الأربعاء، 24 أغسطس 2016

فيلم يجسد قصة حب أوباما وميشيل


فيلم يجسد قصة حب أوباما وميشيل

لوس انجلوس- يمكن للأميركيين اليوم مشاهدة تفاصيل المواعدة الأولى بين باراك وميشيل أوباما في فيلميرصد تصرفات الرجل الذي أصبح فيما بعد رئيسا للولايات المتحدة وهو يغازل زوجته المقبلة طوال يوم.

2-159
يتناول فيلم «ساوث سايد ويز يو» تفاصيل أول مواعدة بين أوباما وميشيل في صيف عام 1989، وفيه تظهر ميشيل روبنسون (25 عاما) المحامية القادمة من شيكاغو مع تخرج مع باراك أوباما طالب القانون الذي جاء للتدريب في الشركة التي تعمل بها. وطوال الساعات التي قضياها معا، والتي تصر ميشيل على أنها لم تكن مواعدة، يحضر الاثنان معرضا فنيا ومناسبة عامة، ويشاهدان فيلم «دو ذا رايت ثينغ» (افعل ما تراه صحيحا) للمخرج سبايك لي، ويتناولان المشروبات والبوظة خلال مناقشتهما لحياتهما وتطلعاتهما ومخاوفهما.

2_1-6
وقالت الممثلة تيكا سمتر التي تلعب دور ميشيل «ترى في الفيلم أنهما تحديا بعضهما بعضا.. وتحدثا عن أسرتيهما، واعتقد أن كل هذه الأمور واقعية جدا وفي متناول الناس»، فيما قال باركر سورز الممثل الذي جسد شخصية باراك أوباما في الفيلم إنه بدأ «بتقليد قوي» للرئيس، لكنه بعد ذلك ترك التمثيل وأدى الدور بتلقائية.

وتزوج باراك أوباما الذي بلغ عامه الثامن والعشرين في ذلك الصيف ميشيل في عام 1992.

______
*القبس الكويتية

الأحد، 21 أغسطس 2016

أضواء على العولمة في الأدب.. البروفسورة شميم بلاك-*إعداد وترجمة: لطفية الدليمي

أضواء على العولمة في الأدب.. البروفسورة شميم بلاك

*إعداد وترجمة: لطفية الدليمي

” موسيقى البوب الأمريكية تنبعث من مكبّرات الصوت في شمال إفريقيا، والروايات الهندية صارت تقرأ على أرصفة الطرق الخلفية في مدينة نيويورك العملاقة، فهل صار النتاج الثقافي معولماً كما هي حال سلاسل مطاعم البيتزا والهمبرغر؟”.

بهذه العبارات الاستهلالية يفتتح موقع ( Yale Insights ) الحوار مع البروفسورة ( شميم بلاك Shameem Black ) التي تعمل حالياً أستاذة في الجامعة الوطنيّة الاسترالية ANU حيث قدمت إليها بعد خبرة تدريسية حقّقتها في تدريس مادة الأدب مابعد الكولونيالي Post-Colonial Literature في جامعة ييل الأمريكية المرموقة.
حصلت البروفسورة بلاك على شهادة الدكتوراه من جامعة ستانفورد الأمريكيّة وتتنوّع اهتماماتها البحثية والتدريسية في ميادين : العولمة والأخلاقيّات في الرواية المعاصرة، التنوّعات الثقافية في الأدب المعاصر، الأدب مابعد الكولونيالي في القرنين العشرين والحادي والعشرين، الأدب واليوغا، العدالة والمصالحة الانتقالية في المجتمعات التي خاضت حروباً أهلية، السرديّات الرقميّة وسرديات الأزمات الإنسانية.

نشرت البروفسورة بلاك كتابها المعنون ( الرواية عبر التخوم : تخيّل حيوات الآخرين في روايات نهاية القرن العشرين Fiction Across Borders: Imagining the Lives of Others in Late Twentieth-Century Novels) عن جامعة كولومبيا عام 2010 وتحاول المؤلّفة في هذا الكتاب توكيد فكرة أن الروايات من مختلف بقاع كوكبنا الأرضي في نهايات القرن العشرين كانت تسعى لتصوير شخصيات إنسانية وجغرافيات متباينة اجتماعيّاً دون تنميط جاهز أو مثالية زائفة أو محاولة خلع صفات خارجية قسريّة عليها.

لطفية الدليمي
____________

أختام *-عادل كامل
















أختام *



 الختم الثالث

عادل كامل



[11] الختم: الزوال في امتداده/ أعالي الضجات: الصمت!

     بعد ان يقع الحدث، إن كان إطلاق سراح أو إلقاء قبض، فان النتيجة ستقود إلى أسبابها، على أنها النتيجة التي ستصبح سببا ً، لاستكمال حلقة في السلسلة. فما الذي ميزني، ليس ان أفكر، بل الانشغال لا بالبحث عن الأسباب، في جذرها، بل للحفاظ على الفجر بعيدا ً عن الذوبان في غبار النهار، وضجته، بل ما مغزاه كي اسلك هذا الدرب وليس غيره...؟
    في الثانية من عمري، عام 1949 أو في عام 1950 ،لا اعرف لماذا غادرت الغرفة، على عجل، كي يسقط سقفها بعد لحظة، وتنهار الغرفة! لا أتذكر ملامح وجه والدي، بل مازالت أمي تحدق في ّ بشرود تام. ماذا لو كنت قد اندثرت، ولم امضي عمري  أتعقب هذه الأسئلة كـ: هل يحق للمحدود ان يضع المطلق في القفص، ليحاكمه؟ هل كانت الأسباب الأولى في ذاتها، كي تأتي النتائج، كالعدم الممتد، مكملة لها؟ ما الذي حصدته، وأنا لم ازرع شيئا ً عدا هذا الذي واصل إقصائي من الحصاد!  هل كنت، لو مت، امتلك الدافع ذاته، بالحفر في نتائج الأسباب، وفي المقدمات وقد بلغت ذروتها؟
    لن اعزل وجودي عن أي وجود آخر، أو أميزه. فالذين لم يفكروا، كانوا احد أسباب ان توجد زمرة لا عمل لها إلا الاستئناف. فثمة عدالة ـ كهذا الذي سكن الزمن وكان علة له ولم يصر خاتمة ـ لا وجود لها لكنها شغلت المظلوم والظالم معا ً، فجوة بين العبد والسيد، شكلت الحدود والفجوات، لكن هل كنت استطيع استبعاد لماذا لم أمت، ولماذا، قبل لحظة انهيار السقف، غادرت الغرفة؟!
     في حادث مماثل، نجوت من الغرق، أي انتشلت من الماء في اللحظة الأخيرة. كهذا الحادث، بعد نصف قرن، سيقع لولدي سيف؛ لقد سمعت صوت ارتطام جسم ما بالأرض، وأنا كنت اكتب أو ارسم، فقفزت، مسرعا ً إلى الحديقة. لقد صعقه التيار الكهربائي، وهو يشتغل في مبردة الهواء، وسقط من الأعلى إلى الأرض. لم يمت. لأنني ـ بخبرة مكتسبة ـ كسرت لوحا ً خشبيا ً على جسده. آفاق، تحت شرود شقيقته التي قالت لي: لم يمت!
     مرة، قبل أربعين عاما ً، اختطفت من الشارع. وهكذا طلبوا مني ان أتخلى عن راسي. بشرود قلت: ليس لدي ّ رأس ما يستحق التخلي عنه، لا لكم ولا لأية جهة في هذا العالم. كان التهديد بالموت، يفوق الموت، فهو نتيجة أنني كنت لم اقدر ان اقبع بين الجدران!
     في الحرب، مرات لا تحصى، كانت بعض القذائف تسقط على بعد أمتار، وليس فوق راسي. وفي حادث آخر تم سحبنا من ارض المعركة، وإعادتنا إلى بيوتنا، فنجوت من الأسر، أو من الموت!
   إنها نهايات كونتها أسبابها، وأسبابا ً تممت بعضها البعض الآخر، بمعزل عني، مع أنها لم تكن لتحدث لو لم أكن موجودا ً. فالأخير، ليس حالة، أو وضعية، بل حلقة في سلسلة، فما الذي كان يعبر مكملا ً استحالة ان تكون له نهاية، عندما جعلني ـ ومنحني ـ ان أعيد الحفر في قبر لم ُيشغل بأحد، مع انه سيكون شاهدا ً على موتي.
    مع الشاعر فيصل جاسم، في نهاية عام 2006، في طريقنا إلى آفاق عربية ـ حيث عملنا ـ أوقفتنا مفرزة للشرطة، كانت المهمة معروفة لدينا: الذبح العشوائي، تحت غطاء الانتماء الطائفي. عندما كانوا يجرجرون فيصل إلى الصندوق الخلفي لسيارته، كنت اسأل نفسي: كم الزمن الذي تستغرقه الرصاصة كي تحولني إلى جثة، .! ثم كنت منشغلا ً برؤية جسدي فوق تل من النفايات، كان من الصعب حتى ان ادفن ـ كما يدفن الموتى في الظروف الاعتيادية ـ قبل ان تمزق جسدي أنياب كلاب الليل، وقطط النهار!
     ولكنني أدرك تماما ً أنني لست استثناء ً، فالملاين نجو من الغرق، ومن عشوائية الموت في الحرب، ومن عنف عصابات الرصد، والاغتيال بالسمن أو بالكاتم، أو بغيرهما، ملايين كانوا يعيدون ترتيب ربط النهايات بمقدماتها، لأجل ان تكون ـ أنت ـ سببا ً، لنهاية ما من النهايات، وكأن المشهد عبارة عن وثيقة دوّنتن كي تجري أحداثها بحكم أنها ماض ٍ، عدا الاستعادة.
    الختم ـ أو ذلك الذي يجاور ختما ً أو شبيها ً بالختم ـ يتضمن نهاية عملها صناعة المقدمات. فالميت يخرج من الحي، والحي يخرج من الميت. لكن: ما الموت..؟
    ها أنا المحه، كما لمحت ذلك الذي سكن الزمن، بغياب تام، بجعله حاضرا ً في المشهد.
    قبل نهاية القرن الماضي، بأسابيع، عزمت ان أضع حدا ً لحياتي، بدا ً بحضور أو تكّون خلايا الخلق حتى احتفالات أسياد العولمة بتدمير عالمنا من اجل عالمهم، وسرقة أحلامنا من اجل أحلامهم ـ لكن شيئا ً ما شبيه بنسمة فجر، أو ظل صوت، أو لمسات ومضات، أوقفت موتي!  كي اسمع ـ هل سمعت ؟ ـ أم كان راسي مزدحما ً بالأصوات ـ من يقول لي: لست أنت من يحدد ذلك! فدار بخاطري ـ في تلك اللحظات كما الآن ـ إننا نولد في الحزن، كما حكماء الصين، بل نولد في الخوف، ونعيش فيه، ولن يقتلنا إلا الخوف. كي أتساءل، كما تتساءل الأطياف في لحظات تحولها، اذا كانت ثمة قوى الأكوان غير المحكومة بحافة، تأمل ان انحني إليها، وأؤدي  لها الواجب، فلماذا لن تكون النتائج إلا مشروطة بظلم الإنسان للإنسان، حد اللهو، والانتشاء بمحوه حد العبادة؟!
     هل كان اختياري للأختام، شبيها ً بعمل آخرين لا عمل لهم إلا على دفن مصائر أحفادنا، من اجل مصائر أحفاد سكان قارات أخرى، محض نهاية ستنتهي إليها الأسباب، كي تكون نهايتها دورة في امتداد هذا الذي منحني الخوف، وتركني أراقبه، وأنا لا امتلك إلا ان انجذب إليه، كأجزاء أجزاء ذرة لا تمتلك إلا ان تؤدي دورها بنظام اتساع المديات بين الثقوب السود والبيض والمجرات والكوزرات وما لم اعرفه في هذا الضيق! الم ْ يقل منعم فرات: ما الحياة إلا سرداب خال ٍ من السلالم! وهو يرى ما أراه ـ كيف تندمج المقدمات بنهاياتها  ـ كيف تطبق الجدران على ما كنا نعّول عليه!
     يا لها من حرية ان أرى هذا كله، خال ٍ إلا من (حرية) رؤيتها، أو لمس رفيفها، أو تنفس ومضاتها السابقة على الضوء، والممتدة ابعد منه! وقد استحالت إلى مدى بين المديات، وليس بين الحافات!

    فجأة اقرأ لزميل ـ واحد من 999% ـ  يكتب بأنني طالما كتبت ـ مقدمات معارض أو حول تجارب الزملاء ـ بماعون من الفاصوليا! لن ابتسم، فانا لا امتلك قدرة ان افتح فمي، فانا غاطس في الإثم أنني عشت كي اسمع من يتهمني بأنني لم اطلب الأجور التي استحقها! ما الجحيم، ان لم يكن هذا الزميل ـ مع 999% من الآخرين ـ يحفرون بكل الوسائل مدافن للذين لم تحبل بهم العقيم من زوجها المخصي، بعد ..!
     لأنه وحده ـ مع 999% من الآخرين/ وقد وصفهم سارتر بالجحيم ـ يمتلكون إيديولوجية المحو، تحت لافتات البياض، ومقاومة الرداءة، فاترك أصابعي مقيدة باستكمال حريتها، عذرا ً، باستكمال عبورها من الخوف، كي تكون للحافات حافة تسمح لنا بالحفر في أبديتها، لحظة بين زوال لم يدشن بعد، وبين زوال سابق على حضوره، وحضورنا معه أيضا ً!
     هل حقا ً انها، أيها الجرجاني الموقرـ: " ان لفظا ً لا يدل على معنى هو كالضوضاء سواء بسواء" أم لأنك، لم تصغ، إلا لضوضاء خافتة، لامست رهافتك، كي تأتي وتصغي إلى ما بعد (الضوضاء) لا كخاتمة، ولا كمقدمات، بل كاستحالة ان تجد نظاما ً إلا وقد محانا جميعا ً: أصواتنا/ أحلامنا/ أجسادنا/ وأختامنا قبل ان نراه ينبثق للشهادة علينا، بأننا مُنحنا قليلا ً من الضوء كي لا نرى إلا اتساع مساحات أعالي الضجات: الصمت!
[12] الحاضر مرتدا ً ـ مجهولا ً
       كيف اقهر هذا الهاجس: ما أنجزه ليس حاضرا ً، وليس قابلا ً للبقاء، بل لا أراه إلا وقد عاد إلى (المجهول) الذي بزغ منه، ليتوارى، مع زمنه الوجيز: أما يهرب منه، وأما يختفي فيه؟ كيف اقهر، لا موتي، ولا موت تحول الختم إلى أثير، أو إلى جزيئات لا مرئية، بل عندما تبلغ الإرادة خاتمتها: الصفر! كل هذا ماض ٍ، والحلم، هو الآخر، كالغواية، لا يقول شيئا ً يعّول عليه...؟ فانا اعمل في زمن لا وجود له، وحضوره لم يعد مقترنا ً إلا بالذي ينبثق منه: المجهول. وها أنا ـ مع إرادتي ـ اجهل لغز هذه المقاومة. فاكف ـ لبرهة ـ عن العثور عن سياق، عدا الماضي ـ ذاته ـ  وقد غدا مضادا ً لماضيه. فانا لم يخطر ببالي ان استرجعه، أو احّن إليه، ولا هو فعل ذلك، إنما ثمة قوة ما لا زمنية تجعل الماضي طيفا ً لا يقيّد بالحركة، والأصوات، والمعاني: الطيف اللا بشري، لكنني لم اعد اجر مقارنة بين موتي ـ السابق ـ هذا الذي أنا عليه ـ وبين ما انسجه من حبال لا وجود لها إلا بما يتوارى فيها من أطياف، وومضات، وظلمات كفت ان تتركني خارج مساحتها، لأنني تحررت من الماضي، ومن المرور، وأكاد اعبر نحو الماضي ذاته، وهو يتكون بلغز أبديته، فأدرك أنني اصنع ماضيا ً، وليس جسورا ً، وليس لغوا ً، وأنني غير مشغول بالدفن، أو باستجداء العون، أو طلب المساندة، لأن الختم، ان كان بلا لغز، يكون بلا آخر، وعندما يكون بلا آخر، يكون بلا مفتاح. ها أنا في أعيد الاشتغال ـ بكامل إرادتي ـ بالقفل، تاركا ً موتي يؤدي عمله برهافة!
[13] الديمومة: الختم وضده
    فإذا كنت أميز بين ثلاثة أبعاد ـ الأول ينحدر نحو الماضي، والثاني يتتبع مسارات سابقه، والثالث: ماض مؤجل، وإذا كنت استطيع أن أضع الاسم بحذافيره لجدي/ ولوالدي/ ولولدي/ ولحفيدي، وإذا كنت استطيع أن أميز الصمت في الكلام، وان أعزل الكلمات عن أصواتها، وإذا كنت أميز بين جسد: أمي/ زوجتي/ ابنتي، وإذا كنت امتلك بقايا مقاومة لمعالجة ارتفاع درجة الحرارة، في يوم 14 تموز / 2011 ـ التي بلغت 49درجة  مئوي ـ ، وإذا كنت استطيع ان أرى المرآة تحدق في وجهي بالمقلوب، من اليسار إلى اليمين، وهي تنثر ومضات أجزاء وجهي في وجهي، وتعزله عني، عني أنا الذي طالما حاولت استبدال برمجتي بأخرى، أجد أنني لا امتلك إلا حث خطاي الخفية تتبع المسارات ذاتها، فمن يخبرني بان هذا كله ليس إلا ذبذبات مضطربة، وتصادمات لا علاقة لي إلا بحدود ما يتم تنفيذه، تجعلني لا أتمسك إلا بالوهم الذي سمح لي ان اشتغل للعثور على يقين غير الموت: غير ان اصنع هذه الظلال المائلة، المتوارية أبدا ً، والتي طالما صاغت أسلوبي، وهو لن يستطيع قط ان يذهب ابعد من حافته.
     أتساءل: كيف تمضي الومضات (وأنا أمضيت حياتي منشغلا ً بمراقبتها، من انعدام الأسباب إلى اندثارها/ إلى انبثاقها) ومن ذا يبعد عني الضرورة أو الجبر ليجعلني اصدق مرة واحدة ان الحرية ليست أكثر من علامات للمراوغة، وان الأولى وحدها ما هي إلا ترتيب في الرفض أو في القبول!
    ها أنا أرى كيف تجرجرني أختامي ـ وضمنا ً كلماتي ـ إليها، فأغيب. لكن لتبدأ المسيرة ذاتها التي لا أبعاد أخيرة لها، وهويتها غير قابلة ان تسكن في ختم!
[14] مفارقة:عندما تكون اللاحافات حافة

     هل تنعدم ـ أتساءل ـ المسافة بين من يغتصب ختمك ـ أي ماضيك وما هو سابق على هذا المضي/ وعلى مصيرك، وما هو مكمل له ـ وبين ديالكتيك الكون/ والطبيعة جزء منه ـ بصورة يتم الخلط فيها بين حتميات كبرى، وبين سلوك هو من صنع الاشتباك البشري..؟
بمعنى هل لا جدوى من الحديث عن ذلك اللغز الكامن في لغز (الختم): جمالياته وما يتضمن من تقانات متقدمة في الأسلوب..؟ ولا جدوى من مقاومة كل ما سيأخذ منك بعد ما كنت رايته بحكم العدم..؟
     الوعي يناور. فالوعي ذاته يتضمن انشطاراته ـ في خلايا الدماغ وصولا ً إلى أعماق النفس ـ تارة يقاوم اندثاره، وتارة لا يتقدم إلا ليضع أطيافه فيها. هذا الوعي العنيد بجعل الحياة برمتها تبدو (متحفا ً) كونته البصمات؛ من الجسد إلى الطيف، ومن النفس إلى الروح، يخفق للاندماج بوجود سابق على وجوده!
    إنها ليست مناورة لغوية، مع ان الكلمات لها قوة الموت التي تجرجر الضحية إلى حتفها، انما هي حال وجد الساكن سكنه خارجه. فانا أدرك تماما ً أنني لم اعش إلا كي اشهد كيف لم اعش إلا هذا الذي رايته غائبا ً. وهي ـ بالمناسبة ـ تجربة غير قابلة للتعميم. لأنها ـ كما لكل ورقة كيانها في الشجرة ـ تخص هذا الشديد الخصوصية: النائي، الذي لم يشهد إلا حفلا ً لم يدم إلا بومضات حضوره.
    مناورة تفرق بين من يسرق منك حروفك المدوّنة فوق هذه الورقة ـ الختم الكتابي ـ كما تفرق بين من يغتصب مصيرك، وما توهمت انك صنعته، وبين  ذلك الذي سكن الزمن ـ وسكن خارج مسافاتنا المحدودة. فالأخير لم يغتصب، لم ْ يلوث، لم ينبني علة العفن، أو الخسارات، بل هو أنت كما ظهر الوجود في لا حافات المرايا. الم ْ يتحدث نيتشه عن الوجه في المرآة، المبعثر، والغائب عبر حضور الوهم، إنما ليس لدي ّ مرآة (اجتماعية) و (بشرية) قائمة على مكر ان يمحو الإنسان الإنسان الآخر، لا يسرق أحلامه وأصابعه ورأسه ومصيره فحسب، بل يتمتع بإنزال عفنه فيه كي يحصل على أوسمة تقلب المصائر كافة. فعندما تؤول الأمور إلى لصوص يتحكمون بمعايير الجمال، والحقائق، تكون لا حافات مرايا الكون قيد الشك!
    فهل المسافة واحدة، وهل الجزء البشري المنحدر من مستنقعات العفونة، شبيه بالأصل الذي رايته في قلب الشمس! ليس هذا سؤالا ً للتندر، للأسف، بل مشهدا ً للتاريخ ـ من غير استثناء حد الفجيعة ـ لا يمكن التحقق من حضوره إلا وقد توارى بحكم الشمس، وليس بما صنعته في نظامها العنيد!


تأملات أثناء العمل ـ وقد سبق أن نشرت حلقات من التجربة تحت عنوان: اختما معاصرة.


الجمعة، 19 أغسطس 2016

المركز الثقافي للطباعة والنشر بادارة المبدع‎ ‎ولاء الصواف


‎‎المركز الثقافي للطباعة والنشر بادارة المبدع  ولاء الصواف
 بابل - دمشق - القاهرة
صدر كتاب ( طرائف من الحلة ، مروّيات حكائية ونصوص أخرى ) للشاعر والباحث الاستاذ أحمد الحلي ، الكتاب صدر بـ 277 صفحة من القطع المتوسط ، زينت الغلاف صورة فوتوغرافية لشط الحلة الخالد بعدسة الفنان الفوتوغرافي المبدع عبد العالي الاشتري ..
الف مبارك للشاعر احمد الحلي منجزه الابداعي هذا
يطلب الكتاب من مكتبة المركز الثقافي للطباعة والنشر
الحلة - شارع الامام علي
موبايل
07721472444

07801168410

الخميس، 18 أغسطس 2016

ممرات الزمن-عادل كامل

قصة قصيرة




ممرات الزمن



عادل كامل

     ليس لأن قواه خارت، وفقد قدرته على النطق، وليس لأنه كان يرى النهاية لا مجال لتعديلها، أو مسها، تريث في مغادرة مغارته، بل لأنه خاف أن لا يتمكن من العودة إليها.
ـ ثم هل باستطاعتي العثور على من يصغي إلي ّ...، وقد ضجت الحديقة بالأصوات: خوار ونعيب وثغاء ونباح ورغاء ونهيق وبغام وشحيح وزقاء وضغاء وصفير ومواء ونزيب وفحيح ...، حتى اختلطت عليه الأصوات وصارت متداخلة كأنها تأتي من كوكب آخر، فكوّر جسده النحيل ودفعه لصق جدار الحفرة محاولا ً منع أي محاولة لاتخاذ قرار بالخروج.
ـ فانا بت اجهل من أكون...، مع إنني استطيع استعادة ما حدث لي عبر سنوات حياتي الطويلة...
متابعا ،ً خاطب نفسه:
ـ الم تخبر الأشجار، والصخور، والهواء بما حصل..، الم تخبر الليل والتراب بما جرى...، فمن منحك لحظة إصغاء، ومن استجاب إليك....؟
   وود لو تحول إلى غبار، وكف عن التنفس، وغاب عن الوجود، وكم ود لو تحول إلى جزء من أجزاء المغارة، وتوارى فيها، إنما وجد نظره الكليل يراقب فراغات كانت تتسع، تمتد، وتتناثر أمامه وقد خلت المغارة إلا منه.
ـ من افترسهم..؟
  وراح يسأل نفسه:
ـ من يعلم...؟
ـ ربما هربوا...، ربما اختطفوا ...، ربما صعدوا إلى السماء، أو نزلوا إلى العالم العميق....، من يعلم؟
ـ لا.... ، لم يهلكوا، لم يهربوا، لم ينزلوا، لم يتبخروا، لم يهاجروا...
ـ ربما ذهبوا في نزه..، أو لبوا دعوة، أو ذهبوا إلى السيرك ...؟
ـ يا أحمق...، وهل يحدث هذا من غير استئذانك، أو إخبارك...؟
     عادت الفراغات تتسع  مشغولة بأشلاء رآها متناثرة على امتداد مساحة المغارة؛ أجزاء عرفها برائحتها، لحمها، لونها، عظامها، أصواتها، وصمتها....، وإنها ليست غريبة عنه.
ـ من ذا باستطاعته أن يخبرني بما جرى ...؟
متابعا ً:
ـ ربما يقال لي: لِم َ لم ْ تحم مغارتك...، لم تركتها عرضة للأعداء....، ولم لم تدافع عنها، حد الموت؟
   صمت قليلا ً، وأجاب:
ـ في نهاية المطاف، سأكون انأ المذنب!
     ووجد قلبه ينبض: فانا لم أمت بعد...؟ وشعر بخوف: لِم َ نجوت، بالأحرى: كيف؟ وترك رأسه يسقط فوق التراب الرطب مستنشقا ً رائحة الأشلاء؛ دماء متخثرة لها مذاق عفن مازال طريا ً. وأفاق: حتى إنني لا امتلك إلا قدرة تخيلهم، فلا احد هناك، يذكرني بما كان عليه. مصغيا ً لأطياف أصداء تخاطبه:
ـ لم تصغ لنا..، قلنا لك اهرب..، انج، فر، فالأرض إن ضاقت في مكان فهناك بوابات السماء مشرعة ....!
ـ ها، أتسخرون مني...؟ ثم ماذا افعل في السماء بعد أن تكون الأرض ضاقت بنا، وضقنا بها...؟
ـ الم نطلب منك أن تختار فصيلا ً تعمل معه وتموت من اجله؟
ـ وأنا قلت لكم إني لا اقدر على الانحياز إلى هذا الفصيل ضد الآخر...، فكنت اعمل من اجل الفصائل كلها كي لا تدمر بعضها البعض الآخر وتكون هي الخاسرة وحدها في الأخير!
    بدت الأصوات له مثل كرات وأشكال هلامية تتصادم، متداخلة تجمعت وقد بدت له مثل مرآة، تارة رآها تقترب منه، فيبتعد عنها، ثم تبتعد عنه فيقترب منها تارة أخرى. كان يود أن يرى ملامحه فيها، ليتذكر، وقد خفتت الأصوات وتلاشت لبرهة، من هو تحديدا ً كي يتخذ قرارا ما ...
   فرأى في العتمة ملامح خطوط وهمية لها حافات حريرية في المرآة أجزاء متناثرة فود لو لم تفعل ذلك...، وقال لنفسه مستدركا ً، لكن ما هو ذنبها...، وما هو ذنب انه فكر...، ما هو ذنب الصدى...، وما هو ذنب انه تعلم أن يحفر في التراب آثار أصابعه ...؟
ـ كم مضى علي ّوأنا هنا مثل جثة تتفسخ...؟
   تساءل، وقد لاحظ أن فتحة المغارة بدت له مثل جرح، مثل شق وهمي، مثل فجوة بدت نائية عنه، بعد أن وجد قواه تجمعت داخل رأسه وتكدست فيه، لكنه عجز عن التقدم، وعجز عن التراجع..
   إنما تحولت الفتحة إلى كوة....، ثقب، دائرة، خرم، مضاءة بلون استفزه...، فقد لاحظ حركة ذرات مازالت تتصادم، وتتلاطم، ممتزجة ومتداخلة أنبأته أن الليل انجلى، وثمة ضوء ما له طيف الفضة..!
ـ ما الذي حدث...؟
   جمع قواه للرد على ما خطر بباله: أهي نهاية العالم، أم نهاية حديقتنا، أم نهايتي أنا، أم إنها نهاية فصيلنا ...؟
     لم يجد مبررا ً للعثور على جواب: فمنذ زمن بعيد لم يعد ينتظر ردا ً، ليجد جسده يدّب، وقد دفعه إلى الأمام، نحو الشق، وقد بدا له نائيا ً درجة انه توقف عن الحركة. ذلك لأنه سخر من مرآة وجدها تحدث فيه نشوة للألم: مواساة ساخرة تتناسب مع ما يحدث له.
     ولم يقدر على استرجاع ما رآه، في اللحظة، عدا رائحة ذكرته بسنوات أمضاها، هنا، ؛ رائحة رطبة، وأخرى ندية طالما سمحت له باللعب والرقص أيضا ً.
     ولم يجب. خاف أن يقول كلمة كي يعاقب عليها. وكم ود لو شطر نفسه إلى أجزاء وتلافى التفكير بما حدث، وما رآه...، لعلها تطمئنه بان النهايات وحدها معدة قبل وقوقعها بزمن سحيق، إنما استبعد رغبته بالعثور على آخر ـ غيره ـ يلجمه بكلمة. فما معنى لو عثر على آخر ينجده....، هل يقدر أن يخرجه من المأزق ...؟ ودار بخلده انه إبان عاصفة الجراد رأى المشهد ذاته، كالذي حصل بعد زمن البركان الأعظم، حيث الحجارة وحدها كانت تتساقط حتى طمرت الحديقة بكامل أجنحتها، حظائرها، بركها، زرائبها، حفرها، مستنقعاتها، جحورها، ولم يبق منها إلا ذرات متناثرة شبيهة بما حدث بعد غزو الموتى وما أحدثوه من تدمير شامل للحديقة كاد يمحوها من الوجود. ارتّج جسده لأنه ذعر لو ذهبت الكلمة ابعد من موقعها في الفراغ الذي وحده راح يتسع داخل رأسه، والتقطتها آلات التنصت ذاتيه الرصد برهافتها لمراقبة المشاعر والذبذبات، فهل سيسمح له بالدفاع عن تعبير لم يقصده ولم يغادر خلايا دماغه وحدود جمجمته أبدا ً ...؟ الم يركن في الحجز باذلا ً أقصى جهوده للوساطة بإرساله إلى المحرقة بدل تركه يلقى مصيره في الفراغ..؟  شعر انه تلقى ركلات جعلته يتخثر، ثم يسيل، يذوب، من ثم بدأت يتصلب قليلا ً...، لقد ترك أصابعه تقاوم قوة ما كانت تسحب جسده إليها نحو باطن الأرض، من ثم لا تكف عن التقلص حتى أدرك انه لم يعد يستطيع أن يستنشق ما تبقى من الهواء في فضاء المغارة...، إنما شعر أن الهواء  الذي كان يخترق جسده، من فتحات لا تحصى، وليس من آذنيه، أو فمه، أو أي ثقب آخر، يعمل خارج إرادته، وأوامره، فقد تخيّل انه غدا كائنا ً رخويا ً زود بمجسات تساعده على ألا يتلاشى، ويتوارى مع التراب، والمخلفات.
    لكنه أدرك تماما ً انه تمادى لا إراديا ً في العجز ولكن هذا ليس لإشباع رغباته الدفينة بالتخلص من اللامتوقع، وإنما لأنه لم يعد يمتلك حلولا ً مغايرة تساعده على تجنب النهايات غير المتوقعة. فقد شعر انه لا يستطيع حتى منع الهواء من اختراق جسده ضد إرادته، واستحالة أن يتنفس من انفه، الذي وجده غائبا ً. قال لنفسه مؤنبا ً انه ربما يكون بالغ حد التمويه، والخداع، وإلا فان فتحة المغارة ما انفكت تسمح للضوء والهواء بالدخول حيث استنشق رائحة ما لدنة ممتزجة بعطور الورود والأشجار والدغل باعثة فيه رغبة بالهرولة، واللعب، بل بالطيران.
    انتبه انه لا يتحدث مع آخر، ولا مع نفسه، مما سمح له أن يمد أصابعه في الفراغ: وجدها تتقلص، لا تمتد، إنما تأكد له انه ربما يكون هو وحده لم يعد موجودا ً، وما كان يراه، لا يعدو سوى ما تركه متناثرا ً على امتداد مساحة المغارة، لكنه تردد إذا ما كان يستطيع نفي أو تأكيد انه تحول إلى فراغ، أو غبار، أو إلى أثير، وما إذا كانت تصوّراته ما هي إلا حصيلة الصدمة، وانه في الأخير ليس إلا أطياف ظلال ظلمات.
ـ أأخرج أم لا اخرج...؟
    ففكر من غير كلمات انه إذا خرج فقد لا يدخل، وانه إذا اتخذ قرار البقاء فقد يفقد فرصة البحث عن ملاذ آخر.
   وتساءل من غير أن يوجه السؤال إلى نفسه، أو إلى احد آخر حتى على صعيد الاحتمال، أو التصوّر.
ـ أم أن هذا كله يحدث لأنني لا امتلك إلا ما أراه: ذرات لا مرئية تتجمع من ثم تتلاشى .....، فانا جزء لا يتجزأ من ...
   وجد فمه لا ينطق، فقد أحس بالصدمة اشد أذى، وقد أحس انه لا يمتلك فما ً، جسدا ً، ولا عقلا ً، يقدر أن يدحضه أو يبرهن على وجوده.
ـ فقد لا أكون سوى الحقيقة الوحيدة التي طالما كونتها سلاسل التصادمات، التمويهات، والمصادفات...، فانا موجود بوصفي وجدت قبل الآن حيث لا امتلك إلا الاعتراف بوجود يمتد خارج فناءه، الأمر الذي يسمح لي بالاعتراف ....
    لذ ّ له أن يمتلك قدرة التوقف عن الاسترسال:
ـ فانا موجود بحدود المغارة...، والمغارة موجودة بحدود الحديقة، والحديقة ...
   ثم رفع صوته قليلا ً:
ـ أأخرج أم لا اخرج ...؟
      بألم أحس بالهواء يتدفق من فمه: فانا امتلك صوتا ً...، فانا إذا ً لست إلا هذا الذي افقده ...، فان خرجت أو لم اخرج فالمشكلة تبقى خارج نطاق الهواء...، وخارج حدودي،  بل وبعيدة عن الصواب، وعن الحقيقة. فإذا خرجت ولم اعد أكون كأنني هو الجزء الموجود من العدم! فانا لا امتلك أكثر من هذا وقد راح يستحدثني رغم معرفتي باستحالة إثباته أو نفيه.
   وأضاف بتردد: إنما كنت عشت أزمنة من غير فم، من غير رأس،  ومن غير جسد أيضا ً...، مثل شجرة أو صخرة، حتى إني في ذات يوم أدركت إنني أدب، ازحف، أتدحرج، أثب، أطير، أسبح، أغوص، وأهرول...، ومن الصعب القول أنني اجتزت خطوات نحو كائن يمتلك قدرات التفكير!
ـ فماذا يحدث لو خرجت ولم اخرج...، وماذا يحدث لو تحولت إلى فراغ لا اقدر حتى على إشغاله بفراغ ... وماذا ... لو .. ؟
    قرب أصابعه من انفه ثم تركها تتقدم نحو الفتحة.
ـ فربما أكون أسرفت ...
معترضا ً:
ـ أو هناك من فرض علي ّ هذا التصوّرات...
وأضاف بعد لحظة صمت يسأل نفسه:
ـ ومن يكون... هذا...، أم قد لا يكون سوى أنا هو الفاعل....؟
    غرز أظافره بلحم مؤخرته فأحس بالدم يتدفق قطرات  ...، لزجة، حارة، وانه لم يكن ميتا ً، أو في سبات، وانه لم يكن يرى حلما ً أو داخل كابوس، وانه لا يعاني من عصاب، أو مرض عضال، أو رهاب، بل ـ قال بصوت سمع صداه يتردد داخل فضاء الجحر ـ لا مجال للشك بما حدث ورأى وتلمس بحواسه وعقله وضميره أيضا ً.
ـ فهل هذا كله محض ترددات أطياف لا وجود لها، إلا في رأسي...، ولا وجود لها في المغارة، بيتي، الذي وددت أن أموت وادفن فيه؟
    تقدم خطوات وتسمر عند الفتحة:
ـ أم علي ّ أن استنجد بأحد ما...، قد ينجدني، ولا يدعني أهن، وكأن غياب من كان معي محض وهم..، وسراب، أم ربما ثمة من لا يريد أن افعل ذلك...، وادع ما حدث كأنه اثر لا وجود له ألبته ....؟
    لم يشعر بمرارة الهواء ممتزجة بكلمات صوته، بل شعر بلذّة سمحت له أن يتشجع لمغادرة الحفرة ويخبر نفسه بفم مغلق: إن الحياة مازالت قائمة، حتى لو بدت بهذا الغياب، وبمثل هذا الاضطراب.
    وابتعد قليلا ً ...، تاركا ً جسده يتدحرج فوق العشب، مثل دعلج جمع أشواكه استعدادا ً لمواجهة الخطر، إنما أحس كأنه ولد توا ً، مثل من جنين يرى النور بغتة؛ فرخ لقلق، أو عقاب، أو صقر...، ضاحكا ً؛ فانا ـ وراح يتأمل حافات كلماته تتموج في الفضاء ممتزجة بأشعة الشمس ـ مثل ذئب فلت من الكمين، لا، قال، مثل غزال، أو أيل، أو أرنب، وليس مثل دب، أو نمر، أو فيل.
ـ بدأت تتخبط....
    لأنه صدم بتحول قرص الشمس الذهبي إلى بقعة رمادية ترسل إشعاعات معتمة لها مذاق أشلاء أجساد ممزقة، مشوبة برائحة عفن....، ولكنه أسرع فنفى ما مر بخاطره، لنفسه، مؤكدا ً انه اجتاز المسافة الفاصلة بين الثقب الذي خرج منه، والفضاء اللامحدود الممتد أمامه بلا نهاية.
     صدم، وتلقى الصدمة بهدوء، بعد أن سأل نفسه:
ـ أين .. هي .. الحديقة...، وماذا حدث لها بالضبط...؟
   تصوّر إنها غابت، ولا اثر لها، وليس ثمة أسوار، ولا ممرات، ولا أجنحة، إنما فند تصوّراته وهو يشاهد رأس حيوان طالما التقاه، وبادله أطراف الحديث، واستأنس طراوة كلماته، وسلاستها؛ رأس ثور كبير، اسود ...، وسره أن يرى قرنه يمتد بعيدا ً يسارا ً والى اليمين...، وانه لا يشبه قرن وحيد القرن، المثير للجدل!
   اقترب، واقترب حتى حاذى سور الزريبة، ورفع رأسه قليلا ً؛ انه هو ذاته الذي روى لي ذات مرة.
   متابعا ً بعد لحظة تريث:
ـ حديثه الطويل الشيق عن القرون...، من قرون الحشرات إلى أنياب الفيل، فهو كان مولعا ً بالحديث عنها، حد انه قال لي: إنهم يقدرون على ذبحي لكنهم يعجزون عن تدمير هذه القرون! حتى القصاب الذي كان سلاحه السكين كان لا يقدر على ثلمها!
ـ القرون...
ـ ماذا لدي ّ سواها، وماذا ترك لنا الزمن سواها؟
    ولكن الثور لم يكترث له. فعندما هم بطلب النجدة تردد لأنه تذكر آخر لقاء له معه، بعث فيه الأسى والحزن والكآبة، فصمت، لان أصداء كلمات الثور ترددت داخل رأسه:
ـ فانا لا عمل لدي، يا سيدي، سوى أنز على هذه البقرة، أو تلك...، فتحبل البقرات ...، بل حتى عندما تم أخصائي، لم أتوقف عن عملي، فكن لا يتوقفن عن الحبل...، ولكن ما هي الحصيلة، سوى أنهم يسمنون العجول، أولادنا، ويرسلونهم إلى ...الموت.
ـ أي انك نجوت من السكين؟
   مستعيدا ً أصداء خواره:
ـ كي أواظب على المشاركة في ذبح أبناء جلدتنا، وفلذات أكبادنا، أولادنا، وأحفادنا...! ألا تعد هذه صفاقة تجاوزت حدود الجريمة، حتى لو كانوا له وجدوا لها بابا ً من أبواب الشرعية؟  
ـ أنا اعترض!
   سمع الثور يخور بألم عميق:
ـ هل أطلب منهم قطع رقبة رفيقي بدل أن أؤدي دور القواد؟!
ـ لكنك حافظت على ديمومة نسلك من الإبادة، والاجتثاث، والمحو؟
ـ سيدي، لقد أرغموني كي أؤدي هذا الدور...، رغم نشوته ومباهجه ومسراته الغامضة ...،فثمة لذّة لا توصف لا تجدها عندما تكون مع بقرة! بينما شبح السكين لم يغب عن عينيك!
   وكاد يصرخ:
ـ وهذا  ما حدث لي...
    ثم تجمد الصوت داخل حنجرته، وعندما بحث عن فمه وجده غائبا ً. فاقترب من السور الخشبي، وود لو وثب إلى الأعلى، لكنه انشغل بسماع ذبذبات صمته وهو يدور، فتراجع إلى الخلف، خطوة اثر أخرى، كي يستنشق رائحة كبير الجرذان، وهو يخرج رأسه من الجحر:
ـ آ ....، حسنا ً رأيتك، أيها الحكيم!
   لم يسمع الجرذ صوته، بل انسحب إلى الداخل، فناداه:
ـ سيدي، يا كبير الجرذان، أتعرف ماذا حدث لي...؟
ـ وماذا حدث لك؟
ـ أنا هو من يسألك، وليس أنت من يسأل...؟
ـ غريب...، أنت سألت..، وأنا مازالت منشغلا ً بسؤالك...؟
ـ أي انك لا تعرف ماذا حدث لي...؟
   تذكر أن الثور قال له، قبل أن ينشغل بالنز على بقرة ضخمة:
ـ ما شأني!
   فرأى كبير الجرذان يبتسم:
ـ هذه هي الدنيا!
ـ سيدي، ماذا تقول ...، وأنا جئت اطلب مساعدتك..؟
ـ وما ـ هو ـ شأني أنا...؟
   تراجع، يعالج لا مبالاة الآخر، له، فترك رأسه يدور، وهو يدور معه.
ـ آ ووغااااو غاااا.....
    سمع نعيب غراب يأتيه من القريب، فسره الأمر. اقترب الغراب، فسأله:
ـ أين كنت...؟
   تحسس جسده من الأعلى إلى الأسفل، وقال للغراب:
ـ في الحفرة!
ـ جيد...، كان عليك أن لا تغادرها ...!
فسأل الغراب:
ـ  وأنت أين كنت؟
ـ في العش، في عشي!
ـ جيد، بل هذا أكثر من جيد.
    وامتد الصمت بينهما فترة غير قصيرة، كي يحلق الغراب، مبتعدا ً، وقد توارى. فراح يراقب أعالي الأشجار، ولمح، خلفها، سور الحديقة الشاهق، المتين، كما لمح بضعة غيوم بيضاء متناثرة في السماء.
ـ الحمار...، لم يجب، ولم يشرح، كأنه أراد أن يقول: هذه هي الحياة كما عرفتها، وكما لا يمكن أن تكون شيئا ً آخر...، الحمار...، اجل، سيدي، أنا اعرفها، فلماذا تطلب مني غير ذلك؟ أنا لا اعرفها.
     أصغى ملتقطا ً أصداء نعيب الغراب:
ـ آ ...، لو كانت لدي ّ حفرة!
ـ وماذا كنت ستفعل فيها...، سيدي؟
ـ أغلق فتحتها، وأغلق شقوقها، وأغلق منافذها كافة...، حيث لا أرى أحدا ً ولا ادع أحدا ً يراني!
ـ وأنا كنت فعلت ذلك؟
ـ لا...، أنت أصبحت في العراء...، من غير حفرة!
ـ ولكن، سيدي، يا أقدم من علم أصول الإخفاء، والدفن...، انجدني!
ـ من أنا، من أكون...، كي أنجدك، أيها الغريب؟
  تخيّل انه صار يتجنى على الغراب، فالأخير لم يجب، حتى مع نفسه، فلماذا اتهمه بما لم يتفوه، وبما لم يصرح به؟
   دفع جسده دفعا ً، حتى أحس انه راح يمشي، بدل الزحف، وبدل التدحرج، نحو قفص الأسد، كبير عظماء الغابات، والحدائق. فسأله حمار كان يمر مصادفة بمحاذاته:
ـ ماذا تفعل؟
ـ فقال الحمار:
ـ اذهب...، أرجوك، فمصيبتك اكبر منك!
ضحك الحمار:
ـ يا أحمق، أكثرنا ذكاء ً أكثرنا حماقة! ففي هذه الحديقة اللامعقول يصبح معقولا ً، واللا شرعي غالبا ً ما يصبح هو الحقيقة....!
وأضاف بمرح:
ـ مع انك شتمتني، وأنت تخاطب السيد الغراب، من غير سبب، لكن ماذا افعل وأنا خلقت لا انظر إلى الخلف!
ـ اعرف!
ـ ماذا عرفت...؟
ـ عرفت انك تتمتع بالحكمة، ورجاحة العقل، والحرية!  
أجاب الحمار بهدوء:
ـ بدل أن أتحول إلى تمثال...، واقبع داخل قضبان هذا القفص، كهذا الأسد، الذي لم أره مستيقظا ً إلا في حالات نادرة، فانا طليق!
ـ آ ...، ربما يكون استوعب الدرس!
   قرب الحمار رأسه منه:
ـ لم اعد افهم ما تخفي...؟
ـ سيدي، فبعد أن أسروه، وسلبوا منه البرية، والغابة...، ولم يعد لديه إلا هذا المكان، بحدود جسده، خلد إلى السبات، وراح يحلم! فهو حقا ً أصبح من الخالدين!
ـ آوه...، فهمت قصدك الآن، يا شريكي في الحماقة!
ـ كيف عرفت أنني شريكك فيها...؟
ـ لأنك، بدل أن تعترف بأنهم أنقذوه، تقول إنهم أسروه، وسجنوه، وبدل أن تتحدث عن الحماية والرعاية والعناية التي يتمتع بها تحدثت عن القيود التي كبلوه بها...، أليست هذه حماقة؟
ـ لا!
ـ ما هي..؟
ـ هي حرية تعبير...، سلاسة، شفافية، فأنت، على سبيل المثال، غير مكترث للذي حدث لأسلافك، ولا للذي سيحدث لأحفادك...، فما تسمي هذا ...؟
ـ أطلق عليها الاسم المناسب لردود الأفعال..!
ـ تقصد رد الفعل؟
ـ هذه هي الحماقة؟
ـ غريب أمرك أيها الحمار، تولد وتموت وأنت غير مكترث أن تموت لتولد!
ـ كأنك أنت اخترعت باب الحديقة!
    سمعوا عواء ذئب، فقال للحمار:
ـ اهرب.
ضحك الحمار:
ـ يا شريكي، أين اهرب...، وفي خاتمة المطاف، أما يحملون علينا أوزارهم، أو يتخلصون منا بإرسالنا طعاما ً للذئاب أو حتى للكلاب الأجنبية؟
  فكر مع نفسه: عيب أن اطلب منه العون، واستنجد به...، ولكن ماذا باستطاعتي أن أقدم له...، لو حاولت، فحاله يدمي القلب...؟
   سمعه الحمار، فقال له:
ـ اذهب إلى الفيل، أو إلى كبيرة النمل، فانا أشكرك لتعاطفك مع حالي..، ولكن لا أنت تستطيع أن تفعل  لي شيئا ً، ولا أنا استطيع أن أقدم لك شيئا ً يذكر!
ـ هذا ما دار بخلدي ...، ولكن لماذا يعوي هذا الحيوان...؟
ـ ما أدراني...، وما شأني بأمره...؟
ـ آ ....، أصبحت مثلهم.
ـ ماذا تقصد...؟
ـ لا علاقة لك بما اقصد...، ولا علاقة لك بما حدث...، فلا احد يعرف ما حدث للآخر...؟
ـ وماذا حدث..؟
ـ أنا، على سبيل المثال، وجدت من كان معي في الحفرة...، تحول إلى أشلاء...، أي فقد وجوده، وصار غائبا ً..!
ـ الم ْ يحدث هذا منذ زمن بعيد...؟
ـ نعم، قبل انقراض الديناصورات، وقبل أن تتأسس هذه الحديقة.
ـ لا اعرف!
ـ لا ...، عليك أن تعرف كي تهدأ...، وتكف عن الشكوى، واستجداء العواطف..، أو حتى طلب الغفران، والرحمة.
ـ إذا ً أنت تعرف ماذا جرى لي...؟
ـ لم يكن أقسى مما جرى للبعوض...!
ـ وماذا حدث للبعوض...؟
ـ تم إبعاد كل من نجا من الإبادة، ونفيه، فصار تائها ً مشردا ً ...
ـ جيد! فالبعوض مخلوق مثير للشغب، غير مسالم، وناقل للموت!
ـ ليس للشغب أو للموت، بل للكراهية!
ـ سيان...، فالنتيجة واحدة؛ إنها تحدث التصدع، والحميات، والهلاوس، من ثم الوهن قبيل الهلاك!
ـ أتعرف ...، كنت لا أظن إنني سأعثر على من أتسلى معه...، في هذه الحديقة؟
ـ آ .....، إذا ً مازالت الحديقة قائمة ولها وجود؟  
     طرب الحمار، وراح يضرط:
ـ ليذهب العالم كله إلى جهنم مادامت حديقتنا عامرة!
ـ لك الثناء ولك الشكر.
ـ لمن؟
ـ لا اعرف...، فانا، سيدي، كنت اطلب من يشرح لي ما حدث لي...، ولم أجد. فرحت اطلب العون، فلم أجد...، فقررت أن ابحث عن من يغفر لي...، فوجدتك!
ـ وما شأني أنا...؟
     وراح يراقب الحمار يهرول مسرعا ً مختفيا ً وراء الدغل، فردد مع نفسه: حتى أنت...، يا صاحب العقل، والحكمة؟
  صمت ليسمع الحمار يهمس في آذنه:
ـ الم أخبرك بأننا ولدنا كي لا نفهم!
ـ سأضطر أن أقول لك: وما شأني أنا؟
   وسمع صدى صوت لم يستطع أن يحدد من يكون، فقد جاءه من أعماق المستنقع:
ـ تائه ...، وأخيرا ً أصبحت ضالا ً، مشردا ً...؟
ـ من أنت...؟
ـ وما شأنك إن كنت عرفتني أو لم تعرفني...، فانا رأيتك مثل شحاذ، أو مجذوم، أو هارب من إحدى المصحات...، معدم، تستجدي، تتلاعب بك الريح، وكأنك أضعت طريقك...؟
   هز رأسه باحثا ً عن رد، فلم يجد. قال الآخر:
ـ لو كانت لدي ّ صلاحيات لدعوتك للسكن معنا في قاع هذا الفردوس...، فالرزق وفير، والأمن مستتب، والرخاء فائض.
   وجد فمه يتحرك:
ـ هذا لطف بالغ منك، سيدي، لن أنساه أبدا ً!
ـ وهل تبقى لديك وقت من اجل أن تتذكره؟
ـ حتى لو اختزلت حياتي إلى لحظات...، فهي مسافة، وعلي ّ أن لا أكون جاحدا ً، فانا أرد الفضل بألف! فالكرامة اعز من الكبرياء!
ـ آ ...، حتى أغبى الأغبياء في هذه الحديقة لديه كلمات ذكية!
ـ آسف ...، لم اطلب منك المشورة، ولم استنجد بك...، ولا عناء هذا الإطراء الغريب!
ـ لكنني سمعتك تتحدث إلى غزال شارد، أو نازح، أو مهجر، أو لاذ بجلده...، لا اعرف...، وتقول له: عراك الأذكياء واختلافاتهم تعّمر الحدائق، وتبنيها ...، وعراك الحشرات، الديدان، الجراثيم، تخربها، وتدكها دكا ً، ولا تبقى لها إلا الفراغات! فقلت مع نفسي: ربما للحياة معنى!
ـ أحسنت!
ـ على ماذا...؟
ـ لأنك سمحت لي أن لا أسألك...، وان لا امتحنك...، ولا أن أربك نظام عقلك؟
ـ غريب! كأنك تائهة حقا ً...، مع إن الحديقة برمتها هي جزء من الكوكب الأزرق، والكوكب الأزرق جزء من السماء، والسماء جزء من ضئيل من الكون، والكون هو محض ذرة في الأكوان..، والأكوان ما هي إلا بذور تسبح وتسبّح في اللامحدود ....!
ـ آ ...، كم أنا سعيد بسماع هذا النشيد، لكن، للأسف، الإعصار لم يترك لنا حتى حفرة نموت فيها!
ـ إذا ً فأنت تفكر؟
ـ ربما أكون فعلت كل الموبقات، سيدي، ولكنني قط لم ارتكب هذه الجريمة الشنعاء!
ـ لا ترفع صوتك!
ـ وهل فعلت؟
ـ كيف سمعتك وأنا في قاع الفردوس؟
ـ يبدو إن صمتي راح يلعلع، وتجاوز حدوده، وقد أصبحت فضيحة، بعد أن كنت ضحية! فمن يتستر علي ّ؟
    خر مغشيا ً عليه، وغاب عن الوعي، ثم أفاق. إنما لا يتذكر كم رقد، بعد أن وجد جسده يتدحرج، تارة، ويتقلص ثم يتمدد تارة أخرى، ليسمع كبير القرود يناديه:
ـ اقترب...، اقترب لماذا تتمرغ في الوحل، عيب، فهل حصل لك مكروه، أم أصبحت مفكرا ً...؟
ـ لا ..، أرجوك، ارحمني.
ـ لقد أصبحت تؤدي دور المخلوقات الخالدة!
ـ هذه حكاية لا اعرف كيف لم تفند بعد...، فاسود التراب يحسبن إنهن استبدلن الفناء بالخلود...، وها أنت ترى ما حل بنا...؟
ـ وماذا حل بك...، وأنت طليق، لا احد أعترضك، أو سألك، أو حجزك، أو عاقبك...؟
   صاح مبتهجا ً:
ـ إذا ً أنا بلا قيود...؟
ـ بل أكثر من ذلك؟
ـ أنا أكثر من طليق...،فانا ميت إذا ً...؟
ـ لا، لا يا أحمق، أنت ذهبت ابعد من الموت!
ـ وابعد من الموت....؟
ـ فأنت خارج قفصك...، فأنت أفضل من الأسود، النسور، النمور، وأفضل من الفهود والصقور والذئاب...، فماذا تريد...، وقد أصبحت الحرية ذاتها تخشاك؟!
ـ سيدي، يا كبير القرود، أنا اعرف انك تتمتع بالذكاء الحاد، واعرف انك ليس من مثيري الشغب، والفتن، ومن أعداء البغضاء والعنف، فأنت من دعاة الوداعة، وراحة البال، اخبرني... ماذا حدث لي...، وأين هؤلاء الذين كانوا يعيشون معي، وبجواري، في المغارة...؟
ـ آ ...، لو فكرت بهذه القضبان التي تحاصرنا، لوبخت نفسك يا نذل، قبل أن تسأل مثل هذا السؤال؟
ـ هل أنا نذل ولا اعلم؟
ـ بل أكثر من نذل، فأنت تتجاهل ماذا فعلوا بنا..، وبمخلوقات هذه الحديقة، حتى الحيتان  أسروها، داخل الأحواض، وحتى وحيد القرن لم يعد يمتلك إلا ما يمتلكه الثور، زريبة، لقد ساووا بين التمساح والضفدعة، وبين الزرافة والجرذ!
ـ لكنني لم اعد امتلك حتى حفرة...؟
ــ وماذا تفعل بالحفرة، أم انك جبلت بالعبودية، لا تولد ولا تموت إلا وكأنك لا تريد مغادرتها؟
ـ لست أنا من يفعل ذلك...، هي، يا سيدي، لا تسمح لنا إلا بهذا الذي أصبحنا نعشقه!
ـ لهذا أنا أحسدك، حسدا ً ابيض!
ـ تحسدني على العبودية...؟
ـ يا أحمق، أنت حصلت عليها كمن يحصل على الخلود!
ـ غريب...، أنا لم ابحث عنها، قلت لك، فكيف عثرت علي ّ...؟
ـ هي لم تعثر عليك، ولا أنت عثرت عليها.
ـ سيدي، اخبرني: هل تسمحون لي بالانضمام إليكم...؟
ـ وماذا تفعل معنا؟
ـ وهل لدي ّ قدرة أن اعرف ...؟
ـ غريب أمرك ...، لا تريد أن تعرف انك لا تعرف، ولا تريد أن لا تعرف انك تعرف ...، ثم لا تحلم إلا أن نستضيفك داخل قفصنا...؟ الم ْ تكن لديك مغارة، أهل، ومسرات...؟
ـ نعم.
ـ لماذا فرطت بها...، لماذا أهملتها، ولم تتمسك بها...، لماذا لم تحرص عليها...، ولماذا هربت منها...؟
   هز رأسه بأسى عميق:
ـ كنت اعرف إنكم أيضا ً لن ترحموني....، وكنت اعرف إنكم لن تقدموا لي العون...، بل كنت اعرف إنكم ستسخرون مني...، وتكيلون لي شتى الاتهامات الباطلة، وربما تحاكمونني بذنوب لم اقترفها...، من يعلم؟
ـ أهدأ...، اهدأ .. فالبلايا تعرف أين تذهب، ومن تختار، مثل المصائب لا يفلت منها حتى من أمضى حياته كلها يتجنبها!
ـ إذا ً أنت تعرف ماذا حل بنا، وبي...؟
ـ وماذا أقول لك عما جرى لنا، وللنمل، للزواحف، للثدييات، للطيور، والديناصورات ....؟
ـ وماذا جرى...؟
ـ ألا ترى...، ألا تسمع...، ألا تدرك؟
ـ أنا لا اعرف ماذا حدث لي...، فكيف اعرف ماذا حدث لهم!
ـ انظر ألينا.
  نظر بشرود:
ـ تلعبون، تقفزون، تمرحون، وتتشاجرون بلطف، ومودة...، فانتم تغردون مثل البلابل!
ـ حقا ً هكذا الحمقى يؤولون الحقائق...!
ـ لكنك لم تسمح لي بالانضمام إلى جناحكم، واحتمي بالقضبان، والمشبكات الحديدية...!
ـ اقترب...، أيها الصرصار...، يبدو أن زمنك ولى!
ـ آ ...، الآن إذا ً استطيع أن أخاطبك بأعلى صوتي، إن كان لي صوت: ما شأني بكم!
     وترك رأسه يستقر فوق العشب، مستنشقا ًرائحة مشبعة بمزيج شعر إنها توخز قلبه، فكاد يقهقه، لأنه وجد انه أكثر شرودا ً، فأغلق فمه، وهو يراقب ماء البركة، غير مكترث إن كان الألم هدأ أو انتقل أو وجد مستقرا ً آخر في جسده. فلم يعد يشعر بالرائحة تعمل عمل المدية في القلب، بل أحس إنها ناعمة، تتسلل مع الهواء إلى رئته.
   ولم يصدم برؤية رأس مستطيل له مجسات متحركة يقترب منه، رأس خرج توا ً مبللا ً بالماء الأسود واقترب كثيرا ً منه حتى جاوره:
ـ ماذا تفعل هنا...؟
ـ آ ......، سيدي، أأنت هو التمساح، أم شبيها ً به، أو ظله، أو مخلوقا ً آليا ً، أو ...، لا يهم...، أقول لك: وهل أنا هو الذي أتى؟
ـ هكذا خطر ببالي...، فقد تكون أرسلت طيفك، أو من ينوب عنك، أو...؟!
ـ تعني شبحي...؟
ـ سيان...، اخبرني ..
   تراجع إلى الخلف، فقال متابعا ً:
ـ سمعت انك تنوي الهجرة...، والفرار...، بحثا ً عن ملاذ ...؟
   صدم، لا، موضحا ً:
ـ هذه أقاويل، شائعات، وهذه هي افتراءات العاطلين عن العمل...، فأنت تعرف ماذا يحدث الفراغ....، كي أخبرك، بوضوح: أين يمكن أن اذهب...، وماذا افعل، وأنت تعرف إن الحفرة التي لا باب لها لا يدور في قفلها أي مفتاح!
ضحك التمساح:
ـ أصبحت تتندر على البحار، والمحيطات، وكأنك ارتويت من ماء البرك؟
ـ سيدي ...، أنا ولدت بعيدا ً عن بركتكم الخالدة...، وخبرتي بالماء لا تسمح لي إلا بالصمت. فانا تعنيني الحقائق كما أراها أمامي من غير تمويهات!
ـ لم تجبني...؟
ـ وهل سألت...؟
ـ سألتك: ماذا تفعل هنا...؟
ـ وأنا سألتك: هل أنا موجود كي يكون لجوابي معنى؟
ـ سأفترض إني أتحدث إلى كائن لا وجود له ألبته...، فاخبرني إذا ًهل لوجودك ظل...؟
    انفجر ضاحكا ً:
ـ مع إنني لم أجد وسيلة للبكاء، ولا وسيلة لمعرفة ماذا حدث لي، إلا انك أبهجتني!
ـ أنا...؟
ـ آسف...، قد أكون أنا هو من يتكلم إلى لا احد...!
ـ يا أحمق، كان عليك أن لا تغادر حفرتك...
ـ وهل غادرتها؟
أصبت! فانا أيضا ً لم أغادر مستنقعي!
ـ حسنا ً، سيدي، أرجوك اخبرني: ماذا حدث...؟
ـ آ .....، أنا أيضا ً كنت أظن أن العاصفة شملتنا برحمتها، ولكنها كانت عمياء، فلم ترنا!
ـ أنها لا تبصر.
ـ أتقصد ـ كما قلت ـ  عمياء؟
ـ لا ...، لم اقصد إنها عمياء، ولم اقصد إننا كنا نرى...
ـ ماذا قصدت إذا ً...؟
ـ لو كنت اعرف ماذا قصدت...، لقلت لك، فلماذا أناور وأنت تعرف إن الحقيقة تدحض لعبة المناورات!
ـ أحسنت....، فمن لا يعرف يكون وحده قد عرف! كما سمعتها من عابر سبيل زار حديقتنا منذ زمن بعيد.
ـ عرف انه لا يمتلك إلا القليل الذي يسمح له بالنجاة...، وتجنب المحو...
ـ سيدي التمساح العظيم...، يا سيد المستنقعات، والأعماق السحيقة، يا مغوار، هل تعرف ماذا حصل في الغابة، وماذا حدث في البرية، وماذا جرى لسكان الوديان...، أم انك ستقول: حصل الذي حصل...؟
ـ اسكت!  
ـ لا تورطني...، ففي حديقتنا، لا يحق لأحد أن يذهب ابعد من حدود جناحه، أو يذهب ابعد من قفصه! وها أنا، لهذا السبب، سأعود إلى مستنقعي...، فلا أنا رأيتك، ولا أنت رأيتني!
ـ أمرك...، لكن هل كنت أنا رأيت، وهل كان هناك احد رآني....؟
ـ اقترب.
  اقترب منه:
ـ آه...، لم أسألك: كيف نجوت...؟
ـ آ ....، هل نجوت كي أخبرك ...؟ ولكن قل لي: لِم َ تركوك...؟
ـ عميان! كانت عاصفة عمياء، حملها الليل، مثقلة بالظلمات، فلم ترنا، ولم نرها، نحن أيضا ً.
     هز رأسه متمتما ً: لا أصحاب الشأن لهم شأن بها، ولا الذين لا شأن لهم شأن بها أيضا ً، فالعاصفة مرت...
ـ إن كنت مازلت ترغب بالنجاة...، فلا تثر المزيد من الغبار!
ـ يا سيدي، أن اغرب غرائب هذه الغربة، انك لم تعد تجد حتى الوهم الذي أغواك، كي تدحضه، فلا أنت نجوت من العاصفة، حقا ً، ولا هي تركتك، فهي لم ترك ولا أنت رأيتها، وما عليك، في نهاية المطاف، إلا أن تقول الحقيقة!
     طمأن نظره إن ما سمعه، وما رآه، ليس وهما ً وليس حقيقة، بل وليس منزلة بينهما، فالمغارات تساوت، مثل الحفر، والزرائب، مع الأرض، بعد إن اقتلعت العاصفة الأشجار، عدا أن صورها القديمة مازالت شاخصة، وانه طالما اجتاز الدروب والممرات والمنحنيات نحو المدرسة، مارا ً بالبرك، والحظائر، والجحور، مستنشقا ً رائحة الحقول، وعطر زهور البرية، حتى إن رائحتها مازالت حادة...، إنما علاماتها اندمجت، كأن نيزكا ً ضربها، أو تعرضت لزلزال، أو بركان.
ـ أخبرناك بان الهزيمة ليست هي نهاية الرحلة، والموت ليس خاتمة الدورة...، ربما هي نهاية شوط، أما ما لا يمكن قهره فهو الذي عليك أن تتبع خطاه...!
ـ فعلت ذلك...، وهذه هي الحصيلة.
ـ لم تفعل ...، فها أنت تستجدي، وتكاد تستنجد، بل وتتضرع، بهذا أو بذاك...، فأنت مازالت تتسول...!
ـ ولكني لم اعد امتلك حتى الهزيمة كي أميز أهذا الذي أراه هو حقيقة وهم، أم وهم حقيقة، أهذا إضاءة ظلمات، أم ظلمات إنارة، أهذا هو ما قبل الهزيمة، أم ما بعدها....؟
ـ كأنك لم تختر، في النهاية، إلا الذي كان عليك أن لا تختاره؟
ـ أنا اخترت مغارتي، فماذا افعل من غير مغارة...؟ وها أنا افقدها. لقد سلبوها مني حتى القبر الذي حلمت أن ارقد فيه لا وجود له، وصار وهما ً، ظلا ً، فكل من اسأله يقول لي: ما شأني....، كأنهم جميعا ً ملائكة رحمة، حكماء، وكأنني أنا الوحيد الشرير، صانع الآثام، ومقترف الخطيئة!
ـ من هم...؟
ـ وكيف اعرف من هم...، وأنا أتخبط لعلي أجد من يقول لي كلمة لا تعمل عمل الخنجر في القلب، ولا تعمل عمل الجذام في روحي، ولا عمل الأهل بالأهل، والجار بجاره، والحديقة بسكانها.
    وشرد ذهنه، ليجد انه يقف لصق تمثال مهدم، بلا ملامح، فلم يكترث إن كان هو ذاته الذي كان قائما ً لسنوات طويلة، أم قد شيد حديثا ً، وتعرض للهدم..؟
    وانتابه إحساس انه لم يعد يجد علاقة معه، مع انه لم يخاطبه مباشرة بعد ان خطر بباله ان يفعل ذلك، ساخرا ً انه قد يكون هرم، أو فقد ذاكرته، وان إضاعة الوقت لن تفضي إلى خاتمة لا تثير القلق. فانا أصبحت أتدحرج، بمعزل عن جسدي، فالأخير غدا غريبا ً عني، بعد ان برهن ان من التقيتهم لم يكونوا أفضل مني.
   وانتابه ذعر جمّده فتكوم لصق بقايا جسده بالقاعدة حتى ان سربا ً من الإوز مر لم يكترث لوجوده، بعد ذلك مرت سحلية بحجم فيل، هي الأخرى، لم تلتفت له. إذا ً ....، مستنتجا ً انه قد يكون عزل تماما ً عن الجميع، بعد عن فصل عن نفسه. فهو ـ دار بباله ـ لم يعد مهتما ً بما جرى، وما يجري، فهو لم يعد يفكر بضرورة وجود حفرة، أو حتى مغارة، كي يستعيد كيانه. فانا أصبحت طليقا ً كهذه الأشجار...، مصغيا ً إلى قلبه ينبض وفق عمل الأجزاء الأخرى...، وسأل التمثال:
ـ  فلو لم يكن لك هذا الحضور...، فماذا يعني حضوري؟
   وتمتم بصوت ناعم:
ـ فانا جزء منك، ولكنك لا تبدو راغبا ً ان تكون جزءا ً مني؟
     وشعر انه لم يعد يقدر على مقاومة رغبة بالبكاء، والعويل. لم يبك. تجلد:
ـ لكن هذا لن يدوم إلى الأبد!
      ولمح قطعان من الجراء تهرول، خلف طابور من الماعز، والخراف، وثمة جرذ يزحف مثل تمساح:
ـ إلى أين...؟
   لم يرفع صوته...، فلا احد شعر بوجوده.
ـ أأنا مريض...؟
   مصغيا ً إلى نملة تدب لامس صدى صوتها بصره:
ـ اقتربي...، أتضرع إليك.
     ووجد انه يبذل جهدا ً كبيرا ً في جذبها للحديث معه، وهي تراقبه، حتى وجدها تومئ له بالتريث:
ـ سأنتظر ...، فقد أجد خيطا ً يدلني ..
ـ أأنت جاد؟
ـ اسألي هذا التمثال لزعيمنا الخالد!
ـ دعك منه...، لو كان يستطيع الهرب لفر، ولما قبع أمامنا ساكنا ً مثل صنم!
  وأضافت:
ـ ثم انه مشغول بأداء دوره.
فسألها:
ـ ما شأنك بدوره، وهل سألتك عن هذا الدور...؟ ثم ما شأني أنا ...، الم ْ تقل انك جاد بالعثور على خيط، محض خيط.... يوصلك إلى ...

ـ حتى لو كان وهما ً، وحتى لو كان من حرير العناكب!
ـ حسنا ً..
   كاد يصرخ، فقرب رأسه من النملة مصغيا ً:
ـ تتبع هؤلاء...، واحشر جسدك معهم، لعلك تصبح واحدا ً منهم...؟
ـ سأفعل...، ولكن من هم هؤلاء...، وماذا يعملون...؟
ـ هم، هم، هم، لا شأن لك بعملهم، وماذا يفعلون...، فهم يؤدون آيات الولاء لشجرتنا الكبرى، أمنا الأولى، أم البرية والبحار..
ـ آ ...، عدنا إلى العصور المجيدة، والى الزمن الجميل.
ـ لا اعرف...، فلا فائدة من هذه المعرفة، المهم أمش خلفهم، وصر واحدا ً منهم... لعل أمنا الشجرة الكبرى تستجيب لك، وترضى عنك، بعد أن تقبل توبتك، واستغفارك..؟
ـ لن أنسى معروفك معي، أيتها النملة، حتى أخر يوم لي في هذه الحديقة.
وسألها فجأة:
ـ بالمناسبة، من أنقذ حياتك، .....؟
ـ آ ...، هذه حكاية بالغة التعقيد.
ـ حسنا ً...، ولكن لماذا لم تذهبي معهم، لتحصلي على الخلاص، والرحمة، والنعيم؟
ـ وهذه حكاية أكثر تعقيدا ً.
ـ فلماذا اذهب أنا....، فقد أكون اخترت الدرب غير الصحيح، كالسابق....، مع إنني لم ارتكب ذنبا ً، أو خطيئة، أو فحشاء، أو معصية، أو ... فقد أعاقب بعقوبة اشد من هذه مرارة، فأتحول إلى تمثال، أو أمزق، واسحل، أو ترمى جثي إلى الضواري، وتتعفن مع النفايات...، آنذاك قد لا استطيع حتى الفرار!
ـ آ ...، مسكين، الآن عرفت انك تحاول معرفة ما لا احد يعرفه، ومعرفة ما عليك أن تتجنب معرفته!
ـ صحيح...، ولكن لماذا انشغلت بالسير في هذا الدرب الموحش...، المظلم...؟
ـ وهل باستطاعتي أن اعرف، ثم ما شأني بذلك؟
ـ آ ...، حتى أنت ِ تتخلين عني.
ـ أنا لم أتخل عنك، أنت تخليت عن نفسك.
ـ لا قسما ً بأمنا الشجرة أنا لم افعل ذلك، ولكنني فجأة لم أجد لدي شيئا ً، لا أهلي، ولا حفرتي، لا نفسي، ولا حتى القبر الذي سأستقر فيه!
   صرخت النملة:
ـ لا تجدف...، فأمنا الشجرة قد تتألم، ويؤذيها هذا الكلام، فلا تغضبها.
    التصق بالقاعدة، حتى غاب عنه الوعي، للحظة، وأفاق:
ـ من أنا كي تغضب علي ّ أمنا الكبرى، أم الحدائق، والبراري، والغابات، والحدائق؟
ردت النملة، قبل أن تتوارى:
ـ وهل باستطاعة نملة، مثلي، أن تكون أكثر من نملة، لم يبق من جنسها، إلا شراذم نمل تائهة هنا، وهناك...، بعد أن أصبحت ابحث ولا أجد من كان معي من الأهل، والجيران، والعشيرة؟

ـ أكان عليك أن تخرج ...؟
     وجد السؤال يوخزه كسكين راحت تعمل في جسده، يرن، مرا ً، لولبيا ً، مشاكسا ً، وقد راح يشاهد مجموعة أشكال متلاصقة تبرز أمامه، شبيهة بالتمثال السابق: ساعات واحدة ذات شكل مربعة، وأخرى مستطيلة، وأخرى دائرية، ورابعة لم يرها جيدا ً، وخامسة بدت له مثلثا ً.....، ساعات سمحت له أن يبحث عن نفسه:
ـ لا احد...، حتى لم اعد فراغا ً..!
    فأحس بذرات لا مرئية تخترق كيانه، وتركها تصدر صوتا ً ناعما ً شبيها ً باللحظات التي تسبق بزوغ الفجر، آ ...، فقد تحول الصمت إلى بذور محاطة بشبكة نسجت عشوائيا ً ـ رغم وضوح خطوطها ـ حتى أحس انه تحول إلى كيان تناثرت جزيئاته، وراحت تتموج، وتتصادم، لا إراديا ً، داخل تلك الأشكال. ربما هذا هو الذي كنت ابحث عنه: الزمن..؟ مع انه سوى أجزاء لا مرئية راحت تتناثر من غير ضجة أو أصداء، ومن غير حركة أو ألوان.
    وأعاد تأمل الساعات، ليسأل نفسه:
ـ أين أنا...؟
    اختفت الأصوات، والألوان، والروائح تماما ً، مثلما وجد انه فقد ما كان أحس به، فلم يعد حتى طيفا ً، ولا شبحا ً. فدار بخلده، انه ربما يكون فقد الذاكرة تماما ً، وان ما حصل لم يحصل أبدا ً. فالساعات بدت له مثل غيوم كفت عن الحركة، ومثل بقايا جدران، كأنها حجارة مكومة، مثل أطلال مدن مندثرة: وجوه تحولت إلى مربعات، دوائر، ومثلثات...، لا ترن، عدا أن عقاربها ذكرته ببقايا وجوه تحجرت، تجمدت، تخثرت، حنطت: آ ......!
ـ لكنني أكاد أتذكر هذا كله....
   ليجد انه راح يبحث عن لا احد، حتى الساعات تلاشت، عدا رائحة حادة سمحت لأصابعه أن تعمل بمعزل عنه، وراح يراقبها:
ـ أكان عليك أن تترك حفرتك...
ـ من ...؟
ـ كيف تقول لا احد...؟
   حدق في الفراغ: عرفتك! فأنت اللا احد الذي وجد قبل إقامة هذا النصب، نصب الساعات الحجرية!
ـ ما عليك إلا أن تستجمع قواك..، فأنت تستطيع أن تتذكر، تستطيع أن تستعيد لحظات الفجر....، فانا هو من كان يوقظك...، عند الفجر...، فتستيقظ، ثم تغادر مغارتك، ذاهبا ً إلى البركة، عبر ممرات الغزلان، منتشيا ً بالإصغاء إلى تغريد البلابل، ورائحة العشب، ورذاذ الماء....
ـ تذكرت ..، تذكرتك.
ـ خلت هرمت، أو أصبت بداء النسيان، أو أصابك الكبر، وغدوت عظيما ً؟
ـ لا، لا لم اهرم، ولم افقد الذاكرة، ولم أصبح بداء العظمة...، فانا لم انس فضة الفجر!
ـ فانا هو من كان يخبرك بنهاية الليل، وبدء نهار عمل جديد!
ـ آ ...، الم تكن واحدا ً منا...؟
ـ تماما ً.
ـ ثم لم اعد أراك...، أين ذهبت...؟
ـ استبدلوني بهذا النصب...، فانا أصبحت وثنا ً!
ـ آ ...، أيها البلبل، غرد؟!
ـ واآسفاه....، لم تعد تراني..، أرجوك، انظر...، ألا تسمع صوتي...، فانا هو من أنقذته من الموت؟
ـ من... آ ...، تذكرتك، عرفتك، أنت هو ساعة الكون.
ـ أحسنت...، أنا رفيق طفولتك، وصباك، و....
ـ اقترب، أرجوك، اقترب.
ـ لا استطيع...، فأنت تعرف ما حصل لي، وما حل بأهلي، وبيتي، وبلادي!
ـ الم تقل إنهم أقاموا لك صنما ً، تمثالا ً...، أو وثنا ً، أو نصبا ً...؟
ـ لا، بل أنا هو من أصبح هذا الذي تراه: نصبا ً، فهذه الساعات...هي...زمنك!
ـ لكنها لا ترن...، لا تعمل...، كأنها شاخص قبر؟
ـ لا تكترث..، هذا هو ما جرى علينا جميعا ً..، فالحديقة لم يعد لها وجود!
ـ أرجوك....، اقترب.
ـ إن اقتربت منك كثيرا ً فستفقدني...، فدع هذه المسافة بيننا كي لا تنساني.
ـ إذا ً فأنت أصبحت خالدا ً...؟
ـ دعك من الكلمات، وما تتستر عليه، وتخفيه، وتموهه...، فانا هو أنت!
ـ تقصد: أنت ... هو ...أنا ...؟
ـ قل ما شأت، فانا هو أنت، وأنت هو أنا!
ـ تماما ً!
    ودار بذهنه: لا احد.... فالزمن تجمد في نصب، مع إنني لم أر نفسي من قبل، كما أراها الآن: لا احد سوى فراغات متصلبة، تربض فوق قاعدة، عند سور الحديقة الخلفي.
   تراجع خطوات، تبعها بأخرى، مصغيا إلى صمت الساعات، وتوقف عقاربها عن الحركة.
   مخاطبا ً لا احد:
ـ الآن استطيع أن أقول ...، أن أقول بثقة: ما ـ هو ـ شأنك ـ أنت .... ، بهذا الذي طالما كنت تراه لم يغادر حياتك، فما شأنك بمصيرك، فأنت لم تعد مسؤولا ً عنه.
ـ  وهل كنت تستطيع أن تكون....؟
12/8/2016
Az4445363@gmail.com



قصص قصيرة جداً-نهار حسب الله

قصص قصيرة جداً
نهار حسب الله
1.    صحوة مدفون

يداهمني هاجسٌ غريب، يهشم أصنام سكوني، ويعطل أفكاري كلها..
يطالبني بالقناعة والأعتراف بما لا أصدق ولا أستوعب، يحاول إيهامي بين الحين والآخر بامكانية صحوة المدفون ولو بعد حين..
إلا انه هجرني عمداً وتركني أرمم أصنامي بعد ان رصدني وأنا أكفن ضميري بوشاح أسود واجهزه لسبات عميق..

2.    غريق

هزّي سكوني، وأذيبي جليد صمتي.. لملمي بقاياي من على جسدكِ الصنوبري؛ وأحتفظي بها في صندوق الذاكرة المهمل..
اغمضي عينيكِ وتأمليني مسافراً، تائهاً، ضائعاً بين موجات البحر.. وإياكِ ان تفتحي جفنيك على عجل، لئلا تطفو جثني ويتهمك الناس في غرقي.

3.    حاجة

ليست بي حاجة الى كتاب تاريخ يقطر دماً ويحشد فكري بالعنف والتطرف..
لا أحتاج الى أكون شيخاً او عالم فقه لأتخذ قراراً يتسم بالعدالة..
لا أبحث عن حرية شكلية بقدر ما افتش عن رغيف الخبز..
لا أتمنى ان اكون شهريار في عالم لا يقدس حكمة شهرزاد..
لا أود التشبث بالحياة كما كلكامش في زمن مشابه لزماننا الميت..
لا أرغب بوطني ان يكون مقبرة وإنما اتمناه جنة واعشقه انتماء..
يا اصدقاء لا احتاج الكثير من هذا العالم المشبع بالتكنولوجيا، لكني اتوسل بمن يساعدني في البحث عن انسانيتي الضائعة.. 

4.    هوية

في بلادنا العربية فقط..
لا مجال لأن أكون ثرياً إلا إذا أصبحتُ مسؤولاً..
وإذا أردتُ طرق أبواب المستقبل عليّ أن أغتال أبي لأكون أبن شهيد، أما إذا بحثت عن الهيبة وحاولتُ رؤية الخوف والخضوع في وجوه كل من حولي؛ فذاك أمرٌ لا يكلفني إلا رداءً دينياً وبعض الأحكام الرجعية.
أما إذا رضيت بقسمتي كمواطن بسيط فعليّ أن لا أنزعج من وصفهم لي (كلب ابن كلب).. 


5.    إحياء حلم

لا أستطيع تصديق فلسفة حياة أخرى ما بعد الموت، لأنني وببساطة متناهية لا أطيق تحمل حياة ثانية تفترسها التعاسة كتلك التي أعيشها الآن..
وعلى الرغم من كوني ليست مُرغماً على الإيمان بما لا أعتقد، فقد عملتُ على إعادة برمجة الفكرة في رأسي فوجدتني أتمسك بها وأصدقها بشدة، عسى أن أتمكن من إحياء أحلامي الميتة.
6. إعلان

عرضت نَفسها للبيع مستخدمة أحدث وسائل الاعلان الحديث.. واستعرضت مواصفاتها الجمالية كلها، جسد ممشوق خالِ من السمنة، وعينان كحليتان واسعتان، وشعر ليلي منسدل، وأسنان بيضاء زاهية، وشفاه بطعم التوت البري..
وسرعان ما تجمهر الناس من حولها وابتدأ المزاد بأسعار خيالية ظلت تتصاعد حتى صار الكلام بلغة الارقام الثقيلة..
من دون ان يدرك اي من المزايدين لهجة الاعلان الخداعة، التي لم تتطرق لحياتها وانفاسها ونبضات قلبها التي لم تعد تعمل!.

ملكةٌ من عنبر- كوثر الساير

شعر
ملكةٌ من عنبر



   
عُريي حمامة ٌ وجلة
تبحثُ عن نافورةِ ضوءْ
تشرق المرايا بتضاريسِ الولهِ
داخلَ الغرفِ الموصدة
وفي الخارج
تتربّصُ بي عَتمةٌ لا تهادِنْ
أُغمِضُ عيني ,
أراني هناك
في ثنيةِ الزمنِ البعيدْ
ملكةً من عنبرٍ
تلفّني ذراعُ الشمس
أمدّ يدي لأُمسِك هذا الاوانْ
أُناديكَ ,
يرتفعُ كالأشجارِ صوتي
نَسغاً نحوَ الحقول
هاتِ فمَك واحللْ
عقدةً من لسانِ المحالْ
هات يديكَ
لنرقصَ رقصةَ عاشقين
يُضئُ ظلّانا ظلامَ المعابدْ
يعلو ازيزُ اختمارِ الكرومْ
في جرار البيوتِ البعيدة  
 



الحكاية من الداخل-برهان الخطيب

الحكاية من الداخل



   
عن سوء أدب أو غيره يرفع بعض أهل البلد إصبعه الوسطى أحيانا نحو وجه مهاجر، في طريق، بار، أو حديقة. تطوف تلك الإصبع مكبرة لي في حلم، كذلك قرب مبنى النادي، قبيل محاضرة ألقيها بأمسية أدبية، تنتهي وضجر يلاكمني بقفازات غير مرئية، جولة عاشرة أو عشرين.
بعدها نذهب ثلاثة فرسان للعشاء في مطعم شرقي متواضع، عودتي من غوتنبرغ جنوب غربي السويد إلى شقتي في ستوكهولم وشيكة، أفكر ونحن ندخل المكان الدافئ: يمكن كتابة رواية حول تلك الأصبع، ورواية أخرى حول لماذا نحن ثلاثة، وأخرى حول ضجر في فردوس، وجزء آخر أكبر حول لماذا نحن هنا، تفاصيل وافرة تتراكم، رغم دفنها عميقا كنفايات نووية تطل من صمتنا عاليا ونحن نجلس، منذرة بإشعاع أو صخب لا ينتهي عند مائدتنا.
يتردد رافد حين يسأله زميله: مَن يذهب لجلب الأطباق؟ في العيون خوف من دس سم في طعام، لما يزل الكثير حولي أجهله، يطلب رافد من زميله لو يخدمنا، ويمضى الرجل شبه مرغم. ونسكت ينظر أحدنا إلى الآخر..
في السماء خارج قفص المطعم الزجاجي يهدر رعد، يتدحرج دمدمة عفريت فوق الرؤوس منزلقا إلى البحر، تبتلعه الأمواج غير مسموعة هنا في صمت.. في هدوء.. يستفسر رافد مروضا نبرته:
ـ طالما نحن وحدنا.. تسألني عن شيء؟
يتجاوز التحفظ، أبقى في ترقب:
ـ لا. تريد أنت أن تسألني؟ تفضل..
ـ شبعتُ من الهمس في أذنك منذ وصولك غوتنبرغ.. وأنت صاموت لاموت!
أتناسى معلومة وأخرى تضايقني، تحضرني ذكرى أتصورها طريفة:
ـ عام 1963 حدثنا أكرم الحوراني في بيته بالشام أنه سأل عبد السلام عارف بمصر بعد ثورة تموز، وناصر قربهما، لماذا أنت ساكت؟ رد عارف عندي خطاب مهم اليوم. لامه الحوراني: وشو يعني، خايف يخلص الحكي، نجيب غيرو!
يلتفت رافد إلى الزميل هناك قرب منصة الشواء:
ـ وخطابك للأمسية انتهى وحكينا ما يخلص.. وحضرتك سكوت.. قلة ثقة؟
ـ لا أسرار عندي رافد.. الرواية خزانة أسراري.. تدري.
ـ لكلٍ سره.. حتى روائي ملعون خصب سرده..
عيناه في عينيّ، تفصلنا المائدة الصغيرة، عنده الكثير يثير شهية السؤال، كذلك عندي له، نفضّل الصمت، لا نصل بالكلام إلى مكان غير الذي نحن عليه. يرد جامد الوجه تحية بعيدة، يتمتم سابرا خفايا:
ـ معارفنا بدءوا يقولون صرنا نتشابه.
ـ فعلا.. كلانا دبدوب.. شيبوب.. حبّوب.. من نفس المدينة والمدرسة..
ـ يقصدون بالأفكار.. لا بمظهر.. ولا بمتوسطة وغيره قبل ألف عام..
أكرر ما كنتُ قلته: يفكر الناس بطريقة متشابهة يصلون نفس النتائج..
يتلصص من تحت أجفانه المنفوخة:
ـ سمعت هذا منك قبل التحرير، بزيارتك الأولى غوتنبرغ، حينه ذكرتَ كلمة صحيحة بدل متشابهة الحالية.. ثالثة لا يريدون.
لا أسأل مَن لا يريد زيارة ثالثة، ولا لماذا.. ذلك واضح.. فيلم جديد إخراج قديم!
يتلفت بطيئا: يريدون كشف مَن أنت حقيقة.. لمعرفة كيف التعامل معك لاحقا.
أعاتبه: عدة كتب آخرها عن الغزو غير كافية للمعرفة.. أنا أيضا لا أعرفك إذاً!
يوقف نظرته عليَّ: الأفعال أهم من الأقوال. معرفة العمق مهمة. أنت في النور.
ـ وأنت في الظل دائما؟.. على أيهما تعتمد بورصة المخاخخات الدولية!
ـ على كل شيء.. لا تختبرني في اختصاصي.
بعد قليل يستفسر: أنت جاد بفكرة استقرارك في بيتكم القديم ببغداد؟
ـ الحجر المقذوف إلى السماء يعود إلى أرضه أخيرا..
في حزنه المقيم يواصل مبارزة عقلية: نعرف كل شيء عنك، حضرتك صموت، سوسو بوسو هناك تدعوك؟ الآن حتى البيوت زجاجية لا فقط جسورك، والآتي هناك ربما أسوأ من حرب. إنما أفهمك، الوحدة منهكة، غير طبيعية، أنا سافرت إلى ليبيا وجلبت ابنة أحد رفاقنا زوجة لي.
أتناسى دهشتي لعلمه بمشروع سفري إلى "سوسو بوسو".. استغرب:
ـ ما عرفتني على حرمتك!
ـ كانت حاضرة في الأمسية.. بالصف الخلفي.. هي حزينة دائما.. مثل قلبي.
أتوجس الأعماق مثله لكن في مزاح:
ـ غير الطبيعي طبيعي في وضعنا.. حتى تحوَل رفيق لمثابرات..
يرمي هو أيضا عصفورين بحجر:
ـ مخاخخات مثابرات مخابرات..بالتنازل انسجام..
ـ لا شيء بقى لتنازل رفيق رافد. كل العراق خسر.. شيوعيين بعثيين إسلاميين ليبراليين.. وأنا وأنت.. دقي يا موسيقى!
ـ قريبا ترى بعينك، بوسو هانم تنوي ركوبك، أبطالك هناك يفكرون في قتلك، تضطر لتنازل آخر، تبقى تراوح هنا بالسويد، تستمتع بغربتك، بجهنمك.. تعبيرك.
ـ لمضايقات من قوى عنصرية وخفية.. وإلاّ هي نعيم.
ـ العنصري مكتّف والخفي مكثّف يغيّر العالم والمثقف مثلك يشكو دائما..
ـ تغيير لمصلحة ابن البلد أو لسرقته؟ بحرب أو بتنمية؟ لتأورب أو تشورب؟
ـ تبعث رسالة إعجاب لأوربا؟!
ـ تقرأ أفكاري.. أو تلك أفكارك يا نائبا عن حالي وخالي؟!
ـ بل أغنية. معظمنا يميز مطلعها.. يا غربة في خيالي.. من مقديشو.. لمالي!
ـ سيد رافد بعد الهجع أراك تطرب.. لكل أنواع العزف.. حتى التانغو!
ـ الكشف لا العزف، قلها صريحة لا تخف. الوشايات والأخبار تصلنا أخيرا.
ـ أخبارك عجيبة فعلا.. لا أفهمها أحيانا..
يواصل الحفر بكلماته كمثقب رصين في أعصابي: أحاول إثارتك لعلك تصارحني!
ـ غريب أمرك رافد.. أصارحك بماذا وأنت تعلم أكثر من عزرائيل؟!
ـ نظراتك تخفي شيئا. لا تتردد. لم يبق للتأريخ غير احتقاره.. ذلك شِعرك، وأمس تكلمتَ بأريحية مع صاحبنا عن مثليته، فلماذا تخفي، أنا أصارحك بالكثير!
ـ لا أحد ينجو من كلام سوء.. لكن بربك ماذا تتصور أخفي عنك؟
ـ بربك ها؟.. وما لقيت غيري تحلّفه!
ـ الرفيق الأعلى لينين استنجد به.. أو تبتَ عن اللينينية وتحولت إلى الليبية!
ـ هو ليس الأعلى. أنت تكتب وتستسلم لإغواء المعرفة فلا تستكثرها عليَّ..
ـ لو عندي ما يقال عنك وأخبرتك زدتَ وطلبتَ المستحيل..
ـ أدري مَن يتآمر. كفاح نفذ تهديده، قال عني جاسوس لينهيني؟ افضحْنا برواية.
ـ يا رافد.. الخير أبو النوايا.. رضيعه على صفحاتي يرعاه القارئ..
يسخر رافد في ضغينة: الخير جمهورية غير مستقلة سيد برهان!
يحيّرني بتملصه، أعذله: والأمسية الأدبية، وجلستنا هذه، كيف نفهمها؟!
ـ بقايا ماض قديم نرميه إلى مزبلة التاريخ.. تدري أين مكانها؟
ـ لا أدري، حتى في بغداد لو سافرت أجد الخير، كأي مكان أقصده مع نية طيبة.
ـ لا عند حاقدين فضحتَ حيثياتهم برواياتك. الرد انتقام.. ولو في شكل غرام.
أركن تحامله على أصدقاء الماضي، أناور منساقا معه: هذا رأيك؟
ـ لا تسمع رأيي، خليك على طريقك، "ليلة بغدادية" رواية ناجحة، قصدتني بشخصية مزعل فيها.. خاب حلمه الكبير، غيّر خندقه، ظل محبا لصديقه القديم ووطنه.. ذاته غنية.. لكن ثقافته محدودة.. يصبح ضحية التغيير.. هذا توقعك لي؟
ـ أنت من أذكى قراء رواياتي رافد.. من اليوم أسميك رافدين!
ـ عشناها سوية قبل أن تُكتب.. عرفنا زواغيرها.. تأثيرها حياة أخرى.. اعتمادا عليه يصير تأريخنا غير عقيم.. لو سلمنا بلا جدوى النزعة التوفيقية..
ـ الأفضل برأيك البقاء على تأليه الصراع !
ـ الصراع أبدي أبو البراهين، المهم توجيهه لصالحك، باستمالة الحلوين مثلا.
ـ صالح الناس واحد تفاريش رافد.. ناس منطقتنا قبل غيرهم..
ـ يعني راوح مكانك. كلام مثقفين. أو.. نهاية مزعل، لإصراره على قيم انتهت.
ـ تذكر قمر القناة؟
ـ تحته اختار كل منا طريقه، تباعدنا، أنا للعمل الحزبي، أنت للكتابة، و.. نلتقي!
ـ الناس تلتقي في محطة..
ـ بمحطة بغداد القادمة يطلبك قريبا باشا م خ بواسطة سوري.. ينفعك بشغلة..
ـ بينغو! دعوتي إلى هنا لتبليغي ذلك.. لكن مَن هو م خ.. و.. باشا؟!
ـ نسيتَ التآمر! أعددتَ معه لثورة تموز أيام زمان، ببستان المسيب سيد برهان..
ـ غير معقول! معلومتك هذه من ملف غيب.. و.. ماذا يريد فتى صار باشا؟!
ـ لم أقل شيئا، تمام؟ باشا ولماذا إمكانياته كبيرة نتركه أيضا..
ـ تكشف سرا من غيب ولم تقل شيئا؟ ماذا غيره في ملف أكس وأين مكانه..
ـ لكلٍ ملفه.. كَبر.. جنة أو نار.. هذه أيضا جديدة؟ ماذا علمك بونكر ونكير!
قبل النوم أسحب الغطاء وأخفي رأسي، أهمس للاقطة النقال: قضيتي وقضية رافد أكبر من جوع معلومات، أدري مَن كان رافد.. مَن صار لا أدري، خطابه القديم يتبدل، تتغير زاوية نظره، يعلم الكثير، من جهة عالمة، الشك يفضح صاحبه أحيانا، الرجل يرى وينطق من جهتين متقابلتين، في ذلك خطر عليه.. خلاصة: أمامي عمود رواية.. أحتاج أعمدة أخرى.. ذلك للنظري، العملي يتوازى معه، يتعقد، فوق سوسو بوسو وقهر منتظر هناك تبرز ازدواجية رافد، لغز م خ .. من أين جاء به.. مجاهل السفرة تزداد.. ركوب العقل ينبغي قبل طائرة بغداد..
أغفو..
كلماته ترميني خمسين عاما إلى الوراء، إلى أيام البستان المجيدة، إلى ميلاد قربه، إلى ثورة منتظرة، إلى هذيان ونداء بعيد مديد..
ـ .. برهان.. اذهب إلى مدرستك.. حرِّكها.. اصنع معنا يا زلمه ثورة..
يتلاشى همس الضيف السوري في دخان، في نخل ودغل البستان، وسواس ذلك الصيف يصير منتصفه ثورة شجعان، حياة تقلب، غبار، أخبار، أسود، أبيض، إلى تشكيل لوني فتان، تهويمات، امرأة المحلة عاشقة معشوقة تكبرني سنوات، حكاية مثيرة عابرة قارات، قوة مراهق محسوسة وأخرى أقوى في كلمات، م خ ينطقها مختصرا من بؤساء هيغو صفحات، تتفجر هتافا بتحفيز من الأم نحو سماوات، يشق الصالة ينير ظلمات، فيلم مصطفى كامل يوقف، الجمهور خارج السينما، تظاهرة تملأ الشارع..
موج يغيض.. يفيض.. يتدفق.. لا يخرس..
رعود لا تظهر في الأنباء.. تعود وتفصح عنها الأصداء!..