أطياف الذاكرة ومشفرات المكان
عادل كامل
[1] إشارة
عندما لا يتضمن (الفن) لغزه؛ ومضة ما، مغامرة ما، وتدشينا للعبور من ضفة إلى ثانية، أو ابعد منها، وعندما لا تؤدي التقنية الفنية ـ بوصفها نسجا ً وتعبيرا ً واستشرافا ً ـ توازنا ً مع مثال ما للتهذيب/ التشذيب/ الإضافة، فان خللا ً ما لن يسمح للمنجز ان يكون فنا ً، أو ان يؤدي دوره. إنها ليست افتراضات لا تدحض، أو تعدل، لكن إذا كان (الفن) ـ بإشكاله كافة ـ لا يتضمن شرعية حضوره، كما لازم ، فسيكون الفن محض أداة يصعب الارتقاء بها إلى ما يتوخاه المشروع الجمالي/ الحضاري، بحسب هذا تاريخ الفن، وفلسفته.
وأنا ـ شخصيا ً ـ أضعت نصف قرن من حياتي، للتمسك بهاجس ان الفن ليس محض أقنعة وتمويهات وسلعا ً للتداول، مع ان الأقنعة والتمويهات والسلع تمتلك أهميتها، ولكن ليس لفرض المزيد من القيود، بل للتحرر منها، بالدرجة الأولى.
وإذا كانت العائلة الفنية، في الشرق أو في الغرب، في فاتحة الألفية الثالثة، تتعرض للانحسار، ليس بسبب (التخمة) حسب، بل لأن التصورات (المثالية/ الميتافيزيقية) لم تعد جذابة، إن لم تكن استثنائية، عتيقة، ونادرة.
بل نجد ان الشرق، في الكثير من أشهر عواصمه ـ من بغداد إلى القاهرة، ومن بيروت إلى دمشق والى باقي الروافد المستحدثة ـ تتعرض للهدم، والتخريب، والإزاحة، كمشروع يدفع بها للتراجع نحو أزمنتها المظلمة.
ولعل ما تعرض له الإنسان ـ وليس الفنان أو الكفاءات في باقي الحقول الإبداعية ـ للإساءة، فتح منافذ للانخلاع ـ والتهجير، والهجرة، وترك هذه البلدان منشغلة بصعوبات بلغت المستحيل في تجاوز مآزقها، ومنها البحث عن الخبز اليومي، والآمان... فمن ذا باستطاعته ان يتحدث عن (الفن) ويعيد له رسالته الروحية/ الجمالية، التي حافظت على هويته، منذ تأسست العلامات المعمارية الكبرى، وفن الكتابة، والملاحم، وباقي المكتشفات العلمية، والإنسانية...؟
ومع ان الخراب لم يبلغ ذروته، إلا ان آلاف الفنانين، بعد انخلاعهم، وتوزعهم العشوائي على مدن العالم الأقل تعرضا ً للاضطرابات، لم يتخلوا عن (الحلم) ذاته الذي راود القدماء، في مختلف بقاع الأرض، وعزز مكانتهم في المفاهيم الحضارية.
حلم ان يتمسك الفنان ـ رغم تتابع الصدمات اليومية للأحداث الحاصلة في عدد من المجتمعات ومنها غير المستقرة ـ بالبرهنة على انه يزداد تمسكا ً بشرعية لا يتم دحضها، أو تدميرها: حلم الفن، الذي يسهم ببناء خطابات اقل عدوانية، ورداءة، وكراهية، لصالح روافد الحضارة وعملها المعرفي/ الجمالي.
وحتى لو كانت هذه الافتراضات حلما ً، أو أملا ً، فان الخطوة الصحيحة، حتى لو كانت الغايات مستحيلة، أو مجهولة النتائج، قد تدفع بالأخير ان يجعل من هذه الخطوات: حقيقية جديرة بعدم الإهمال، أو ان يتم دفنها، كما تم/ ويتم انتهاك حقوق الأطفال، النساء، والطاقات البشرية المختلفة، والموروثات الحضارية، والبيئة بلا استثناء.
[2] جذور واختلافات
كم تبدو تماثيل الآلهة الأم، منذ تبلورت ملامح الفن في العصور السحيقة، متماثلة، حتى تبدو وكأنها من صنع فنان واحد، مع إنها ـ ومعها ـ رسومات عصر الكهوف، تسمح بالحديث عن اختلافات أسلوبية كالتي ستحافظ على هذا النسق في الحقب التالية: في حضارات وادي النيل، والرافدين، وفي معظم الحضارات القديمة. صحيح إنها لم تواجه صدمات ايكولوجية حادة، كالتشتت، والتكيف، والاندماج، إلا ان نظاما ً لا إراديا ً مكث يحافظ على ديناميته، في التنوع، وفق مفهوم (الفن)، كخطاب يتضمن رسالته.
على ان الألف عام الماضية، بما حفلت من انهيارات وتدشينات لمراكز الإشعاع، تركت مسارا ً ثبت هذا المسار، ومنح (الفن) صلات عابرة للحدود الوطنية/ القومية، بمختلف أشكالها، كالحروب وما تركته من تقسيمات جغرافية/ اقتصادية/ وسياسية.
وقد تكون خصائص عصر النهضة، بجذبها لاف الدارسين، المثال الذي منح القرن التاسع عشر، والعشرين، ثورات متقدمة للأساليب المستحدثة، رغم إنها مكثت أمينة لجذورها الموغلة بالقدم.
فالقطيعة ـ هنا ـ تعيد بناء (بنية) الفن بالنسق ذاته، وبالمهارات الفردية أيضا ً. فهي قطيعة (إشكال) ظاهرية، ولكنها، من جهة ثانية، تتجاوزها نحو وحدة لا مرئية لا يمتلكها إلا الفن، بعيدا ً عن المؤثرات المباشرة التي راحت تتحكم به.
فلم تحدث فطيعة ـ إن صح القول ـ في التشكيل العراقي، كما حدثت بعد عام 1958م؛ فبعد سنوات قليلة، ستبدأ هجرات أعداد غير قليلة من النخب الثقافية/ الفنية، وصولا ً إلى ما بعد المتغيرات التي حدثت في: 1963/ 1980/ 1990/ 2003، والسنوات التالية، فهل أدت القطيعة إلى إحداث فجوات مؤثرة في الأساليب، أم إنها مازالت تجد من يعمل على ردمها، بالرغم بما تمثله البيئات الأوربية من قدرات على الاحتواء ـ والدمج...؟
للأسف، وفق المصادر، فان الدراسات المتوفرة، لا تفي بتسليط الضوء على الإبداع في البلد نفسه، فمن ذا يستطيع تتبع هجرة مئات المبدعين وقد توزعوا عبر مساحات شاسعة، ونائية، ودراسة أساليبهم.
بالأحرى إننا نواجه (محوا ً) منتظما ً للأسماء/ الرموز، وما أنجزته/ وتنجزه، بفعل هشاشة المؤسسات الفنية، والاكتفاء بنشاطات فردية لفنانين، أو هواة كتابة، يصعب ان توفر مادة حقيقية لأي باحث، قادم، في قراءته للمنجز الفني.
على ان هذا القليل ـ بفعل وسائل الاتصال الحديثة ـ يعيد ذلك الذي لم تقدر الأزمنة على محوه. ذلك لأن اختلاف البيئات الثقافية/ الاجتماعية، من قارة إلى أخرى، لم تستطع على (محو) ما تضمنه الفن من تحد ٍ للغياب. فثمة تجارب ـ بعد ان تناثرت في الشتات وفي المنافي ـ راحت تكوّن وطنها (الإنساني)، بمعالجة القطيعة كأساليب تداخلت بالحداثات ـ وبما بعدها، بدينامية المواهب، وقدراتها على تجاوز الصدمات، وتمثلها بإبداع لم يتخل عن هويته، وخصائصه الأسلوبية.
[3] تجارب عام 2014
لم تعمل زينب عبد الكريم على محو ذاكرتها، ولكنها لم تجعل منها موضوعا ً للمباهاة. إنها أدركت ان مصيرها ـ كفنانة ـ سيتصل بتجربتها للعثور على مرتكزات لا توسع من متاهتها، ولا تضيقها حد الصفر. فالخزين البصري سيسمح لها بالحفر في الذي لم تره بعد، إبان دراستها، في بغداد: ما لا يحصى من الصور اندمجت، وغذت بعضها البعض الآخر، ستمدها بمقومات البحث. فتجارب عام 2014 ستشكل مواجهة دائمة لوجودها بين ماضيها ـ ومصيرها: حلقة ضمن سلسلة لا مرئية تؤكد ان (المعتقد) الفني، لا يمكن عزله عن مكونات الحياة ذاتها. ولأنها ـ في الأصل ـ كونتها الصدمات، فإنها ستدرك ان مهمتها لن تتوقف عند (الصدمة) بل لتؤكد ان رسالة الفن، في احد معانيها، تذهب ابعد من ذلك: ابعد من التشبث بالزائل، ولكن ليس على حساب المستحدث. بهذا ستمنح انشغالها الفني المسار الأكثر صعوبة، ليس معادلا ً أو وسيطا ً، بل كإضافات تميز تجربتها بما تمتلكه من نتائج، عن باقي التجارب.
ربما لم تكن بغداد المدورة، ولا كمال الدائرة، ولا ما قصده فلاسفة سومر حول الدورات، إلا ولعا ً عمليا ً ـ بصريا ً ـ وذهنيا ً، لتكويناتها الفنية. فستأخذ الدائرة مجالها كي تصبح صورا ً، أشكالا ً، رموزا ً تحافظ على المركز. وحتى عندما تختزل الخطوط، الألوان، والعلامات إلى دوامات، وهالات، وأجنحة، فإنها ستحّوم، كما في أي نص شعري أو موسيقي، يعمل بهذا النسج، للتشبث بروح (الدورة)، ولغزها. إنها ربما لا إراديا ً تكون أكدت انه لا يوجد، ولا يمكن ان يوجد: اضطراب! بمعنى، من المستحيل تخيل عشوائية أو مصادفات تحصل وكأنها تشتغل بمعزل عن آليات (البناء) النص الفني، فهي تغزل بما لديها من غزل تجاربها ـ في الرسم وفي النحت ـ بطاقة مولدة لمجموع عمل هذه العناصر. لا معنى ان يكون هذا الهاجس تعويضيا ً، فهي لا تعيش في الفردوس، بل تواجه انخلاعها ـ بالمعنى الواقعي وبالمعنى الوجودي أيضا ً ـ إزاء مجتمعها المعرفي، باستعادته، وبإعادة صياغته كوجود يرتقي بالتجربة نحو مجالها الفني/ الرمزي، والجمالي.
أجنحة، حروف، حافات، غيوم، وكل ما يمكن التقاطه من بقايا صور، جميعها ستعاد بأثر يمتد، للخراب الذي كوى بلدها، وعاشته، فهي عاشت تحت ضربات ما شكل جوهر الصدمة، كالذي شكل بنية البذرة ليس بالحفر نحو مخفياتها، بل بانبثاقها. إنها ـ وفق هذا النسج ـ تعيد إحياء ذكرى ليلى العطار: رسمت موتها كي لا يغيب. ووجهه المقارنة الرمزي سمح لزينب عبد الكريم ان تستأنف رحلتها، وتستعيدها، والمستمدة من تجارب قرن تعرضت للتلف، والضياع. فالرماد ـ لونه ورائحته وذراته وإيحاءاته ـ وهو رماد وطنها ـ سينبني بعلامات الدائرة ـ المعبد ـ الحرف السومري، والأجساد الصاعدة إلى السماء، أو الشاخصة نحو الأرض، كوحدات صوتية ـ لونية، تسمح للمتلقي ان يكتشف إنسانيته، لا ان يتخلى عنها.
فالرسامة تتشبث باللغز ذاته الذي رسم للعناصر حدودها، وللكائنات الحية حيزها، ومنها الإنسان كمنشغل بمعالجة حتميات: التصادم ـ والتهذيب. فالفنانة تتمسك بأزمنة جغرافيتها، مثلما لا يتم قهر التاريخ بدفنه، بل كي يتدفق مكملا ً سرد (الحكاية) بمهارة الاختزال. فالفنانة تدرك إنها ليست صانعة (إعلانات)، أو سلع، بل لتحافظ على كيان يقاوم قهره ـ ومحوه. فالذاكرة حاضرة بما يمثله المستقبل من تتمة للمسار الملغز للجهد في مواجهة القطيعة، أو الدفن، حيث اذا لم يذهب (الفن) ابعد من معناه، وابعد من وظائفه المعلنة، في عصر التمويهات ـ ومصادرة حيوات الملايين، ومصائرهم ـ فانه لا يرتقي بما أنجزه أسلافها ـ منذ أزمنة المغارات، وعصور القرى الأولى، وصولا ً إلى عالمنا بوصفه مساحة للتقاطعات، وليس للسكن الآمن، فإنها انشغلت كي تمنح شغلها، بتجربتها حد البسالة، كل ما يستبعد الفن بوصفه (سلعة) و (إعلان) نحو اللغز: ان الحياة تتضمن هذا الذي يتكون عبر الحضور ـ الغياب، لكن الذي يستحق ان يكون علاماته. انه ليس الماضي، كرماد، بل المستقبل الذي نحلم ان لا نراه وقد تحول إلى أثير.
[4] الغاية لن تبرر وسائلها بل تتكامل معها
لا يتطلب ابتكار (المضامين المغايرة) للأنماط الفنية السائدة، التي اكتسبت شرعيتها وفق هذه الديمومة، إن كانت بطريريكية، أو تابعة لأنظمة مثالية تعمل وفق مثال المتعالي/ المتسامي، وغير القابلة للدحض، البحث عن أدائية مغايرة فحسب، بل التنقيب، والحفر، واستحداث خامات مهملة، أو مخبأة، أو لم تمس، لتحقيق المعادل (الموضوعي/ الديالكتيكي) بين الأشكال ـ ومضامينها، وبين المرسل وما هو ابعد من المستلم باستبعاد النفع المباشر، ومنح العملية الإبداعية، غاية لا تدحض بالنفع والاستعمال. لقد قلب (مايكفلي) المعادلة، وجعل الوسيلة (تبرر) غايتها، مع بدء بلوغ التجارة ذروتها،وتحولها إلى عصر الفتوحات (الغزوات) بتبلور مفهوم (الامتداد بالمساحات/ والهيمنة/ أو ما سيعرف بالاستعمار) لعصر الثورة الصناعية وآليات تراكماتها المصّنعة. فالوسيلة، هنا، ستعمل لصالح المضامين المنتقاة، المختارة بعناية بحسب نظام الاستحواذ، وهو النظام ألذكوري بلا آخر.
في الفن، وعند المرأة الفنانة تحديدا ً، ستأخذ المعادلة بعدا ً مغايرا ً للتبرير. بل إنها ستتقاطع معه طالما إنها تتبنى أنظمة غير قائمة على الجنسانية، أو التسلط، أو القهر. فالولادة بحد ذاتها ليست عملا ً من أعمال الطبيعة يتوجب استلابها أو الاستحواذ عليها بعملها الإنتاجي (أو البديهي/ الذي قاد التراتبية)، بل ينبغي أن يعدل، كما تعدل وظائف الأنهار، ببناء السدود، وكما يدجن الحيوان، للربح الأكبر، والنبات للغاية ذاتها في مضاعفة مفهوم: المكاسب. فالعلم سيكرس ـ بدءا ً بالبحث عن الموروثات الجينية إلى المستحدثات المشتغلة على زيادة الإنتاج، الربح، للغاية ذاتها، على خلاف هذا ستهتم (المرأة) ـ بعيدا ً عن صفتها أدنى مرتبة ـ من الذكر أو بصفتها تابعا ً وخامة أولية للإنتاج ـ للتفكير بتحويل كل ما هو ملقى، من خامات، وعناصر، وجعله أساسيا ً في العملية الابداعية. إن المراة التي لا تمتلك إجابة لماذا انها خلقت من (الرجل)، بحسب بعض الميثولوجيات، وبعض المعتقدات القديمة، فإنها لن تتخلى عن لاوعيها بأنها هي من حافظ على الحياة البشرية، لتجعله وعيا ً مستقلا ً تتوازن فيه المعايير، أو في الأقل لا تعمل فيه المثنوية لصاح ديمومة القهر. أي لصالح عصر سيادة الالهة (عشتار) لفترة غير قصيرة من الزمن، أو لصالح نظام ينقلب فيه الضحية الى جلاد ـ كما في عصر نظام الجنسانية الذكورية.
وقد اشتغلت الفنانة مديحة عمر ـ كأقدم رائدة للتشكيل النسوي في العراق 1908 ـ 2008ـ في الرسم الحديث باستخدامها خامات مختلفة، كالتلصيق، وتجنب تقاليد استخدام المواد التقليدية، إلا إنها، مع ابتكارها في إدخال الحرف إلى النص التشكيلي ـ بما يتضمنه من رمزية ومعان روحية خاصة بالحضارة الإسلامية ـ الشرقية ـ لم تذهب أبعد من ذلك، كما ستذهب الفنانة زينب عبد لكريم، في معالجات فنية للمواد الخام الطبيعية. فضلا ً عن تفكيرها الدائم بوحدة العناصر، وترابطها، لكن ليس على حساب الأشكال، وإنما بجعل الاخيرة تبتكر الطاقات الكامنة في الوعي (المستحدث) والمتوفرة في الخامات أصلاً. فعندما ستقوم بازالة السطوح الخارجية لسيقان الأشجار، او تقشير جذع النخلة، والنباتات الاخرى، فانها تتوخى من هذا (التقشير/ أو الازاحة) قراءة الاسرار او الألغاز الكامنة فيها، بعيدا ً عن مظهرها الخارجي. فستعمل الفنانة على إستبعاد المألوف ـ السطح المرئي ـ للتوغل في تزامن/ تراكم، ما تخفيه السيقان والجذوع وباقي الخامات من ازمنة، وملغزات بيئية لا تحصى كونت جوهرها. إنها في الواقع تؤدي تحليلا ً للملامح ألسلوكية إستنادا للتحري عن المحركات الداخلية، بصفتها غاطسة، وقد توارت خلف مرئياتها، وأشكالها. كضرب من التحليل النفسي، ولكن ليس للعاطفة البشرية، بل للنبات، والصخور، ومختلف الخامات القائمة على تعددية الابعاد/ والطبقات. فانشغالها بما ستكون عليه العلامات المخبأة داخل البذرة/ ـ على سبيل المثال ـ وليس عبر أشكالها الخارجية، سيقودها الى تقسيم ما بين أشكال مألوفة، ومنها النصوص الفنية للحداثة، وبين خامات ليس ثمة ما يميزها من حدود اوابعاد، ومساحات، أوملامس. فالمغامرة ستجعلها او تقودها لا الى استخراج (الكنوز) التي ينقب عنها الآثاري، ولا ما ينتجه (الرحم) فحسب، بل ستعمل على إجراء ازاحات (تقشير/ إزالة)، وصولا ًالى ما سيتم اكتشاة للمرة الأولى.
في جانب آخر، ستستخدم المخلفات، ضمن اهتمامها بوحدة فني الرسم بالنحت ـ كعلاقة الموسيقا بالشعر ـ جماليا ً، بما تتطلبه عملية البناء ـ الركيب، ودمج العاصر اللونية، مع خامات ثلاثية الابعاد، فضلا ً عن إدماج الرموز بالعملية التعبيرية برمتها، فالرسم ـ كسطح وليس كبعد واحد ـ سيستدعي منها البحث عن كثافة المواد المستخدمة، ولعناية بها، لتحقيق هويو أو خصوصية النص الفني، وقد كونته باستخدام خامات متفرقة، من ورق، وقماش، ومعادن..الخ لجعله يلامس تحولات عالم لم يعد مألوفا ً، بل لعالم أصبحت مضامينه تشكل سلسلة من الصدمات، ليس تغيير الثابت فحسب، بل توغلآ ً في تفكيك الكيانات شبه الراسخة، والانتقال من عالمها المرئي إلى أدق تفاصيلها الميكروسكوبية. إن زينب عبد الكريم، تعيد صياغة اتهام (إشكال) طالما وجه الى المرأة ـ كجنس أدنى ـ يخص مشروعها المعرفي ـ الجمالي. فطالما قيل أن المرأة تتحدث مع الطبيعة، أو انها تسمع الاصوات القادمة من تحت الأرض، وأن الريح تصفر ف اذنيها والأشجار تهمس لها، وأن الاغنية الخافتة عبر فمها وصرخات الاطفال واضحة لها. فيما يظهر برنامج (الحداثة) في أصله الاوروبي ـ منذ نشوء مفهوم الهيمنة التي رافقت التصنيع وتراكماته ـ قد أنفصل عن (هذا العالم) وانه وجد نفسه منفيا ًـ ملقى (كما لفت هيدغر الظر الى ذلك)، كغريب، وقد شكلت الحداثة علامة فصام مع الطبيعة ـ ومع المرأة ذاتها. كما أن الحداثة بالتوغل في إستخراج خامات الأرض (الأم) قد نهجت النهج البطريريكي في الهيمنة. لأن النظرة الى المرأة ـ وفق هذا النسق ـ يمتلك تاريخه الميثولوجي الطويل،فالنساء هن: بيوض الطيور/الازهار/ الفراشات/ الأرانب/ البقرات/ الخراف/ اليرقات/ اللبلاب...الخ النساء اللائي خرجن من القبر، كالغزلان، الضباء/ الحيتان/ الفيلة/ الزنابق والورد والخوخ...الخ الامر الذي عزز القطيعة مع الخامات ـ الاصل، كي تكتسب الحداثة مؤشرا ً محوره بناء عالم يتم إستحداثه، على حساب ضحايا، في مقدمتها: الطبيعة ـ المرأة. (1)
هنا تكرس زينب عبد الكريم رؤيتها المصغية والمتفردة إلى تلك الاصوات الصادرة عن الخفاء، والاتية من الناطق النائية، وجعلها مرئية مع عوائل لونية متباينة الاطوال ـ الموجات ـ كي تغدو وحدة العناصر غاية في ذاتها وليس محض وسيلة. فهي ترث تاريخا ًروحيا ً يستبعد الاشتباك، والشوائب، لغاية أن الغاية، لا تبرر وسائلها إلا لأجلها. وهي الغاية التي تكتمل بوجودها ذاته كبعد تتوازن فيه المعايير والمثل والمسافات. فكما تجعل الفنانة المرأة ـ وقد وجدت نفسها هكذا ولم تختر إلا أن تكون متوازنة ـ ان يكون فنها بحثا ً دائما ً عن اللارئيات، والألوان التي يصلها أ يدشنها الضوء توا ً. فثمة مفهوم آخر للتدسين لا يحيل الغاية إلى التداول، بل لأجل التكامل، بين الذات والعالم، وبين الفن والرؤية الروحية/ الجمالية. فالخامات لن تدمر، بجعلها تتحول من خامات (أصلية/ نقية) الى مستحدثة بمعنى لجعها متداولة (للاستهلاك)، بل لمنحها جوهرها ذاته الشبيه بالموسيقا الكامنة في الخامة إن كان في سطحها، أو في اعماقها ذات الخصائص التي لها أنظمتها المغايرة للهيئات المتعارف عليها.
[5] الايكولوجيا ـ أو الفن في ديمومته
هذه الرؤية غير المزدوجة للأرض ـ الأم، سمحت للرسامة أن لا تقيم قطيعة معها، بل أن تقلب مفهوم (الحداثة) نحو ضرب من الإحيائية، أو أفعال الشامان، ومنح النص مكانة شبيه بما كان تؤديه تماثيل الأم (الآلهة عشتار)، ورسومات المغارات من ناحية، والحفر في طبقات (الدماغ/ اللاوعي) الغائصة بما تراكم فيها من صور وأشكال من ناحية ثانية. ذلك لأن (الحداثة) الأوروبية لم تأبه لتدشينات قتل (الأم) كي تمارس، بعد ازدهارها مع مساحات من الاتساع، بقتل (الأب) نفسه. ولم تكن إشارات (فرويد) حول هذه الإشكاليات ـ الفرضيات/ التأويلات ـ إلا تنبيها ً لعصر غدا مصيره مبهما ً، كمقدماته المنسوجة بمشفرات نائية، وبالغة الدقة، والخفاء. إن الفنانة زينب عبد الكريم ستمنح لاوعيها السحيق الاشتغال بفن يؤكد أهمية دور الايكولوجيا النسوية ـ والشمولية، في الحد من البراغماتية ـ ومشروعات العقلانية الراديكالية في قلب العلاقات مع الطبيعة، وعناصرها كافة. فالفن سيتحول لديها كتدشين في سياق تراكمات الخبرة البشرية، مع حذر الانسياق في تدمير التوازنات السائدة. فهاجس الفنانة يكمن ـ هنا ـ بالحد من مشروعات تدمير الخامات وجعلها مغايرة للأصل. ففي تجارب استثمار سيقان الأشجار، ومخلفاتها، وجمع الخامات الفائضة، كالنفايات، وإعادة تركيبها، تلبي لديها نزعتها بدعم الرؤية الايكولوجية بما تتمتع به تلك العناصر/ الخامات، من حماية تلقائية. فإذا كانت (الحداثة) لم تترك كيانات (من الأرض الى الجسد) لم تعمل عملها فيه، بغية جعله أكثر نفعا ً،وإذا كانت اليد البشرية قد صهرت معادن الأرض واستثمرتها حد الاستنزاف، فإن إشارات (هيغل) حول موت الفن، لم تأت ْ إلا كمراقبة لتدمير حياة تمتد إلى أزمنة سحيقة، لأن الخامات لم تعد عذراء، ولم تعد آليات الديمومة بمنأى من التحوير، حد القلب، مما جعل المستقبل، تحت تأثير دهشة التفوق الآني، دافعا ً لمناهج تعوق الامتداد، على حساب التوازنات وأنظمتها. فالتدمير لم يعد رمزيا ً، بل غدا برنامجا ً لن يتعثر إلا استكمال دورته. والفنانة لست بعيدة عن مناقشتها لشرعية الفن ـ ولا شرعيته، وهي ستتقصى عنف الاشتباك، وما أفضى إليه، الأمر الذي سمح لها ـ كما سمح لنهى الراضي ـ في خوض تجارب قائمة على مباركة المواد الخام، كالحصى والطين، وبلمسات مرهفة ـ تتبنى الحفر في عصر لم يعد للفلاسفة أو الحكماء دورا ً يذكر، بعد ان غدا محكوما ً بعمل الشركات عابرة القارات. هنا يحدث النص الفني الأثر ذاته الذي تمثل في التدشينات البكر: الاستحداث في حدود الحماية، وليس في ترك العقلانية تحكم قطيعتها حد استبدالها، وكأن للعقل، وللعلانية، السلطة ذاتها التي انتزعت من نظام التوازن بين الحياة وعناصرها. ففي هذا السياق تستعيد تلك الأصوات النائية، والجذور الضاربة في العمق، وفي اللا مرئيات، لكن بمعالجات لم تستغن عن العناصر ذاتها التي تنتمي الى البيئة بشموليتها. فليس لأحد حق استلاب حقوق الآخر، بأي مبرر من المبررات، الأمر الذي نشّط حركات طليعية لحماية الطبيعة وعناصرها، لا لذاتها فحسب، بل ضمن الدورة برمتها.
[6] النص الفني ـ وحكمته
ستبقى الخامات تحافظ على مكوناتها، وبمعنى ما: ألغازها. فهي ليست محض أشياء لا علاقة لها بأشياء، أو بكيانات أخرى، ضمن وجودها ـ كوجود ـ أو باستثمارها من قبل الآخر. فسيقان الأشجار البيضوية، وشبه الدائرية، والأوراق بخرائطها الهندسية، والصخور بعروقها الدقيقة، وكل خامة بكر، أو تمت معالجتها في عمل من الأعمال..الخ كلها تعيد عرض شبكة من الاتصالات لن تتوقف عند حد أخير. فكما الأصوات النائية التي أصبحت ممتزجة بأنسجة الجذور وألوانها غير المنفصلة عن باقي عناصر الطبيعة، والكون، فإنها، في هذا السياق، تتوغل في القلب ـ العقل ـ البشري للعثور على موقعها في التوازنات، وفي الحضور. وزينب عبد الكريم، في معالجاتها للخامات، هنا، لا تفتت، أو تقسم، أو تخدش، أو تؤذي، أو تفكك، بمعنى إنها: لا تنتهك بنية الخامة، بل تجعلها تتخذ موقعها المناسب في الدورة، وفي الحفاظ على عملها كـ (رابط/ جسر) بين الخامات النابضة، ذات الفتنة، وبين معالجة الفنانة لها. فالأخيرة لن تستخدم (المشرط) في تمزيق الجسد/ الكيان، واستثماره، بل معالجته كوحدة تحافظ على الرؤية الايكولوجية الشاملة. فالفنانة تحافظ على رؤيتها التوليدية، بدل المشروع النفعي المحض. وهي ستذكرنا بولعها المبكر بالطبيعة، وبحثها هذا، لم يأت ْ بسبب رؤيتها المرهفة فحسب، بل لأن الخامات ذاتها تمتلك فتنتها، وتوقداتها أيضا ً. فالفنانة هنا لن تستخدم الخامات المصنعة، الجاهزة، والتي فقدت الكثير من (عذريتها)، كمنهج لمشروع الهيمنة على الطبيعة، أو على الآخر ـ بالنظام التراتبي من السيد إلى العبد، مرورا ً بالمرأة والطفل والبيئة ـ وإنما ستسمح لخاماتها الأهمية ذاتها للفتنة الكامنة في الإنسان نفسه. فالسر سيغدو مشتركا ً بين الخامات والفنانة، كي يتشكلان، عبر فعاليات (الشامان)، وضمنا ً فعاليات الساحر، والخيميائي، داخل مساحة النص الفني. فالفنانة ستبحث عن طاقات كامنة، ولا مرئية، فيها، لجعلها تمتد، وتتشكل، كلغة مستحدثة من غير قطيعة، أو إيذاء لتلك العناصر، والخامات. فهل كانت رؤيتها للأشكال، والخامات، ومعالجتها لها، سابقة على إحساسها بمكانة الفن (الحيوية) ودوره، أم أن بحثها هذا سمح لها أن تستبعد أحادية الرؤية إلى السطوح، والى الاتجاهات الفنية السائدة، وتلتزم النظام ذاته الذي لم يفقد جاذبيته في الفن؟ أيا ً كان التأويل، فان رؤيتها دفعتها للعثور على حلول يحافظ فها النص الفني على نظام تتداخل فيه شخصية الرسامة برؤيتها عبر أكثر البدائيات دحضا ً لتيارات فرضت حضورها، كانعكاس لبيئاتها الأوروبية الغربية، إنما لتحافظ على بيئتها، في رؤيتها لتراكمات الأزمنة في ذاكرة الإنسان، وقلبه المشفر بالأطياف النائية، والأصوات الخفية، أو في دور الإنسان السلبي في إيذاء الطبيعة ـ الأم فحسب، بل لبلورة لغة تستحيل فيها العلامات/ الأشكال/ الإشارات/ الرموز إلى مناطق لا يغدو فيها الجمال إلا غاية، استحدثت وسائلها، بعيدا ً عما صاغته الحداثة من موت للفن، إلى موت الإنسان، مرورا ً بتدمير الطبيعة. فالفنانة زينب عبد الكريم، تكمل مسيرة مميزة لرائدات عراقيات جعلن من الفن مشروعا ً ديناميا ً لرؤية تكاملية، منذ مديحة عمر، ونزيهة سليم، وبهيجة الحكيم، وليلى العطار، وعبلة العزاوي، ونهى الراضي، وخلود سيف، وسعاد العطار، إذ ْ لم ْ تجد زينب عبد الكريم، بالبحث عن خفايا خاماتها المختلفة، إلا في مشروعات أنظمة فلسفية لا يتحول فيها الفن إلى (سلعة) محض، بل، على العكس، يتخذ مسارا ً مضادا ً، لاستعادة جماليات كادت آليات العصر الحديث، وصولا ً إلى حرية السوق وعشوائية نتائجه، أن يقتل الحرية، بقتل الفن، ودمج الإنسان في آيات عصر ما بعد الإنسان!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تحرير مايكل زيمرمان [ الفلسفة البيئية ـ من حقوق الحيوان إلى الايكولوجيا الجذرية] ترجمة: معين شفيق رزمية. سلسلة عالم المعرفة ـ الكويت. العدد333 ـ 2006 ص 18
[7] فضاءات الباث وحدود النص
في نصوص زينب عبد الكريم تتقلص المسافة بين الرسم والنحت، وبين فنون أخرى تتوحد لتشكل خطابها الرمزي – الجمالي في الأخير، وعلى الرغم من اهتمامها بالتجارب الحديثة، واشتغالها على الحذف، إلا انها لا تخفي تأملاتها لأقدم الفنون، فهي تبقى تحافظ على عوامل مساعدة، طيفية، لا تنفصل عن البناء الفني الحداثوي.
فالفنانة لا تجعل من المغامرة هدفاً مستقلاً، بدعة، وإنما تتقمص، أمام الخامات وقوى البث ونظام التعبير، مدى العلاقة مع الوجود إنما لا تبعثر أسئلتها، ولا تتوقف عندها بل تجعل الكيف يتضمن القلق العميق لظاهرة الفن.
وكلما ابتعدت زينب عبد الكريم في الماضي السحيق، والذاكرة البصرية المحفورة فوق الصخور والمخطوطات القديمة، تكتشف انها أمام مشكلات فنية جديرة بالمعالجة .. فهل تغيرت الأسئلة أم تغيرت طرق المعالجة، أم هناك، في المدى الأبعد، قضايا تولد تواً، ولكنها تبقى متصلة بدوافعها : الحساسية، أو بنية عمل الحواس، قبل أن تتشكل الدوافع النفعية، تلك البنية التوليدية، غير المنغلقة، ولكن التي لا تذهب إلى المجهول فالوعي الذي يجعل زينب في رقابة لأعمالها يدفعها لمثل هذه الموازنة، أو للمعادل الجمالي بين عمل الحواس، ووظائف الفن، ومع انها تحاول أن تحافظ على الرهافة والشفافية والعبث أو اللـعب العميق للدوافع الذاتية الداخلية. فإنها ستمنح البناء أهمية لا تنفصل عن الخبرة الفنيـة، وقواعد الفن عبر التاريخ. فزينب عبد الكريم لا ترسم بدوافع عاطفية، وإنما تجعل من العاطفة، بل ومن الموسيقى والشعر والأحلام، الجانب المُحرك – والمتحرك – داخل نصوصها ، فهي لا تغادر دوافع الصمت أو كلام الصمت، الذي ستجعله اكثر تعالياً ورمزية فلا احد يعرف ماذا أراد الإنسان الأول في اختياره الرسم؟ مع أن كافة الاحتمالات جديرة بالتحليل، ولا احد يعرف لماذا ما زال الرسم له حضوره المتواصل .. إن الفنانة تتمسك بالطيف الداخلي الذي لا يسكن أعمالها، العاطفة المرهفة، أو التأملات الشاردة وهي توسع من جغرافية مساحة النص، بل الذي سكن وغادر تاركاً أثره الذي يشبه الموجات اللامرئية ، والفنانة لا تتوقف عند هذا الافتراض ، بل ترسم بخبرة فنية لا تترك المركز مستقلاً عن المحيط ، بل ترسم بهما معاً عبرة وحدة النص ، ولكن ليس لكي لا تجتاز الأسئلة ، بل لتجعل النص اكثر صلة بحساسية المتلقي ، فالخطاب الفني يخفي معانيه ، ليحررها ويجعلها اقل تقيداً بالتأويل فالانشغال الجمالي الأكثر صلة بدحض الوظائف ، ومنها المباشرة يعيد صياغة ذاكرة النص ، فالفنانة تستذكر بلا شعورها أو بدوافع حريتها الشفافة، خلاصات وإشارات وعلامات فنية، تنتمي إلى أزمنة مختلفة، وتجارب متعددة .. فهي لا تكف عن الحفر في المتحف السومري، في الحضارات المتعاقبة، كما لا تغادر فعل السحر ألتشبيهي، ورمزية عمل اللاوعي، مع تأمل للفعل البدائي، البكر، أو الذي يولد بعيداً عن التلوث: كل هذا يتشكل عبر وعيها التصميمي للنص حيث تنصهر المرجعيات مع عملها بجعل النص منفتحاً، فثمة المتلقي الذي عليه، هو الآخر، أن يفكك وحدات النص، ولكن لإعادة صياغتها بما تحمله من أطياف غير مرئية. إن هذه الخاصية لا تنطبق على تجارب رائدة في حداثة القرن الماضي، بل ترجعنا إلى كل نص لا يعلن ما يريد … فالمعنى لم يعد ظاهراً .. وإنما لا ينفصل عن طريقة الأداء، والمشاهد من غير استجابة لهذا المخفي داخل المعنى، لن يرى إلا قشور البصلة حتى يختفي الجوهر بعد أن يتم تشتيت وتمزيق القشور . بيد أن الرسامة ترسم بتقدير عنيد لأسلافها: انها لا تحاكي ولا تستنسخ، بل تنسج؛ فهي ترسم بدل أن تدحض الرسم، ليس بفعل دراستها، وإنما لأنها تحافظ على حساسية الرسم: ذلك التواصل لتاريخ يمتد، داخل انقطاعاته، لان زينب لا تنحاز لحداثة هابطة من العدم ، بل لتاريخ متشعب ومتعدد، فهي تنصص بفعل تلمسها لروح الرسم - إن جاز التعبير – لان الطيف يبقى إشارة لمجاز يتقاطع مع الأسطورة، ولكنه لا يندمج مع الوظائف، فالرسامة ترسم حداثتها، متلمسة عالمها الداخلي، وهي تتقدم في فضاءات غير مجهولة، فلماذا الرسم – مثلاً – سؤال لا يمكن فصله عن سر وجود الرسم، ولكن زينب ستواصل أداء طقوس الرسم، بعوامل زمنها وكيانها، لتواصل حذف وإضافة كل ما سيشكل تماسك نصها، لنركز على الانسجام داخل النص. انه يعبر عن حذف متواصل لعناصر التصادم، والاختلافات. فالانسجام يصير كمينا، لكنه لصالح التعبير، فالفنانة توازن بين الأشكال العضوية والهندسية، وبين القسوة والمرونة، بين الملمس الرقيق والحاد، بين السكون والحركة .. الخ وهو الذي لا يقفز ضد الرسم، بل الذي يمتد معه، في عصر لم تعد الحداثات منسجمة أو متجانسة ، في عصرها الحالي على الأقل. فزينب تقترب كثيراً من نصوصها، لتعبر عن لغز الرسم ذاته، ولهذا لا يغادر النص مجاله البصري ، فمساحة اللوحة تبقى بؤرة للتراكم ، وثمرة تحولات ، وتعديلات بيد أن المجال البصري، يبقى يحمل محركاته وصخبه وضجاته كعلاقة موضوعية مع عناصر اللوحة، فهل قلت ماذا تريد أن تقول الرسامة، فإنها تقوم بدمج الحواس درجة الرمز في التعبير والاختزال الدائم للأشكال، دمجت الأداء بالدوافع ؟ معاً، إن كانت تكتم ما هو عصي على الإيضاح، أو إعلان اعقد التداخلات والأفكار بصورة مباشرة ورمزية صريحة، كتكرار الأبواب والنوافذ أو تحوير المناخ الأسطوري إلى علامات وإيماءات فإنها تواجه مصيرها بحلول ليست محددة أو عابرة انها تمكث في اكثر الأسئلة إثارة على اكتشاف تنوع طرق الرسم: الدمج بالنحت بل واستعارة مرجعيات وتوحيدها ببنية متنوعة الرموز وعبر فضاء لا ينغلق على ذاته، لان هذا التوحد لعناصر متجاورة ورمزية يؤدي للتوقف عند الاختزال والتفكير بما تم حذفه، أو دمجـه، درجة جعل التجريد لا يؤدي إلا ما كان متصلاً عبر تاريخ الرسم الطويل. انه ليس أسطورة الرسم أو أسطورة الإنسان نفسه، وإنما كما غدا مرئياً – وسحرياً – وجذباً بلا أسباب، فثمة حركة أو انفجارات أو مرور أطياف أو ومضات الخ .. تعلن عن بثها وكأنها تتسلل بخفة مرور اللا زمني داخل الزمن، أو اللا معنى عبر المعاني واللا محدود عبر مساحة اللوحة، لتلتقي [1] داخل خيال الرسامة وذاكرتها [2] لتصبح، عند المتلقي، مساحة بلا حدود [3] بعد أن أمسكت الفنانة بهاجس المرور، أو اجتياز الطيف من ماض بلا حافات نحو فضاءات بلا حدود، عبر هذا الاشتباك المكون للنص، في لحظة جمالية، ذهنية، حدسية، تكاد تكون قد قالت كل ما تريد بثه. انه المعنى – القديم – الذي يستدرجنا في لحظة حدوثه، أمام اندثار وتفكيك سيشكل جوهر النص. فالبصري – في هذا السياق – أخفى أصوات الذاكرة ولم يعد منحازاً لمجهول يتدحرج في خفاياه .. انه أصبح يبث، داخل النبض والحواس، أمامنا،لأنه يمتلك وهم الطيف وكثافته في الوجود. فلرسم.عند زينب عبد الكريم،مثل الموسيقى،كلاهما لا يكفان عن بلوغ المستحيل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
*تخرجت من Nansenskolen(أكاديمية لحقوق الإنسان) قسم الفنون الجميلة في Lillehammer. النرويج 2011-2012..
* تخرجت من جامعة بغداد كلية الفنون الجميلة. بغداد 1995
* تخرجت من معهد الفنون الجميلة. بغداد 1992
* حصلت على دبلوم في ترميم اللوحات من كلية ترميم. Ltomcl / كلية التشيك في عام 2006
* حصلت على شهادة في مشاركتها برنامج لحقوق الإنسان.استراليا 2008
* تلقيت العديد من الجوائز وكتب شكر وتقدير على منجزاتها ومشاركاتها في المعارض
* عضو نقابة الفنانين النرويجي (NBK)، وعضوة في جمعية التشكيلين في تيليمارك (BI T) النرويج.
* المشاركة في العديد من المعارض : العراق وبولندا وفنلندا وفرنسا والأردن ولبنان واليابان وايطاليا والنرويج. المعارض الشخصية:
|*المعرض الشخصي الأول ، بغداد 1990.
* المعرض الشخصي الثاني، بغداد 1992. معرض الشخصي الثالث "حاله تحول"، بغداد 1995. المعرض الشخصي الرابع، بغداد 1999 معرضان شخصيان في السفارة التشيكية في بغداد 2007. المعرض الشخصي الخامس في المركز الثقافي الفرنسي في بغداد 2008 المعرض الشخصي السادس في الصليب الأحمر ، النروج 2009. المعرض الشخصي الثامن في قاعه Osebro (روئ بابلية في التلمارك) النروج 2014.