قصة قصيرة
الماء والوحل
عادل كامل
ـ هل تعرف ماذا حدث، وماذا حل بنا...؟
سألت البعوضة ابنها الخائف:
ـ أجل، اجل فانا لا اعرف إلا أن علينا ألا ندع أحدا ً يعرف!
ـ لا ترفع صوتك، أرجوك.
فخاطبها مذعورا ً:
ـ أماه...، الكل يقولون: انه غير مسموح لأحد بمعرفة ما حدث، وهذا يعني تماما ً تجنب المعرفة.
وصمت، ليسألها:
ـ هل المعرفة ضارة....، إلى هذا الحد...؟
ـ لا...، منافعها، يا ولدي، قليلة.
ـ إذا ً فهي ليست ضارة تماما ً؟
ـ قلت إن منافعها ليست إلا قليلة!
ابتسمت الأم، لمدارات مشاعر ولدها المضطربة، وهي تراقب سطح ماء البركة، بعد القضاء كلية على انتفاضة البعوض، وتشتيت المجموعات المعتصمة، والمتمردة، قبل إعلان العصيان العام، لتقول له، وهي تتنفس بصعوبة:
ـ عندما كنت صغيرة، جدي هو أول من قال لي: آ ...، لو عرفت لماذا يسلبوننا حقوقنا، مع إنها بسيطة، وعادلة.
فسألها:
ـ ولم يتغير الأمر...، فإمبراطوريتنا دمرت، وأصبحت من الماضي، فلا اثر لها، ولا علامة دالة عليها، وكأنها لم تتكون، ولم تدم لقرون طويلة؟
ضحكت الأم، ومازالت تجد صعوبة في استنشاق الهواء:
ـ بعد أن رأيت الذي حدث لنا ومضى ولم يعد له وجود...، أدركت بجلاء الآن استحالة معرفة تلك الأسباب التي لن تسمح بمعرفة ما حدث في تلك الأزمنة، ولا بالأزمنة التي أعقبتها...، فقلت مع نفسي: وما فائدة معرفة هذا الذي لم يعد له وجودا ً....، والذي أصبح خارج حدود موضوعات المعرفة؟
اعترض الابن:
ـ وهكذا دب النسيان، والانحلال، والمحو...، وزالت إمبراطوريتنا العظيمة التي حكمت الأرض بأسرها، وخضعت لها الجداول والمستنقعات والأنهار والبحار....، بعد أن حاصروها، من الجهات كلها، وعملوا على تدميرها، وتخريبها...، مع إننا لم نكن ضد احد، فقد ولدنا من الماء والى الماء نعود! فلم تكن أحلامنا تتجاوز السكن في هذا المستنقع، فردوسنا، وها هم يجردوننا منه!
فقالت الأم بألم:
ـ يا ولدي، لا تشغل رأسك إلا بالعثور على وسيلة لإنقاذ هذا الرأس...، فلم يبق منا إلا مجموعات متناثرة، هنا وهناك، متوارية، ومتسترة، في الأحراش، وفي الضفاف، وفي الدغل.
فقال بصوت لا يخلو من الحدة:
ـ ولكنهم مازالوا يعتدون علينا، ويسلبوننا حقوقنا، ومازالوا يشنون حملاتهم المنتظمة لإبادتنا، ومحونا من الوجود. فأنت تعرفين ما حل بنا: فرقونا، بعد أن مزقونا، وقسمونا، وزرعوا جرثومة الموت فينا، فمات من مات، وهرب من هرب، ولم يبق منا إلا من هو بانتظار الهلاك.
هزت رأسها:
ـ بالأمس زرت الحديقة، وتجولت في أجنحتها، فماذا رأيت...، لا تستغرب، ولا تفزع، ولا تجزع...، لقد رأيت نظاما ً شفافا ً لا مثيل له.
ـ أنا سمعت الكثير عن هذا النظام الجميل!
صاحت:
ـ انه الكارثة!
فقال بثقة:
ـ وما شأننا به، بعد أن طردونا منه، وبعد أن أصبحنا في طريقنا إلى الانقراض، والزوال، كما زالت إمبراطورياتنا القديمة؟
لكنها راحت تقهقه، وقد بدأت تفقد تركيزها:
ـ لقد منحوا الجميع الحرية...، فلا احد يعتدي على احد، أو يتعرض له بالإساءة، والعدوان...، فقد أقاموا الأجنحة، وشيدوا الأسوار، والحواجز، والأقفاص...، فأنت ترى الأرانب سعيدة، مثل النمور تمضي أوقتها مرحة، والأسود لا يعكر صفوها فأر أو قرد أو قنفذ...، والقرود حصلوا على غابة كاملة، وهكذا تكاد أحلامهم قد أعيدت لهم، من غير كوابيس، وأمراض، وتهديدات...!
ـ إلا نحن...، البعوض، والبرغوث، والقمل، وبعض الحشرات ..؟ كأن الآلهة خلقتنا سهوا ً، أو من غير إرادتها، أو جئنا بالمصادفة، كي نعاقب، ونذل، ونشقى، ثم نذهب مع الماء؟
اهتز جسدها:
ـ لا تجدف...، يا ولدي، فالمحنة أعمق من مظهرها!
ـ وهل استطيع..؟ من أنا كي امتلك هذه الوقاحة...؟ وهل يقدر أن يفعلها من لا يمتلك حتى القليل من الماء، والقليل من الهواء، والأقل من الضوء....، بعد أن حرمونا حتى من قدرة المطالبة بهذه الحقوق؟!
فكرت للحظة وقالت بشرود:
ـ هكذا، يا ولدي، بدأت شرارة التمرد، لتغدو انتفاضة...، سرعان ما تحولت إلى عصيان...، فحصل الذي حصل....، حتى أصبحنا لا نعرف احصل حقا ً الذي حصل؟
فسألها فزعا ً:
ـ إذا ً، دعيني أسألك: لماذا خلقنا، مادمنا، منذ أول الزمن، قدر علينا الشقاء، والفناء؟
ـ الم ْ أخبرك باستحالة معرفة هذا الذي لا يمكن أن يعرف..!
ـ لكني شاهدت ما حدث لنا: حاصرونا، وحرمونا، وقمعونا، وعذبونا، ثم راحوا يجتثوننا، ويمحوننا...،فلماذا فعلوا ذلك...، ومن غير رحمة..، وكأننا أتباع اله آخر غير ألآله الواحد القهار؟
ـ ببساطة، يا ولدي، يقولون إننا مخلوقات قذرة، تنقل المرض، وفي درك المعرفة، جهلة، أغبياء، وغلاة، ولا نعشق إلا الدم، وإننا شركاء في ارتكاب الجرائم ضدهم، فنحن السبب في انتشار الأوبئة، والكوارث، والنكبات، وإننا لا نعرف الرحمة، وقلوبنا من حجر!
ـ آ ...، الآن عرفت إن لنا منافع قليلة! وإلا لأغلقوا مستشفياتهم، وإلا لانقرض الأطباء، واندثر علم الطب؟
ـ آ ..، منافع قليلة...، لهم، لكن مضارها كبيرة ولا تحصى علينا...، وهي المعادلة ذاتها لم تعدل، ولم تتغير، منذ أول الزمن....،فكلما قمنا ببناء إمبراطوريتنا هدموها فوق رؤوسنا، وعملوا على تخريبها، ومحونا!
فسألها وهو يستنشق رائحة غريبة:
ـ أتستنشقين ...؟
ـ منذ زمان....؟
ـ انه السم...، إنها رائحة الإبادة، رائحة الاجتثاث، رائحة الزوال...!
وأضاف مذعورا ً:
ـ الآن عرفت لماذا تترنحين، وترتجفين...، أيتها المسكينة، ولكن لماذا لا نفر، نهرب، ونبحث عن ملاذ امن....، فمستنقعات العالم لن تغلق ضفافها علينا؟
ـ ألا ترى إنني لا أقوى على الطيران، وأنا لا اقدر حتى على التنفس؟
ـ أماه...، يا روح عقلي، ونبض قلبي...، سأساعدك، لا تستسلمي...، فعلينا أن نجتاز هذا المكان، ونعبر الغابة...، لعلنا نجد بركة ماء، أو بقايا مستنقع...؟
ردت بوهن، بصوت خفيض جدا ً:
ـ منذ سألتني: ماذا يحدث..: أجبتك: لا تحاول معرفة انك، حتى لو عرفت، فانك لن تستطيع إلا أن تعرف هذا الذي لا يستحق المعرفة، فالأمر لا يخصنا، وحدنا....، فاذهب وانظر إلى مصائر هؤلاء الذين يتمتعون بالحرية، والمسرات...؟
ـ آ ..، اعرف...، لقد منحوها أقفاصا ً للسعادة، وزرائبا ً للراحة، وحظائرا ً للمسرات...، فلا احد يعتدي على احد، ولا احد يغتصب احد، فالقانون فوق الجميع، خيمتهم، مثل هذه السماء التي لم يبق لنا منها إلا الظلمات!
ووهن صوتها، فكفت عن النطق، فراح يبذل ما باستطاعته لمساعدتها على الحركة، ففهم منها إن السم سرى في دمائها، ولن يمهلها طويلا ً.
صرخ :
ـ ماذا افعل...؟
ففهم إنها قالت له أن الأمر ليس بحاجة إلى المعرفة، فإما أن تموت، مثلها، ومثل من سبقوها، واما أن تهرب حالا ً بحثا ً عن مأوى لك، ولأبنائك، من بعدك! كي يدوم هذا الذي يزول إلى الأبد!
ورفع صوته، ومكث يصرخ، حتى أدرك أن لا احد يسمعه، وان صوته لا يذهب ابعد من جناحه، فكف عن العويل، والصراخ، وبدأ يدثر جسد أمه بورقة شجرة يابسة...، متذكرا ً صوتها، لم يعد لديك ما تعرفه، فاهرب، حالا ً، ولكنه عندما حاول الابتعاد، وجد جسده ثقيلا ً، فلم يعد يقدر إلا على الغوص في الوحل، تاركا ً التفكير إلا بالاختباء، والتستر، فأحس، عبر الحركة، بمجسات تتحرك بجواره، ناعمة، وطرية، فستأنسها وهي تبعث فيه لذّة يجهل معناها:
ـ آ ...، من أنت ِ؟
ـ لا تفتح فمك...، توارى، تحت، غص، إلى الأعماق....، فان لم تنزل إلى الأسفل فستموت كأنك لم تخلق!
تلمسها، مصغيا ً لذبذبات تلامس جسده:
ـ اقسم لك إنني لم أكن شريرا ً..، ولا خسيسا ً، ولا نذلا ً..، ولا فاسدا ً، ولا قاسيا ً، ولا قاتلا ً....!
ـ أنا مثلك ... ، أيها الولد الطيب!
ـ آ ...، أنت ِ بنت؟
ـ قبل قليل فقدت جميع أفراد أسرتي، ولم انج إلا بأعجوبة!
ـ اقتربي...، لنغطس معا ً، فانا الآن اعرف لا معنى لمعرفة ما حدث..! ولا جدوى منها أيضا ً!
ـ بالضبط، فقد كانت تلك هي كلمات والدي الأخيرة: حتى هؤلاء الأعداء الذين يتمتعون بالمعرفة، لم يتركوا لنا إلا هذه الصفحات السود.
ـ آ ...، يا حبيبي، لم تعد للحكمة منافع تذكر...، مادام لا حكماء هناك، ومادام لا حكماء هناك فمن ذا يأتي بالحكمة؟
قال بشرود:
ـ لقد أصبحت الحكمة ضارة، والحديث عنها اشد ضررا ً منها...!
ـ كالمعرفة، يا حبيبتي، إن لم تكن ضارة، بحد ذاتها، فالحديث عنها أكثر ضررا ً منها، لأنها كالعدوى ...، وآه ....، لو كنت اعرف أين يكمن المرض؟
ـ فينا!
ـ لا ...، يا حبيبتي، أنا وأنت ولدنا اسيوياء، وطيبين.
ـ لا ..، يا حبيبي، ولدنا وفي دمائنا تسري جرثومة الشر، وجرثومة البغضاء، وجرثومة الموت!
ـ غريب...، إذا ً أنت ِ تعرفين ما لا اعرفه...؟
ـ لا ...، فأنت َ أيضا ً تعرف انك غير مسؤول عن نقل جرثومة الشر....، مع انك لست شريرا ً!
ـ ولكن إن لم انقل العدوى...، فمن ينقلها، وهي سابقة في وجودها على وجودنا؟
ـ هكذا يقول العدو ...، ولأننا مخلوقات واهية لا تمتلك ما تعمله، فإننا لن نحصل على ما تخيلناه حقا ً من حقوقنا في هذا الوجود.
ـ لكن الحرية، أو الحقوق، ليست أحذية توزع، وتهدى، وتمنح بالمجان...، إنها تنتزع!
ـ اعرف...، لأن الانتفاضة بدأت بهذا السؤال: إذا لم ندافع عن أنفسنا، ونطالب بحقوقنا، فمن يضمن لنا المستقبل؟ اخبرني: هل خلقنا بلا نفع، فائضين..، أم خلقنا مصادفة، أم بلا أسباب...، وأخيرا ً: لا ضرورة لمعرفة إننا حاولنا أن نعرف؟
ـ يكاد عقلي يغطس ابعد من أقدامي في الوحل...!
ـ دعه يغطس....، وإلا ...، فانك ستفقده؟
ـ اقتربي مني..
ـ أنا وأنت في قبر واحد...، منذ آلاف آلاف السنين، أنا وأنت لم نفترق، لا أنت هربت مني، ولا أنا هربت منك، مع إن المسافة بيننا كالمسافة بين المعرفة وعدمها!
فقال بشرود:
ـ أين باستطاعتي الهرب منك...، فأنت سكني، وأنا سكنك!
ـ آ ...، لو كنت..
ـ أرجوك...، أغلق فمك، لا تحاول معرفة ماذا حدث، وماذا يحدث، فكلما أزدت معرفة أدركت انك حتى لو انتصرت فانك لن تذهب ابعد من حدود هذا الوحل. لقد قدر علينا أن نعيش للاحتفاظ بهزائمنا، في الأقل، لأنها، في الأخير، اضعف الإيمان، يا حبيبتي الغالية!
ـ لكن المعرفة، بالوحل، يا حبيبي، أفضل من تجنبها
ـ وحل المعرفة..، أم معرفة الوحل...؟
ـ آ ....، عدنا إلى الجرثومة التي زرعت فينا، فهي بدأت بالاستيقاظ...؟
ـ إنها، يا حبيبتي، تؤدي العمل ذاته الذي نؤديه...، ففي كل منا لغز يعمل عمل الغواية...، ولا يدع للموت إلا أن يمتد، ولا يموت!
ـ أفهم الآن إن هناك جرثومة اشد فتكا ً من المعرفة...، لا تدعنا نغطس في الظلمات؛ جرثومة تدعنا نعرف كم كان وجودنا مضرا ً...، فكم سببنا كوارث، ونكبات، للطيور، والزواحف، والثدييات، وغيرها...؟
ـ من غير قصد...؟
ـ كيف يحدث أن نرتكب هذه الأفعال المشينة، القاسية، الآثمة، تحت ذريعة البراءة، او اللا قصد..؟
ـ نفعل ذلك، يا حبيبي، كي نحصل على حريتنا، ومجدنا، في العالم الآخر؟
ـ توازنات!
ضحك:
ـ عندما تهرم الأنثى، وتكف عن تذكر ماضيها، لا يمجد الذكر إلا ذلك الماضي!
ـ أليست هذه هي احد أشكال المعرفة..؟
ـ المعرفة بهذا الذي كلما اقتربنا من سواحله أغوانا بالذهاب بعيدا ً في ظلماته...، وكلما توغلنا في الظلمات، نجد من يضيء لنا ممرات فيها!
ضحكت بمرح وقالت:
ـ أيها العجوز الهرم...، تذكر إننا دوّنا صفحات خالدات بعدد ضحايانا؟
ـ لكن ...، تذكري...، كم كانت خسائرنا جسيمة، وباهظة، وكأن مهمتنا كانت قد أوكلت لنا عنوة؟
ـ الم ْأقل لك: القليل من النفع يتوازن مع الكثير من .. الظلم، لكن الكثير من الظلم لا يقدر أبدا ً من القضاء على هذا القليل من النفع!
ـ كأنك تدعوني إلى حفلة عرس!
ـ آ ....، يا حبيبتي، فلولا هذا القليل من الضوء، أكنا نحتمل هذه الظلمات...، لولا هذا القليل من الهواء لكانت العاصفة قد اقتلعتنا، والرمال دفنتنا؟
ـ الآن...، الآن....، أكاد لا اعرف ماذا حدث..؟
باستغراب سألها:
ـ أحدث شيء...، كي نحاول تذكره؟
ـ لا...، أنا أتذكر إنني رأيت الذي لا يمكن رؤيته، فانا لم أر شيئا ً!
ـ أنا لا أتذكر...أيضا ً، بل أرى انك مازالت تسكنني!
ـ أنا بيتك...، أيتها المحنة، فماذا كنت سأفعل، وماذا كنت سأعرف...، لولا إننا عقدنا العزم للذهاب ابعد منك ِ!
ـ ابعد من معرفتنا؟
ـ آ ...، وهل سمحت لنا إلا بالغوص عميقا ً في هذا الوحل...، فلا عين رأت ما حدث..، ولا أذن سمعت ما دوى...،ولا كتاب دوّنت فيه الوقائع، ولا راو ٍ روى...، لأن الشمس ذاتها لو لم تكن عمياء، لكانت أسرعت ومحت أثرها! لكن ماذا يفعل العميان، سوى تركهم الأضواء تستدرجهم لمعرفة هذا الذي نجهل اهو تسلى بنا، أم نحن تمتعنا بشقائه حد إننا مازلنا نمد أيدينا بحثا ً عن من يهبنا القليل من السكينة، والأقل من الغفران...!
1/8/2016
الماء والوحل
عادل كامل
ـ هل تعرف ماذا حدث، وماذا حل بنا...؟
سألت البعوضة ابنها الخائف:
ـ أجل، اجل فانا لا اعرف إلا أن علينا ألا ندع أحدا ً يعرف!
ـ لا ترفع صوتك، أرجوك.
فخاطبها مذعورا ً:
ـ أماه...، الكل يقولون: انه غير مسموح لأحد بمعرفة ما حدث، وهذا يعني تماما ً تجنب المعرفة.
وصمت، ليسألها:
ـ هل المعرفة ضارة....، إلى هذا الحد...؟
ـ لا...، منافعها، يا ولدي، قليلة.
ـ إذا ً فهي ليست ضارة تماما ً؟
ـ قلت إن منافعها ليست إلا قليلة!
ابتسمت الأم، لمدارات مشاعر ولدها المضطربة، وهي تراقب سطح ماء البركة، بعد القضاء كلية على انتفاضة البعوض، وتشتيت المجموعات المعتصمة، والمتمردة، قبل إعلان العصيان العام، لتقول له، وهي تتنفس بصعوبة:
ـ عندما كنت صغيرة، جدي هو أول من قال لي: آ ...، لو عرفت لماذا يسلبوننا حقوقنا، مع إنها بسيطة، وعادلة.
فسألها:
ـ ولم يتغير الأمر...، فإمبراطوريتنا دمرت، وأصبحت من الماضي، فلا اثر لها، ولا علامة دالة عليها، وكأنها لم تتكون، ولم تدم لقرون طويلة؟
ضحكت الأم، ومازالت تجد صعوبة في استنشاق الهواء:
ـ بعد أن رأيت الذي حدث لنا ومضى ولم يعد له وجود...، أدركت بجلاء الآن استحالة معرفة تلك الأسباب التي لن تسمح بمعرفة ما حدث في تلك الأزمنة، ولا بالأزمنة التي أعقبتها...، فقلت مع نفسي: وما فائدة معرفة هذا الذي لم يعد له وجودا ً....، والذي أصبح خارج حدود موضوعات المعرفة؟
اعترض الابن:
ـ وهكذا دب النسيان، والانحلال، والمحو...، وزالت إمبراطوريتنا العظيمة التي حكمت الأرض بأسرها، وخضعت لها الجداول والمستنقعات والأنهار والبحار....، بعد أن حاصروها، من الجهات كلها، وعملوا على تدميرها، وتخريبها...، مع إننا لم نكن ضد احد، فقد ولدنا من الماء والى الماء نعود! فلم تكن أحلامنا تتجاوز السكن في هذا المستنقع، فردوسنا، وها هم يجردوننا منه!
فقالت الأم بألم:
ـ يا ولدي، لا تشغل رأسك إلا بالعثور على وسيلة لإنقاذ هذا الرأس...، فلم يبق منا إلا مجموعات متناثرة، هنا وهناك، متوارية، ومتسترة، في الأحراش، وفي الضفاف، وفي الدغل.
فقال بصوت لا يخلو من الحدة:
ـ ولكنهم مازالوا يعتدون علينا، ويسلبوننا حقوقنا، ومازالوا يشنون حملاتهم المنتظمة لإبادتنا، ومحونا من الوجود. فأنت تعرفين ما حل بنا: فرقونا، بعد أن مزقونا، وقسمونا، وزرعوا جرثومة الموت فينا، فمات من مات، وهرب من هرب، ولم يبق منا إلا من هو بانتظار الهلاك.
هزت رأسها:
ـ بالأمس زرت الحديقة، وتجولت في أجنحتها، فماذا رأيت...، لا تستغرب، ولا تفزع، ولا تجزع...، لقد رأيت نظاما ً شفافا ً لا مثيل له.
ـ أنا سمعت الكثير عن هذا النظام الجميل!
صاحت:
ـ انه الكارثة!
فقال بثقة:
ـ وما شأننا به، بعد أن طردونا منه، وبعد أن أصبحنا في طريقنا إلى الانقراض، والزوال، كما زالت إمبراطورياتنا القديمة؟
لكنها راحت تقهقه، وقد بدأت تفقد تركيزها:
ـ لقد منحوا الجميع الحرية...، فلا احد يعتدي على احد، أو يتعرض له بالإساءة، والعدوان...، فقد أقاموا الأجنحة، وشيدوا الأسوار، والحواجز، والأقفاص...، فأنت ترى الأرانب سعيدة، مثل النمور تمضي أوقتها مرحة، والأسود لا يعكر صفوها فأر أو قرد أو قنفذ...، والقرود حصلوا على غابة كاملة، وهكذا تكاد أحلامهم قد أعيدت لهم، من غير كوابيس، وأمراض، وتهديدات...!
ـ إلا نحن...، البعوض، والبرغوث، والقمل، وبعض الحشرات ..؟ كأن الآلهة خلقتنا سهوا ً، أو من غير إرادتها، أو جئنا بالمصادفة، كي نعاقب، ونذل، ونشقى، ثم نذهب مع الماء؟
اهتز جسدها:
ـ لا تجدف...، يا ولدي، فالمحنة أعمق من مظهرها!
ـ وهل استطيع..؟ من أنا كي امتلك هذه الوقاحة...؟ وهل يقدر أن يفعلها من لا يمتلك حتى القليل من الماء، والقليل من الهواء، والأقل من الضوء....، بعد أن حرمونا حتى من قدرة المطالبة بهذه الحقوق؟!
فكرت للحظة وقالت بشرود:
ـ هكذا، يا ولدي، بدأت شرارة التمرد، لتغدو انتفاضة...، سرعان ما تحولت إلى عصيان...، فحصل الذي حصل....، حتى أصبحنا لا نعرف احصل حقا ً الذي حصل؟
فسألها فزعا ً:
ـ إذا ً، دعيني أسألك: لماذا خلقنا، مادمنا، منذ أول الزمن، قدر علينا الشقاء، والفناء؟
ـ الم ْ أخبرك باستحالة معرفة هذا الذي لا يمكن أن يعرف..!
ـ لكني شاهدت ما حدث لنا: حاصرونا، وحرمونا، وقمعونا، وعذبونا، ثم راحوا يجتثوننا، ويمحوننا...،فلماذا فعلوا ذلك...، ومن غير رحمة..، وكأننا أتباع اله آخر غير ألآله الواحد القهار؟
ـ ببساطة، يا ولدي، يقولون إننا مخلوقات قذرة، تنقل المرض، وفي درك المعرفة، جهلة، أغبياء، وغلاة، ولا نعشق إلا الدم، وإننا شركاء في ارتكاب الجرائم ضدهم، فنحن السبب في انتشار الأوبئة، والكوارث، والنكبات، وإننا لا نعرف الرحمة، وقلوبنا من حجر!
ـ آ ...، الآن عرفت إن لنا منافع قليلة! وإلا لأغلقوا مستشفياتهم، وإلا لانقرض الأطباء، واندثر علم الطب؟
ـ آ ..، منافع قليلة...، لهم، لكن مضارها كبيرة ولا تحصى علينا...، وهي المعادلة ذاتها لم تعدل، ولم تتغير، منذ أول الزمن....،فكلما قمنا ببناء إمبراطوريتنا هدموها فوق رؤوسنا، وعملوا على تخريبها، ومحونا!
فسألها وهو يستنشق رائحة غريبة:
ـ أتستنشقين ...؟
ـ منذ زمان....؟
ـ انه السم...، إنها رائحة الإبادة، رائحة الاجتثاث، رائحة الزوال...!
وأضاف مذعورا ً:
ـ الآن عرفت لماذا تترنحين، وترتجفين...، أيتها المسكينة، ولكن لماذا لا نفر، نهرب، ونبحث عن ملاذ امن....، فمستنقعات العالم لن تغلق ضفافها علينا؟
ـ ألا ترى إنني لا أقوى على الطيران، وأنا لا اقدر حتى على التنفس؟
ـ أماه...، يا روح عقلي، ونبض قلبي...، سأساعدك، لا تستسلمي...، فعلينا أن نجتاز هذا المكان، ونعبر الغابة...، لعلنا نجد بركة ماء، أو بقايا مستنقع...؟
ردت بوهن، بصوت خفيض جدا ً:
ـ منذ سألتني: ماذا يحدث..: أجبتك: لا تحاول معرفة انك، حتى لو عرفت، فانك لن تستطيع إلا أن تعرف هذا الذي لا يستحق المعرفة، فالأمر لا يخصنا، وحدنا....، فاذهب وانظر إلى مصائر هؤلاء الذين يتمتعون بالحرية، والمسرات...؟
ـ آ ..، اعرف...، لقد منحوها أقفاصا ً للسعادة، وزرائبا ً للراحة، وحظائرا ً للمسرات...، فلا احد يعتدي على احد، ولا احد يغتصب احد، فالقانون فوق الجميع، خيمتهم، مثل هذه السماء التي لم يبق لنا منها إلا الظلمات!
ووهن صوتها، فكفت عن النطق، فراح يبذل ما باستطاعته لمساعدتها على الحركة، ففهم منها إن السم سرى في دمائها، ولن يمهلها طويلا ً.
صرخ :
ـ ماذا افعل...؟
ففهم إنها قالت له أن الأمر ليس بحاجة إلى المعرفة، فإما أن تموت، مثلها، ومثل من سبقوها، واما أن تهرب حالا ً بحثا ً عن مأوى لك، ولأبنائك، من بعدك! كي يدوم هذا الذي يزول إلى الأبد!
ورفع صوته، ومكث يصرخ، حتى أدرك أن لا احد يسمعه، وان صوته لا يذهب ابعد من جناحه، فكف عن العويل، والصراخ، وبدأ يدثر جسد أمه بورقة شجرة يابسة...، متذكرا ً صوتها، لم يعد لديك ما تعرفه، فاهرب، حالا ً، ولكنه عندما حاول الابتعاد، وجد جسده ثقيلا ً، فلم يعد يقدر إلا على الغوص في الوحل، تاركا ً التفكير إلا بالاختباء، والتستر، فأحس، عبر الحركة، بمجسات تتحرك بجواره، ناعمة، وطرية، فستأنسها وهي تبعث فيه لذّة يجهل معناها:
ـ آ ...، من أنت ِ؟
ـ لا تفتح فمك...، توارى، تحت، غص، إلى الأعماق....، فان لم تنزل إلى الأسفل فستموت كأنك لم تخلق!
تلمسها، مصغيا ً لذبذبات تلامس جسده:
ـ اقسم لك إنني لم أكن شريرا ً..، ولا خسيسا ً، ولا نذلا ً..، ولا فاسدا ً، ولا قاسيا ً، ولا قاتلا ً....!
ـ أنا مثلك ... ، أيها الولد الطيب!
ـ آ ...، أنت ِ بنت؟
ـ قبل قليل فقدت جميع أفراد أسرتي، ولم انج إلا بأعجوبة!
ـ اقتربي...، لنغطس معا ً، فانا الآن اعرف لا معنى لمعرفة ما حدث..! ولا جدوى منها أيضا ً!
ـ بالضبط، فقد كانت تلك هي كلمات والدي الأخيرة: حتى هؤلاء الأعداء الذين يتمتعون بالمعرفة، لم يتركوا لنا إلا هذه الصفحات السود.
ـ آ ...، يا حبيبي، لم تعد للحكمة منافع تذكر...، مادام لا حكماء هناك، ومادام لا حكماء هناك فمن ذا يأتي بالحكمة؟
قال بشرود:
ـ لقد أصبحت الحكمة ضارة، والحديث عنها اشد ضررا ً منها...!
ـ كالمعرفة، يا حبيبتي، إن لم تكن ضارة، بحد ذاتها، فالحديث عنها أكثر ضررا ً منها، لأنها كالعدوى ...، وآه ....، لو كنت اعرف أين يكمن المرض؟
ـ فينا!
ـ لا ...، يا حبيبتي، أنا وأنت ولدنا اسيوياء، وطيبين.
ـ لا ..، يا حبيبي، ولدنا وفي دمائنا تسري جرثومة الشر، وجرثومة البغضاء، وجرثومة الموت!
ـ غريب...، إذا ً أنت ِ تعرفين ما لا اعرفه...؟
ـ لا ...، فأنت َ أيضا ً تعرف انك غير مسؤول عن نقل جرثومة الشر....، مع انك لست شريرا ً!
ـ ولكن إن لم انقل العدوى...، فمن ينقلها، وهي سابقة في وجودها على وجودنا؟
ـ هكذا يقول العدو ...، ولأننا مخلوقات واهية لا تمتلك ما تعمله، فإننا لن نحصل على ما تخيلناه حقا ً من حقوقنا في هذا الوجود.
ـ لكن الحرية، أو الحقوق، ليست أحذية توزع، وتهدى، وتمنح بالمجان...، إنها تنتزع!
ـ اعرف...، لأن الانتفاضة بدأت بهذا السؤال: إذا لم ندافع عن أنفسنا، ونطالب بحقوقنا، فمن يضمن لنا المستقبل؟ اخبرني: هل خلقنا بلا نفع، فائضين..، أم خلقنا مصادفة، أم بلا أسباب...، وأخيرا ً: لا ضرورة لمعرفة إننا حاولنا أن نعرف؟
ـ يكاد عقلي يغطس ابعد من أقدامي في الوحل...!
ـ دعه يغطس....، وإلا ...، فانك ستفقده؟
ـ اقتربي مني..
ـ أنا وأنت في قبر واحد...، منذ آلاف آلاف السنين، أنا وأنت لم نفترق، لا أنت هربت مني، ولا أنا هربت منك، مع إن المسافة بيننا كالمسافة بين المعرفة وعدمها!
فقال بشرود:
ـ أين باستطاعتي الهرب منك...، فأنت سكني، وأنا سكنك!
ـ آ ...، لو كنت..
ـ أرجوك...، أغلق فمك، لا تحاول معرفة ماذا حدث، وماذا يحدث، فكلما أزدت معرفة أدركت انك حتى لو انتصرت فانك لن تذهب ابعد من حدود هذا الوحل. لقد قدر علينا أن نعيش للاحتفاظ بهزائمنا، في الأقل، لأنها، في الأخير، اضعف الإيمان، يا حبيبتي الغالية!
ـ لكن المعرفة، بالوحل، يا حبيبي، أفضل من تجنبها
ـ وحل المعرفة..، أم معرفة الوحل...؟
ـ آ ....، عدنا إلى الجرثومة التي زرعت فينا، فهي بدأت بالاستيقاظ...؟
ـ إنها، يا حبيبتي، تؤدي العمل ذاته الذي نؤديه...، ففي كل منا لغز يعمل عمل الغواية...، ولا يدع للموت إلا أن يمتد، ولا يموت!
ـ أفهم الآن إن هناك جرثومة اشد فتكا ً من المعرفة...، لا تدعنا نغطس في الظلمات؛ جرثومة تدعنا نعرف كم كان وجودنا مضرا ً...، فكم سببنا كوارث، ونكبات، للطيور، والزواحف، والثدييات، وغيرها...؟
ـ من غير قصد...؟
ـ كيف يحدث أن نرتكب هذه الأفعال المشينة، القاسية، الآثمة، تحت ذريعة البراءة، او اللا قصد..؟
ـ نفعل ذلك، يا حبيبي، كي نحصل على حريتنا، ومجدنا، في العالم الآخر؟
ـ توازنات!
ضحك:
ـ عندما تهرم الأنثى، وتكف عن تذكر ماضيها، لا يمجد الذكر إلا ذلك الماضي!
ـ أليست هذه هي احد أشكال المعرفة..؟
ـ المعرفة بهذا الذي كلما اقتربنا من سواحله أغوانا بالذهاب بعيدا ً في ظلماته...، وكلما توغلنا في الظلمات، نجد من يضيء لنا ممرات فيها!
ضحكت بمرح وقالت:
ـ أيها العجوز الهرم...، تذكر إننا دوّنا صفحات خالدات بعدد ضحايانا؟
ـ لكن ...، تذكري...، كم كانت خسائرنا جسيمة، وباهظة، وكأن مهمتنا كانت قد أوكلت لنا عنوة؟
ـ الم ْأقل لك: القليل من النفع يتوازن مع الكثير من .. الظلم، لكن الكثير من الظلم لا يقدر أبدا ً من القضاء على هذا القليل من النفع!
ـ كأنك تدعوني إلى حفلة عرس!
ـ آ ....، يا حبيبتي، فلولا هذا القليل من الضوء، أكنا نحتمل هذه الظلمات...، لولا هذا القليل من الهواء لكانت العاصفة قد اقتلعتنا، والرمال دفنتنا؟
ـ الآن...، الآن....، أكاد لا اعرف ماذا حدث..؟
باستغراب سألها:
ـ أحدث شيء...، كي نحاول تذكره؟
ـ لا...، أنا أتذكر إنني رأيت الذي لا يمكن رؤيته، فانا لم أر شيئا ً!
ـ أنا لا أتذكر...أيضا ً، بل أرى انك مازالت تسكنني!
ـ أنا بيتك...، أيتها المحنة، فماذا كنت سأفعل، وماذا كنت سأعرف...، لولا إننا عقدنا العزم للذهاب ابعد منك ِ!
ـ ابعد من معرفتنا؟
ـ آ ...، وهل سمحت لنا إلا بالغوص عميقا ً في هذا الوحل...، فلا عين رأت ما حدث..، ولا أذن سمعت ما دوى...،ولا كتاب دوّنت فيه الوقائع، ولا راو ٍ روى...، لأن الشمس ذاتها لو لم تكن عمياء، لكانت أسرعت ومحت أثرها! لكن ماذا يفعل العميان، سوى تركهم الأضواء تستدرجهم لمعرفة هذا الذي نجهل اهو تسلى بنا، أم نحن تمتعنا بشقائه حد إننا مازلنا نمد أيدينا بحثا ً عن من يهبنا القليل من السكينة، والأقل من الغفران...!
1/8/2016
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق