الاثنين، 9 فبراير 2015

قصة قصيرة ما بعد الشفافية- عادل كامل


 قصة قصيرة

ما بعد الشفافية


عادل كامل
ـ  لم نترك مكانا ً لم تصله ..
     وتابع الغراب قراءة الرسالة، مرة ثانية، بصوت متوتر:
ـ أجسادنا...، فقد اعددنا ما يكفي للمهمة.
أجاب الهدهد:
ـ كانت لدينا معلومات مؤكدة عن تسلل عدد كبير من الفئران الانتحارية، وقد برمجت برمجة متقنة، وبمشاركة فصائل من الجرذان، والصراصير، والخنافس، وأبو جعل، وغيرها من المخلوقات الوضيعة.
تساءل الببغاء:
ـ إذا كان القضاء عليهم لا ينهي الفتنة، ولا يقلل الخسائر، فلماذا لم نمنحهم حقوقهم المشروعة، بدل هذه المناورات التي قد لا تقود إلى الحسم، والسلام...؟
  خاطب الثعلب الغراب:
ـ لطفا ً أكمل..
تابع الغراب:
ـ وقد تضمنت مخططاتهم نسف الأسوار، وهدم الأقفاص، وتخريب الأجنحة، والمغارات، بغية إطلاق سراح الجميع.
صاح  الثعلب:
ـ هذا بمثابة إعلان حرب!
أجابت المستشارة:
ـ كما قال خبير المعلومات، السيد الهدد، فان المؤامرة ستذهب ابعد من إثارة الفتنة، وابعد من إشعال الحرب، وابعد من الهدم، والقتل، والتخريب...، فالمؤامرة تستهدف محونا من الوجود!
   ارتبك الثعلب قليلا ً، وأجاب بغضب:
ـ أغلق فمك...، فاليأس خيانة، والخوف تخاذل، والتردد جريمة! فكيف وأنت تبث كل ما يحبط العزائم، ويبث روح الهزيمة؟
قال الغراب:
ـ سيدي، لقد تم هدم الجناح الغربي، وما جاوره، ففرت الحمير، والبغال، والجاموس، والإبل، والماعز، وحتى التماسيح تضررت من موجة التفجيرات، والأعمال التخريبية...، ومن القتل العشوائي، واستبدال النظام بالعشوائية!
أجاب الثعلب بصوت بدت عليه الحيرة، والتردد، والأسى:
ـ هل نتخلى عن مجدنا، وحديقتنا...، للجرذان، والضفادع، والفئران...؟
ـ سيدي، إنهم يزحفون، بمساندة الأفاعي، وبمشاركة فصائل من الضباع، والذئاب، وبنات أوى، ومجاميع من القطط المتوحشة، والكلاب السائبة.
قالت الببغاء:
ـ هذا ليس إعلان حرب، بل هو الخراب.
فسأل الثعلب الهدهد:
ـ أين كنت...؟
أجاب الهدهد:
ـ أخبرناكم بأدق المعلومات، ومنها التي لم تقع، والتي مازالت تدور في العقول! فماذا كانت أجراءتكم، سوى التراخي، وعدم التصديق، والشك، وهي التي مهدت للتمرد الذي تحول إلى عصيان، والأخير أصبح ثورة!
صرخ الثعلب مرددا ً:
ـ ثورة، ثورة،  لا أريد ان اسمع هذه الكلمة,
متابعا ً أضاف:
ـ أيها الأسد، وأنت أيها النمر، وأنت أيها الفيل ...، لنعقد جلسة طارئة واتخاذ ما يلزم.
ضحك الحمار:
ـ سيدي، انظر...؛ الفئران ارتدت أحزمة ناسفة، والجرذان تحولت إلى ألغام موقوتة، والضباع جاءت بالعربات المفخخة، وفصائل أخرى عزمت على نسف الحديقة ومحو علاماتها، من اجل استبدالكم او قتلكم!
تمتم الثعلب مع نفسه بصوت مسموع:
ـ أنا لا اعرف من اجل من يموتون، الحمقى، لم يفطنوا حتى للمناورة!
أجابت الغزال:
ـ من اجل الكرامة.
وأضاف الثور:
ـ والحرية.
وقال الكبش:
ـ والرفاهية!
سأل الثعلب مساعده باستغراب:
ـ من منع عنهم الكرامة والحرية والرفاهية...؟
   لم يجب عليه احد من الحضور. فتساءل مرة ثانية:
ـ من حرمهم من الهواء والماء والضوء والأمن والرخاء ....اخبروني...؟
   لم يتفوه احد بكلمة. فصرخ الثعلب في وجه الأسد:
ـ أيها الخائن!
جرجروه عنوة حتى توارى. قال الثعلب:
ـ أعطوهم الرفاهية، ثم وزعوا الكرامة، وانثروا لهم الحرية!
صاح التمساح:
ـ أيها الزعيم، لم يتركوا حجرا ً فوق حجر، ولا بيتا، ولا مؤسسة، ولا مغارة، ولا جناحا ً، ولا قفصا ً...، إلا وأشعلوا النيران فيها، ونسفوها، وخربوها شر تخريب، بعد نهبها، وسرقتها! وما نحن الآن سوى زمرة أشباح ضالة  كأنها جذوع خاوية محشوة بالهواء!
   دوى انفجار، تبعه آخر، فقال الثعلب بصوت عال ٍ:
ـ أيها البواسل، أيها الفرسان، أيها الأبطال....، إلى الحرب!
ضحك البغل يخاطب الماعز:
ـ مع من يتكلم زعيمنا الخالد...؟
   ودوى انفجار ثالث، ورابع، ثم انهالت القذائف فوق الساحة الكبرى، بعد ان اخترقت الجرذان الممرات المحصنة، حيث بدأت تدوي انفجارات في الأجنحة، والإسطبلات، والمغارات، والزرائب، وقد تم احتلال مركز الحديقة، بعد ان خربت التماثيل، ومزقت الصور، ونسفت شاشة الحديقة، وبعد اقتلاع الأشجار، وتخريب المرافق الأخرى.
     في الملجأ المحصن، قال الثعلب لمساعديه، بصوت مرح، رزين:
ـ محض سحابة، هواء في شبك، زوبعة في فنجان...، فما ان تنتهي هذه اللعاب، وما ان تخمد حرب الجميع ضد الجميع، حتى يبدأ عصر الأنوار: عصر المصالحة!
دخل قائد الحمايات مضطربا ً وقال:
ـ، سيدي..، امسكوا بالقائد، ومزقوه شر ممزق، وسحلوه، ومسحوه بتراب الأرض، وهو صار ممحوا ً محوا ً...، والقصة بدأت هكذا ـ سيدي الكبير دام زمنك إلى ابد الآبدين ـ أراد السيد القائد ان يتباهى بمجد حديقتنا، وقوانينها، وقوتها التي لا تقهر، إلا ان الموجات الانتحارية راحت تزحف من الجهات كافة، من الحفر، ومن الشقوق، وتخرج من الأنهار، ومن الآبار، ومن المستنقعات، وتهبط من السماء، تتساقط مثل اسماك تنفجر حال ملامستها الأرض....، فلم يبق شيئا ً في حديقتنا إلا وتحول إلى رماد، وركام، وأنقاض، وغبار!
   ابتسم المدير، وسأل الأسد الذي لا يعرف كيف دخل:
ـ ماذا تفعل هنا..؟
ـ سيدي...، طالما أخبرتك ان الحرب لا تجري فوق الأرض..، بل داخل العقول!
كاد المدير ان يفطس من الضحك، حتى لم يقدر على الوقوف، فسقط أرضا ً، ثم لوّح بأصابعه ساخرا ً:
ـ إن كانت الحرب تجري فوق الأرض، او في العقول، فالبركان انفجر، والأرض زلزلت، والطوفان وقع...، مادمنا نحتمي داخل هذه الملاجئ المحصنة، فليس علينا إلا ان تكتمل دورة الغضب....
ساد صمت، بدده الخنزير بسؤال:
ـ إذا تحولت حديقتنا إلى رماد، وغبار، فعلى من تحكم، أيها الزعيم الخالد؟
نهض المدير، واقترب منه:
ـ وهل صدقت، في يوم من الأيام، ان حديقة كانت هناك...؟!
ـ آ ...، طالما قلت ذلك لنفسي!
أومأ المدير لحمايته باستبعاده. فصرخ:
ـ انتظر ...سيدي الأبدي، دعني أكمل، فانا قصدت شيئا ً آخر غير الذي دار ببالك!
قال المدير:
ـ انتبه، أتعلب علينا، أم أصبحت تجديد المناورة، والتمويه؟
ـ أنا لا العب، ولا أناور، ولا أموه...، فانأ لا ارقص، ولا اعوي، ولا اشتكي...، فانا طالما استنتجت ان زعامتك شبيهة بالجواهر الخالصة، ولا علاقة لها بما حدث، وما فعله الرعاء، وما ارتكبه القطيع من شناعات، وخساسات، ونذلات، وسفك دماء، والآن ...، بعد ان تخمد النار، لن يعد للثعابين، ولا الفئران، ولا الأرانب، ولا العقارب، ولا القمل، ولا الكلاب من وجود، ولا حضور، ولا حتى بقايا أطياف! ذلك لأن زمنك الذي انتظرناه طويلا ً، يكون قد بدأ ...، فبعد ان تختفي هذه الزعانف، والزوائد، والدهماء، والرعاع، والفتات،  وبعد ان نجمع رمادها ونذره في الريح...، يبدأ زمنك الجميل، زمن نهاية الجور، والطغيان، فتسود المودة، ويعم الرخاء.
ـ آ ..، آسف...، يا لك من عقل!
فتابع الآخر:
ـ ثم سيولد الجنس الناعم، فانا، مع الدب، والسيدة الببغاء، ومع فصائل النمور الشفافة، فكرنا بعصر ما بعد الرماد، والحرائق، والفوضى. سيدي، فالحقول ستورق، والسماء توزع حلوها، والآبار تتدفق، مثل الينابيع، بالماء الزلال، الخالي من بقايا الجثث، والمواد المشعة، ومن بيوض الضفادع، وبقايا المياه الثقيلة، والضوء سيوزع من غير حساب، بدءا ً بزمن الرفاهية، ونهاية الظلمات!
ـ اقترب.
  اقترب الخنزير:
ـ لم يحن الأوان بعد....، أيها العقل العبقري، لأنني انتظر ان تكمل مهمتك.
ـ أمرك سيدي.
ـ لأن عليك ان تغذي الحرب، فلا تدع يوما ً يمضي من غير مذابح، فلا تدع أحدا لأحد، فالخراب لم يبلغ غايته بعد!
ـ أمرك سيدي.
   ثم استدرك الخنزير:
ـ لكن ماذا لو ...، لم نتمكن من إبادتهم...، ومن محوهم...، وماذا لو لم يبقوا لنا سوى هذا الجحر...؟
ـ آ ...!
ثم أضاف المدير:
ـ لا تجزع...، سنغادر إلى كوكب بعيد!
ـ حقا ً، هكذا نجونا...! فبعد ان انقرضت الماموثات، والديناصورات، والوحوش العملاقة، وهكذا ـ يا زعيمنا الخالد ـ سيبدأ عصرك الزاهي المجيد. فبعد ان أصبح العالم القديم غير صالح للأوهام، ومن غير تمويهات، ستكون وحدك الجدير بالزعامة، حيث الشعب الناعم، تأمره فلا يعصي، تنهاه فلا يعترض، تذّله فلا يعترض، تعاقبه فلا يستغيث، تجتثه فلا يعترض....، ليشّيد حديقة لا خراتيت فيها، لا رعاع ولا بنات أوى، لا قمل ولا خفافيش، لا عميان ولا مثلثات لا مكعبات ولا أوبئة ولا سرطانات، لا إشعاعات تهددنا بالموت اليومي، ولا طوفانات، لا براكين ولا أساطير ولا خرافات، آنذاك تهدم الحدود، وتردم الفجوات، وتمحى الحافات، فتعود الريح تنشد نشيدك الأبدي: لا أضداد ولا خلافات ولا مخالفات، لا عصيان ولا جنح ولا شطحات، لا شيخوخة ولا علل ولا هذيانات، يا مديرنا الكبير، فأنت قفل الباب، وأنت مفتاحها، يا مديرنا يا مديرنا، العدم عند أسوارك يأتيك بالهدايا، والشموس تهديك الأنوار، وبهائمك الناعمة تمجدك ليل نهار.
6/2/2015

ليست هناك تعليقات: