الترجمة والجمهور
أ.د. عناد غزوان
لا شك في أن أدب أية أمة من الأمم كالأدب العربي يتمركز طبيعياً في ثلاثة أبعاد أو آفاق معرفية هي : التجربة الأدبية نفسها ، ومؤلف ( أو مبدع ) التجربة الأدبية والحقبة الزمنية ( تاريخ العمل الإبداعي ) . ومن هنا برزت في الدرس النقدي المعاصر ثلاثة مناهج تتحدث عن التجربة الأدبية انطلاقا من المنهج النصي والمنهج الإبداعي أو التحليلي ـ الفني والمنهج التاريخي للنص سواء أكان تعاقبياً أم آنياً ، بيد أن الحاجة المعرفية ـ الحضارية المعاصرة ، تتطلب مدخلاً أو منهجاً أعمق تحليلاً للنص من غيره من المناهج دونما إهمال لها بالقدر الذي يسمح لها بالدخول في دائرة النص داخلياً أو دائرة النص خارجياً بحثاً واستقراءً وشرحاً لأفكار النص أو دلالاته المختلفة التي تكون ذات أهمية وشأن كبيرين في ميدان الوعي النقدي الذي تؤلف الترجمة بمعناها الفني والعلمي جانباً مهماً من هذه الآفاق ، وعنصراً مهماً من عناصر الثقافة بمعناها الأوربي ومعناها الحضاري فالكلاسيكية والرومانتيكية والواقعية والرمزية والأسلوبية ومناهج البنيوية المختلفة كالسيميائية ( أو علم الإشارات والعلامات ) والتفكيكية ( أو التشريحية أو الدلائلية ) ونظرية الاستقبال والتلقي والتـأويل وغيرها ، كلها ظواهر ثقافية لا تعني أدبا بعينه بل تتحدد تاريخيا لتشمل آداب الأمم جميعاً،يكون للترجمة فيها دور بارز واثر فاعل في التقارب بينهما تحقيقاً لعالمية الأدب البشري ( وليس الأدب العالمي ) ومن ثم تقليصاً للفوارق الثقافية التي نلمس اليوم بعضاً منها فيما يسمى بصراع الحضارات أو صراع الثقافات ، والترجمة بوصفها نافذة علمية تطل على كل آداب العالم ، صارت ذات بعد ثقافي وحضاري ذي تماس مباشر بالجمهور ، جمهور المتلقين ولا سيما أولئك الذين لا يعرفون لغة النص المترجم معرفة نؤهلهم لتحديد مثل تلك الفروق والتعمق في فهم مستوياتها ودلالاتها . وللترجمة دور نشيط يجاوز الأدب وأجناسه المختلفة الى أثره في العلاقة القائمة بين الأدب بوصفه نشاطاً إبداعياً وبين الأنماط العقلية والمعرفية الأخرى فالانثرويولوجيا ( علم الإنسان ) والفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع وغيرها بوصفها أركان الفكر الإنساني . وفي ضوء ردم هذه الهوة بين هذه الميادين المعرفية وربطها بظاهرة ثقافية واحدة ، برزت أهمية الترجمة بوصفها معياراً نقدياً يحدد عمق هذه الثقافة أو سذاجة تلك ، فهناك ثقافة عميقة يحملها الكثيرون لأنها غير معروفة وثقافة بسيطة ساذجة يعرفها الكثيرون من جهة وبوصف الترجمة نشاطاً علمياً وفنياً يجعل تلك الظاهرة الثقافية معروفة لدى جمهور المثقفين عموماً على وجه هذا الكوكب الذي صار كوكباً صغيراً جداً في ضوء التقدم التقني التكنولوجي السريع في مجال الحاسوب والانترنيت والمعلوماتية السريعة التطور من جهة أخرى . وهنا تجدر الإشارة الى اثر الترجمة في مفهوم العولمة المعاصرة Globalization وما يتضمنه هذا المصطلح الحديد من أبعاد سياسية واقتصادية وفلسفية وثقافية ونفسية .
1 ـ 2 :
إن الثقافة التي لا تمتلك تراثاً بالمعنى العلمي الدقيق للتراث لا تقوى على الدخول في صراع الثقافات المشابهة لها ، وللترجمة في هذا ( الصراع الثقافي ) أهمية لا تخفى على المثقف المعاصر فضلاً عن أهميتها في الأدب المقارن والنقد المقارن من حيث البحث عن الجذور التاريخية للثقافة البشرية وتبيان الصلات التاريخية التي تربط بينها عن طريق التأثير والتأثر وتداخل الأجناس الأدبية ، ولا يتم ذلك إلا عن طريق الترجمة المؤثرة في جمهورها .
ولا يخفى ما لهذه الترجمة من جوانب سلبية وخطرة في بعض الأحيان تجدر الإشارة الى الوقوف عندها وقفة متأنية وذلك من خلال ما يمكن أن نصطلح عليه بالنقد الترجمي أو نقد الترجمة لتبيان المسؤولية الاجتماعية للمترجم وترجمته أمام جمهور لا يعرف لغة النص المترجم وأمام مترجم لا يفقه النص المترجم إذ يطلق العنان لنوازعه الشخصية التي لا تخلوا من الحقد الدقيق ضد هذه الثقافة أو تلك ولا تخلو من التحريف والتزييف والتشويه ومن هنا تبرز أهمية النقد الترجمي الحضارية والثقافية والعلمية في آن واحد ، إذ أن ها النمط الثقافي ـ الحضاري سلط الضوء الكثيف على كثير من النشاطات المعرفية باستثناء النصوص العلمية التطبيقية المحضة التي لا تقبل مثل هذا التحريف والتزييف كالرياضيات والفيزياء والكيمياء وعلوم الحياة وغيرها مثلاً . ولكننا بوصفنا جمهوراً مثقفاً نقف بحذر شديد أمام النصوص الإنسانية كالأدب والتاريخ والفلسفة والعلوم الاجتماعية والفكرية والدينية ، إذ إنها أنماط معرفية قد يثسرب إليها التحريف والتشويه المقصودان أو العفويان إذ تولد الأزمة وتتذبذب المسؤولية الاجتماعية للمترجم والترجمة ناهيك عن آثارها السلبية التي قد تؤول الى خطر جسيم يهدد ثقافتنا القومية والإنسانية على حد سواء .
1 ـ 3 :
فالفكر الأدبي المترجم على وجه الخصوص يواجه مسؤولية كبرى أمام جمهور مثقف أو جمهور متحمس للثقافة الأدبية فإعداد أسباب موهومة ومزعومة ومغلوطة يؤدي حتماً الى نتائج موهومة ومزعومة ومغلوطة تجعل الثقافة الأدبية العالمية عن فوهة بركان تؤجج ( الصراع الثقافي ) ليصبح أخيراً ( أزمة عالمية ) فالترجمة أولا والجمهور ثانياً يجب أن يكونا متلازمين في استقبال الأثر المترجم من حيث الأمانة والدقة والإنصاف العلمي الموضوعي .
لا شك في أن أية ثقافة في العالم هي كلُ وتكامل من تجارب شعوبها في عصور تاريخية متعاقبة ومترابطة وان هذا الكل الثقافي لا يخلوا في بعض الأحيان من وهن يصيب جزءً منه بيد إن المنطق المنصف للمترجم من خلال استجابة الجمهور عليه ألا يغلب الجزء الواهي على الكل المكين والأصيل وهذه هي المسؤولية الاجتماعية التي تقع على عاتق المترجم ولا يكتشفها إلا النقد الترجمي المقارن وبهذا الخصوص يقول الناقد الانكليزي المعروف ( مارثو آرنولد ) ما معناه بان على كل ناقد محاولة معرفة أدب عظيم أصيل واحد في الأقل فضلاً عن أدبه القومي ليكون ناقداً أدبياً موفقا وانسجاماً مع هذه النظرة الواقعية التي يراها هذا الناقد بأنه قانون النقد Law of Criticism . يجب على المترجم أن يكون مثقفاً وأدبيا بلغته وآدابها وبلغة وآداب امة أخرى ليقدم لجمهوره تجربة ناضحة تستحق التقدير والثناء وإلا فان كثيرا من الترجمات التي تطالعنا بها دور النشر اليوم ليست بالمستوى العلمي المطلوب مقارنة بغيرها من الروائع القليلة التي يقدرها الجمهور.
قيل أن أي مثقف أو الجمهور المثقف عليه أن يتواصل مع الأدب الأجنبي الناضج بالنسبة له كأنه بداية أو مستهل أو عتبة لا بد من الوقوف عندها وقفة متأنية ولا يتم ذلك إلا عن طريق الترجمة التي ستؤهل هذا المثقف أو هذا الجمهور ليكون مثقفاً واقعيا حقيقيا وليقف على أصالة أدبه وفكره بالمقارنة من جهة أخرى .
والترجمة بالنسبة لهذا القول تتخطى هذه العقبة أو العتبة لأنها تمهد السبيل دائماً الى اللقاء بين الأدبين المختلفين لغة وحساً بأنها نتاج أنساني يهم الجميع ولا يتم ذلك إلا عن طريق علاقة حميمة بين المترجم المسؤول والمثقف المسؤول أو الجميع المسؤول بوصفهما ينتميان الى ثقافة إنسانية واحدة وكلما استثمرت اللغة للتعبير عن حقائق الخيال سواء كان ذلك في الشعر أم في النثر ، فان العمل الأدبي سيتجذر ويتأصل أكثر متانة وقوة في الأشياء غير المترجمة .
التي تحتاج الترجمة الدقيقة والسليمة فعلاً وهذا أمر يهم الترجمة وجمهورها فالألفاظ في أي نص أدبي وثقافي ذوات معاني ودلالات لا يمكن تغييرها بسهولة وبساطة بل تحتاج الى تكامل عميق وإدراك مقترن بها من خلال " لغتها " التي هي عليه التوصيل أو الإيصال وليست مجرد وسيلة للتفاهم البسيط العام . لان ترجمة الصور الشعرية والأدبية هي من أصعب المهمات التي تواجه المترجم وعليه أن يجتهد كثيراً ليقدم تلك الصورة الى جمهوره ويتذوقها كما يتذوق جهد النص الأصلي صوره الشعرية والأدبية بالحماس نفسه وبالاستجابة نفسها " وهذه مهمة صعبة وتعد سمة رائعة من سمات الترجمة الناجحة في ضوء معيار النقد الترجمي .
وإذا قيل في العمل أو الأثر المترجم بأنه لا يعدو أن يكون استنساخاً لصورة أو لوحة زيتية ولكن باللون الأسود والأبيض ، فان المترجم هو المسؤول أمام جمهوره أن يقدم هذه اللوحة الزيتية بألوانها الأصلية المختلفة أي بأصالتها وروحها الواقعية الى جمهوره وهي مهمة المترجم الناجح ، ولا ننسى الحقيقة القائلة بأنه مهما حاول المترجم أن يقدم قدرة الخيال وقوته في الصور الأدبية والشعرية سواء كانت في القصيدة الغنائية أم في المسرحية ام في الرواية ، فعليه أن يبرز المقومات والعناصر الجمالية لتلك الصور في ترجمته آخذاً بالحسبان استجابة جمهوره وهو الفيصل في تقدير القيمة الفنية والجمالية لأثره المترجم .
1 ـ 5 :
إن ترجمة النص الأدبي أو القصصي الشعري أو النثري يمكن أن تتم خطوة خطوة بالتعاقب معاً من خلال ترجمة جيدة وإلا فان هذا النظام السردي أو النمط القصصي سيفقد معناه في الترجمة غير الجيدة أو الضعيفة أما ترجمة الشعر فتلك مسألة معقدة ولا يمكن أن تحقق الاستجابة عند الجمهور بالقدر نفسه عند قارئ النص الأصلي والمترجم الناجح في هذا الميدان هو الذي يسعى الى أن يشعر جمهوره بأنه يقرأ شعراً عربياً مثلاً ولكن بأفكار وأساليب شاعر أو شعراء آخرين ...
أن أهم قانون في الترجمة هو الوضوح ولا شيء يمكن أن يكون نهائياً ، فإذا فقدت الترجمة عنصراً من عناصرها ( الوضوح والدقة والأمانة )فقدت قيمتها بوصفها بأنها فناً أدبياً ومن ثم فقدت تحقيق الاستجابة عند الجمهور فللترجمة حقوقها المشروعة للبقاء عنصراً مهما من عناصر اللقاء بين ثقافات العالم المعاصر ومنها ثقافتنا العربية الحديثة والمعاصرة بكل ما تحمل من تراث أدبي وعلمي عميق الجذور وتاريخ غني بإنسانيته وشموليته .
1 ـ 6 :
إن الترجمة الأمينة الواضحة التي يرغب فيها الجمهور هي تلك الترجمة التي تجمع بين الترجمة العمودية التي تستند الى التفسير الذهني للغة النص المترجم التي تتغير بتغير الزمن ولا سيما دلالة الألفاظ واختلاف معانيها عبر أزمان أو تواريخ مختلفة ، والترجمة الأفقية التي تستند الى فهم الفرد للهجات المختلفة في لغة لهجات الطبقات الاجتماعية التي يتألف منها مجتمع اللغة تاريخيا ً ( آنياً ) أو تعاقبياً
إن قانون الترجمة يتطلب التعادلية والتكافؤ بين المترجم الدقيق في نصه المترجم وبين الجمهور الواعي في استجابة لذلك النص وهي معادلة ذات علاقة حميمة بين الترجمة والجمهور لغة ووزناً ومضموناً لا سيما في ترجمة الآثار الفلسفية والدينية والفكرية والثقافية في أي مجتمع بشري أو إنساني وهذه المعادلة بهذا المفهوم ترى أن الترجمة الفكرية والأدبية هي عمل إبداعي خلاق ذو أصول لغوية دقيقة تفتح أمام الأدب القومي آفاقاً معرفية جديدة وتزيد في ذخيرة التراث الفكري .
إن الترجمة في علاقاتها بالجمهور معنوناً بأنواع الترجمة أو المحاكاة القائمة على اقتباس النص الأصلي والتعرف به أو الترجمة التفسيرية والترجمة التلخيصية بل هي معينة بان تقدم لجمهورها ما يحقق له الاطلاع المعرفي الأمين على الثقافات الأجنبية والاطلاع الفني والجمالي على الآداب الأجنبية ليتحصن حصانة ثقافية موثقة ضد الدعايات السياسية والفكرية والدينية المعاكسة التي قد تتسرب إليه عن طريق الترجمة على الرغم من وجود بعض أفراد الجمهور ممن يتقن لغة النص المترجم وهم في الأغلب الأعم قلة فالجمهور لا يطلب من المترجم أن يقدم له شيئاً مشابهاً للنص الأصلي حسب ، بل يطلب منه أن يكون هذا الشيء مقروءاً أيضا ، وهذا يعني أن ( الإبداع ) في النص المترجم يجب أن يقابل ( الإبداع ) في النص الأصلي وتلك هي المسؤولية الاجتماعية والأدبية للمترجم أمام الجمهور .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق