مغامر في بحار المواهب المخنوقة
كاظم فنجان الحمامي
مغامر عراقي آخر تجاوز بجرأته حدود المعقول، وتخطى بمواهبه المتعددة جدران المستحيل. عمل نجاراً وبحاراً ورباناً ومدرساً ونادلاً ومقاولاً وبائعاً ومترجماً ومحرراً ومستشاراً. مارس أصعب المهن حتى أتقنها، وأجاد اللغات الحية كلها حتى اختلطت عنده المعاني والمفردات في محطات الغربة. سافر إلى معظم أقطار الأرض من دون جواز سفر أو بجوازات مزورة. مر بمرافئها ومطاراتها ونقاطها التفتيشية. تعرض للسجن والاعتقال في البلدان البعيدة حتى امتلأت ذاكرته بالصور والمواقف العجيبة. تشابكت عنده خطوط الطول والعرض. وقطع المسافات بكل الطرق، فتقاربت عنده القارات وازدحمت في محفظته العملات الأجنبية المتناقضة، وتكورت في حقيبته بطاقات التذاكر البحرية والجوية والبرية. لكنه لم يذق طعم الاستقرار منذ ولادته في (ذي قار) عام 1953، ولم ينعم بالأجواء العائلية المنتظمة منذ وفات والده، ولم ينل استحقاقاته الوظيفية والتقاعدية منذ اليوم الذي ترك فيه العمل على سفن صيد الأسماك، ومنذ اليوم الذي غادر فيه العمل على سفن (ناقلات) النفط العراقية.
اسمه الكامل: محمد جواد علي القرةغولي. وعنوان وظيفته الرسمي: (ربان أعالي البحار). لكنه يعد موسوعة (لسانية) متنقلة تثير للدهشة، وحجة (لغوية) لا يستهان بها، فهو يجيد العربية والانجليزية والاسبانية والايطالية والبرتغالية والروسية إجادة تامة، ويستطيع التفاهم باللغات الفرنسية والهولندية والأمازيغية والسواحلية والفارسية.
أكمل دراسته الابتدائية والمتوسطة في مدينة (الناصرية)، ثم ترك دراسته ليلتحق بصفوف المقاومة الفلسطينية في لبنان، فسكن في مخيم النهر البارد بطرابلس، لكنه استجاب لنداءات والدته بالعودة، فرجع إلى العراق ليكمل دراسته الثانوية عام 1975، ويلتحق بالكلية البحرية بمصر، لكنه ترك الدراسة في مرحلتها الثانية فعاد إلى العراق ليلتحق بأكاديمية الخليج العربي للدراسات البحرية، التي افتتحت في البصرة. وكان من ضمن طلاب دفعتها الأولى عام 1979.
صدرت الأوامر بتعيينه في أسطول الصيد العراقي، لكنه سافر إلى ايطاليا عن طريق لبنان ليعمل في صفوف إحدى المنظمات اليسارية، فعمل في فلورنسا في المهن الحرفية الحرة، ثم سافر إلى الجزائر بأوراق مزورة، فسكن في مدينة (الأغواط) ليعمل في تدريس اللغة الانجليزية، ثم سافر إلى سوريا ليعود إلى العراق مختبئا تحت المقاعد الخلفية في سيارة كبيرة، فعبر الحدود من دون أن يكتشفوا أمره.
التحق من جديد بسفن شركة صيد الأسماك ليعمل عليها حتى عام 1985، فعمل على سفن: الرزازة، وساوة، والساحل العربي، والبحر العربي، ودجلة، والفرات، وزين القوس، ثم تحول للعمل في أسطول ناقلات النفط العراقية التي كان يديرها الراحل (عبد الجليل الجلبي)، فعمل على الناقلات: عين زالة، وجمبور، وكركوك، وطارق بن زياد.
أكمل في الثمانينات قاموسه البحري الأول، الذي صدر عام 1985عن الدار العربية للموسوعات، وعمل مدرساً للغة الانجليزية في المعهد التقني وفي إعدادية العشار المسائية للبنات، لكنه ترك أعماله كلها في البصرة، وانتقل إلى بغداد ليعمل حتى عام 1997 في بيع الأدوات الاحتياطية للسيارات، ويعمل في المساء في قسم الإنصات التابع لوزارة الإعلام مستفيداً من مواهبه اللغوية المتعددة، من دون أن يقطع ارتباطه بشركة ناقلات النفط العراقية، التي كانت معطلة تماماً بسبب تداعيات الحرب والحصار.
عمل بعد ذلك رباناً على سفينة متخصصة بنقل الأسمنت بين الموانئ الإيرانية والإماراتية، لكنه ترك عمله هناك ليسافر أولاً إلى جزيرة مالطا، ثم إلى ايطاليا بواسطة زوارق التهريب، فوصل إلى سواحلها بوجهه المبلل بالتعاسة. كان بحوزته جوازه البحري وبضعة دولارات. ركب القطار إلى روما، ثم غادرها إلى باريس بقطار آخر. توقف القطار فجأة للتفتيش في محطة حدودية، فقرر صاحبنا ولوج مقصورة تضم ثلاث بنات يابانيات. جلس بينهن مؤقتا لحين انتهاء التفتيش. جاءت المفتشة (الشرطية) فناولها جوازه المثخن بالأختام، فابتسمت له واعتذرت منه.
وصل باريس مرهقاً، فقرر الذهاب إلى هولندا بقطار لا يتوقف إلا في أمستردام، لكنه عاد مسرعاً إلى ألمانيا استجابة لمشورة زميله الكابتن (علي عبد الحسين). وصل ألمانيا وتوجه إلى الشرطة ليبلغهم بطلب اللجوء الإنساني. فأسكنوه في سفينة عائمة في نهر الراين. حصل على الإقامة وجواز الأمم المتحدة، لكنه قرر الرجوع إلى الإمارات ليعمل على سفينة كانت متوقفة في جزيرة (باتام) الاندونيسية.
كان صاحبنا مصاباً بجنون القراءة والسفر، فآنسته القراءة وأنهكه السفر. وجد نفسه بعد هذا الترحال الطويل في أمس الحاجة للعودة إلى العراق، فركب سفينة متوجهة إلى البصرة ليذهب مباشرة إلى بغداد.
عمل عام 2001 في قسم الترجمة بوزارة الإعلام، ثم أصبح كبيراً للمترجمين، فوجد الراحة والمتعة في عمله الجديد. كان يتحدث بكل اللغات التي يجيدها، لكنه كان يعمل في المساء كسائق تاكسي، ثم عمل مع المفتشين الدوليين بوظيفة مترجم أقدم، فكان يتقطع ألماً لمنظر المنشآت الصناعية المدمرة، والثكنات العسكرية المهجورة. عمل بعد ذلك مع وكالات الأنباء الدولية. كانت بدايته مع التلفزيون الكوري ثم الياباني، ثم شبكة CNN وشبكة BBC فكان شاهداً على تقلبات الأحداث السياسية.
كان ضحية لدور الطباعة والنشر، التي سرقت منه أروع كتبه المترجمة. أغلب الظن أن كتاب (جواسيس جدعون)، أو كتاب ( عشرون عملية للموساد)، أو كتاب (على أجنحة النسور) من بين تلك الكتب المسروقة من حقيبته الممزقة، وربما كان ذلك باعثاً ومحرضاً لتعرضه للاغتيال عام 2004 بعيارين ناريين، فسقط مضرجاً بدمه على قارعة الطري.
يقولون: (عمر الشقي بقي)، كان يرى بأم عينه كيف تهرب منه السيارات المارة بجسده المسجى على الرصيف. هرع إليه رجل شهم، فأسعفه وحمله على كتفيه حتى أوصلة إلى مستشفى اليرموك، فرقد هناك لأشهر طويلة. تماثل بعدها للشفاء، فقرر السفر إلى مصر لتجديد شهادته البحرية، ثم عمل في ميناء (طرطوس) على السفن السورية. كان يستثمر وقته في عرض البحر لإشباع رغباته الجامحة في القراءة والتثقيف الذاتي، حصل بعدها على عقد للعمل في السودان، فمنعوه من دخول (الخرطوم)، وأعادوه بطائرة أثيوبية إلى (أديس أبابا)، ثم أرجعوه إلى مطار القاهرة. لم تستطع المخابرات المصرية فك لغز الشفرة التي يحملها هذا المغامر التائه في بحار المواهب المخنوقة. قالوا له: سنعيدك إلى سوريا، فقال لهم ساخراً: سترفضني سوريا وتعيدني إليكم، ثم طلب منهم إعادته إلى العراق، فرجع إلى بغداد بخفي حنين.
عمل بعد ذلك رباناً بديلاً متنقلا بين العراق والإمارات على سفينة الركاب (مردف)، ثم عمل رباناً أصيلاً على سفن نقل الأسمنت بين الباكستان والعراق، أنتقل بعدها للعمل بدرجة ربان على ناقلات النفط اليمنية، وما أن انتهى عقده في خليج عدن حتى عاد إلى بغداد، لكنه عرج في طريقه نحو المعاهد البحرية الأردنية، فعمل فيها عام 2011 بوظيفة محاضر بمرتب شهري ضئيل. ثم حصل على عقد للعمل بوظيفة مدرس في المعهد البحري في جزيرة مالطا، لكنه وجد نفسه يعيش في عزلة تامة وسط هذه الجزيرة الصغيرة، فقرر العودة للتدريس في الأردن على أمل تحسن أوضاع العراق.
أكتشف (القرة غولي) متأخراً أن العمر يجري بخطوات متسارعة نحو محطات اللاعودة، فألقى مرساته في مرافئ بلجيكا، وانتهز وجوده هناك ليعادل شهادته البحرية بالمستوى البلجيكي، وحصل على شهادة ربان من المعاهد الهولندية، مستغلاً وقته في بناء بيته الجديد في ضواحي بروكسل، وترميم مستقبله المتصدع، والتفرغ لأسرته.
كان هذا ملخصاً مقتضباً لقصة حقيقية خاض تفاصيلها هذا الربان المغامر، وصاحب المواهب المتعددة، والأفكار المتقدة، لكنه يعيش الآن خارج العراق صفر اليدين، سبع صنايع والبخت ضايع، لم تستفد من خبراته معاهدنا البحرية، ولم تستعن بمهاراته مؤسساتنا البحرية، حتى أنه لم ينل استحقاقاته التقاعدية مقابل خدمته الطويلة في أسطول شركة صيد الأسماك، أو في أسطول ناقلات النفط.
ختاماً نقول: ما أكثر الربابنة العراقيين الذين رفعوا أشرعتهم بوجه الريح، فجنحت بهم بوصلتهم في بحار الغربة والشتات. ثم اختفوا في المحطات النائية من دون أن يحتضنهم العراق. . .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق