نصب الحرية لجواد سليم
ملحمة شعب وذاكرة حضارة*
القسم الثاني
[3] المركز ـ المحيط
عندما نجري مقاربة ـ ومقارنة ـ تأويلية، بين قراءة البيت الشعري الكلاسي (العمودي) العربي، وبين النصب، فان الإجراء سيفضي إلى تنوع ـ واختلاف ـ بتعددية مستويات المتلقي في عملية التذوق، التأمل، والبحث. فالبيت الشعري الواحد ليس جزءا ً من الكل، بل استثناء ً، لأنه لا يمثل الكل إلا بصفته حاصل وحدة أجزائه، من غير تقاطع مع تقاليد آليات البناء. ففي كل جزء من أجزاء النصب ثمة استقلالية ـ في المعنى وفي المعالجة ـ تسهم برف النص ـ الرليف، نحو ذروته: دورة الحياة بمعنييها الواقعي والرمزي، وهو المثنوية القديمة قدم الأساطير الرافدينية: عالم ما تحت الأرض، وعالم الإلهة، وهو: الظلمات ـ النور. على ان النصب يعيدنا إلى الوراء، الماضي، والى المتراكمات اللاواعية للذاكرة، ومشفراتها، وفي الوقت نفسه، يضعنا إزاء حركة تتقدم إلى الأمام. فإذا كانت الأختام قد شكلت نواة النحت، والمعرفة، في الحضارة العراقية القديمة، فان التحويرات الأسلوبية، للفنان، يستحيل عزلها عن تيارات الحداثة، والابتكارات الأسلوبية المضافة. فالرؤية الأفقية، للنصب، تأتي وليدة عناصرها الأسطورية ـ الزراعية، ولكن بمعالجة لم تغب عنها المحركات الفكرية، والمعرفية. وفي هذا المدخل سيتحول النصب ـ بمجموع وحداته ـ إلى بيت في قصيدة، مع ان الأجزاء ستحافظ على علاقتها بالغناء المركز ـ المعنى: الحرية، أو الانعتاق، وهو تقليد له تقنياته في القصيدة العربية، منذ المعلقات وصولا ً إلى شوقي والجواهري.
فالمشهد الأفقي يتيح للمتلقي أكثر من مدخل للقراءة. مما يذكرنا بذات الذهنية التي كتبت فيها أقدم النصوص الرافدينية، ومنها الفكرية، والدينية، والأدبية، كأسلوب يماثل عمل النسّاج بجمع وحداته والنظر إليها من زوايا متعددة اغناء ً لمفهوم: الجمع، التوليف، والتركيب.
على ان المسافة التي دارت في ذهن جواد سليم ـ بين النصب والمشاهد أو المتأمل ـ تبقى شبيهة بأداء المغني أو الموسيقي الذي يدرك ان مهمته تكمن في إيصال الأصوات بالدرجة ذاتها للسامع أينما كان موقعه من المصدر ـ المركز.
ويبدو ان المسافة التي شغلت ذهن جواد سليم ـ بين النصب والمشاهد ـ تماثل مهارات الشاعر (والموسيقي أو المطرب) في إسماع صوته الذي يراعي فيه البعيد كالقريب معا ً. فالنصب يشاهد عن بعد، بل من الفضاء، وبنصف دائرة تؤدي ـ بالحركة وبالإيحاء وبالمعنى ـ عمل الدائرة كاملة: كحركة من الخارج نحو المركز، ومن المركز إلى الأطراف.
وأفقية النصب ـ امتداده ضمن نسق مركب ـ يقع في مركز بغداد، بجوار امتداد نهر دجلة. فالنهر ـ هو الآخر ـ جزء من كل ـ كلمة في جملة ـ ومقطع متصل بالحركة، إن كانت حركة في مجرى النهر، أو في تمثل العلامات الثقافية، وهو ما سيشكل المفهوم (الايكولوجي) للنصب، ولمعنى الهوية ـ الخصوصية ـ إزاء قطيعة مع الموروث أولا ً، ووجود غريب مع الحاضر، ثانيا ً، وصدمة إزاء مدينة خالية من المجسمات المعمارية، والنحتية، باستثناء الرموز الدينية، والمعمارية المتفرقة، وبنصبين من صنع نحاتين أجنبيين، واقصد بهما تمثال: الجنرال مود، والملك فيصل الأول، ثالثا ً.
فأين سيقع نظر المشاهد، والفنان منشغل بتحقيق غايات يكاد الجمع بينها، بحد ذاته، سيشكل مغزى الوحدة في اختلافها، والاختلاف في وحدته. فالموروث لا يمكن استنساخه، مثلما يصعب تقليد المنجز الحديث، مما سيتيح للفنان معالجة التركيب، بالصهر، والصهر كي تكون الهوية متحققة، في معادل تتوازن فيه الروافد، مثلما يتوازن عمل اللاوعي بالمقاصد الواعية. فالحذف سيؤدي دور الإضافة، والمبتكر سينسج نسقه بالكثير من الاختزال، والتحوير، والترميز.
فثمة مدينة تكتظ بالأزمنة، وتتجمع فيها الروايات، والأحداث، وجواد سليم عاصر، منذ طفولته المبكرة، سلسلة من التصادمات ما بين الوطني، والآخر، الوافد أو الأجنبي، فالغليانات، والانتفاضات، قبل ثورة العشرين، وبعد الوثبة، فضلا ً عن القرون المظلمة التي تراكمت، كي تجد، جدليا ً، مفهوم الانبثاق ـ الولادة، لردم فجوات تمتد إلى نهاية الإمبراطورية الأشورية، بإقامة نصب جداري تتمثل فيه الإرادة الشعبية (الوعي الجمعي)، إلى جانب الطلب أو التكليف الرسمي من لدن القيادة السياسية للحدث: 14 تموز 1958، في زمن كان جواد سليم قد تحولت (ذاته) من خصوصيتها، نحو الهوية الجمعية للشعب.
فالنصب هنا بمثابة هذه الولادة ـ مستعينا ً بوعيه العميق للنسق الديموزي (التموزي) ـ: لا تدفن البذرة إلا لتورق ـ بزمن له خصوصيته، في عصر مشحون بالفوضى، والتمرد، والانقلابات، كي تجد هذه الروافد مناخها ـ مع المتلقي العام، الذي آذاه انتظار زمن الانعتاق، والتحرر ـ لكسر زمن الغياب، وإعلان الولادة ـ الثورة.
لم يغب عن وعي جواد سليم، ولا وعيه، ان الإنسان ما هو إلا مزيج من: الطين، والماء، وهما، في الأصل، نواة بذرة الخلق، من غير إغفال ان الآلهة منحت من ذاتها (نفسا ً) له. فالأساطير سكنته حد ان الخروج منها تطلب ما دعاه جبرا إبراهيم جبرا: بالمعجزة. فليس لديه، كتفكير لم يتقاطع مع الأعراف العراقية القديمة، والمعاصرة التي درسها، وتأثر بأحداثها، إلا: الجسد. فهو ليس (عورة) وليس (معاقبا ً) ـ ولكنه يبقى يحمل جرثومة الذنب، وفي الوقت نفسه، خلاصة لملحمة جلجامش ـ: لا يدوّن تاريخه إلا بالعمل. فجواد سليم لم يتوقف عند مفهوم العدم (البابلي) بأصوله السومرية لمفهوم ان الحياة قبض ريح، بل ـ كأنه ـ يعيد كتابة ملحمة (جلجامش) بعيدا ً عن الميتافيزيقا، وقد استعان بالجسد، بصفته لم يخلق فائضا ً.
انه لم يتخل عن ثقافته (الجمعية/ الشعبية)، بوعي له خصوصيته، ونسقه المستحدث، حيث الثقافة الجمعية ستجد تمثلاتها في: النبات، والحيوان، والإنسان، والفنان منشغل بتلبية طلب يرتقي إلى واقعية الحدث، جوهره ورمزيته معا ً، بمعناه السياسي/ التاريخي، وبمعناه الروحي، كحد فاصل بين نهاية العهد الملكي، وتدشين حياة لعلها تواكب ما يجري من تحديثات في العالم المعاصر، في العهد الجمهوري.
فهل ثمة (مركز) ـ بمعنى بؤرة ـ وهو المفتاح، ليجري مقاربة عندما لم يجد، سوى (الجندي/ المقاتل) رمزا ً واقعيا ً يلخص الحدث كي يكمل مفهومه لدينامية البناء ـ: الواجهة ـ الرليف ـ النصب ألجداري، ليس للانغلاق عند مفهوم الحدث السياسي، بل امتداد من الأرض/ الماء/ الجسد ـ وهي المكونات التي شكلت مادة النصب ـ وتعبيريته، بمنح (النفس) ـ الطيف أو الروحي ـ هويته إزاء عصر بدأت الشركات عابرة القارات تتحكم بمساراته، وبإعادة بنائه بعولمة منحتها التصادمات مسارات مازالت قائمة حتى يومنا هذا. ذلك لأن (الجندي) ـ وجواد سليم أعانته حكمته، ورهافته، إلى جانب القدر أيضا ً، كي لا يضع بورتريه الزعيم عبد الكريم قاسم بدل الجندي، وإلا لكان عرضة للهدم بعد سنتين من إقامته، أسوة بقتل الزعيم، مع انقلاب 1963 ـ * فالنصب، غدا (مركزا ً)، بمعنى مفتاحا ً يدور في الباب ـ والباب اقتران بالمدن العراقية منذ أور حتى بغداد ـ لقراءة تاريخ شعب تجمعت فيه الأزمنة، بتنوعها، من المأساة إلى الانفراج، ومن الكمون إلى الانبثاق، ومن الصفر إلى العدد، فالجندي ـ في الضمير ـ اكتسب شفرة (الخصب)، فهو، بحسب تحليلات الأستاذ شاكر حسن التوليدية للنصب ـ ليس رمزا ً للذكورة ـ رغم ما تبدو عليه بعض الأشكال من صلابة ـ بل إيحاء ً لا جنسانيا ً، بوحدة وتكامل عناصر البناء لمفهوم: كسر قضبان الموت/ السجن، ومنح الشمس ـ المؤنث باللغة العربية ـ مساحة للاتساع، والحركة.
فالمفتاح غدا إيحاء ً مزدوجا ً لـ: الشمس، بؤرة النصب، مع الجندي، والمرأة حاملة الشعلة، بالامتداد الأفقي، للثقافة الشعبية، وهي تعيد حلقات نائية للختم الاسطواني، وللإناء ألنذري، والجداريات الخزفية البابلية، والرليفات الأشورية، دورة الحياة، بدءا ً بالشمس، والماء، والنبات، والطين،أي، بالإنسان مركزا ً وقد صاغت منه الأجزاء الوعي التركيبي. وقد كان خالد الرحال شديد الانبهار بمهارة جواد سليم البنائية ـ للنصب: الملحمة. فالمركز لا يتلاشى، أو يندمج، أو يؤدي دور البيت الشعري في القصيدة، أو مقطعا ً من النهر، حسب، بل المعمار ذاته، بالمفهوم الديالكتيكي للبناء، حيث الصلة تبقى قائمة بين العناصر: الشمس ـ المقاتل ـ والمرأة حاملة المشعل.
وهنا يأتي المفهوم الدينامي للبناء في مواجهة ملاحظة تحدث بها احدهم عن (فجوات) أو (فراغات) أو عن عدم ترابط (الأجزاء) بمنح الحركة دورتها الكاملة ـ الشمس، وحركة الحصان في يمين النصب، وثبات العامل في أقصى يسار النصب، كي تكون قراءة النصب متجانسة، من الأجزاء إلى المركز، ومن المركز إلى المكونات التفصيلية للأجزاء، وهي تشّذب خطابها ـ كثقافة ـ ترتقي بالصراع نحو ذروته: الولادة، من غير إغفال ان النصب، ضمنا ً، أعاد تدوّين أقدم حكمة رافدينية: العمل، في مواجهة (الظلم)، إن كان قدرا ً مقدرا ً، أو من صنع الإنسان إزاء الإنسان.
* يذكر الأستاذ جبرا إبراهيم جبرا : " يجب ان نذكر ان الذي طلب إليه صنع النصب كان عبد الكريم قاسم، وهو أراده نصبا ً للثورة، بل أوحى انه يريد وضع صورته فيه. ورغم ما أعطى جواد سليم حرية في تمثيل ذلك، فقد كان عليه قبل كل شيء ان يمثل ثورة، أرادها الشعب، ولكن نفذها عسكري. وهكذا جاء القسم المركزي من النصب" جبرا إبراهيم جبرا [جواد سليم ونصب الحرية] وزارة الإعلام ـ بغداد 1974 ص133.
[4] ذاكرة النصب
وإن كانت تجارب نيازي مولوي بغدادي ـ وهو أقدم مؤلف، ونسّاج، وذهنية مركبة، دشن مقدمات للفن الحديث في العراق ـ خارج دائرة الاهتمام، والأضواء، إلا أنها كانت وليدة تحولات سمحت للفنان ان يرتقي بالحرفة نحو الفن، وبالفن نحو المجتمع المعرفي، وبالذاكرة (الموروث) نحو العصر، فقد جمع ـ كما يذكر الأستاذ شاكر حسن ـ بين الرسم والخط والزخرفة، لا من خلال " المجال التقني كفنون تشكيلية مستقلة بكيانها عن بعضها البعض بل من خلال رؤيته الفنية التي حاول ان يسبغها عليها جميعا ً. وقد اقتضت هذه، بشموليتها، ان يؤلف ما بين حسه اللغوي والتشكيلي والحرفي في ان واحد، بحيث يستطيع بعد ذلك ان يطور كل فن على حدة بكل غنى مثلما يتوصل أيضا ً إلى نتائج رائدة في مجال الفن المعاصر تسبق عصرها بنحو قرن من الزمان" (1)
لكن هذه الريادة ـ مكانا ً وزمنا ً ـ وجدت، لدى جواد سليم، نموذجها.
فإذا لم تتعرض تجربة نيازي مولوي للأضواء، كي تجد من يرى فيها غير الذي رآه شاكر حسن، وغير الذي أنجزه بمنح (النسق) وثبات جعلت من الذات علامة مجتمعية ـ حضارية، وجعلت من الفن لغة ردم ـ وحفر، رسمت حدا ً فاصلا ً بين ظلمات قرون خيمّت على العراق، وبين آفاق منحت البذرة اشتغالاتها، فان النظام التموزي الرافديني ـ دفن البذرة عبر مفهوم التضحية حد سفك الدم ـ سيعيد اشتغالاته. وهو ذاته سيشكل نظاما ً لجواد سليم خلال حياته الزاخرة بالتدشينات.
فقد تعرض جواد سليم ليس للنقد حد (التجريح) (2)، بنزعته نحو التحديث، بل بتهم تذكرنا بمن تعرض للانتهاك، والموت. فنجد من يزعم ان جواد سليم، لم ينصص، ولم يتأثر، ولم يستفد، ولم يتغذ على تجارب سابقة، بل وضع (الحافر على الحافر)، بالرجوع إلى مشاهدة متحف الشعوب، باللوفر، في فرنسا.(3)
وللآسف لم ترسلني أية جهة رسمية، أو شبه رسمية، بزيارة واحدة منذ بدأت الكتابة، في العام 1968، حتى هذا اليوم (2013) (4) كي ازور هذا الجناح، وأتحقق من هذا الرأي.
بيد ان نصب الحرية، بعد نصف قرن، اشتغل، كما في عدد من مصغراته التي أنجزها قبل سنوات من إقامة النصب، ذات صلة بالنسق ذاته للأساليب الرافدينية ـ وللموروث الشرقي، والإسلامي، والعربي ـ في عصر (الحداثات) الأوربية: الفن بصفته مرآة، وبصفته مزاوجة بين الأزمنة، والأساليب، والذي يلخص مفهوم: التناص ـ التنصيص، بصياغة تتحقق فيها الهوية ـ المدرسة ـ عبر التجريب، وليس عبر الانغلاق أو التكرار، أو محاكاة التيارات المعاصرة.
لا مناص ان جواد سليم عاش زمن نشوء (دولة) مستقلة؛ بمعنى عاش تدشينات وتحولات شملت الحياة العراقية برمتها، وفي مقدمتها ليس استعادة زمن مضى، وتوارى، ودفن، واستبداله، حد القطيعة، بعالم آخر. فجواد سليم، بتأثيرات النشأة، كان يراقب هذه التحولات، وتعقيداتها. وليس انتحار عبد المحسن السعدون، رئيس وزراء العراق، بحدث عابر، بل نموذج رسخ مدى الصعوبات التي ستواجهها (الهوية) ـ بماضيها وبمستقبلها ـ في المجالات كافة، ومنها، الفن. وتشخيصات جواد حول (المدرسة) صريحة تماما ً، فيذكر ـ على سبيل المثال ـ: ان الفن " لا يتبلور ويأخذ قالبه أو مستواه في خلال عشرين سنة أو نصف قرن.." متابعا ً " ومع هذا فالفنان هنا في بغداد يواصل العمل ـ وهذا هو المهم والذي يحمد عليه ـ مما يجعل لنا وطيد الأمل بحدوث النهضة الفنية "، ولكن ثمة محركات كانت تشتغل في أعماق الفنان، يلخصها الأستاذ عباس الصراف بجلاء: "ان موضوعات جواد في الرسم والنحت مدارها الدراما الإنسانية تتمثل قي ذلك الإنسان الطعين المصلوب باسم غصب الآلهة تارة وباسم الديانات السماوية تارة أخرى وباسم العنصرية والطبقية والإقليمية تارة ثالثة" (5) ولجواد سليم إشارات نقدية تحدث بها بعد عام 1958، فذكر " ان القائلين بان الفن العراقي سيبدأ حياته بعد الثورة، هم الذين فشلوا في ان يحققوا أي عمل فني جيد قبل الثورة، ذلك لأن الفن العراقي، طرق ـ في حدود الظروف التي أحاطت به ـ أكثر من موضوع إنساني، بل تناول كثيرا ً من جوانب الحياة في وطننا، وهذا ما يحملنا على القول بان الفن في العهد الجمهوري، لن يكون إلا امتدادا ً للماضي، ولكنه امتداد انفجاري ـ إذا راعينا دقة التعبير ـ لأننا نرقب فيه تفجر جميع الطاقات الفنية المبدعة" (6)
فإذا كان الأسلوب ـ بمعنى الهوية ـ يأتي بعد الموت، بحسب تصوّر بيكاسو، فان جواد سليم، برهافته، راح يشذّب، ويعّدل، ليمنحه معادله مع الخلاصات: الهوية ـ أي ان يجد مأواها في الأزمنة القديمة، وفي ذات الوقت، ألا يكون نسخة مستعارة من هنري مور، أو بيكاسو، أو جايكوميتي، أو خوان ميرو، أو كاندنسكي، أو تابيس، أو أي فنان من فناني عصر الحداثة. لقد قلب السياق، وسمح للأسلوب ان يتشكل عبر روافد مكونات الهوية ـ وأدق تفاصيلها ـ على صعيد الأشكال، والأسلوب. خاصة انه، في نصب الحرية، استعار، واستعاد، دور الفنان ـ ودور الفن ـ في وادي الرافدين؛ ذلك الارتقاء من (الأنا) نحو عملها المنسق مع الضمير الجمعي، من غير محو لها، ومن غير قطيعة معها أيضا ً. فهو بصدد انجاز (علامة) ليست خاصة بالحدث، 14 تموز 1958، المحدد بمكانه وزمنه إلا وهو يزيح ظلمات قرون تعود بنا إلى الواجهات (اللافتات/ الجداريات) في عصور: الأشوريين، البابليين، والسومريين. وكلماته حول معنى كون الفن مرآة اجتماعية، تضمن التعبير عن هذا الهاجس، وفي الوقت نفسه، فان الأسلوب تضمن خزينه العميق، النائي، واللاواعي، لجذور تخيلها عبر منجزه الفني وهو يخاطب المستقبل، ولا يكتفي بالحاضر، ومحدوديته. (7) فالفنان لم يعد حلقة بين مجهولين، بل حاضرا ً لم يجعل من الفن جسرا ً للعبور ـ أو الدعاية ـ ، بل، على العكس، تدشينا ً لاتجاه تميز، واختلف، عن مفاهيم موت الفن، وعن مفهوم موت الفنان/ المؤلف، كي يتضمن رسالة استبدلت مفهوم (الوثن) و (السلعة) بالإنسان ككائن مثقل بالانتهاكات، نحو: انعتاقه ـ وكرامته. وقد يكون مصغّر (السجين السياسي المجهول) ـ 1953 ـ نموذجا ً لسلسلة من الأفكار التي شغلت ذهن الفنان، لكن تجاربه الأقدم، والأخرى التي نفذها قبل الشروع بتصميم نصب الحرية، تفصح عن المنحى التجريبي القائم على استبعاد أية أحادية في المنهج، واستثمار نسق (الصيرورة) بالمدى الذي يسمح للفن ألا يكون معالجة فنية خالصة، أو حرفية، أو ذاتية، إلا كمحرك للمعنى الأبعد: الانعتاق ـ بالحفاظ على واقعيته، وتعبيريته، ورمزيته في الأخير.
ففي نصب (البنّاء) ـ 1944 ـ 1945 ـ والفنان في عنفوان شابه ـ يمسك بالحل النموذجي، والوحيد، لحكمة ملحمة جلجامش: الصيرورة، أي ليس لدى الإنسان إلا ان يصنع تاريخه، كي يحقق حريته فيه، لا ان يتخيله، ويتأمله حسب. فالعمل، وهو الذي تأسست عليه أقدم حضارات وادي الرافدين، بعلاماته الهندسية، وبالاستناد إلى العدد، الحساب، والكتابة، والجهد البشري الخلاق، سيشكل المفتاح بمعناه المشفر في نصب الحرية.،
ففي نموذج (البنّاء) جذور واقعية استقاها الفنان من تأمله لأحد أسطوات بغداد، الاسطة طه، وشيد بها المعنى، بتأثيرات لم يغب النحت المصري القديم عنها، ولكنها، في الوقت نفسه، سمحت للبنّاء ان يكون (مركزا ً) للرليف بالتوازن مع فريق العمل، والتفاصيل الأخرى. انه نموذج سيتكرر في نصب الحرية، حيث (الكل) لا يمكن عزله عن أجزائه، ومكوناته، مهما كانت مستقلة، مثلما تؤدي الأجزاء دورها في الكل، كي يأخذ سياقه في الصيرورة: في المعنى ـ وفي الأسلوب/ الهوية.(8)
وفي نموذج (ثور وفلاحة) ـ 1955 ـ تتداخل الرموز العراقية، كجدل (مترابط) بين المرأة والثور، عبر الرموز المستقاة من الواقع: المثلثات، والأهلة، وسعف النخيل، وهي التي سيعيد صياغتها، بتشذيب بالغ الحكمة، والمهارة، في نصب الحرية. ونموذج (الإنسان والأرض) ـ 1955 ـ هو الآخر، منح (الأمومة) العلاقة الديالكتيكية ذاتها بين الإنسان والأرض، بمعالجة أسلوبية ذات صلة بتجاربه الأخرى، في الرسم، والنحت، والخزف، مثلما لا يمكن عزلها عن نصب الحرية. وهذا ما ظهر بجلاء في جداريته (النفط) ـ 1956 ـ كدراسة ملحمية زاخرة بالمشاهد، فإذا استثنينا عملية التنقيب عن النفط، كعلامة خاصة بالنص الفني، فثمة رأس معزول، منفصل، ومستقل، داخل دائرة، ظهر أسفلها كساعة، حيث احتل الرأس نصفها الأعلى، فيما شق النصف الأسفل، عقرب الساعة الكبير المتجه من العين إلى الشعلة المتوهجة، مثلما لم يهمل الفنان مشاهد الثيران، والماء، والوحدات الهندسية المستقاة من النحت العراقي القديم، إلى جانب الشخصية المركزية، وكأنها تصوّر حمورابي، لا يتلقى الشريعة، من الآلهة آشور، بل بما سيمثله اكتشاف النفط، في العراق، من نعمة ومن نقمة على حد سواء. فالجهد التكويني، كما لم يظهر، في الفن العراقي الحديث، كما ظهر في هذا النموذج، قبل ان يعيد صياغته ـ مع تجاربه الأخرى في الرسم وفي النحت ـ في ملحمة الحرية. فالتركيب يغدو معالجة حديثة للملحمة ذاتها: الإنسان وقدره، بعد تعديل المنحى الأسطوري، للرؤية، بعلامات مستمدة من الحفر في معطيات الموروث، والتاريخ: كفاح الإنسان، وقد كف ان يكون (قدرا ً)، باختيار رموز الخصب ، والعمل، وهي دلالات لا يمكن عزلها عن مفهوم الانعتاق ـ والتحرر، في نصب الحرية.
* صدر الكتاب عن دار الأديب ـ عمان ـ 2014
1 ـ شاكر حسن [فصول من تاريخ الحركة التشكيلية في العراق] الجزء الأول. دائرة الشؤون الثقافية والنشر، بغداد ـ 1983 ص46
2 ـ فيذكر جواد في كلمة له ـ " لقد نعتنا شاعر طيب القلب بأننا أعداء الشعب، وبأننا يجب ان نحارب من كل عراقي مخلص لوطنه. نحن أعداء الشعب، في حين ان غذاء الشعب مسامرات الجيب ومجلة الاثنين والأفلام المصرية والملاهي النتنة، هذا هو غذاء الشعب!" جبرا إبراهيم جبرا [جواد سليم ونصب الحرية] وزارة الإعلام ـ بغداد ـ 1974 ص46
3 ـ هذا ما قاله لي الأستاذ إسماعيل الشيخلي، كرد فعل لإعجابي بجواد سليم، ودوره الكبير في التشكيل العراقي، في مطلع سبعينيات القرن الماضي.
4 ـ الإيفاد الوحيد الذي حصلت عليه يرجع إلى عام 1979، حيث أرسلت إلى سورية، في عمل صحفي، من لدن رئيس التحرير، حسن العلوي، وكنت مازال اعمل على المكافأة الشهرية. والزيارة الثانية كانت بدعوة من الشاعرة أمل الجبوري، رئيسة ديوان الشرق ـ الغرب، إلى برلين، عام 2005.
5 ـ عباس الصراف [ جواد سليم ـ من رسالة دكتوراه في النقد الفني] وزارة الإعلام ـ بغداد 1972 ص91
6 ـ نوري الراوي [ تأملات في الفن العراقي الحديث] مديرية الفنون والثقافة الشعبية بوزارة الإرشاد ـ بغداد 1962 ص38
7 ـ فالحاضر، يقول جواد سليم " الزمرة التي تتذوق الفن والتصوير من جمهورنا تفرض إرادتها عليك بصورة عجيبة: (هذا كلش موزين. لازم تسوي فد شي تفتهمه الناس) هؤلاء يريدوننا ان نرسم تفاحة، ونكتب تحتها "تفاحة" (ئي هاي تفاحة، تماما ً تفاحة)، أو منظر الغروب على دجلة وتحنها "الغروب" ..." جواد سليم ونصب الحرية. مصدر سابق ص46
8 ـ يدوّن جواد سليم، في يومياته، ملاحظات ذات أهمية خاصة، حول رؤيته، في هذا المنجز الفني، فيكتب: " استقرت في راسي فكرة إنشاء هذا الموضوع منذ عدة سنوات. وقد استوحيت الشكل عند رؤيتي اسطة طه، البناء الوحيد في العراق في عمل الزخارف، وهو يعمل بكل دقة وهدوء في زقاق القصر العباسي....، وإذا أردت ان اشرح ما حفرته على هذا الحجر فسوف لا يتعدى الشيء الشكلي الحاصل ولذا أفضل السكوت، ولكن يجب ان اذكر هنا أني بلا شك قد استعنت، زيادة على نفسي والطبيعة والاتجاهات الحديثة، بعدة اتجاهات فنية ـ مصرية، وآشورية، وغوطية، وهذا شيء طبيعي. وكان في الإخراج اتجاهان: احدهما هو ما بدأت فيه عملي للإنشاء، وكان نوعا ً من الابتدائية الخشنة النقية الخطوط الهائجة العواطف، والثاني اتجاه كلاسيكي مثقف" جواد سليم ونصب الحرية. مصدر سابق ص32
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق