في ذكراه/ فصول من كتاب
نصب الحرية لجواد سليم
ملحمة شعب وذاكرة حضارة*
عادل كامل
القسم الرابع
[7]الجذور ـ والتواصل
هل يخبيء نصب الحرية، بعد أكثر من نصف قرن (1961)، من إقامته، أسئلة تبحث عن إجابات، أم انه سيقترح إجابات تستدعي أسئلة جديرة بالمناقشة ..؟ هل هو خلاصة حياة فنان، أم مقدمة لمصير سيمتد بعده ..؟ وهل النصب، بأجزائه، وتكويناته، مرآة للشعب، وأصبح (الثائر/ الجندي) مفتاحا ً له، أم انه رؤية جدلية تعبر نحو ما لم يدشن بعد ..؟ هل شيّد النصب بدافع الضرورة، بمعنى الحتمية، أم كان اختيارا ً استمد شرعيته في الحضور بواقعية الرؤية، بخزينها العميق، ومنهجيتها الجدلية، كي يرتقي إلى الأسطورة: إرادة تتضمن ديناميتها، ولا تتطلب المزيد من الشرح، ومن التأويل ..؟
لا مناص كان العراق (الحديث) بانتظار علامة دالة نهاية عهد، والدخول في عهد آخر؛ علامة ستبقى، بعد الحدث ـ 14 تموز عام 1958 ـ مثلما ترتقي العلامة لأداء دورها التوليدي للعلامات ـ الأحداث، ذلك لأن النصب لا يرتد إلى الماضي، كي يقص حكاية ما من الحكايات، بل يتضمنها، بالدافع ذاته الذي شغل (جلجامش)، لا بحثا ً عن الخلود، وما هو ابعد من الحياة، بل في مواجهة الغياب، والبحث عن حياة لم تتحقق بعد، فالملحمة ـ إن كانت تضمنت نسق الأسطورة أو واقعيتها في الحاضر ـ لا تكف عن إنتاج مصيرها لدى الآخرين، الجمهور، عامة الناس، وقد أصبحت نصا ً فنيا ً مفتوحا ً، معدا ً للقراءة، على مدار الساعة. إذا ً فإننا إزاء وظيفة معرفية تؤديها (الملحمة/ النصب ألجداري) بالدرجة الأولى، في الأداء، وفي بلاغته. ذلك لأن الفن ـ في حضارة وادي الرافدين ـ كالزراعة، العلم، الحكمة، التعليم، والثقافة ـ هو جزء من البناء المجتمعي بمعناه البنيوي للتربية ـ وللجمال ـ معا ً، ولا يمكن استبعاده، أو عزله عن أقدم ديمقراطية تأسست في بلاد سومر،(1) ومنحت الشعب؛ من المرأة إلى الشيخ، ومن الطفل إلى المعلم، ومن الشجرة إلى المعادن، حق المحاورة، ونبذ الأحادية، حتى ان اعقد الأسئلة الانطولوجية، الخاصة بمعنى الحياة والموت، تمت مناقشتها وفق المنطق، القائم على التجريب، والبراهين، والأدلة، وعلى الوضوح أساسا ً.
فالفن الرافديني ـ وكلمات اندريه مالرو توضح مدى إعجابه به حتى انه تساءل ماذا سيقول رواد الحداثة الأوربية وهم يشاهدونه ـ (2)هو فن الشعب، في رصد ادق تفاصيل حياته اليومية، مانحا ً الفن موقعه، مع الكتابة، وباقي المخترعات المستحدثة، قدرة على: التجدد ـ عبر البناء ـ وليس عبر الإعادة، والتكرار. ولهذا كانت كموضوعات الفنان ـ وطرقه في التنفيذ ـ قد أسست أقدم علاقة ديالكتيكية بين الفرد والنظام برمته، السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وبين التصوّرات، والأعراف. فحتى في اعقد المعضلات كانت البلاغة تستقي نظامها من الوعي الجمعي، يؤدي الفنان فيه كماله في بلوغ الذروة: حرية التعبير.
وقد لا يكون عمل جواد سليم في المتحف العراق الآثار، إلا محفزا ً له ـ مع انه شكل خبرة بصرية وصورية ذات اثر في أسلوبه ـ للتشبث بالحقيقي، كجوهر، وهو (العدالة) التي تمثلها الخطاب الفني. ذلك لأن دراسات الفنان للفن، نشأت وتبلورت عبر سياق التيارات الأوربية، مما شغله، كعراقي، ألا يفقد (هويته)، فهو حريص بالعثور على ذلك (الغائب/ الكامن) عبر مراحل الزمن، والذي لا يعلن عن حضوره إلا بما دعاه احد النقاد السوفيت، بالواقعية في شموليتها، وليس على صعيد الأسلوب حسب.
ولعل الباحث يجد لدى جواد سليم، تجارب متفرقة تنقصها هذه الواقعية؛ تجارب تفاعلت مع التيارات العالمية ـ حد المطابقة أو الحافر على الحافر بحسب الجاحظ ـ إلا ان جواد سليم، في وعيه العميق، كان يدرك ان مسؤوليته تتطلب العبور من (التأثر) إلى ما يصنعه هو. فالفن، هنا، صناعة، ليس بصفته مستحدثا ً، وإنما لأن (الحديث) هو حلقة لا مرئية في جسد الملحمة، وتاريخها.
ولم يكن لدى جواد سليم ـ وقد درس عميقا ً جدلية المخيال لدى معاصريه الأوربيين ـ إلا بالحفر في العناصر ذاتها التي أنتجت علاماتها، عبر العصور، مكانا ً وزمنا ً، وبايكولوجية قائمة على أنظمتها الهندسية، ومشفراتها، كي يستمد من (الختم) كل ما سيبقى مولدا ً للدهشة: في استقصاء التكوين، وعناصره، وفي ما هو ابعد من الوظيفة ـ وموضوعاتها.
فعندما لم يجد الفنان متحفا ً مكتشفا ً إلا توا ً، عبر التنقيبات الحديثة، في حضارات وادي الرافدين، لم تصبح (حداثات) أوربا إلا محفزا ً له كي يخرج من صخبها، ومتاهاتها، ويتقمص دور النحات العراقي، كبنّاء، في رؤيته الفنية، والجمالية.
فنحن إذا ً ـ في ساحة التحرير، وبغداد أدركت إنها استعادت قلبها ـ إزاء (ختم) دوّن فيه الفنان خطابها المعاصر، وليس الحديث حسب.
فإذا كان الختم القديم لم تتجاوز مساحته إلا بضعة سنتمترات، فان ختم نصب الحرية، لن يستطيل ويمتد إلى خمسين مترا ً فحسب، بل سيشغل مساحة المخيال لدى الملايين وهي تحلم ان الحرية ليست إلا إرادة عمل؛ إرادة بناء ـ كتنمية بشرية بالمعنى اليوم ـ وان النصب، لم يستمد ديناميته، إلا منها.
وليس محض مصادفة ان ينجز الفنان، عددا ً من العلامات المهمة: كشعار الجمهورية، والعلم، وعددا ً من التصاميم الأخرى للنقل، والنفط، والطب مثلا ً، لأنها، في هذا السياق، تمثلت الواقعية منهجا ً لها لإنتاج العلامات، التي شكلت، في الأخير، خصوصية الفن؛ هويته، ورسالته.
____________________________________________-
* الكتاب صدر عن مؤسسة الأديب/ عمان ـ 2014
1 ـ يكتب عالم الآثار س. ن. كريمر: " كانت الجمعية التأسيسية الأولى في تاريخ البشر قد اجتمعت في سومر في الآلف الثالث قبل الميلاد، وهي لا تختلف عن مثيلاتها في وقتنا الحاضر، كما تقول الوثيقة، حيث إنها تتألف من مجلسين: احدهما مجلس الشيوخ، والآخر هو مجلس الشعب من المحاربين أو حملة السلاح.." كأقدم أو أول حكم ديمقراطي في العالم. انظر: س. ن، كريمر [هنا بدأ التاريخ ـ حول الاصالة في حضارة وادي الرافدين] ترجمة: ناجية ألمراني. الموسوعة الصغيرة ـ العدد(77) وزارة الثقافة والإعلام ـ بغداد 1980 ص 21
2 ـ يقول الكاتب والروائي الفرنسي اندريه مالرو، في مقدمته لكتاب [سومر ـ فنونها وحضارتها] ـ الصادر عام 1960ـ: " لو ان ديلاكروا اطلع، قبل مائة سنة بقليل، على الأعمال المصورة في هذا الكتاب ـ يقصد بلاد سومر ـ، لما استطاع ان يتبينها لأنها كانت خارج نطاق تصوره.." ويشخص: "كانت الوظيفة الثابتة لهذا الفن من أور إلى لكش واحدة من أسمى الوظائف التي يستطيع الفن ان يؤديها. إنها وظيفة النظام المقدس على المنظور، كما إنها كانت صفة تنسيق كوني. وكان هذان معا ً يواجهان هيبة الناس ويحررانها من فوضى المظاهر. فقد كان غرض هذا الفن ليس التقليد، بل الكشف عن الصيغ التي تساعد الناس على الدخول في صلات وثيقة حميمة مع آلهتهم، وهكذا يتضح ان هذا كان هو الغرض الذي لم يدركه الفنان مثلما لم يدرك القديس قدسيته) . أندري بارو [ سومر ـ فنونها وحَضارتها ] ترجمة:د. عيسى سلمان وسليم طه التكريتي. وزارة الثقافة والإعلام ـ بغداد 1979 ـ المقدمة.
[8] قراءات ـ مقاربة مع النصب
سيبدو إجراء ً لا يخلو من التعسف لو أعدنا قراءة النصب، بدافع إجراء مقاربة بينه وبين المتلقي، وكأن دور (الكتابة) يتوقف عند حدود لا تتجاوز الوساطة، أو كما قال جواد سليم، بتندر، وهو يواجه صعوبات مع المشاهد (العادي) الذي لا يذهب ابعد من سطح العمل، إن كان منظرا ً للغروب، أو محض حياة جامدة. كالقول: لقد وضع الفنان الجندي كي يحطم قضبان السجن، ليذكرنا، بقول جواد عندما يرى المشاهد صورة لتفاحة فيخبره أو يكتب تحتها شرحا ً يقول: هذه تفاحة، أي ليست حصانا ً!
فإذا كان الفنان نفسه قد شعر بالمسافة بين عمل الفنان، والمتلقي، وأثرها في الرؤية الفنية، فإنها، بشكل أو آخر، ستؤثر في الفنان، في نفسيته، أو في أسلوبه.
ومازلت أتذكر، شخصيا ً، ما قاله احد المارة وهو يشاهد الجزء الأول، حاملة الشعلة، في ساحة التحرير، إنها تشبه (ضفدعا ً)! أو كائنا ً خرافيا ً، ولا تصوّر الثورة.
هذه الهمسة، وسواها، لم تغب عن آذان جواد سليم، لتعجل ـ ربما ـ مع النوبة القلبية، برحيله.
إذا ً ستكون أية محاولة في: الشرح، القراءة، الانطباع، التأمل، المقاربة، أو التأويل إسهاما ً للإضاءة، للخارج، وللحفر في الداخل، معا ً، بردم ـ الفجوات ـ ما بين النصب ـ النص الملحمي ـ وكل من تتجدد لديه رغبة التواصل، وديناميتها.
ومثل هذه التعددية في القراءات، هي الأخرى، لا تتحدث عن نص مركب، بطابعه الملحمي، وما خبأ في النصب ـ وأنا سأستخدم (دفن) في سياق قراءتي له ـ من بذور، وأفكار، فحسب، بل كي تنبت، لدى المتلقي، عند كل قراءة، مغزى ديمومة النصب، في مواجهة تحديات الزمن، وتحولات الذائقة، كعلاقة جدلية، وجمالية، بين الفنان والآخر.
فإذا كان النصب، كما يبدو للوهلة الأولى، نصا ً غير قابل للحذف ـ أو الإضافة، فان مهمات المتلقي ستشكل امتدادا ً لكل ما خبأه النصب، من رموز، ومعان، وحالات، وإشارات، وهواجس، هي في الغالب، عبر العلامات، والمعالجات التكنيكية، والتقنية عامة، تتضمن مشفراتها، اللاواعية، عبر مفهوم دينامية الفن عبر الأزمنة، والمتغيرات الحضارية.
فالتجدد، والتجديد، لن يضع فجوات بين النص الفني وعمليات القراءة ـ بتنوعها ـ بل يضاعفها، لكن ليس لصالح القطيعة ـ كالتي حصلت بين آخر الجداريات الكبرى في بابل وأشور، قبل ألفين وخمسمائة عام، وبين الشروع بإقامة النصب، عام 1959، قبل افتتاحه بعام ونصف ـ وإنما من اجل المفهوم ذاته لمغادرة (ديموزي) عالم الظلمات، السفلي، بأعياد الربيع، وهو تأويل لن يتقاطع مع سياق آليات الولادة ـ الثورة، بعد الكمون، أو الدفن.
وكي تكون لهذه القراءة، هنا، إسهاما ً شبيها ً بتسليط الضوء، من جهة، واستذكارا ً للقراءات السابقة، من جهة ثانية، وإعادة حفر في مكونات النصب ومخفياته، من جهة ثالثة، أجد لا مناص من عدم إغفال ذلك.
فيذكر الأستاذ جبرا إبراهيم جبرا، ان جوادا ً، بعد تكليفه بتصميم النصب، وفي غمرة نشوته، وجد: " ان الأنظار تتجه إليه ليجسد الحلم الذي راوده لسنين طوال. لم يكن هناك أي تردد: لقد طلب إليه المسؤولون، بعد الثورة بأشهر قلائل، ان يصمم نصبا ً للثورة لكي يقام في ساحة التحرير ـ اكبر ساحات بغداد ـ وأعطي مطلق الحرية في التعبير ـ والحرية بالضبط هي ما كان يخشى ألا تجود به الدولة، وهي التي أصر عليها قبل كل شيء. لقد وجد نفسه ذات صباح يجابه موضوعه الكبير: له ان يصوغه في الشكل الذي يريد، بمطلق الحرية، وتنفق على تنفيذه الدولة" (1)
وإذ راح يفكر بالتفاصيل، ازدحمت في ذهنه مواضيعه الأثيرة لديه، والتي ستجعل منها دراما، أو ملحمة، تنطق بلسانه، كما تنطق بلسان الشعب. ويضيف الأستاذ جبرا " وفي الوقت نفسه، كان عليه ان يبلور في شكل نهائي وحاسم نظرياته المتنامية حول الأسلوب العربي، العراقي، المعاصر, وهكذا كان عليه ان يوفق بين حاجة الدولة وحاجته، بين مطامح الجمهور ومطامحه، بين حسه ألزماني وحسه المكاني، بين فهمه للتاريخ وفهمه للمستقبل" (2)
ولكن جواد سليم لم يقدم للمسؤولين في بغداد ـ وهو في فلورنسا ـ أي تخطيط او مصغر للنصب، فيما عدا مصغر عريض الخطوط للقسم الأوسط منه، الذي يصور قفزة الجندي، و (الحرية) حاملة المشعل ...، وهكذا كانت الثقة مطلقة بما سيصنع من نحت. ويذكر الأستاذ جبرا إبراهيم جبرا (لا بد من القول ان رفعة الجادرجي، صديقه واحد المعجبين بفنه، كان له الدور الأهم في ذلك كله، إذ ْ كان احد كبار المسؤولين عن إقامة النصب" (3)
وسينجز الفنان ملحمته، في سنة ونصف، وهي مدة قصيرة جدا ً، فضلا ً عن الصعوبات التي عاناها الفنان، في انجاز النصب، بعد ان ضاع الجزء الأوسط منه ـ المفكر السياسي، الجندي، الحرية ـ ولذا فانه أعاد صنع هذا الجزء من جديد في استديو محمد غني حكمت بروما، أما الأجزاء الأخرى من المصغر فقد نحتها فيما بعد في فلورنسا.
مرض جواد سليم، ومكث ثلاثة أشهر في المصح، ثم عاد ليواصل عمله، ويتم انجازه ، ويأتي إلى بغداد، ليدخل المستشفى، مرة ثانية، وأخيرة، لتفجع بغداد برحيله، وكان في الـ 42 من عمره، بتاريخ(23 كانون الثاني 1961)، وسيزاح الستار عن نصب الحرية في: 16 تموز من العام نفسه.
1 ـ جواد سليم ونصب الحرية، مصدر سابق ص 75
2 ـ المصدر نفسه، ص 75
3 ـ المصدر نفسه، ص 78
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق