بحث هذه المدونة الإلكترونية

مرات مشاهدة الصفحة في الشهر الماضي

الخميس، 18 أغسطس 2016

ممرات الزمن-عادل كامل

قصة قصيرة




ممرات الزمن



عادل كامل

     ليس لأن قواه خارت، وفقد قدرته على النطق، وليس لأنه كان يرى النهاية لا مجال لتعديلها، أو مسها، تريث في مغادرة مغارته، بل لأنه خاف أن لا يتمكن من العودة إليها.
ـ ثم هل باستطاعتي العثور على من يصغي إلي ّ...، وقد ضجت الحديقة بالأصوات: خوار ونعيب وثغاء ونباح ورغاء ونهيق وبغام وشحيح وزقاء وضغاء وصفير ومواء ونزيب وفحيح ...، حتى اختلطت عليه الأصوات وصارت متداخلة كأنها تأتي من كوكب آخر، فكوّر جسده النحيل ودفعه لصق جدار الحفرة محاولا ً منع أي محاولة لاتخاذ قرار بالخروج.
ـ فانا بت اجهل من أكون...، مع إنني استطيع استعادة ما حدث لي عبر سنوات حياتي الطويلة...
متابعا ،ً خاطب نفسه:
ـ الم تخبر الأشجار، والصخور، والهواء بما حصل..، الم تخبر الليل والتراب بما جرى...، فمن منحك لحظة إصغاء، ومن استجاب إليك....؟
   وود لو تحول إلى غبار، وكف عن التنفس، وغاب عن الوجود، وكم ود لو تحول إلى جزء من أجزاء المغارة، وتوارى فيها، إنما وجد نظره الكليل يراقب فراغات كانت تتسع، تمتد، وتتناثر أمامه وقد خلت المغارة إلا منه.
ـ من افترسهم..؟
  وراح يسأل نفسه:
ـ من يعلم...؟
ـ ربما هربوا...، ربما اختطفوا ...، ربما صعدوا إلى السماء، أو نزلوا إلى العالم العميق....، من يعلم؟
ـ لا.... ، لم يهلكوا، لم يهربوا، لم ينزلوا، لم يتبخروا، لم يهاجروا...
ـ ربما ذهبوا في نزه..، أو لبوا دعوة، أو ذهبوا إلى السيرك ...؟
ـ يا أحمق...، وهل يحدث هذا من غير استئذانك، أو إخبارك...؟
     عادت الفراغات تتسع  مشغولة بأشلاء رآها متناثرة على امتداد مساحة المغارة؛ أجزاء عرفها برائحتها، لحمها، لونها، عظامها، أصواتها، وصمتها....، وإنها ليست غريبة عنه.
ـ من ذا باستطاعته أن يخبرني بما جرى ...؟
متابعا ً:
ـ ربما يقال لي: لِم َ لم ْ تحم مغارتك...، لم تركتها عرضة للأعداء....، ولم لم تدافع عنها، حد الموت؟
   صمت قليلا ً، وأجاب:
ـ في نهاية المطاف، سأكون انأ المذنب!
     ووجد قلبه ينبض: فانا لم أمت بعد...؟ وشعر بخوف: لِم َ نجوت، بالأحرى: كيف؟ وترك رأسه يسقط فوق التراب الرطب مستنشقا ً رائحة الأشلاء؛ دماء متخثرة لها مذاق عفن مازال طريا ً. وأفاق: حتى إنني لا امتلك إلا قدرة تخيلهم، فلا احد هناك، يذكرني بما كان عليه. مصغيا ً لأطياف أصداء تخاطبه:
ـ لم تصغ لنا..، قلنا لك اهرب..، انج، فر، فالأرض إن ضاقت في مكان فهناك بوابات السماء مشرعة ....!
ـ ها، أتسخرون مني...؟ ثم ماذا افعل في السماء بعد أن تكون الأرض ضاقت بنا، وضقنا بها...؟
ـ الم نطلب منك أن تختار فصيلا ً تعمل معه وتموت من اجله؟
ـ وأنا قلت لكم إني لا اقدر على الانحياز إلى هذا الفصيل ضد الآخر...، فكنت اعمل من اجل الفصائل كلها كي لا تدمر بعضها البعض الآخر وتكون هي الخاسرة وحدها في الأخير!
    بدت الأصوات له مثل كرات وأشكال هلامية تتصادم، متداخلة تجمعت وقد بدت له مثل مرآة، تارة رآها تقترب منه، فيبتعد عنها، ثم تبتعد عنه فيقترب منها تارة أخرى. كان يود أن يرى ملامحه فيها، ليتذكر، وقد خفتت الأصوات وتلاشت لبرهة، من هو تحديدا ً كي يتخذ قرارا ما ...
   فرأى في العتمة ملامح خطوط وهمية لها حافات حريرية في المرآة أجزاء متناثرة فود لو لم تفعل ذلك...، وقال لنفسه مستدركا ً، لكن ما هو ذنبها...، وما هو ذنب انه فكر...، ما هو ذنب الصدى...، وما هو ذنب انه تعلم أن يحفر في التراب آثار أصابعه ...؟
ـ كم مضى علي ّوأنا هنا مثل جثة تتفسخ...؟
   تساءل، وقد لاحظ أن فتحة المغارة بدت له مثل جرح، مثل شق وهمي، مثل فجوة بدت نائية عنه، بعد أن وجد قواه تجمعت داخل رأسه وتكدست فيه، لكنه عجز عن التقدم، وعجز عن التراجع..
   إنما تحولت الفتحة إلى كوة....، ثقب، دائرة، خرم، مضاءة بلون استفزه...، فقد لاحظ حركة ذرات مازالت تتصادم، وتتلاطم، ممتزجة ومتداخلة أنبأته أن الليل انجلى، وثمة ضوء ما له طيف الفضة..!
ـ ما الذي حدث...؟
   جمع قواه للرد على ما خطر بباله: أهي نهاية العالم، أم نهاية حديقتنا، أم نهايتي أنا، أم إنها نهاية فصيلنا ...؟
     لم يجد مبررا ً للعثور على جواب: فمنذ زمن بعيد لم يعد ينتظر ردا ً، ليجد جسده يدّب، وقد دفعه إلى الأمام، نحو الشق، وقد بدا له نائيا ً درجة انه توقف عن الحركة. ذلك لأنه سخر من مرآة وجدها تحدث فيه نشوة للألم: مواساة ساخرة تتناسب مع ما يحدث له.
     ولم يقدر على استرجاع ما رآه، في اللحظة، عدا رائحة ذكرته بسنوات أمضاها، هنا، ؛ رائحة رطبة، وأخرى ندية طالما سمحت له باللعب والرقص أيضا ً.
     ولم يجب. خاف أن يقول كلمة كي يعاقب عليها. وكم ود لو شطر نفسه إلى أجزاء وتلافى التفكير بما حدث، وما رآه...، لعلها تطمئنه بان النهايات وحدها معدة قبل وقوقعها بزمن سحيق، إنما استبعد رغبته بالعثور على آخر ـ غيره ـ يلجمه بكلمة. فما معنى لو عثر على آخر ينجده....، هل يقدر أن يخرجه من المأزق ...؟ ودار بخلده انه إبان عاصفة الجراد رأى المشهد ذاته، كالذي حصل بعد زمن البركان الأعظم، حيث الحجارة وحدها كانت تتساقط حتى طمرت الحديقة بكامل أجنحتها، حظائرها، بركها، زرائبها، حفرها، مستنقعاتها، جحورها، ولم يبق منها إلا ذرات متناثرة شبيهة بما حدث بعد غزو الموتى وما أحدثوه من تدمير شامل للحديقة كاد يمحوها من الوجود. ارتّج جسده لأنه ذعر لو ذهبت الكلمة ابعد من موقعها في الفراغ الذي وحده راح يتسع داخل رأسه، والتقطتها آلات التنصت ذاتيه الرصد برهافتها لمراقبة المشاعر والذبذبات، فهل سيسمح له بالدفاع عن تعبير لم يقصده ولم يغادر خلايا دماغه وحدود جمجمته أبدا ً ...؟ الم يركن في الحجز باذلا ً أقصى جهوده للوساطة بإرساله إلى المحرقة بدل تركه يلقى مصيره في الفراغ..؟  شعر انه تلقى ركلات جعلته يتخثر، ثم يسيل، يذوب، من ثم بدأت يتصلب قليلا ً...، لقد ترك أصابعه تقاوم قوة ما كانت تسحب جسده إليها نحو باطن الأرض، من ثم لا تكف عن التقلص حتى أدرك انه لم يعد يستطيع أن يستنشق ما تبقى من الهواء في فضاء المغارة...، إنما شعر أن الهواء  الذي كان يخترق جسده، من فتحات لا تحصى، وليس من آذنيه، أو فمه، أو أي ثقب آخر، يعمل خارج إرادته، وأوامره، فقد تخيّل انه غدا كائنا ً رخويا ً زود بمجسات تساعده على ألا يتلاشى، ويتوارى مع التراب، والمخلفات.
    لكنه أدرك تماما ً انه تمادى لا إراديا ً في العجز ولكن هذا ليس لإشباع رغباته الدفينة بالتخلص من اللامتوقع، وإنما لأنه لم يعد يمتلك حلولا ً مغايرة تساعده على تجنب النهايات غير المتوقعة. فقد شعر انه لا يستطيع حتى منع الهواء من اختراق جسده ضد إرادته، واستحالة أن يتنفس من انفه، الذي وجده غائبا ً. قال لنفسه مؤنبا ً انه ربما يكون بالغ حد التمويه، والخداع، وإلا فان فتحة المغارة ما انفكت تسمح للضوء والهواء بالدخول حيث استنشق رائحة ما لدنة ممتزجة بعطور الورود والأشجار والدغل باعثة فيه رغبة بالهرولة، واللعب، بل بالطيران.
    انتبه انه لا يتحدث مع آخر، ولا مع نفسه، مما سمح له أن يمد أصابعه في الفراغ: وجدها تتقلص، لا تمتد، إنما تأكد له انه ربما يكون هو وحده لم يعد موجودا ً، وما كان يراه، لا يعدو سوى ما تركه متناثرا ً على امتداد مساحة المغارة، لكنه تردد إذا ما كان يستطيع نفي أو تأكيد انه تحول إلى فراغ، أو غبار، أو إلى أثير، وما إذا كانت تصوّراته ما هي إلا حصيلة الصدمة، وانه في الأخير ليس إلا أطياف ظلال ظلمات.
ـ أأخرج أم لا اخرج...؟
    ففكر من غير كلمات انه إذا خرج فقد لا يدخل، وانه إذا اتخذ قرار البقاء فقد يفقد فرصة البحث عن ملاذ آخر.
   وتساءل من غير أن يوجه السؤال إلى نفسه، أو إلى احد آخر حتى على صعيد الاحتمال، أو التصوّر.
ـ أم أن هذا كله يحدث لأنني لا امتلك إلا ما أراه: ذرات لا مرئية تتجمع من ثم تتلاشى .....، فانا جزء لا يتجزأ من ...
   وجد فمه لا ينطق، فقد أحس بالصدمة اشد أذى، وقد أحس انه لا يمتلك فما ً، جسدا ً، ولا عقلا ً، يقدر أن يدحضه أو يبرهن على وجوده.
ـ فقد لا أكون سوى الحقيقة الوحيدة التي طالما كونتها سلاسل التصادمات، التمويهات، والمصادفات...، فانا موجود بوصفي وجدت قبل الآن حيث لا امتلك إلا الاعتراف بوجود يمتد خارج فناءه، الأمر الذي يسمح لي بالاعتراف ....
    لذ ّ له أن يمتلك قدرة التوقف عن الاسترسال:
ـ فانا موجود بحدود المغارة...، والمغارة موجودة بحدود الحديقة، والحديقة ...
   ثم رفع صوته قليلا ً:
ـ أأخرج أم لا اخرج ...؟
      بألم أحس بالهواء يتدفق من فمه: فانا امتلك صوتا ً...، فانا إذا ً لست إلا هذا الذي افقده ...، فان خرجت أو لم اخرج فالمشكلة تبقى خارج نطاق الهواء...، وخارج حدودي،  بل وبعيدة عن الصواب، وعن الحقيقة. فإذا خرجت ولم اعد أكون كأنني هو الجزء الموجود من العدم! فانا لا امتلك أكثر من هذا وقد راح يستحدثني رغم معرفتي باستحالة إثباته أو نفيه.
   وأضاف بتردد: إنما كنت عشت أزمنة من غير فم، من غير رأس،  ومن غير جسد أيضا ً...، مثل شجرة أو صخرة، حتى إني في ذات يوم أدركت إنني أدب، ازحف، أتدحرج، أثب، أطير، أسبح، أغوص، وأهرول...، ومن الصعب القول أنني اجتزت خطوات نحو كائن يمتلك قدرات التفكير!
ـ فماذا يحدث لو خرجت ولم اخرج...، وماذا يحدث لو تحولت إلى فراغ لا اقدر حتى على إشغاله بفراغ ... وماذا ... لو .. ؟
    قرب أصابعه من انفه ثم تركها تتقدم نحو الفتحة.
ـ فربما أكون أسرفت ...
معترضا ً:
ـ أو هناك من فرض علي ّ هذا التصوّرات...
وأضاف بعد لحظة صمت يسأل نفسه:
ـ ومن يكون... هذا...، أم قد لا يكون سوى أنا هو الفاعل....؟
    غرز أظافره بلحم مؤخرته فأحس بالدم يتدفق قطرات  ...، لزجة، حارة، وانه لم يكن ميتا ً، أو في سبات، وانه لم يكن يرى حلما ً أو داخل كابوس، وانه لا يعاني من عصاب، أو مرض عضال، أو رهاب، بل ـ قال بصوت سمع صداه يتردد داخل فضاء الجحر ـ لا مجال للشك بما حدث ورأى وتلمس بحواسه وعقله وضميره أيضا ً.
ـ فهل هذا كله محض ترددات أطياف لا وجود لها، إلا في رأسي...، ولا وجود لها في المغارة، بيتي، الذي وددت أن أموت وادفن فيه؟
    تقدم خطوات وتسمر عند الفتحة:
ـ أم علي ّ أن استنجد بأحد ما...، قد ينجدني، ولا يدعني أهن، وكأن غياب من كان معي محض وهم..، وسراب، أم ربما ثمة من لا يريد أن افعل ذلك...، وادع ما حدث كأنه اثر لا وجود له ألبته ....؟
    لم يشعر بمرارة الهواء ممتزجة بكلمات صوته، بل شعر بلذّة سمحت له أن يتشجع لمغادرة الحفرة ويخبر نفسه بفم مغلق: إن الحياة مازالت قائمة، حتى لو بدت بهذا الغياب، وبمثل هذا الاضطراب.
    وابتعد قليلا ً ...، تاركا ً جسده يتدحرج فوق العشب، مثل دعلج جمع أشواكه استعدادا ً لمواجهة الخطر، إنما أحس كأنه ولد توا ً، مثل من جنين يرى النور بغتة؛ فرخ لقلق، أو عقاب، أو صقر...، ضاحكا ً؛ فانا ـ وراح يتأمل حافات كلماته تتموج في الفضاء ممتزجة بأشعة الشمس ـ مثل ذئب فلت من الكمين، لا، قال، مثل غزال، أو أيل، أو أرنب، وليس مثل دب، أو نمر، أو فيل.
ـ بدأت تتخبط....
    لأنه صدم بتحول قرص الشمس الذهبي إلى بقعة رمادية ترسل إشعاعات معتمة لها مذاق أشلاء أجساد ممزقة، مشوبة برائحة عفن....، ولكنه أسرع فنفى ما مر بخاطره، لنفسه، مؤكدا ً انه اجتاز المسافة الفاصلة بين الثقب الذي خرج منه، والفضاء اللامحدود الممتد أمامه بلا نهاية.
     صدم، وتلقى الصدمة بهدوء، بعد أن سأل نفسه:
ـ أين .. هي .. الحديقة...، وماذا حدث لها بالضبط...؟
   تصوّر إنها غابت، ولا اثر لها، وليس ثمة أسوار، ولا ممرات، ولا أجنحة، إنما فند تصوّراته وهو يشاهد رأس حيوان طالما التقاه، وبادله أطراف الحديث، واستأنس طراوة كلماته، وسلاستها؛ رأس ثور كبير، اسود ...، وسره أن يرى قرنه يمتد بعيدا ً يسارا ً والى اليمين...، وانه لا يشبه قرن وحيد القرن، المثير للجدل!
   اقترب، واقترب حتى حاذى سور الزريبة، ورفع رأسه قليلا ً؛ انه هو ذاته الذي روى لي ذات مرة.
   متابعا ً بعد لحظة تريث:
ـ حديثه الطويل الشيق عن القرون...، من قرون الحشرات إلى أنياب الفيل، فهو كان مولعا ً بالحديث عنها، حد انه قال لي: إنهم يقدرون على ذبحي لكنهم يعجزون عن تدمير هذه القرون! حتى القصاب الذي كان سلاحه السكين كان لا يقدر على ثلمها!
ـ القرون...
ـ ماذا لدي ّ سواها، وماذا ترك لنا الزمن سواها؟
    ولكن الثور لم يكترث له. فعندما هم بطلب النجدة تردد لأنه تذكر آخر لقاء له معه، بعث فيه الأسى والحزن والكآبة، فصمت، لان أصداء كلمات الثور ترددت داخل رأسه:
ـ فانا لا عمل لدي، يا سيدي، سوى أنز على هذه البقرة، أو تلك...، فتحبل البقرات ...، بل حتى عندما تم أخصائي، لم أتوقف عن عملي، فكن لا يتوقفن عن الحبل...، ولكن ما هي الحصيلة، سوى أنهم يسمنون العجول، أولادنا، ويرسلونهم إلى ...الموت.
ـ أي انك نجوت من السكين؟
   مستعيدا ً أصداء خواره:
ـ كي أواظب على المشاركة في ذبح أبناء جلدتنا، وفلذات أكبادنا، أولادنا، وأحفادنا...! ألا تعد هذه صفاقة تجاوزت حدود الجريمة، حتى لو كانوا له وجدوا لها بابا ً من أبواب الشرعية؟  
ـ أنا اعترض!
   سمع الثور يخور بألم عميق:
ـ هل أطلب منهم قطع رقبة رفيقي بدل أن أؤدي دور القواد؟!
ـ لكنك حافظت على ديمومة نسلك من الإبادة، والاجتثاث، والمحو؟
ـ سيدي، لقد أرغموني كي أؤدي هذا الدور...، رغم نشوته ومباهجه ومسراته الغامضة ...،فثمة لذّة لا توصف لا تجدها عندما تكون مع بقرة! بينما شبح السكين لم يغب عن عينيك!
   وكاد يصرخ:
ـ وهذا  ما حدث لي...
    ثم تجمد الصوت داخل حنجرته، وعندما بحث عن فمه وجده غائبا ً. فاقترب من السور الخشبي، وود لو وثب إلى الأعلى، لكنه انشغل بسماع ذبذبات صمته وهو يدور، فتراجع إلى الخلف، خطوة اثر أخرى، كي يستنشق رائحة كبير الجرذان، وهو يخرج رأسه من الجحر:
ـ آ ....، حسنا ً رأيتك، أيها الحكيم!
   لم يسمع الجرذ صوته، بل انسحب إلى الداخل، فناداه:
ـ سيدي، يا كبير الجرذان، أتعرف ماذا حدث لي...؟
ـ وماذا حدث لك؟
ـ أنا هو من يسألك، وليس أنت من يسأل...؟
ـ غريب...، أنت سألت..، وأنا مازالت منشغلا ً بسؤالك...؟
ـ أي انك لا تعرف ماذا حدث لي...؟
   تذكر أن الثور قال له، قبل أن ينشغل بالنز على بقرة ضخمة:
ـ ما شأني!
   فرأى كبير الجرذان يبتسم:
ـ هذه هي الدنيا!
ـ سيدي، ماذا تقول ...، وأنا جئت اطلب مساعدتك..؟
ـ وما ـ هو ـ شأني أنا...؟
   تراجع، يعالج لا مبالاة الآخر، له، فترك رأسه يدور، وهو يدور معه.
ـ آ ووغااااو غاااا.....
    سمع نعيب غراب يأتيه من القريب، فسره الأمر. اقترب الغراب، فسأله:
ـ أين كنت...؟
   تحسس جسده من الأعلى إلى الأسفل، وقال للغراب:
ـ في الحفرة!
ـ جيد...، كان عليك أن لا تغادرها ...!
فسأل الغراب:
ـ  وأنت أين كنت؟
ـ في العش، في عشي!
ـ جيد، بل هذا أكثر من جيد.
    وامتد الصمت بينهما فترة غير قصيرة، كي يحلق الغراب، مبتعدا ً، وقد توارى. فراح يراقب أعالي الأشجار، ولمح، خلفها، سور الحديقة الشاهق، المتين، كما لمح بضعة غيوم بيضاء متناثرة في السماء.
ـ الحمار...، لم يجب، ولم يشرح، كأنه أراد أن يقول: هذه هي الحياة كما عرفتها، وكما لا يمكن أن تكون شيئا ً آخر...، الحمار...، اجل، سيدي، أنا اعرفها، فلماذا تطلب مني غير ذلك؟ أنا لا اعرفها.
     أصغى ملتقطا ً أصداء نعيب الغراب:
ـ آ ...، لو كانت لدي ّ حفرة!
ـ وماذا كنت ستفعل فيها...، سيدي؟
ـ أغلق فتحتها، وأغلق شقوقها، وأغلق منافذها كافة...، حيث لا أرى أحدا ً ولا ادع أحدا ً يراني!
ـ وأنا كنت فعلت ذلك؟
ـ لا...، أنت أصبحت في العراء...، من غير حفرة!
ـ ولكن، سيدي، يا أقدم من علم أصول الإخفاء، والدفن...، انجدني!
ـ من أنا، من أكون...، كي أنجدك، أيها الغريب؟
  تخيّل انه صار يتجنى على الغراب، فالأخير لم يجب، حتى مع نفسه، فلماذا اتهمه بما لم يتفوه، وبما لم يصرح به؟
   دفع جسده دفعا ً، حتى أحس انه راح يمشي، بدل الزحف، وبدل التدحرج، نحو قفص الأسد، كبير عظماء الغابات، والحدائق. فسأله حمار كان يمر مصادفة بمحاذاته:
ـ ماذا تفعل؟
ـ فقال الحمار:
ـ اذهب...، أرجوك، فمصيبتك اكبر منك!
ضحك الحمار:
ـ يا أحمق، أكثرنا ذكاء ً أكثرنا حماقة! ففي هذه الحديقة اللامعقول يصبح معقولا ً، واللا شرعي غالبا ً ما يصبح هو الحقيقة....!
وأضاف بمرح:
ـ مع انك شتمتني، وأنت تخاطب السيد الغراب، من غير سبب، لكن ماذا افعل وأنا خلقت لا انظر إلى الخلف!
ـ اعرف!
ـ ماذا عرفت...؟
ـ عرفت انك تتمتع بالحكمة، ورجاحة العقل، والحرية!  
أجاب الحمار بهدوء:
ـ بدل أن أتحول إلى تمثال...، واقبع داخل قضبان هذا القفص، كهذا الأسد، الذي لم أره مستيقظا ً إلا في حالات نادرة، فانا طليق!
ـ آ ...، ربما يكون استوعب الدرس!
   قرب الحمار رأسه منه:
ـ لم اعد افهم ما تخفي...؟
ـ سيدي، فبعد أن أسروه، وسلبوا منه البرية، والغابة...، ولم يعد لديه إلا هذا المكان، بحدود جسده، خلد إلى السبات، وراح يحلم! فهو حقا ً أصبح من الخالدين!
ـ آوه...، فهمت قصدك الآن، يا شريكي في الحماقة!
ـ كيف عرفت أنني شريكك فيها...؟
ـ لأنك، بدل أن تعترف بأنهم أنقذوه، تقول إنهم أسروه، وسجنوه، وبدل أن تتحدث عن الحماية والرعاية والعناية التي يتمتع بها تحدثت عن القيود التي كبلوه بها...، أليست هذه حماقة؟
ـ لا!
ـ ما هي..؟
ـ هي حرية تعبير...، سلاسة، شفافية، فأنت، على سبيل المثال، غير مكترث للذي حدث لأسلافك، ولا للذي سيحدث لأحفادك...، فما تسمي هذا ...؟
ـ أطلق عليها الاسم المناسب لردود الأفعال..!
ـ تقصد رد الفعل؟
ـ هذه هي الحماقة؟
ـ غريب أمرك أيها الحمار، تولد وتموت وأنت غير مكترث أن تموت لتولد!
ـ كأنك أنت اخترعت باب الحديقة!
    سمعوا عواء ذئب، فقال للحمار:
ـ اهرب.
ضحك الحمار:
ـ يا شريكي، أين اهرب...، وفي خاتمة المطاف، أما يحملون علينا أوزارهم، أو يتخلصون منا بإرسالنا طعاما ً للذئاب أو حتى للكلاب الأجنبية؟
  فكر مع نفسه: عيب أن اطلب منه العون، واستنجد به...، ولكن ماذا باستطاعتي أن أقدم له...، لو حاولت، فحاله يدمي القلب...؟
   سمعه الحمار، فقال له:
ـ اذهب إلى الفيل، أو إلى كبيرة النمل، فانا أشكرك لتعاطفك مع حالي..، ولكن لا أنت تستطيع أن تفعل  لي شيئا ً، ولا أنا استطيع أن أقدم لك شيئا ً يذكر!
ـ هذا ما دار بخلدي ...، ولكن لماذا يعوي هذا الحيوان...؟
ـ ما أدراني...، وما شأني بأمره...؟
ـ آ ....، أصبحت مثلهم.
ـ ماذا تقصد...؟
ـ لا علاقة لك بما اقصد...، ولا علاقة لك بما حدث...، فلا احد يعرف ما حدث للآخر...؟
ـ وماذا حدث..؟
ـ أنا، على سبيل المثال، وجدت من كان معي في الحفرة...، تحول إلى أشلاء...، أي فقد وجوده، وصار غائبا ً..!
ـ الم ْ يحدث هذا منذ زمن بعيد...؟
ـ نعم، قبل انقراض الديناصورات، وقبل أن تتأسس هذه الحديقة.
ـ لا اعرف!
ـ لا ...، عليك أن تعرف كي تهدأ...، وتكف عن الشكوى، واستجداء العواطف..، أو حتى طلب الغفران، والرحمة.
ـ إذا ً أنت تعرف ماذا جرى لي...؟
ـ لم يكن أقسى مما جرى للبعوض...!
ـ وماذا حدث للبعوض...؟
ـ تم إبعاد كل من نجا من الإبادة، ونفيه، فصار تائها ً مشردا ً ...
ـ جيد! فالبعوض مخلوق مثير للشغب، غير مسالم، وناقل للموت!
ـ ليس للشغب أو للموت، بل للكراهية!
ـ سيان...، فالنتيجة واحدة؛ إنها تحدث التصدع، والحميات، والهلاوس، من ثم الوهن قبيل الهلاك!
ـ أتعرف ...، كنت لا أظن إنني سأعثر على من أتسلى معه...، في هذه الحديقة؟
ـ آ .....، إذا ً مازالت الحديقة قائمة ولها وجود؟  
     طرب الحمار، وراح يضرط:
ـ ليذهب العالم كله إلى جهنم مادامت حديقتنا عامرة!
ـ لك الثناء ولك الشكر.
ـ لمن؟
ـ لا اعرف...، فانا، سيدي، كنت اطلب من يشرح لي ما حدث لي...، ولم أجد. فرحت اطلب العون، فلم أجد...، فقررت أن ابحث عن من يغفر لي...، فوجدتك!
ـ وما شأني أنا...؟
     وراح يراقب الحمار يهرول مسرعا ً مختفيا ً وراء الدغل، فردد مع نفسه: حتى أنت...، يا صاحب العقل، والحكمة؟
  صمت ليسمع الحمار يهمس في آذنه:
ـ الم أخبرك بأننا ولدنا كي لا نفهم!
ـ سأضطر أن أقول لك: وما شأني أنا؟
   وسمع صدى صوت لم يستطع أن يحدد من يكون، فقد جاءه من أعماق المستنقع:
ـ تائه ...، وأخيرا ً أصبحت ضالا ً، مشردا ً...؟
ـ من أنت...؟
ـ وما شأنك إن كنت عرفتني أو لم تعرفني...، فانا رأيتك مثل شحاذ، أو مجذوم، أو هارب من إحدى المصحات...، معدم، تستجدي، تتلاعب بك الريح، وكأنك أضعت طريقك...؟
   هز رأسه باحثا ً عن رد، فلم يجد. قال الآخر:
ـ لو كانت لدي ّ صلاحيات لدعوتك للسكن معنا في قاع هذا الفردوس...، فالرزق وفير، والأمن مستتب، والرخاء فائض.
   وجد فمه يتحرك:
ـ هذا لطف بالغ منك، سيدي، لن أنساه أبدا ً!
ـ وهل تبقى لديك وقت من اجل أن تتذكره؟
ـ حتى لو اختزلت حياتي إلى لحظات...، فهي مسافة، وعلي ّ أن لا أكون جاحدا ً، فانا أرد الفضل بألف! فالكرامة اعز من الكبرياء!
ـ آ ...، حتى أغبى الأغبياء في هذه الحديقة لديه كلمات ذكية!
ـ آسف ...، لم اطلب منك المشورة، ولم استنجد بك...، ولا عناء هذا الإطراء الغريب!
ـ لكنني سمعتك تتحدث إلى غزال شارد، أو نازح، أو مهجر، أو لاذ بجلده...، لا اعرف...، وتقول له: عراك الأذكياء واختلافاتهم تعّمر الحدائق، وتبنيها ...، وعراك الحشرات، الديدان، الجراثيم، تخربها، وتدكها دكا ً، ولا تبقى لها إلا الفراغات! فقلت مع نفسي: ربما للحياة معنى!
ـ أحسنت!
ـ على ماذا...؟
ـ لأنك سمحت لي أن لا أسألك...، وان لا امتحنك...، ولا أن أربك نظام عقلك؟
ـ غريب! كأنك تائهة حقا ً...، مع إن الحديقة برمتها هي جزء من الكوكب الأزرق، والكوكب الأزرق جزء من السماء، والسماء جزء من ضئيل من الكون، والكون هو محض ذرة في الأكوان..، والأكوان ما هي إلا بذور تسبح وتسبّح في اللامحدود ....!
ـ آ ...، كم أنا سعيد بسماع هذا النشيد، لكن، للأسف، الإعصار لم يترك لنا حتى حفرة نموت فيها!
ـ إذا ً فأنت تفكر؟
ـ ربما أكون فعلت كل الموبقات، سيدي، ولكنني قط لم ارتكب هذه الجريمة الشنعاء!
ـ لا ترفع صوتك!
ـ وهل فعلت؟
ـ كيف سمعتك وأنا في قاع الفردوس؟
ـ يبدو إن صمتي راح يلعلع، وتجاوز حدوده، وقد أصبحت فضيحة، بعد أن كنت ضحية! فمن يتستر علي ّ؟
    خر مغشيا ً عليه، وغاب عن الوعي، ثم أفاق. إنما لا يتذكر كم رقد، بعد أن وجد جسده يتدحرج، تارة، ويتقلص ثم يتمدد تارة أخرى، ليسمع كبير القرود يناديه:
ـ اقترب...، اقترب لماذا تتمرغ في الوحل، عيب، فهل حصل لك مكروه، أم أصبحت مفكرا ً...؟
ـ لا ..، أرجوك، ارحمني.
ـ لقد أصبحت تؤدي دور المخلوقات الخالدة!
ـ هذه حكاية لا اعرف كيف لم تفند بعد...، فاسود التراب يحسبن إنهن استبدلن الفناء بالخلود...، وها أنت ترى ما حل بنا...؟
ـ وماذا حل بك...، وأنت طليق، لا احد أعترضك، أو سألك، أو حجزك، أو عاقبك...؟
   صاح مبتهجا ً:
ـ إذا ً أنا بلا قيود...؟
ـ بل أكثر من ذلك؟
ـ أنا أكثر من طليق...،فانا ميت إذا ً...؟
ـ لا، لا يا أحمق، أنت ذهبت ابعد من الموت!
ـ وابعد من الموت....؟
ـ فأنت خارج قفصك...، فأنت أفضل من الأسود، النسور، النمور، وأفضل من الفهود والصقور والذئاب...، فماذا تريد...، وقد أصبحت الحرية ذاتها تخشاك؟!
ـ سيدي، يا كبير القرود، أنا اعرف انك تتمتع بالذكاء الحاد، واعرف انك ليس من مثيري الشغب، والفتن، ومن أعداء البغضاء والعنف، فأنت من دعاة الوداعة، وراحة البال، اخبرني... ماذا حدث لي...، وأين هؤلاء الذين كانوا يعيشون معي، وبجواري، في المغارة...؟
ـ آ ...، لو فكرت بهذه القضبان التي تحاصرنا، لوبخت نفسك يا نذل، قبل أن تسأل مثل هذا السؤال؟
ـ هل أنا نذل ولا اعلم؟
ـ بل أكثر من نذل، فأنت تتجاهل ماذا فعلوا بنا..، وبمخلوقات هذه الحديقة، حتى الحيتان  أسروها، داخل الأحواض، وحتى وحيد القرن لم يعد يمتلك إلا ما يمتلكه الثور، زريبة، لقد ساووا بين التمساح والضفدعة، وبين الزرافة والجرذ!
ـ لكنني لم اعد امتلك حتى حفرة...؟
ــ وماذا تفعل بالحفرة، أم انك جبلت بالعبودية، لا تولد ولا تموت إلا وكأنك لا تريد مغادرتها؟
ـ لست أنا من يفعل ذلك...، هي، يا سيدي، لا تسمح لنا إلا بهذا الذي أصبحنا نعشقه!
ـ لهذا أنا أحسدك، حسدا ً ابيض!
ـ تحسدني على العبودية...؟
ـ يا أحمق، أنت حصلت عليها كمن يحصل على الخلود!
ـ غريب...، أنا لم ابحث عنها، قلت لك، فكيف عثرت علي ّ...؟
ـ هي لم تعثر عليك، ولا أنت عثرت عليها.
ـ سيدي، اخبرني: هل تسمحون لي بالانضمام إليكم...؟
ـ وماذا تفعل معنا؟
ـ وهل لدي ّ قدرة أن اعرف ...؟
ـ غريب أمرك ...، لا تريد أن تعرف انك لا تعرف، ولا تريد أن لا تعرف انك تعرف ...، ثم لا تحلم إلا أن نستضيفك داخل قفصنا...؟ الم ْ تكن لديك مغارة، أهل، ومسرات...؟
ـ نعم.
ـ لماذا فرطت بها...، لماذا أهملتها، ولم تتمسك بها...، لماذا لم تحرص عليها...، ولماذا هربت منها...؟
   هز رأسه بأسى عميق:
ـ كنت اعرف إنكم أيضا ً لن ترحموني....، وكنت اعرف إنكم لن تقدموا لي العون...، بل كنت اعرف إنكم ستسخرون مني...، وتكيلون لي شتى الاتهامات الباطلة، وربما تحاكمونني بذنوب لم اقترفها...، من يعلم؟
ـ أهدأ...، اهدأ .. فالبلايا تعرف أين تذهب، ومن تختار، مثل المصائب لا يفلت منها حتى من أمضى حياته كلها يتجنبها!
ـ إذا ً أنت تعرف ماذا حل بنا، وبي...؟
ـ وماذا أقول لك عما جرى لنا، وللنمل، للزواحف، للثدييات، للطيور، والديناصورات ....؟
ـ وماذا جرى...؟
ـ ألا ترى...، ألا تسمع...، ألا تدرك؟
ـ أنا لا اعرف ماذا حدث لي...، فكيف اعرف ماذا حدث لهم!
ـ انظر ألينا.
  نظر بشرود:
ـ تلعبون، تقفزون، تمرحون، وتتشاجرون بلطف، ومودة...، فانتم تغردون مثل البلابل!
ـ حقا ً هكذا الحمقى يؤولون الحقائق...!
ـ لكنك لم تسمح لي بالانضمام إلى جناحكم، واحتمي بالقضبان، والمشبكات الحديدية...!
ـ اقترب...، أيها الصرصار...، يبدو أن زمنك ولى!
ـ آ ...، الآن إذا ً استطيع أن أخاطبك بأعلى صوتي، إن كان لي صوت: ما شأني بكم!
     وترك رأسه يستقر فوق العشب، مستنشقا ًرائحة مشبعة بمزيج شعر إنها توخز قلبه، فكاد يقهقه، لأنه وجد انه أكثر شرودا ً، فأغلق فمه، وهو يراقب ماء البركة، غير مكترث إن كان الألم هدأ أو انتقل أو وجد مستقرا ً آخر في جسده. فلم يعد يشعر بالرائحة تعمل عمل المدية في القلب، بل أحس إنها ناعمة، تتسلل مع الهواء إلى رئته.
   ولم يصدم برؤية رأس مستطيل له مجسات متحركة يقترب منه، رأس خرج توا ً مبللا ً بالماء الأسود واقترب كثيرا ً منه حتى جاوره:
ـ ماذا تفعل هنا...؟
ـ آ ......، سيدي، أأنت هو التمساح، أم شبيها ً به، أو ظله، أو مخلوقا ً آليا ً، أو ...، لا يهم...، أقول لك: وهل أنا هو الذي أتى؟
ـ هكذا خطر ببالي...، فقد تكون أرسلت طيفك، أو من ينوب عنك، أو...؟!
ـ تعني شبحي...؟
ـ سيان...، اخبرني ..
   تراجع إلى الخلف، فقال متابعا ً:
ـ سمعت انك تنوي الهجرة...، والفرار...، بحثا ً عن ملاذ ...؟
   صدم، لا، موضحا ً:
ـ هذه أقاويل، شائعات، وهذه هي افتراءات العاطلين عن العمل...، فأنت تعرف ماذا يحدث الفراغ....، كي أخبرك، بوضوح: أين يمكن أن اذهب...، وماذا افعل، وأنت تعرف إن الحفرة التي لا باب لها لا يدور في قفلها أي مفتاح!
ضحك التمساح:
ـ أصبحت تتندر على البحار، والمحيطات، وكأنك ارتويت من ماء البرك؟
ـ سيدي ...، أنا ولدت بعيدا ً عن بركتكم الخالدة...، وخبرتي بالماء لا تسمح لي إلا بالصمت. فانا تعنيني الحقائق كما أراها أمامي من غير تمويهات!
ـ لم تجبني...؟
ـ وهل سألت...؟
ـ سألتك: ماذا تفعل هنا...؟
ـ وأنا سألتك: هل أنا موجود كي يكون لجوابي معنى؟
ـ سأفترض إني أتحدث إلى كائن لا وجود له ألبته...، فاخبرني إذا ًهل لوجودك ظل...؟
    انفجر ضاحكا ً:
ـ مع إنني لم أجد وسيلة للبكاء، ولا وسيلة لمعرفة ماذا حدث لي، إلا انك أبهجتني!
ـ أنا...؟
ـ آسف...، قد أكون أنا هو من يتكلم إلى لا احد...!
ـ يا أحمق، كان عليك أن لا تغادر حفرتك...
ـ وهل غادرتها؟
أصبت! فانا أيضا ً لم أغادر مستنقعي!
ـ حسنا ً، سيدي، أرجوك اخبرني: ماذا حدث...؟
ـ آ .....، أنا أيضا ً كنت أظن أن العاصفة شملتنا برحمتها، ولكنها كانت عمياء، فلم ترنا!
ـ أنها لا تبصر.
ـ أتقصد ـ كما قلت ـ  عمياء؟
ـ لا ...، لم اقصد إنها عمياء، ولم اقصد إننا كنا نرى...
ـ ماذا قصدت إذا ً...؟
ـ لو كنت اعرف ماذا قصدت...، لقلت لك، فلماذا أناور وأنت تعرف إن الحقيقة تدحض لعبة المناورات!
ـ أحسنت....، فمن لا يعرف يكون وحده قد عرف! كما سمعتها من عابر سبيل زار حديقتنا منذ زمن بعيد.
ـ عرف انه لا يمتلك إلا القليل الذي يسمح له بالنجاة...، وتجنب المحو...
ـ سيدي التمساح العظيم...، يا سيد المستنقعات، والأعماق السحيقة، يا مغوار، هل تعرف ماذا حصل في الغابة، وماذا حدث في البرية، وماذا جرى لسكان الوديان...، أم انك ستقول: حصل الذي حصل...؟
ـ اسكت!  
ـ لا تورطني...، ففي حديقتنا، لا يحق لأحد أن يذهب ابعد من حدود جناحه، أو يذهب ابعد من قفصه! وها أنا، لهذا السبب، سأعود إلى مستنقعي...، فلا أنا رأيتك، ولا أنت رأيتني!
ـ أمرك...، لكن هل كنت أنا رأيت، وهل كان هناك احد رآني....؟
ـ اقترب.
  اقترب منه:
ـ آه...، لم أسألك: كيف نجوت...؟
ـ آ ....، هل نجوت كي أخبرك ...؟ ولكن قل لي: لِم َ تركوك...؟
ـ عميان! كانت عاصفة عمياء، حملها الليل، مثقلة بالظلمات، فلم ترنا، ولم نرها، نحن أيضا ً.
     هز رأسه متمتما ً: لا أصحاب الشأن لهم شأن بها، ولا الذين لا شأن لهم شأن بها أيضا ً، فالعاصفة مرت...
ـ إن كنت مازلت ترغب بالنجاة...، فلا تثر المزيد من الغبار!
ـ يا سيدي، أن اغرب غرائب هذه الغربة، انك لم تعد تجد حتى الوهم الذي أغواك، كي تدحضه، فلا أنت نجوت من العاصفة، حقا ً، ولا هي تركتك، فهي لم ترك ولا أنت رأيتها، وما عليك، في نهاية المطاف، إلا أن تقول الحقيقة!
     طمأن نظره إن ما سمعه، وما رآه، ليس وهما ً وليس حقيقة، بل وليس منزلة بينهما، فالمغارات تساوت، مثل الحفر، والزرائب، مع الأرض، بعد إن اقتلعت العاصفة الأشجار، عدا أن صورها القديمة مازالت شاخصة، وانه طالما اجتاز الدروب والممرات والمنحنيات نحو المدرسة، مارا ً بالبرك، والحظائر، والجحور، مستنشقا ً رائحة الحقول، وعطر زهور البرية، حتى إن رائحتها مازالت حادة...، إنما علاماتها اندمجت، كأن نيزكا ً ضربها، أو تعرضت لزلزال، أو بركان.
ـ أخبرناك بان الهزيمة ليست هي نهاية الرحلة، والموت ليس خاتمة الدورة...، ربما هي نهاية شوط، أما ما لا يمكن قهره فهو الذي عليك أن تتبع خطاه...!
ـ فعلت ذلك...، وهذه هي الحصيلة.
ـ لم تفعل ...، فها أنت تستجدي، وتكاد تستنجد، بل وتتضرع، بهذا أو بذاك...، فأنت مازالت تتسول...!
ـ ولكني لم اعد امتلك حتى الهزيمة كي أميز أهذا الذي أراه هو حقيقة وهم، أم وهم حقيقة، أهذا إضاءة ظلمات، أم ظلمات إنارة، أهذا هو ما قبل الهزيمة، أم ما بعدها....؟
ـ كأنك لم تختر، في النهاية، إلا الذي كان عليك أن لا تختاره؟
ـ أنا اخترت مغارتي، فماذا افعل من غير مغارة...؟ وها أنا افقدها. لقد سلبوها مني حتى القبر الذي حلمت أن ارقد فيه لا وجود له، وصار وهما ً، ظلا ً، فكل من اسأله يقول لي: ما شأني....، كأنهم جميعا ً ملائكة رحمة، حكماء، وكأنني أنا الوحيد الشرير، صانع الآثام، ومقترف الخطيئة!
ـ من هم...؟
ـ وكيف اعرف من هم...، وأنا أتخبط لعلي أجد من يقول لي كلمة لا تعمل عمل الخنجر في القلب، ولا تعمل عمل الجذام في روحي، ولا عمل الأهل بالأهل، والجار بجاره، والحديقة بسكانها.
    وشرد ذهنه، ليجد انه يقف لصق تمثال مهدم، بلا ملامح، فلم يكترث إن كان هو ذاته الذي كان قائما ً لسنوات طويلة، أم قد شيد حديثا ً، وتعرض للهدم..؟
    وانتابه إحساس انه لم يعد يجد علاقة معه، مع انه لم يخاطبه مباشرة بعد ان خطر بباله ان يفعل ذلك، ساخرا ً انه قد يكون هرم، أو فقد ذاكرته، وان إضاعة الوقت لن تفضي إلى خاتمة لا تثير القلق. فانا أصبحت أتدحرج، بمعزل عن جسدي، فالأخير غدا غريبا ً عني، بعد ان برهن ان من التقيتهم لم يكونوا أفضل مني.
   وانتابه ذعر جمّده فتكوم لصق بقايا جسده بالقاعدة حتى ان سربا ً من الإوز مر لم يكترث لوجوده، بعد ذلك مرت سحلية بحجم فيل، هي الأخرى، لم تلتفت له. إذا ً ....، مستنتجا ً انه قد يكون عزل تماما ً عن الجميع، بعد عن فصل عن نفسه. فهو ـ دار بباله ـ لم يعد مهتما ً بما جرى، وما يجري، فهو لم يعد يفكر بضرورة وجود حفرة، أو حتى مغارة، كي يستعيد كيانه. فانا أصبحت طليقا ً كهذه الأشجار...، مصغيا ً إلى قلبه ينبض وفق عمل الأجزاء الأخرى...، وسأل التمثال:
ـ  فلو لم يكن لك هذا الحضور...، فماذا يعني حضوري؟
   وتمتم بصوت ناعم:
ـ فانا جزء منك، ولكنك لا تبدو راغبا ً ان تكون جزءا ً مني؟
     وشعر انه لم يعد يقدر على مقاومة رغبة بالبكاء، والعويل. لم يبك. تجلد:
ـ لكن هذا لن يدوم إلى الأبد!
      ولمح قطعان من الجراء تهرول، خلف طابور من الماعز، والخراف، وثمة جرذ يزحف مثل تمساح:
ـ إلى أين...؟
   لم يرفع صوته...، فلا احد شعر بوجوده.
ـ أأنا مريض...؟
   مصغيا ً إلى نملة تدب لامس صدى صوتها بصره:
ـ اقتربي...، أتضرع إليك.
     ووجد انه يبذل جهدا ً كبيرا ً في جذبها للحديث معه، وهي تراقبه، حتى وجدها تومئ له بالتريث:
ـ سأنتظر ...، فقد أجد خيطا ً يدلني ..
ـ أأنت جاد؟
ـ اسألي هذا التمثال لزعيمنا الخالد!
ـ دعك منه...، لو كان يستطيع الهرب لفر، ولما قبع أمامنا ساكنا ً مثل صنم!
  وأضافت:
ـ ثم انه مشغول بأداء دوره.
فسألها:
ـ ما شأنك بدوره، وهل سألتك عن هذا الدور...؟ ثم ما شأني أنا ...، الم ْ تقل انك جاد بالعثور على خيط، محض خيط.... يوصلك إلى ...

ـ حتى لو كان وهما ً، وحتى لو كان من حرير العناكب!
ـ حسنا ً..
   كاد يصرخ، فقرب رأسه من النملة مصغيا ً:
ـ تتبع هؤلاء...، واحشر جسدك معهم، لعلك تصبح واحدا ً منهم...؟
ـ سأفعل...، ولكن من هم هؤلاء...، وماذا يعملون...؟
ـ هم، هم، هم، لا شأن لك بعملهم، وماذا يفعلون...، فهم يؤدون آيات الولاء لشجرتنا الكبرى، أمنا الأولى، أم البرية والبحار..
ـ آ ...، عدنا إلى العصور المجيدة، والى الزمن الجميل.
ـ لا اعرف...، فلا فائدة من هذه المعرفة، المهم أمش خلفهم، وصر واحدا ً منهم... لعل أمنا الشجرة الكبرى تستجيب لك، وترضى عنك، بعد أن تقبل توبتك، واستغفارك..؟
ـ لن أنسى معروفك معي، أيتها النملة، حتى أخر يوم لي في هذه الحديقة.
وسألها فجأة:
ـ بالمناسبة، من أنقذ حياتك، .....؟
ـ آ ...، هذه حكاية بالغة التعقيد.
ـ حسنا ً...، ولكن لماذا لم تذهبي معهم، لتحصلي على الخلاص، والرحمة، والنعيم؟
ـ وهذه حكاية أكثر تعقيدا ً.
ـ فلماذا اذهب أنا....، فقد أكون اخترت الدرب غير الصحيح، كالسابق....، مع إنني لم ارتكب ذنبا ً، أو خطيئة، أو فحشاء، أو معصية، أو ... فقد أعاقب بعقوبة اشد من هذه مرارة، فأتحول إلى تمثال، أو أمزق، واسحل، أو ترمى جثي إلى الضواري، وتتعفن مع النفايات...، آنذاك قد لا استطيع حتى الفرار!
ـ آ ...، مسكين، الآن عرفت انك تحاول معرفة ما لا احد يعرفه، ومعرفة ما عليك أن تتجنب معرفته!
ـ صحيح...، ولكن لماذا انشغلت بالسير في هذا الدرب الموحش...، المظلم...؟
ـ وهل باستطاعتي أن اعرف، ثم ما شأني بذلك؟
ـ آ ...، حتى أنت ِ تتخلين عني.
ـ أنا لم أتخل عنك، أنت تخليت عن نفسك.
ـ لا قسما ً بأمنا الشجرة أنا لم افعل ذلك، ولكنني فجأة لم أجد لدي شيئا ً، لا أهلي، ولا حفرتي، لا نفسي، ولا حتى القبر الذي سأستقر فيه!
   صرخت النملة:
ـ لا تجدف...، فأمنا الشجرة قد تتألم، ويؤذيها هذا الكلام، فلا تغضبها.
    التصق بالقاعدة، حتى غاب عنه الوعي، للحظة، وأفاق:
ـ من أنا كي تغضب علي ّ أمنا الكبرى، أم الحدائق، والبراري، والغابات، والحدائق؟
ردت النملة، قبل أن تتوارى:
ـ وهل باستطاعة نملة، مثلي، أن تكون أكثر من نملة، لم يبق من جنسها، إلا شراذم نمل تائهة هنا، وهناك...، بعد أن أصبحت ابحث ولا أجد من كان معي من الأهل، والجيران، والعشيرة؟

ـ أكان عليك أن تخرج ...؟
     وجد السؤال يوخزه كسكين راحت تعمل في جسده، يرن، مرا ً، لولبيا ً، مشاكسا ً، وقد راح يشاهد مجموعة أشكال متلاصقة تبرز أمامه، شبيهة بالتمثال السابق: ساعات واحدة ذات شكل مربعة، وأخرى مستطيلة، وأخرى دائرية، ورابعة لم يرها جيدا ً، وخامسة بدت له مثلثا ً.....، ساعات سمحت له أن يبحث عن نفسه:
ـ لا احد...، حتى لم اعد فراغا ً..!
    فأحس بذرات لا مرئية تخترق كيانه، وتركها تصدر صوتا ً ناعما ً شبيها ً باللحظات التي تسبق بزوغ الفجر، آ ...، فقد تحول الصمت إلى بذور محاطة بشبكة نسجت عشوائيا ً ـ رغم وضوح خطوطها ـ حتى أحس انه تحول إلى كيان تناثرت جزيئاته، وراحت تتموج، وتتصادم، لا إراديا ً، داخل تلك الأشكال. ربما هذا هو الذي كنت ابحث عنه: الزمن..؟ مع انه سوى أجزاء لا مرئية راحت تتناثر من غير ضجة أو أصداء، ومن غير حركة أو ألوان.
    وأعاد تأمل الساعات، ليسأل نفسه:
ـ أين أنا...؟
    اختفت الأصوات، والألوان، والروائح تماما ً، مثلما وجد انه فقد ما كان أحس به، فلم يعد حتى طيفا ً، ولا شبحا ً. فدار بخلده، انه ربما يكون فقد الذاكرة تماما ً، وان ما حصل لم يحصل أبدا ً. فالساعات بدت له مثل غيوم كفت عن الحركة، ومثل بقايا جدران، كأنها حجارة مكومة، مثل أطلال مدن مندثرة: وجوه تحولت إلى مربعات، دوائر، ومثلثات...، لا ترن، عدا أن عقاربها ذكرته ببقايا وجوه تحجرت، تجمدت، تخثرت، حنطت: آ ......!
ـ لكنني أكاد أتذكر هذا كله....
   ليجد انه راح يبحث عن لا احد، حتى الساعات تلاشت، عدا رائحة حادة سمحت لأصابعه أن تعمل بمعزل عنه، وراح يراقبها:
ـ أكان عليك أن تترك حفرتك...
ـ من ...؟
ـ كيف تقول لا احد...؟
   حدق في الفراغ: عرفتك! فأنت اللا احد الذي وجد قبل إقامة هذا النصب، نصب الساعات الحجرية!
ـ ما عليك إلا أن تستجمع قواك..، فأنت تستطيع أن تتذكر، تستطيع أن تستعيد لحظات الفجر....، فانا هو من كان يوقظك...، عند الفجر...، فتستيقظ، ثم تغادر مغارتك، ذاهبا ً إلى البركة، عبر ممرات الغزلان، منتشيا ً بالإصغاء إلى تغريد البلابل، ورائحة العشب، ورذاذ الماء....
ـ تذكرت ..، تذكرتك.
ـ خلت هرمت، أو أصبت بداء النسيان، أو أصابك الكبر، وغدوت عظيما ً؟
ـ لا، لا لم اهرم، ولم افقد الذاكرة، ولم أصبح بداء العظمة...، فانا لم انس فضة الفجر!
ـ فانا هو من كان يخبرك بنهاية الليل، وبدء نهار عمل جديد!
ـ آ ...، الم تكن واحدا ً منا...؟
ـ تماما ً.
ـ ثم لم اعد أراك...، أين ذهبت...؟
ـ استبدلوني بهذا النصب...، فانا أصبحت وثنا ً!
ـ آ ...، أيها البلبل، غرد؟!
ـ واآسفاه....، لم تعد تراني..، أرجوك، انظر...، ألا تسمع صوتي...، فانا هو من أنقذته من الموت؟
ـ من... آ ...، تذكرتك، عرفتك، أنت هو ساعة الكون.
ـ أحسنت...، أنا رفيق طفولتك، وصباك، و....
ـ اقترب، أرجوك، اقترب.
ـ لا استطيع...، فأنت تعرف ما حصل لي، وما حل بأهلي، وبيتي، وبلادي!
ـ الم تقل إنهم أقاموا لك صنما ً، تمثالا ً...، أو وثنا ً، أو نصبا ً...؟
ـ لا، بل أنا هو من أصبح هذا الذي تراه: نصبا ً، فهذه الساعات...هي...زمنك!
ـ لكنها لا ترن...، لا تعمل...، كأنها شاخص قبر؟
ـ لا تكترث..، هذا هو ما جرى علينا جميعا ً..، فالحديقة لم يعد لها وجود!
ـ أرجوك....، اقترب.
ـ إن اقتربت منك كثيرا ً فستفقدني...، فدع هذه المسافة بيننا كي لا تنساني.
ـ إذا ً فأنت أصبحت خالدا ً...؟
ـ دعك من الكلمات، وما تتستر عليه، وتخفيه، وتموهه...، فانا هو أنت!
ـ تقصد: أنت ... هو ...أنا ...؟
ـ قل ما شأت، فانا هو أنت، وأنت هو أنا!
ـ تماما ً!
    ودار بذهنه: لا احد.... فالزمن تجمد في نصب، مع إنني لم أر نفسي من قبل، كما أراها الآن: لا احد سوى فراغات متصلبة، تربض فوق قاعدة، عند سور الحديقة الخلفي.
   تراجع خطوات، تبعها بأخرى، مصغيا إلى صمت الساعات، وتوقف عقاربها عن الحركة.
   مخاطبا ً لا احد:
ـ الآن استطيع أن أقول ...، أن أقول بثقة: ما ـ هو ـ شأنك ـ أنت .... ، بهذا الذي طالما كنت تراه لم يغادر حياتك، فما شأنك بمصيرك، فأنت لم تعد مسؤولا ً عنه.
ـ  وهل كنت تستطيع أن تكون....؟
12/8/2016
Az4445363@gmail.com



ليست هناك تعليقات: