بحث هذه المدونة الإلكترونية

مرات مشاهدة الصفحة في الشهر الماضي

الثلاثاء، 2 أغسطس 2016

هذه هي الخلاصة يا سيدي!-عادل كامل


قصة قصيرة


هذه هي الخلاصة يا سيدي!


عادل كامل
    قال الثور الذي لا يعرف كيف نجا من المفترسات، في البرية، وفلت من جحيم المستنقعات، وتخلص من وحوش الغابات، وكيف لم يرسل إلى المسلخ، بعد وقوعه في الأسر، ولماذا لم يصبح وليمة، بعد أن وجد نفسه، داخل الزريبة...، بجوار حظائر الخيول، الحمير، والبغال...، في الحديقة الكبرى، قال يخاطب نفسه، بحيرة، من انه إذا كان قد افلح، وتكللت جهوده بالخلاص، فان معنى حياته لا يعدو سوى زمن أضاعه بالهرب من اجل أن يبقى هاربا ً، ليس من الضواري، ولا من المتوحشين من بني البشر، ولا كي يصبح طعاما ً للمفترسات القابعة داخل أقفاصها في الحديقة، بل من نفسه.
    هز رأسه وهو يعيد النظر بما مضى، من انه لا يعرف هل انتصر وحقق الغاية التي قط لم يقترب منها، ولا لامسها، أم إنها ستقع بعد أن يكون قد فقدها تماما ً، وغادر الدنيا..؟
   فدار بخلده: كان حزني قد بلغ درجة انه سمح لي باستحالة أن افعل شيئا ً لأحزان الآخرين…، مثلما لم يسمح لهؤلاء المنشغلين بأحزانهم أن يفعلوا شيئا ً لي…،  فكنت ازداد أسى وأنا أدرك استحالة وجود جسور كالتي كانت تساعدنا على كتمان محننا، بيننا، وكأنها لم تقع ولم تحدث ولم توجعنا، حتى أصبحت بيوتنا الآن التي استحدثناها وصنعناها ليس أكثر من أقفاص تجعل كل منا غير مكترث للذي يكوي الآخر، بل ربما أصبحنا لا نتمتع إلا بمسرات عنيدة  مفجعة وبعضنا لا يرى الآخر إلا وهو يلقى أشنع وأبشع النهايات…، فلا تجد حتى كلمة مناسبة تواسي بها نفسك وأنت تراهم غير مكترثين لموتك ولا أنت مكترث لموتهم وأنت ترى الجميع لا يعمل إلا على إنزال اشد الأفعال خساسة ونذالة ودناءة من اجل غاية واحدة إلا وهي ديمومة كل هذا الذي غايته ابعد من وسائله، وكل وسائله أصبحت وكأنها منفصلة عن غاياته. فهل باستطاعتي أن أخبرك بما يمثله هذا الداء وقد صار هو نفسه واحدا ً منا. فلا نتركه يغادرنا إن لم نكن نحرص على حضوره معنا بوصفه عقارا ً شبيها ً بالزمن لا هو مسؤول عنك، ولا أنت تمتلك قدرة أن تفلت منه.  فالكل ينتهك الكل بالمقدار نفسه الذي يسمح للديمومة أن  تغوينا بالحرص على منحها لغز الاستحداث والامتداد. ألا ترى معي أن لغتنا وكلماتنا منذ البدء ليست إلا هذا  الذي لا يسمح بأكثر من نسج أكفاننا تارة نجعل منها بيارقا ً ترفرف وتارة خرقا ً للغواية، وغالبا ً لا تصلح إلا لتستتر على رماد أجساد طالما تغذت على أشلاء ضحايا استوطنها داء القسوة والتمويه والخداع.
    ابتسم بألم لم يخل من ذعر مكتوم، متمتما ً بأنه لم يفعل سوى الهرب من أعداء اخساء ظالمين جائرين طالما قدر قوتهم بالضالة، والفاسدة، وان ما حدث لا يدعو إلا إلى الرثاء، والتندر. فان تنجو من كلب أجرب، أو جرذ متهتك، أو من ضبع ضال، أو من شرير بشري أحمق، لا يعني سوى انك شاركت في اللعبة، ولكنك لم تكن قد ذقت الهزائم كلها كي تتساوى مع نصرك وأنت تراقب الخراف والدواب والحشرات والقوارض والبرغوث والزواحف توزعت على أرضها، أوكارها، ثقوبها، جحورها، وأزقتها، محمية بالأسوار والجدران والقضبان الحديدية…، فأنت بلغت الغاية بهذا النصر إذا ً….؟
    ضرب الأرض الرخوة، بلا مبالاة، تاركا ً رأسه يستقر فوق حافة الجدار الصخري العازل: انك لم تفعل سوى انك أضعت حياتك بالفرار من الفئران والقطط والجرابيع والجرذان وبنات أوى والثعالب…، كي تجهل تماما ً هل خلقت لتجيد الهزيمة وتعلن  انك حققت الغاية التي وجدت من اجلها…؛ نصرك هذا الذي تراقبه الحمير والبغال والنعاج وهي تتندر تثرثر عن ثور وحيد واهن القوى لا يتمتع إلا بشجاعة الهزيمة، ووسامها!
    رفع رأسه مبتعدا ً عن الجدار والكف عن المراقبة، فقد لمح موزع الطعام على الأجنحة، يقترب منه…، لم يكن ـ هو ـ القصاب، بل موزع الأرزاق، وإلا لكان استنشق رائحة حافات السكين بما تبعثه من رائحة دماء حادة تقطع أوصال القلب وتعزله عن باقي أعضاء الجسد…
ـ تفضل …، اخبرني…، هل سترسلني إلى الذئاب أم إلى التماسيح، أم إلى …
    لم يفهم الآخر كلماته، ولا لغته، ولا هو فهم ما قاله الآخر، فقد دار بخلده إن البهائم والدواب والمواشي والبرمائيات والمفترسات والجوارح اجتمعت هنا، في الحديقة، لغاية يصعب وضع حدود فاصلة بينها، لكن من ذا باستطاعته أن يترجم ما يعلنه الذئب أو الفهد أو النمر إزاء النظرات الشاردة الصادرة عن النعاج أو السحالي أو الحشرات البدينة…، من ذا يترجم لغات كل فصيل للآخر داخل حديقة عرف الجميع استحالة مغادرة أسوارها.
   ابتسم الآخر هامسا ً في محياه بأنه لا فائدة من الترجمة…، فالأسماك تتكاثر لترسل طعاما ً إلى التماسيح، السباع، والدببة…، فهي لا تمتلك إلا أن تهرب…، إنما هي لا تستطيع مغادرة مستنقعاتها، ولا أحواضها، ولا أنهارها…، وصراخها مازال شبيها ً بأزيز الحطب وهو يتحول إلى رماد، فهل ثمة جدوى من ترجمة عذاب الأشجار قبل القطع، أو بعده…، الكل يتعذب. وكاد يجد الكلمات المناسبة  ليخبر العامل بأنه غير سعيد بنجاته من بنات اوى أو من الذئاب، وانه لم يحس بالمسرة انه لم يرسل إلى المسلخ أو إلى مصانع تعليب اللحوم، وانه الآن لا يمتلك رغبة بالدفاع عن نفسه، وتأجيل اجله….
   ابتعد الآخر قليلا ً، ثم ناده، لكن الثور تساءل مع نفسه:
ـ ماذا عساه يقول؟
   وسأل نفسه، أتراه أرسل إلي ّ تحديدا ً…، لكن الآخر، وهو يراقب الثور، دار بخلده أيضا ً عما يضمره الثور، ويخفيه. خار الثور، مقتربا ً منه:
ـ  اعرف انك لا تمتلك إلا أن ترسلني إلى ….
  خاطب العامل نفسه بصوت مرتفع:
ـ ربما لا يتحدث إلا عن المحنة المشركة …، محنتنا جميعا ً، هنا، فهو يخشاني خشية حمل تحاصره الضواري…، أما أنا…، فمن ذا يستطيع سبر أغوار محنتي…؟
   ضحك الثور:
ـ سيدي، لسنا بحاجة إلى مترجمين، ولا إلى ترجمة..، فانا اعرف ما الذي لا يمكن ترجمته…، بل اعرف بالدقة إن ترجمة ما دار بخلدك ليس سوى التمويه…، فأنت لم تكسب إلا خسائرك…، مثلي، ولكن ما لا يمكن الإفصاح عنه سيبقى يمتلك لغز الغواية ذاتها…، انك الآن ترى نصرك تأخذه الريح…
ـ أصبت!
   تراجع إلى الخلف. فناداه العامل:
ـ لا أنت كنت تمتلك رغبة الاستسلام ولا أنا أيضا ً…، كلانا وجد نفسه في الغابة، وكلانا الآن أسير هذه الحديقة…، وقد كان على كل منا أن يمضي حياته هاربا ً بدل أن يدخل معركة هو وحده يعرف أن هزيمتها وضعت شرطا ً لديمومتها! فكان عليك أن لا تفكر إلا باختراع وسائل تنقذك من العدو، ولم يكن العدو ليفكر إلا بالطريقة نفسها، كان قد خلق كي يفترسك،  ويتغذى عليك…، مثلما كان هو يهرب من العدو الذي كان يتربص به، ويطارده…
    عندما شعر الثور بالوهن يدب في مفاصل جسده، وبضعف شديد في سيقانه، وانه يعاني من الدوار، ومن شرود الذهن، حد الغثيان، وان بصره راح يخلط اثر الروائح الحادة بأزيز أسنان فكوك المفترسات الجائعة، قال بإرادة لا وعيه:
ـ   لا أريد أن أموت…!
    سمع الثور كلمات الآخر، فهز رأسه:
ـ بل أنت وجدت لتتذوق نهايتك…، وإلا  ـ اخبرني أرجوك ـ بحق هذا الكون: من اجل ماذا وجدت؟
  همس العامل العجوز بصوت واهن:
ـ  ردك لا ينسجم مع ما عرفناه، يا سيدي، فلو وجدنا كي نموت، لكان عدم وجودنا يسد مثل هذه الثغرة…، فهل تقصد أن الإله العزيز الحكيم المقتدر الجبار خلقنا كي نشقى، ونتعذب، ونفطس في هذه الظلمات…؟
ـ ها أنت عدت إلى أسوء مغالطات الترجمة…، هل تعرف ماذا يدور بخلد الحمار وهو ينتظر متى ينتهي زمنه في الإسطبل، وهل تعرف ماذا يدور برأس الضحية قبل أن تخترق الرصاصة عظام جمجمته…؟
ـ أخبرتك لو كان الإله يرغب بنصر فلا يليق به حتى لو أرسل سكان حدائق هذا الكون كله إلى جهنم…، لأنه ـ بحسب ما تعرفه واعرفه ويعرفه الجميع ـ لا يساوي حبة خردل، أو حبة رمل في سواحل هذه المحيطات اللا متناهية في الاتساع والامتداد !
ـ ها أنت تصل إلى الوهم الذي لا احد يمتلك قدرة على فك مغاليقه…؛ ففي الزمن القديم قالوا إننا نموت كي نذهب إلى المكان الذي لا عودة منه…، واليوم، ها أنت ترى كيف يخترع عباقرتنا أكثر الطرق نعومة وشفافية وسلاسة في التنفيذ …
صاح الآخر:
ـ أصبح كل منا يعتقد انه كسب شيئا ً…؟
ـ تقصد…، أضاع شيئا ً  لا نعرف لم مكث يسرق مصائرنا وأحلامنا…؟
ـ ها أنت عدت تبحث عن الغاية؟!
ـ لا…، لا يا سيدي، أنا مشغول بالأسباب التي أدت إلى إضاعتها!
ـ أي انك تعرفها؟
ـ كلا …، ولا احد عرفها، لكن المشكلة انك لا تجد من يقول إلا غير ذلك…، فالسبع يفترس الغزال بهدوء تام، مثلما يفعل الذئب مع ضحاياه…، ومثل هذا الذي تراه يحدث هنا وهناك: الكل يعمل بالقضاء على الكل…، هذا يذبح ذاك، وذاك يفجر جسده ضد هذا...، هذا ينسف البيوت، والآخر يزرعها بالألغام والثالث يحشوها بالمتفجرات...، هذا يذبح أمه، وذاك يشنق جاره والثالث ينتظر أمرا ً بالهدم، والتخريب...
ـ لا…، لا تسرف في التشاؤم، فانا اعتقد أن الكل يرغب أن يهرب من الكل!
ضحك بألم مكتوم وسأله:
ـ  ربما ليس للنصر إلا هذه الغواية…، محو الآخر…، أليس كذلك؟
ـ لكن الآخر لم يخلق إلا للرد بأقسى ما يمتلك من مكر وقسوة وجور …
هز الثور رأسه:
ـ والآن هل جئت لتنتزع عني جلدي؟!
   أجاب الآخر باستسلام:
ـ  لا اعتقد أن أحدا ً بانتظار تذوق ما تبقى منك!
ـ أنا لم أتحدث عن لحمي، ولا عن دمي، ولا عن عظامي، بل تحدثت عما تركه الزمن لي: جلدي!
ـ آ ….، لا تدعني أقول الحقيقة؟
ـ  بأية لغة ستقولها…، وقد كان كل منا يعرف استحالة ترجمتها، مع أنها لغة واحدة، وليست بحاجة إلى الترجمة؟
ـ إن جلدك  وحده الأكثر فائدة ..، نفعا ً، وربحا ً لهم!
ـ ها أنت تتحدث عن النصر، نصرهم، ولم تتحدث عن هزيمتي...، فكأن حياتي كلها لم أمضها إلا كي تنتهي  باستحالة الحفاظ عليها؟  ألم ْ أخبرك، يا سيدي، إنها هي المحنة  الوحيدة التي كلما نجونا منها وجدناها تزدهر! فأقدام الناس لم تخلق للمشي عارية فوق الأرض...، إنما بجلودنا تحتمي وتزداد أناقة، وجمالا ً...، ولكن ـ اخبرني ـ ما الفائدة منك؟
ضحك الآخر، فأجاب متلعثما ً:
ـ أنا هو من يشرف على هذا المشروع...
ـ أأنت هو الرأسمالي صاحب الشركة العملاقة للمتاجرة بالبساطيل، والأحذية، والجلود...؟
ـ أسكت...، يا ثور!
ـ ولماذا تطلب مني أن لا اصرخ...، أليست الديمقراطية تعني احترام حق التعبير...، في هذه الحديقة الشفافة؟!
ـ قلت لك اسكت...، لأنني أنا هو المشرف على الأقسام والأجنحة الأخرى أيضا ً...، فهناك النمور، وهناك الفيلة، وهناك الثعالب، والغزلان، والأرانب...، وهناك الطيور،  وكلها مواد خام أساسية لتطوير مشروعاتنا العملاقة!
ـ من اجل مضاعفة أرباحكم؟
ـ  قل ما شأت..، فأنت ترى الذئب يرقص سعيدا ًبعد افتراس الحمل، ولكنك لا تعرف ماذا كتم الأخير، وترى الجلاد يقهقه بعد قطع رقبة ضحيته لكنك لا تعرف ماذا دار برأس الأخير...؟
ـ ولكني لست حملا ً؟
ـ ها أنت عدت إلى النسبية..
ـ بل أسألك مجددا ً: ما الفائدة منك، بعد أن يتم القضاء علينا...، ونموت، أليس لتموت أنت أيضا ً، مع انك أكثر وعيا ً منا؟
ـ منكم؟
ـ اقصد أنك أكثر قدرة منا في استخدام أدوات الفتك، وأدوات القتل...؟ 
ـ تقصد أدوات الربح ؟
ـ اقصد الحصيلة، يا أحمق، فانا قد لا اخسر إلا جلدي، حتى لو تحول إلى بسطال بإقدام الذاهبين إلى الحرب، والى المكان الذي لا عودة منه...، أما أنت، يا صاحب السعادة، أيها الزعيم، فستخسر كل ما كنت تفكر انك حصلت عليه...، فأنت تخسر خلودك، أما أنا فلا اخسر إلا وهمي!
هز الآخر رأسه، وراح يخاطب نفسه:
ـ أصبح يتحدث كالضحايا..، كالعبيد، كالرؤوس، كالقطيع...، فهو يريد أن يقول لي: لماذا تحرصون على زيادة أعدادنا، نحن، الفقراء، إن كنا نعاجا ً أو خلايا نحل، إن كنا أسماكا ً أو دواجن أو بشرا ً...؟
ـ لا...، لم يدر هذا ببالي...، فانا تعلمت كيف  لا اترك لك وثيقة لإدانتي كي تسلخ جلدي أمام الدواب، والبهائم...، وتعلق رأسي محتفلا ً بالنصر...؟
ـ ماذا دار ببالك؟
ـ  انك كنت تهرب من الحقيقة الوحيدة التي تجهل إنها كانت هي الوحيدة التي لم تحصل مصادفة!
ـ وماذا لو كنت اعرفها؟
ـ ها...، لن تتألم وأنت تراها تُغتصب منك؟
ـ حقيقة ماذا...؟
ـ حقيقة انك كنت أسرفت باغتصاب كل ما كان عليك أن لا تغتصبه! وحقيقة انك دمرت كل ما كان عليك أن تحرص على تعميره...، وبناءه، وقد آن لك أن تدفع الثمن!  
ـ لمن؟
ـ هو ذا السؤال الذي شغلني طوال حياتي التي أمضيتها هاربا ً من كلابكم، ومنكم، ولم استطع أن أفك طلسماته...، لأنني كنت اعرف إن الإله لن يفرح وهو يراني تحولت إلى محض جلد بأقدام هؤلاء الذاهبين إلى المكان الذي لم يعد منه احد...، وقد صرت أرى المكان ذاته يدعوك فلا تمتلك حيلة أو وسيلة إلا بالاستجابة له، لأراك بلا لون، شاحب مثل يوم مغبر، من غير صوت، وكلماتك تنفصل عنك، فلا هي ترغب أن تنطق بها، ولا أنت تمتلك قدرة التفوه بها...، وحتى لو أخبرتنا بما لم يدر بخلدك فانك لن تجد هناك أكثر من  شرذمة سينثرون ما تبقى من آخر تمويهات حياتك المكللة بهذا الوهم، والمزينة بزخارف هذا السراب...!

28/7/2016

ليست هناك تعليقات: