فيما يخص الفنطازيا يجد أستاذنا أن الكاتب الحالم في اليقظة يسعى وبكل حرص على اخفاء فنطازيته أمام الآخرين... السبب ؟ هو يخجل منها ( لعلمك يا صديقي أنا لا أخجل بفضل لجوئي الى التمويه ! ) ولا يريد أن يسبب الشعور بالبغض لدى القاريء. الأستاذ يذكّرنا هنا بأن الأنا هي موطن الخوف. غريمه الأستاذ يونغ يعالج الموضوع من جانب آخر ، ولا حاجة الى القول بأنه يسلط على هذه الإشكالية وغيرها ضوءا آخر. ويكتب عني وعنك و بقية الخائبين بأن سرّ الكتابة شبيه بسرّ الارادة الحرة ، أنها اشكالية تجاوزية يعجز علم النفس عن حلها. كل ما يقدر عليه توصيفها. لا أخطيء اذا قلت بأنك تجدني قد ابتعدت عن الموضوع أي الفنطازيا وأحلام النوم واليقظة. بكل تواضع أقول باسمي واسمك بأن مثل هذه المواضيع صارت من اختصاصنا ، ومن هنا اقتراحي بالانتقال الى مواضيع أخرى طالما اتخذنا القرار بترك الأرض لأهلها من حيوان ونبات وجماد و... خرافات الى آخره. أنت موافق ؟
عين كاف : كل ما قلته صحيح. أأكيد أننا سنمارس الكتابة في الفضاء الخارجي أيضا ؟
أنا : ولم لا ، ولو أني أفضل اللجوء الى التمويه الذي صار عندي يقترب من خداع النفس. لكن لايهم. فكل واحد يخدع نفسه مرات ومرات قبل أن يقول له الموت : كفى !
عين كاف : كلامك قند مرة أخرى . أنا شخصيا أغادر عالمنا أكثر من عشر مرات في اليوم وأروح برفقة الفنطازيا الى أماكن مجهولة وأخرى معروفة. لك أن تتصور بأني رقصت البارحة لوحدي في صحراء بلا آفاق ، وكانت الموسيقى تنطلق بمختلف الايقاعات ، من الفالس والتانغو والجاز وحتى أني زعقت بمقام ( زوروني بالسنة ). أن تنسى يا صديقي آلآم الوجود وأفعال الانسان العاقل وتطلق اللامعقول من قمقممه هي سعادة لاتضاهيها تلك السعادة الموعودة. في هذا العمر صرت يا عزيزي أؤمن عميقا بما قاله بليز باسكال عن هوس المعرفة : طالما لا يمكن أن تكون شموليا وتعرف كل شيء عما يمكن معرفته كاملا ، عليك أن تعرف القليل عن كل شيء. وهو أجمل حقا أن تعرف شيئا عن الكل من أن تعرف كل شيء عن أمر واحد. والشيء الأجمل هو مثل هذه الشمولية. فلو كان ممكنا امتلاك هذا وذاك يكون هو الأحسن . لكن اذا كان لابد من الاختيار ينبغي أختيار المعرفة أي القليل عن كل شيء ...
أنا : لا أريد مقاطعتك ، لكن من لعنات الانسان هو أنه يريد معرفة كاملة والا ليبق أميّا وجاهلا ، وحجته ، هنا ، أن الآخرين يتكفلون بانقاذه من جهله عند الضرورة.
عين كاف – هذا صحيح لكن ليس دائما. وفي الأخير ليست هي مشكلتي. ما أرغب قوله الآن هو أننا قررنا ترك الأرض لأهلها ، وقد يكونوا الشرعيين ، ومعنى هذا أننا نترك مشاكلهم لهم. قل لي هل تفزعك ، وكما أفزعت باسكال ، هذه الفضاءات التي لانهاية لها ؟
أنا : أنا فزع أيضا ، بل كلي دهشة واستغراب مثله حين أفكر بأنه قد أختير لي مثل هذا المكان من بين كل هذه الفضاءات .
عين كاف : طبيعي ومنطقي أنك في حالة كهذه ، فأنت تلك القصبة الباسكالية الأكثر ضعفا لكنها المفكرة ، ولا أعرف هل هذا امتياز أم لعنة. باسكال الذي عرف المفارقة جيدا نسي وكما يبدو أن العقل الذي أمتدح قوته هو عرضة للكنس في أي لحظة ، ولأن هذه الطبيعة الجبارة هي هكذا...
أنا : أنا أقول هذه المرة : كلامك قند. لكن قل لي الا تضحكك كل هذه اليوتوبيات ؟ أعترف بأني حين أشعر بالكآبة بل ذلك النوع السافل من اليأس ألجأ الى قراءة اليوتوبيا تماما كما يفعل الانسان الذي يأكله الضجر ويبحث عن فلم كوميدي أو سيرك ربما جاء الى المدينة. مفارقتنا الكبرى هو أننا نريد الرحيل من فضائنا ، أقصد جحيمنا ، تماما كما لو أن الأرض وحدها قد اخترعت هذه النار. لم أقل لك بأن قراري بترك الأرض لم يأت بسهولة ، فخشيتي كانت أن لا يكون ذا فائدة ما مثل هذا القفز في المجهول. لكن بعد محادثتنا هذه اكتشفت أن هذا القرار اتخذ بكل تسرع. أنا لا أقدر على الشكاية من أحوالي المادية ، فالجدّ ترك لي هذا البيت الصغير ، ومن السهولة تحويله الى صومعة بوذية ! لحظة ! هل تذكر تلك التجربة من قبل ثلاث وعشرين سنة حين رحنا لبضعة أيام مع النيرفانا ، آه ، تلك التجربة العظمى في حياتي والتي أرغمنا على انهائها بسبب اقتحام إحدى شراذم ذاك الانقلاب إلى البيت. كانوا يبحثون عن ابن العم الذي أعتبروه عنصرا خطرا على سلطتهم الجديدة. عزيزي عين كاف ! ليس اليأس ما يدفعني الى القول بأن لا فائدة من مغامرتنا الفضائية المخطط لها بل أخشى أن أفقد كل الفرص رغم أنها فقيرة ومعدومة الأمل. خشيتي الأولى أن لا أكون قد خيبت ظنك إذا غيّرت الرأي وواصلت تلك التجربة النيرفانائية القديمة. وليس لأنها مأمونة بل لأن البقاء معها في البيت أفضل بكثير من انتظار فرصة العثور على فضاء آخر ، أو الانزواء في صحراء ما. سأتعبد من جديد إلى البراهما الذي استغربت في البداية من أنه بأربع رؤوس وأربع أذرع. الانطفاء ، الانطفاء واختفاء الوجود الفردي والرغبات و الشهوات. لا أتذكر الآن ولو بيتا واحدا من قصيدتي عن النيرفانا. الكولسترول لعنة هذا الجسد الذي يرمزوبكل وضوح إلى اللعنة الكبرى : أن تكون ( هنا والآن ) لمدة تبدو ميكروسكوبية إذا قارنتها بما يحدث في احد فضاءات الكون الأخرى.
اذا وافقت أعدك بأن البيت سيكون مهيئا في أربعة أيام كي نروح مع تلك الغالية – النيرفانا !
عين كاف : عزيزي ! لا زالت أمامنا فرص كثيرة كي نمارس الجنون ونرحل بصورة غير مشروعة إلى أحد تلك الفضاءات . لكن قل لي هل ثلاجتك فارغة أم بقي فيها شيء من الطعام .لا أسأل عن الشراب ، فأكيد أن هناك قنينة في زاوية ستتظاهر أيها الماكر بأنك نسيت تماما أمرها ! والآن لنسرع ، فالشمس على وشك الاختفاء ، وأنا لا أحب السير في الظلام. هل تعرف أني غالبما أدندن حين أكون وحيدا بإحدى بستات صديقة الملّاية ...
- أستر بارك ، آيار ، مايس 2015
*
رسالة من عين كاف إلى عدنان المبارك :
بعد أن قرأت قصتك ( حين عدنا إلى النيرفانا ) (1)، وقد اخترت عين كاف ـ الذي سمحت لي إن أتحرى عنه بوصفه يقبع داخلي، أو يمثلني، بشكل ما من الأشكال ـ لفت نظري انك عثرت على أول قفل ـ في حياتي ـ كان علي ّ ألا ابحث له عن مفتاح؛ قفل بمعنى استحالة مغادرة لغزه، وإلا كيف جعلني أتحول إلى منقب يقودني لأدراك استحالة إجراء تسوية ما من التسويات. واعني بهذا القفل كلمة بوذا. فانا كنت فجعت بها منذ رأيت النور يسمح لي بمعرفة أن الظلمات بلا حافات، من جهة، وان النور ذاته ليس إلا عتمة مقارنة بالأنوار المنتشرة في مناطق متفرقة من كوننا، كضوء الكوزرات، الأسرع من سرعة ضوء شمسنا بـ 8 ـ 12 مرة، حيث تتحول أشعة نجمنا إلى جدار معتم، من جهة أخرى. دون إهمال إن أشعة شمسنا تتخللها مادة فحم حالكة رغم إننا نبتهج بسطوعها الخادع. أليس هذا هو أول قناع، لم نصنعه نحن الفانين، بل صنعته الشمس! فأنت أمسكت بالذي وجوده يعادل عدمه تماما ً! (2) فأعيد قراءة الصدمة التي واجهها بوذا بالمعنى الذي لا يتركها من غير تفكيك، كي أقول: أنا لا يعنيني الزوال...، وفناء كل ما يجنيه ويحصل عليه الإنسان، فالعالم ـ من اصغر جزيئاته إلى أكبرها، دون إهمال تكون القشرة العليا المتخصصة بالعمليات الذهنية، مشيدة فوق طبقة من الخلايا تتضمن فترة الثدييات، وأسفلها تاريخنا عندما كنا ننتمي إلى الزواحف ـ كي أسعى ـ بهذه الإرادة العمياء أو بإغراءاتها وتنويعاتها ـ للحلم بوجود نهاية افتراضية هي أس (اللعبة) بمنطقها الباحث عن خاتمة، وليس عن ديمومة. فالكل ـ رغم مشهد الاندثار المادي ـ يبذل كل ما يمتلك لقلب اللا شرعية إلى (نظام مشروع) والى (قانون) والى (ثوابت أبدية) وفي كون لا يسمح للمصادفة أن تحدث إلا مرة واحدة!...، وهكذا فانا لم ابحث عن (ملكية) كي أحافظ على ديمومتها، وهي قد أصبحت قيد الزوال، أو ربما بوصفها زائلة قبل أن تتمتع بحضورها الغريب. وها أنا انشغل بما شغل بوذا: القناع! فالصور اللانهائية للكيانات ـ من الأحادية إلى المركبة والى ما بعدها ـ مرغمة في اتخاذ موقف الدفاع ....، موقف المفترس، بما يمتلك من أدوات راحت تتقدم بتقدم تاريخ الاشتباك...، فموقف الدفاع سيغدو مشروعا ً، ومبررا ً للهجوم، لأن العدالة ـ هنا ـ لا تمتلك ما يمتلكه الزوال، لكن لا احد لديه قدرة الاعتراف بحق الآخر ـ كحق الاختيارـ قبل الانشغال بمصيره. ودعني أوضح قليلا ً استحالة عزل الدفاع عن الهجوم، فلافتراس لا يحصل بدافع الضرورة، كالجائع وهو يفترس كل ما يجده أمامه، بسبب الغريزة، بل راح يتسلى بضحاياه. ربما يبدو هذا هو امتياز الإنسان، ولكن التمعن في تاريخ الأشياء ـ كتأمل مجرة تلتهم مجرة أخرى عبر زمن يستقر مليون سنة ـ يوضح إن الافتراس هو نظام سابق على تعديلاته، بالبحث عن تسوية منطقية، أخلاقية، وربما ثقافية. فالقتل غدا تسلية تتجاوز مفهوم الإشباع، نحو المتعة الخالصة! نحو: القتل من اجل القتل، الشبيهة بالفن من اجل الفن، أو جمع المال من اجل جمع المال! متع خالصة، تفرض ضرورتها باختراع أقنعتها، وتمويهاتها، وخداعها، فماذا افعل وأنا أدرك إن أصل (الأنا) ـ وكل ملكية ـ ما هي إلا سلاسل من الاغتصابات، فان لم تدافع عن كيانك، بالبداهة ـ الإرادة العمياء كما وصفها شوبنهاور ، وبإرادة البقاء بحسب دارون ـ تهلك، وتغيب! فهل باستطاعتي اختيار غيابي ـ أو موتي الحر ـ غيابي وأنا مكبل بأنساق برمجة عنيدة تخفي ما تظهر، وتظهر ما تتستر عليه؟ فانا فجعت ليس لأن الأشياء تتلاشى، بل لأنها وجدت لتحفر قانونها الذي تصنع منه سلطة، تارة، ومعارضة لها، تارة أخرى. فالفكاهة لا تستقيم مع الأسى، ولا تختلط، كما اختلطت بحضورنا نحن الأكثر رغبة باختراع تسليات على حساب الآم المليارات. وإلا كيف أغلق فمي وأنا اعرف أن هناك 17 ألف طفل يموتون يوميا ً، وان هناك مليار مدقع، وملياري إنسان يعيشون تحت خط الفقر، وهناك ملايين المنكوبين بالنزوح، والتهجير، والانخلاع، والاغتيال، والمحو....؟ فهل امتلك قدرة الحصول على خلاص، ما لم أتمتع بجبروت القاتل، وبخصائص المعادن؟
فانا إذا ً لم انشغل باستنطاق الآخرين في حديقتي، لأنك لمحّت إلى حالة النبات، والى حالة الحيوان، والتحول إلى غبار أو إلى أثير ـ فانا لست ضيفا ً فيها، أي في الدنيا، بل أنا وجدت وليس لدي ّ إلا أن أرى الجميع يكملون دورتهم....، يستكملون كل ما يستحيل أن تكون له نهاية، لأنها ليست ناقصة أو مبتورة، هذه الدورة خارج نطاق مشاهدتنا لها، الأمر الذي يدفع بالشك إلى أقصاه: كيف أتحدث عن أمر اجهله...، وما مغزى الزعم بالصدق، والأمانة، والموضوعية....، في أمر خارج نطاق أدواتي المحدودة، وهي قيد الانحلال، والتلاشي....؟ بل وكأنني اغوي الآخر بأننا وجدنا لغاية ما هي، بحسب هذا المشهد، أكثر من عودة إلى قانون الأقوى، والأكثر مكرا ً، والى: استبدال أو تغيير اللا شرعية إلى نظام للطاعة...، والولاء..؟
ستقول لي: هكذا وجدنا أنفسنا/ مصائرنا، في موقف الشبهات...، ولسبب ما من الأسباب اخترنا الكتابة بدل الصمت، واخترنا البحث عن فضاءات نائية، بدل القبول بعفن (حضارات) ـ لو وضعت تحت المجهر فان رائحتها لن تترك فراغا ً إلا وملأته ـ لظهرت قواعدها جلية على مدى التاريخ من الويلات، والانتهاكات، بعد مسيرة طويلة من المواجهات، كلها عملت بإرادة جعلت اللعبة تمتد، لتبلغ ذروتها، في عصرنا: ونحن نراه يبرهن انه محكوم بالزوال، قبل غوايات هذه المعرفة، أو طيفها، أو حتى شبحها.
سأقول لك: أنا لم أهمل هذا الإشكال، اللغز، لأنني تساءلت أيضا ً: أي فايرس أو داء أو جرثومة لم تسمح لنا إلا أن نحافظ على النظام نفسه/ سلاسل المواجهات والتنكيل والمعاقبات، بحجة الوصول إلى (النيرفانا) ـ كالحلول التي اختارها عدد من النساك، والكهنة، والمتصوفة، بوصفها حلا ً مشروعا ً، وربما شرعيا ً، في مواجهة لعبة الفناء، والقهر غير المبرر، حتى وفق قواعده المعلنة، فالبحث عن (التام) و (الكامل) والذي لا يفنى، يرجعنا إلى لحظة الصدمة بأننا وجدنا كي نغيب. وهنا يغدو الخلاص الفردي، لهذه (الأنا) خيانة! وإلا كيف تجد من يأمر بالقتل، والذبح، بهدوء، من اجل الحصول على ركن للخلاص، في مكان ما، في المجهول، الذي يزعم انه واضح كوضوح الشمس! وهو يتسلى بضحاياه، بل يخترع آلاف الوسائل كي يحافظ على ديمومة هذه الفكاهة. فأنت تجد ما يسمى بالقادة أو الزعماء الكبار، تجدهم يأمرون بإبادة الملايين، ليس بحثا ً عن الموارد، والمكاسب، والمستقبل حسب، بل من اجل تعزيز قانون الفكاهة الخالص! وإلا كيف تصدق أن هناك ربا ً ما، لدي أي شعب من الشعوب، لا عمل لديه، سوى إنزال العقاب بمخلوقات هي اوهن من طيور في قفص، أو جرذان في مصيدة؟
ستقول: ها أنت تحفر في المجهول..؟
عندما أعيد النظر باختيارنا للكتابة، بمعزل عن الأصوات، وباقي الحواس، وما تخفيه، وتتستر عليه، وبمعزل عن محركاتها غير المرئية، أجدها ـ كما تابعت ولادتها في المدينة التي ولدت فيها، سومر ـ أجدها خالية من الغموض. فالقول بأولوية الكلمة كالقول بأولوية القناع.....، فيخّيل إلي ّ إن مهمة (البشر) تحددت، أو برمجت، وفق هذا النسق: الذي لا يزول يستدعي الفانين، والمحدودين، لمنحه الشرعية، شرعية الوجود، وليس العكس. لكن الكتابة ولدت مع الحساب، أي مع التراكم، ومع التطور، أي تطور القشرة العليا، أي الدماغ، لكن الغريب لا احد يريد أن يحصي عدد المهن، والحرف، والمكتشفات، التي اخترعها وابتكرها سكان سومر، لأنه ـ ببساطة ـ قد تمت إبادتهم، ومحوهم، مثلما تم استبعاد (الحقيقة) من اجل الحفاظ على أقنعتها. وجعل التصورات بديلا ً للذي نراه لا يدوم أكثر مسافة تلاشيه.
ستقول: ما الجديد...؟
أقول: إن استحالة أن أكون (أنا) كاستحالة أن امتلك (حرية) محارب اعزل في مواجهة تاريخ طويل مزدحم بأدوات التعذيب، وبفنون القسوة، والاستئصال، والاجتثاث، حد المحو. وقد سمحت لأحد شركائي ـ في الحديقة ـ أن يصرخ: أنا مشبوه، متهم، ما دمت على قيد الحياة. واذكر إنني كتبت، قبل عشرين سنة: الفنان مشبوه! فسألني زميل: ماذا تقصد...؟ قلت له: اسأل سارتر! والآن أبوح لك: الفنان زنديق، خارج عن الملة، جاحد، كافر...، ولا يستحق إلا أن يعامل معاملة من يتم رمي جثثهم إلى المزابل، أو تقطع رقابهم أمام ديمقراطيات العالم كافة! فالجديد ـ هنا ـ هو قناع ما قبل (القديم)، لأنني، ببساطة، أحاول التستر بنيرفانا أبدية، يمارسها النبات، وأنا، بفعل تجددها ابعد من مشروع تجدد السلع، وإعلاناتها...!
فاسمع صوتك الخفيض، المشبع بضباب يوم بارد من أيام البصرة، وليس من وارشو، ولا من المدن الأخرى التي سكنتها، مادام سكنك لم يغادر قبرك الأبدي، وأنت تجد ولادتك قد صارت مكملة لنقصها المتواصل، تهمس عبر المسافات:
ـ انه العقاب...
فاعترف، لك ولنفسي، علانية، ولمن يحفر في ظلمات هذه الكلمات: انه ليس العقاب ـ مستبعدا ً صخرة سيزيف بوصفها حدثا ً رمزيا ً، بعد ان تم استبعاد واقعيته ـ بل البحث عن هذا العدو/ الفيروس، وهو الداء إزاء هذا الذي لا يفنى، وهو الذي لا يبخل بمنحنا قدرات متجدد على اختراع الأقنعة، والتمويهات، والخداع. بوذا لم يوهم أحدا ً بأكثر من الاستقامة، مثل لاوتسي الذي قال: ضع خطوتك في الطريق السليم! بعيدا ًعن اللا متناهي، وتلميذه غاندي، امسك بالدرب: العصيان السلمي. بدءا ً بالملح، دفاعا ً عن حقوق: الجميع. فاكتشف إنني أكافح للامساك بقليل من موتي....، لكن اللامعقول ـ وهو الاصلب في نظام عصر الدعاية، أي عصر الأقنعة، والغش ـ لا يسمح لي بأكثر من دفاع اختيار الموت، وهو ـ كما قال ادلر ـ الذي اكتسب ايجابيته بما يمتلكه من السلب. انه شبيه بمثال: إن مضار (الخمر) أكثر من منافعه، وهو الذي يسمح للبشر بارتكاب أخس، أفظع، أنذل، أوسخ الجرائم مادام اليأس من رحمة الرحمن ليس إلا خيانة، بل كفرا ً.
ستقول: هو ذا فائض اللا معقول...
وخطر ببالي مثال آخر حيث كنت أتحدث مع زميل لي عبر ألنت عما يفجع الصخور، في بلداننا، وفي عالمنا، فطلب مني، ببساطة، أن اقرأ قبل النوم، دعاء الشجرة، وأواصل قراءة دعاء الصخور، وعند الفجر، أعيد قراءة دعاء العدم! فقلت له: منذ زمن بعيد لم اعد مدمنا ً، لا على المخدرات، ولا على العقاقير المهلوسة، ولا على الأفيون، ولا على الحلم بالحصول على حديقة في الأعالي. وطلبت منه أن يراجع هذه الإشكالية، في الفكر السومري، عندما سأل الفقير الغني: لماذا لم تستجب الإله لي، وأنا أؤدي لها الفرائض، والطاعة، والقرابين، وأنا أراها تفرط في ثروات الظالمين، وقسوة الحاكمين. فقال له: الإله أعلى من أن تكون عالية كي تستجيب لك! ثم انك لم تخلق إلا من الوحل، واليه تعود! وها أنا قرأت دعاء: الغبار، فانا جئت من المجهول، وسأكمل ـ بموتي ـ دورته.
وسأقول: أحسنت...! فانا قاومت أن أكون الشر ـ رغم أنني خلقت لنقله ـ وقاومت الظلمات، رغم إنها ـ بحسب الفيزياء ـ لا تترك أشعة من غير سواد/ وعتمة، وإنني قاومت الكسب الحرام، رغم إنني لا امتلك قدرة الفرار مادامت المنافي، شبيهة بنظام حديقتي، تكونها أقفاصها، ونظامها الهرمي قبل ذلك. هل اذكر لك لماذا أغلقت الباب وحرمت على نفسي مغادرة قبري، سأقول، ببساطة، إن صاحب الجريدة التي كنت اعمل فيها، عاملني ككلب، فلم يدفع أجور عملي، لأشهر، فأخبرته برسالة: لست كلبا ً. كما إن ما تدفعه الصحف، لا يساوي ثمن الورق، والحبر، رغم إن بعضها تعد من المؤسسات الكبرى. وآخر خمس مقالات نشرت لي في مجلة تابعة لوزارة الثقافة، لم تصرف مكافآتها، بسبب التقشف، أو إفلاس الوزارة، وهو الإفلاس المقابل لتبديد مبلغ مقداره ألف ألف مليار أنفقت خلال الأعوام المنصرمة.
وها أنا أراك تفكر بالإصغاء إلى ما لم أبح به...، فأقول:
ـ تخيّل إن مقنعا ً يتهمني بأنني كنت مكلفا ً بمراقبته...، غير مدرك إنني كنت أعمى امشي خلف أعمى.....، وحتى هذا الأعمى، عندما بحثت عنه، لم أجده.
والآن أراك تهز رأسك، من غير صوت، فأسمعك تقول لي: الكل في المصيدة!
فلا أجد ردا ً إلا بالبحث عن منفذ كي أعود إلى (حديقتي)، فهناك، أروض الحقائق، كي انتزع الأقنعة، الواحد بعد الآخر، من قناع النمر إلى قناع الثعلب، ومن قناع الغزال إلى قناع الخنزير، ومن قناع الغراب إلى قناع البلبل.....الخ، كي اكتشف أخيرا ً إن المثل السومري ـ الذي طالما كان يتردد داخل رأسي ـ: ما من امرأة ولدت ابنا ً بريئا ً قط! يسمح للمصيبة/ الخطيئة/ الكارثة/ أن تصبح قناعا ً جمعيا ً. وبمعنى ما، من اجل الدقة، فها أنت تراني أتشبث بظل قناع يسمح لي بالدفاع عن نفسي، أو عن ما تبقى منها. فاشعر تماما ً إنني أصبحت كيانا ً لا مرئيا ً، ولكنني مازالت مبرمجا ً بالوهم كي لا انشغل بصناعة (سلعة) ما، للأسف، مضى زمنها...، لأنني أصبحت ـ كما في تجربتي وأنا أتحول إلى نبات والى ذرات والى أثير ـ ورقة تتدلى...: ورقة لا تمتلك مصيرها كي تأخذ دورها في سلم الارتقاء: من كيان لا يراه احد...، إلى الحضارات العمياء. وكل هذا يحصل كي تمتد ديمومة هذا (الزائل) ـ المنحدر من الأصل ـ بمساعدة برمجة تجعل الزائل يغوينا بإقامة أفظع المذابح للأطفال والنساء دفاعا ً عن الذي لا تدركه عقولنا الواهنة، العاطلة والمعطلة عن العمل، وإبصارنا الكليلة، بحجة انه خاطب صانعي المجازر، عبر التاريخ، ووعدهم بالأبدية الخالية من الشوائب!
فاضطر أخيرا ً لاستحضار دقتك في الملاحظة، كي تراني هربت من قفصي، لكن للانتساب، في هذه المرة، إلى مملكة النبات، لعلي، بعد قرون، لا اخدع بالعواء، ولا بالكلمات، وتصبح جريمتي محصنة، لا تمسها يد الإثم، وخارج نطاق الشبهات، فلا شطط غواية، تجرجرنا إلى السيرك، ولا شفافية مزيفة تقذفنا ابعد من قاع الحضيض.
عادل كامل
1/6/2015
*
1 ـ ومعنى نرفاناـ بحسب الموسوعة هو: مفهوم النيرفانا في البوذية الجاينية هي حالة الخلو من المعاناة.تعتبر الـ (نيرفانا) هي حالة الانطفاء الكامل التي يصل إليها الإنسان بعد فترة طويلة من التأمل العميق، فلا يشعر بالمؤثرات الخارجية المحيطة به على الإطلاق، أي أنه يصبح منفصلا تماما بذهنه وجسده عن العالم الخارجي، والهدف من ذلك هو شحن طاقات الروح من أجل تحقيق النشوة والسعادة القصوى والقناعة وقتل الشهوات، ليبتعد الإنسان بهذه الحالة عن كل المشاعر السلبية من الاكتئاب والحزن والقلق وغيرها. ويصل الكهنة البوذيون والفقراء الهنود إلى حالة الـ (نيرفانا) بعد فترات طويلة جدا من التأمل العميق، إلا أن الأمر وبطبيعة الحال صعب جدا على عامة الناس، وكل ما ذكرناه واقعي تماما على الرغم مما يبدو عليه الأمر من مجرد فكرة فلسفية. وبقي أن نذكر أن أصل كلمة (نيرفانا) من لغة الهند الأدبية القديمة ويطلق عليها اسم (اللغة السنسكريتية).
2 ـ البابليون هم أول من تحدث عن العدم، وعندما أحرجوا بتعريف الوجود، قالوا انه العدم الممتد. لكن هذا لا يخلو من تأثير المفهوم السومري للدورات، بدءا ً بدورة الذرة، وانتهاء ً بدورة الكون. وهو الذي سمح للدهرين والمرجأة والملحدين بخلافات كبرى مع وعاظ السلاطين، بل ومع الأديان نفسها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق