الاثنين، 29 سبتمبر 2014

البهائيون في إيران خوان كول- ترجمة نيڤين عبد الرؤوف

البهائيون في إيران
 خوان كول
 ترجمة نيڤين عبد الرؤوف

يستعرض خوان كول هذا «الدين العالمي» النبوئي والرافض للعنف والمؤمن بالعصر الألفي السعيد، الذي ولد زعيمه من رحم القلاقل السياسية والاجتماعية في إيران خلال القرن التاسع عشر والذي يعاني أتباعه منذ ذلك الحين من اضطهاد الشاه وآية الله على حدٍّ سواء.
بناءً على تقييم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، كان سجل جمهورية إيران الإسلامية في مجال حقوق الإنسان خلال العقد الماضي أحد أسوأ سجلات حقوق الإنسان في العالم. بالطبع استهدف عددٌ كبير من الاعتقالات وتنفيذ أحكام الإعدام بإجراءات موجزة برعاية حكومية؛ تشكيلاتٍ سياسيةً كانت تقدم بديلًا للدولة الدينية. لكن نظام الخميني اضطهد كذلك جماعات لا تمثل خطرًا بعينه على استقرار الجمهورية الإسلامية، وأبرز هذه الجماعات البهائيون. يشكِّل البهائيون — الذين تتراوح أعدادهم ما بين ٣٠٠ ألف إلى ٤٠٠ ألف في إيران — أكبرَ أقلية غير مسلمة في البلاد، وقد أعدم رجالُ الدين الذين يحكمون حاليًّا قرابةَ ٢٠٠ من أكثر زعماء البهائية نشاطًا، وفرضوا معوِّقات شديدة أمام معتنقي هذه الديانة. وقد ردَّ البهائيون على هذا الاضطهاد دون اللجوء إلى العنف على عكس معظم الجماعات السياسية الإيرانية الأخرى. ورغم أن السنوات العشر الأخيرة قد شكلت أطول فترة من الاضطهاد الرسمي المتواصل للبهائيين في إيران، فإنهم واجهوا — منذ بداية دينهم في ستينيات القرن التاسع عشر — مذابح مدبَّرة تنطوي على عدائية شديدة بين الحين والآخر من المجتمع المسلم الشيعي الذي يعيش به. إذن ما شأن هذه الجماعة الصغيرة من الناس المسالمة على ما يبدو، التي تشكِّل الآن نسبة تقل بدرجة طفيفة عن ١٪ من سكان إيران وتثير كراهية الشيعة المؤمنين بتفوق مذهبهم؟ ما الذي يرمز إليه الدين البهائي؟ وهل من الممكن تصنيف البهائيين كأنبياء غير مكرمين؟

عبد البهاء، نجل بهاء الله والزعيم العالمي للطائفة البهائية منذ عام ١٨٩٢ حتى عام ١٩٢١.عبد البهاء، نجل بهاء الله والزعيم العالمي للطائفة البهائية منذ عام ١٨٩٢ حتى عام ١٩٢١.
تزامن ظهور الأديان في الشرق الأدنى مع حركات وتحولات سياسية كبيرة. فلطالما اعتقدت شعوب تلك المنطقة طيلة أربعة آلاف عام أن إلههم له دور في صنع التاريخ. يبدأ هذا التاريخ بالخلق، وتُشكِّل المواجهاتُ بين الرسل وأصحاب السلطة جوهرَه ويصل إلى ذروته مع مجيء المخلِّص (أو عودة مخلِّص ظهر من قبل). هذه أمور معهودة بالنسبة للديانات الكبرى التي نشأت في هذه المنطقة: اليهودية والزرادشتية والمسيحية والإسلام والبهائية. ومنذ القرن السابع بعد الميلاد، بدأ الإسلام يهيمن على الشرق الأدنى، ليقدم عقيدة جوهرها أن النبي محمدًا قد جاء ليكمل رسالة أنبياء الكتاب المقدس من إبراهيم حتى يسوع الناصري. وقد عبَّر كثير من المسلمين — من خلال المعتقد الديني الشعبي، بل وعبر التفسير المستنير للقرآن — عن توقع ظهور شخصيتين مخلِّصتين على الأرض قبل يوم القيامة؛ الأول: هو المهدي، الذي ينحدر من نسل النبي محمد وسيعيد العدل للعالم بعدما ملأه الجَوْر. والثاني: وهو المسيح عيسى، سيعود بعد ذلك. انتشرت الدعوات المؤمنة بالعصر الألفي السعيد بحماسة استثنائية بين المسلمين الشيعة. إذ يؤمن أتباع الشيعة الإمامية أن سلالةً من أحفاد محمد من نسل ابنته فاطمة كان من المفترض أن تحكم الدولة الإسلامية الأولى، لكنَّ السلالاتِ الحاكمةَ الأخرى أزاحت أولئك القادة أو الأئمة ظلمًا. ويعتقدون أن الإمام الثاني عشر من نسل النبي اختفى في عالمٍ غيبي سيعود منه يومًا ما باعتباره المهدي المنتظر. ومِن ثَمَّ انتهت سلالة الأئمة قبل أوانها وأصبح الشيعة دون حاكمٍ مكتمل الشرعية. ومع مرور الزمن، أكَّد رجال الدين الشيعة أنهم قادرون على الاضطلاع بدور نواب الإمام الغائب فيما يتعلَّق بالمهام الدينية لحين عودته. وبعدما أخضعت الدولة الصفوية الشيعية إيران عام ١٥٠١، التمستْ مساعدة رجال الدين في تحويل إيران إلى هذا الاتجاه العقائدي الإسلامي وإضفاء الشرعية على الدولة الجديدة.

أدى هذا التراث الديني بجانب مجموعة من المشكلات السياسية والاجتماعية إلى تشكيل الخلفية التي صعد نجم البهائية استنادًا إليها. كان شاهات الدولة القاجارية (١٧٨٥–١٩٢٥) يروِّجون للشيعة الإمامية ويدعمون شكلًا من أشكال الإقطاعية القبلية في إيران، وتعاون رجال الدين الشيعة في أغلب الأحيان معهم؛ مما ساعد بدوره على تدعيم أركان المعتقد الشيعي التقليدي. من سوء حظ القاجاريين أن حكمهم لإيران جاء في الوقت الذي شهد اندماجها على نحو قاطع في سوق العالم الرأسمالي والنظام السياسي الأوروبي الاستعماري والاستعماري الجديد. وفي الفترة من ١٨٠٤ إلى ١٨١٤ وكذلك من عام ١٨٢٦ إلى ١٨٢٨، خاضت إيران حروبًا مع روسيا كانت لها آثار كارثية على طهران التي فقدت أراضي منها وأُرغمت على دفع تعويضات فادحة والموافقة على تعريفات جمركية منخفضة وثابتة للبضائع المستوردة. انتقص التنافس الإنجليزي الروسي في إيران من سيادة الدولة وأعاق تطور البنية التحتية كما في حالة خطوط السكك الحديدية على سبيل المثال. ومع أن حجم تجارة إيران الخارجية قد ازداد اثنتي عشرة مرة على الأرجح خلال القرن التاسع عشر بينما تضاعف عدد سكانها إلى تسعة ملايين نسمة، فإن نموها الاقتصادي لم يضاهِ نمو مصر أو تركيا، فضلًا عن تخلُّفها الشديد عن دول شمال الأطلنطي الصناعية. ومن ثَم واجه الحِرَفيون والتجار منافسةً شرسة من السلع المستوردة والشركات المساهمة الدولية. وبَدءًا من ستينيات القرن التاسع عشر، تعرضت إيران لسلسلة من الكوارث الاقتصادية من ضمنها تدمير صناعة الحرير لديها نتيجة لمرض أصاب ديدان القزِّ، ومجاعة في عام ١٨٧٢، فضلًا عن الانهيار العالمي لسعر الفضة، أساس العملة الإيرانية. أدت هذه التطورات إلى خلق حالة من البؤس في عدد من القطاعات وتسببت في إعاقة النمو حتى مع استمرار الاقتصاد في توسعه البطيء.

وبعيدًا عن حالة السخط الاجتماعي، فإن الخلفية المباشرة التي شهدت صعود نجم البهائية هي الدعوات الشيعية الباطنية والمؤمنة بالعصر الألفي السعيد. كان عام ١٨٤٤ / ١٢٦٠ هجرية يمثل ذكرى مرور ألف عام على اختفاء الإمام الثاني عشر، ومِن ثَمَّ توقَّع أتباع المدرسة الشيخية الباطنية على وجه الخصوص ظهورَ المهدي في هذا العام. وانطلاقًا من هذا الإيمان بالعصر الألفي السعيد، ظهرت الدعوة البابية، التي أسَّسها شابٌّ من أُسرة كانت تعمل بالتجارة بمدينة شيراز يُدعى سيد علي محمد، الذي أعلن منذ عام ١٨٤٤ أنه تربطه بالإمام الغائب علاقة استثنائية. في البداية صرَّح أنه «الباب» المؤدي إلى الإمام الثاني عشر، لكنه قال بعد ذلك إنه هو نفسه الإمام المهدي العائد، وأكَّد على أن الوحي الإلهي أرشده إلى كشف النقاب عن كتاب مقدس جديد ينسخ القرآن. أباح الباب على ما يبدو وضعًا أفضل بعض الشيء للنساء وسمح بأخذ فوائد على القروض ومنع التجار غير البابيين من العمل في مناطق معينة في إيران، وفسَّر بعض العقائد مثل البعث على نحو رمزي. ووفقًا للكاتب والأستاذ الجامعي عباس أمانات انتشرت الديانة البابية سريعًا، وجذبت التجار والحرفيين والعمال في المدن والبلدات الصغيرة في إيران، ويرجح بلوغ عدد أتباعه مائة ألف مع حلول عام ١٨٤٩. لكن في هذا العام أُعلن رسميًّا عن أنه من المهرطقين. ومن ثم بدأت الاشتباكات بين الشيعة والأحياء البابية الجديدة في بعض المدن؛ مما استلزم تدخل القوات الحكومية. وفي عام ١٨٥٠ أعدمت الدولة القاجارية البابَ وتدخَّلت لصالح الشيعة في النزاعات المحلية. وفي عام ١٨٥٢ حاول زعماء المذهب البابي في طهران اغتيالَ الشاه ناصر الدين؛ انتقامًا لإعدامه لنبيهم، لكنَّ المحاولة باءت بالفشل. وردًّا على ذلك أمر الشاه بحملة تعقُّب للبابيين على مستوى الدولة أدَّت إلى تعذيب المئات منهم وقتلهم؛ مما نتج عنه مقتل قرابة ٥ آلاف بابي في الفترة ما بين عامي ١٨٤٩ و١٨٥٥.

شكَّلت الأزمة التي تعرضت لها الدعوة البابية الأهلية المتطرفة والمسلحة في بعض الأحيان البوتقةَ التي انبعثت منها البهائية، وهي دين مسالم عالمي يخلف البابية. بعد موت الباب أصبح الأخوان نوري — من النبلاء القلائل الذين اعتنقوا البابية — هما المركز الرئيسي للسلطة. ضرب الأخ الأشهر والأكبر ميرزا حسين علي النوري (الملقب ببهاء الله ١٨١٧–١٨٩٢) مثلًا في السلمية والزهد يكاد يحاكي شخصية من شخصيات تولستوي. لفت بهاء الله نظر الدولة القاجارية؛ نظرًا لرفضه العنف واهتمامه بصالح الفلاحين وتفانيه في نشر الدين الجديد منذ بدايته عام ١٨٤٤. لكن قيل إن أخاه الأصغر الخاضع لوصايته — المراهق يحيى نوري (الملقب بصبح الأزل) — كان قد عُين نائبًا للباب عام ١٨٥٠. أكد بهاء الله فيما بعدُ أن تعيين صبح الأزل كان حيلةً لإبعاد الأنظار عنه هو القائد الحقيقي. وفي عام ١٨٥٥ نُفي بهاء الله نتيجةً لمعتقداته البابية إلى دولة العراق المجاورة التابعة للإمبراطورية العثمانية، بعدما ثبتت براءته من التورط في مخطط الاغتيال. ثم انضم صبح الأزل إلى أخيه الأكبر غير الشقيق في بغداد، لكنه ظل متخفيًا.

ومع حلول حقبة الستينيات من القرن التاسع عشر، تطلَّع كثيرٌ من البابيين — المستائين من قيادة صبح الأزل الخفية والذين أصابهم الإحباط من تحول ديانتهم إلى دعوة سرية — إلى شكل جديد من أشكال المرجعية. وأدى الترقب واسع الانتشار لعودة المسيح بعد مجيء المهدي إلى توقع الكثيرين ظهور إحدى التجليات الإلهية قريبًا. فقد تحدث الباب نفسه عن مقدم نبي في المستقبل: «الذي سيُظهره الله»، والذي سينهض لتأكيد العقيدة البابية أو تعديلها. وفي عام ١٨٦٣ كشف بهاء الله أمام مجموعة صغيرة من أقربائه وأصدقائه عن كونه النبي الموعود الذي بشَّر به الباب، وفي نفس العام استجابت الدولة العثمانية للضغوط الإيرانية بنفي بهاء الله مجددًا، أولًا إلى إسطنبول ثم إلى مدينة أدرنة. أصرَّ صبح الأزل على مرافقة أخيه الأكبر غير الشقيق إلى تركيا، في حين بدأ بهاء الله خلال الفترة بين عامي ١٨٦٤ و١٨٦٧ بإرسال مُبشِّرين إلى إيران يحملون خبر كونه النبي الذي تنبأ الباب بأن الله سيظهره. لاقى هذا الإعلان استجابةً حماسيةً لدى البابيين الذين بدءوا في اعتناق البهائية — أي أتباع بهاء الله — بأعداد ضخمة. لكن ذلك أدى إلى امتلاء نفس صبح الأزل بالمرارة؛ إذ كان قد أصبح متعلقًا بامتيازات السلطة الدينية. ومِن ثَمَّ دفعت شكاوى صبح الأزل المستمرة السلطاتِ العثمانيةَ المحبطةَ إلى فصل الأخوين؛ مرسلةً صبح الأزل إلى قبرص وبهاء الله إلى سجن عكا الرهيب في فلسطين.

في البداية أعلن بهاء الله للبابيين في إيران عن كونه المخلِّص الذي تنبأ به البابُ عبرَ اقتباسات من مؤلفاته وتفسيرات لها. ثم في الفترة من عام ١٨٦٦ إلى ١٨٧٢ كتب رسائل إلى ملوك وحكَّام العالم، مثل: الملكة فيكتوريا والسلطان العثماني والشاه الإيراني ونابليون الثالث في فرنسا وقيصر روسيا والبابا. كان لتلك الرسائل هدفان رئيسيان؛ أولًا: إبلاغ الحكام من خلال القنصلية الفلسطينية بدوره المخلِّص وحثهم على الاهتمام بنصائحه. وباعتبار بهاء الله هو خليفة الباب (المهدي) فإن مقامه هو مقام المسيح العائد. ومِن ثَمَّ كتب قائلًا: «قد اتصل نهر الأردنِّ بالبحر الأعظم، والابن في الوادي المقدس ينادي: لبيك اللهم لبيك.» وعلاوة على ذلك، كان يعتبر نفسه مكملًا لجميع الديانات الكبرى في العالم.

لم يكتفِ بهاء الله بإعلام أولئك الحكام بأنه المسيح العائد، بل طرح كذلك بعضَ التعاليم الاجتماعية العامة. ففي عصر الحكم الديكتاتوري المطلق، كان بهاء الله يفضِّل الملكية الدستورية والاتحادَ العالميَّ وغالبًا ما كان ينحاز للفقراء. مدح كذلك إلغاء الرق وعبودية الأرض، وكتب إلى الملكة فيكتوريا قائلًا: «وَسَمِعْنا أَنَّكِ أَوْدَعْتِ زِمامَ المُشاوَرَةِ بِأَيادِي الجُمْهُورِ، نِعْمَ ما عَمِلْتِ …» وعلاوة على ذلك دعا بهاء الله أعضاء البرلمان في بريطانيا وغيرها من الدول إلى النهوض بأعباء إصلاح المجتمع وأضاف قائلًا: «وَالَّذِي جَعَلَهُ اللهُ الدِّرْياقَ الأَعْظَمَ وَالسَّبَبَ الأَتَمَّ لِصِحَّتِهِ هُوَ اتِّحادُ مَنْ عَلَى الأَرْضِ عَلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ وَشَرِيعَةٍ واحِدَةٍ.» وخلال فترة الاضطراب التي أدت إلى الحرب بين فرنسا وبروسيا، طالب حكام العالم بإحلال السلام والتوقف عن الحشد العسكري الهدام الذي يدفعون تكاليفه عبر فرض ضرائب باهظة على الفقراء، وشجب تلك الأفعال باعتبارها «ظلمًا شنيعًا» ودعا إلى خفض الضرائب بحيث يطيقها الناس. أشار كذلك إلى أنه في حالة فرض أولئك الحكام السلامَ، فإنهم لن يحتاجوا إلى مثل هذا الكم الضخم من الأسلحة، وحثهم على قبول هذا «السلام الأصغر» السياسي بما أنهم رفضوا «السلام الأعظم» الذي كان من الممكن تحقيقه تحت راية البهائية.

اتسعت رؤية بهاء الله متجاوزةً نطاق الإصلاح الاجتماعي ضمن إطار الدول القومية المستقلة؛ إذ أوصى بأنه «ليس الفضلُ لمن يحبُّ الوطنَ بل لمن يحبُّ العالم.» وكان يعتقد ضرورةَ وضع هذه الرؤية العالمية الشاملة في إطار عملي؛ لذا دعا إلى «عقدِ اجتماعٍ واسع يشمل البشر جميعًا» يحضره الحكام والملوك أو نوابهم، ولا بد أن «يَدْرُسوا الوسائل والطُّرُق التي يمكن بها إرساء قواعد السلام الأعظم بين البشر»، ويقرروا أنه في حالة هجوم أية أمة على أخرى، فلا بد أن يتَّحد الجميع لردع المعتدي. كذلك دعا إلى إقرار لغة وحروف عالمية: «وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِذَا اتَّجَهَ أَيُّ شَخْصٍ إِلَى بَلَدٍ فَكَأَنَّهُ وَرَدَ إِلَى بَيْتِهِ.» كان بهاء الله يشعر أن الشقاق بين البشر يرجع إلى التعصب الديني والعرقي الذي رغب في الاستعاضة عنه بالتسامح والوحدة. ومن ثَمَّ ألغى في هذا الصدد مبدأ الجهاد البابي والإسلامي، بل وصرح أنه من الأفضل للمرء أن يكون مقتولًا لا قاتلًا.

وفي الكتاب الذي ألَّفه عبد البهاء — النجل الأكبر لبهاء الله — عام ١٨٧٥، دعا الإيرانيين إلى النهوض من غفوتهم ودافع عن نقل العلوم الحديثة والتكنولوجيا من الغرب. كذلك نادى بتقييد سلطة مسئولي الحكومة وتأسيس مؤسسات حكومية منتخبة نيابية وانتشال جموع العامة من الفقر وتحسين البنية التحتية لإيران ووضع نظام تعليمي حديث. كان عبد البهاء — مثله مثل أبيه — مناصرًا لتجريد العالم من السلاح ومناديًا بتأسيس جمعية عالمية وتجديد الدين لمحاربة الإلحاد الفولتيري (نسبة إلى فولتير).

لا بد من التشديد هنا على الطبيعة الثورية لتلك المقترحات في زمانها. كان السلاطين العثمانيون يتجنبون تشكيل برلمان أثناء القرن التاسع عشر، باستثناء فترة قصيرة من عام ١٨٧٧ إلى ١٨٧٨. جرَّب الشاه ناصر الدين نظام حكومة الأغلبية في أوائل سبعينيات القرن التاسع عشر لكنه قرَّر عدم تطبيقه، ولم يؤيد قط الحديث عن الدساتير والبرلمانات. كذلك كانت دول وسط أوروبا وشرقها تقبع في ظل أنظمة الحكم المطلق. ومن ثَمَّ، فإن القول بتخفيض الأسلحة وخفض الضرائب التنازلية على الفقراء وتشكيل جمعية عالمية كذلك لم يجذب سوى قلة قليلة من المؤيدين في معظم مجالس الدولة في أوائل سبعينيات القرن التاسع عشر.

لاقت رسالة بهاء الله آنذاك استجابةً بين أتباع المذهب البابي في إيران، وتحوَّلوا كلهم تقريبًا إلى البهائية. وفي عام ١٨٨٥، لاحظ جيه دي ريس الموظف في الخدمة المدنية بالهند دليلًا على وجود عدد ضخم من أتباع البهائية بين طبقة التجار في مدينة قزوين وبين أهل مدن حمدان وآباده ومشهد. كانت القيادة المحلية للطائفة البهائية — التي لم تكن تشتمل على رجال دين رسميين — تنتمي غالبًا إلى طبقة التجار التي تعيش في المدن. وبالإضافة إلى أتباع المذهب البابي، استقطب بهاء الله أتباعًا من الطبقات الوسطى الشيعية ومن المجتمعات اليهودية والزرادشتية في إيران. انتشر الدين إلى الهند أثناء حياة بهاء الله، وسرعان ما امتد بعد موته إلى الولايات المتحدة.

أدى صعود نجم الدين الجديد إلى لفت انتباه المسئولين الحكوميين الإيرانيين ورجال الدين الشيعة؛ إذ كانت الدولة القاجارية تخشى البابية وظلت ترتاب في خليفتها. وعلاوة على ذلك هدَّد تأييد البهائية للنظام البرلماني والدستوري في إيران مسئولي الدولة القاجارية الرجعيين. وإلى أن اندلعت الثورة الدستورية التي استمرت من عام ١٩٠٥ إلى ١٩١١، كان البهائيون على الأرجح هم أكبر مجموعة إيرانية ملتزمة بالدعوة إلى حكومة ممثِّلة لفئات الشعب وإلى سلطة دستورية، وإن ميَّزهم تصوُّفهم ومعارضتهم للعنف عن الثوريين. كذلك شجعت الرؤية العالمية التي يعتنقها البهائيون على إقامة علاقات مع أوروبا وتعلم اللغات والانخراط في التجارة العالمية. ومع انضمام الجماعات التجارية البهائية إلى الطبقة المحلية الوسطى التي تربطها مصالح تجارية مع الأجانب أصبحت مختلفة بعض الشيء عن غيرها من جماعات التجار الإيرانيين، بمن فيهم الشيعة (وهي نقطة أشار إليها الكاتب بيتر سميث). رغم ذلك كانت النخبة الإيرانية المحافظة تصوِّر البهائيين على أنهم راديكاليون اجتماعيون وتقدميون سياسيون وخائنون لثقافتهم.

ومن ناحية أخرى رأى رجال الدين الشيعة أن البهائية هرطقة خطيرة. إذ ينكر البهائيون العقيدة الدينية القائلة بأن الله لن يبعث رسلًا آخرين بعد محمد، ويؤمنون بأن كتاب بهاء الله «الكتاب الأقدس» قد نسخ القرآن، بل ووضعوا شعائر خاصة بهم، وسمحوا للنساء بممارسة دور فعَّال في المجتمع ولم يؤمنوا بالحجاب أو بفصل النساء، وأنكروا أيضًا مبادئ إسلامية مهمة مثل شرعية الجهاد. وعلاوة على ذلك نزع البهائيون إلى التشكك في الحاجة لرجال الدين مع انتشار القراءة والكتابة، وهي آراء هددت وجود طبقة رجال الدين الإيرانية.

أصبح اضطهاد البهائيين من جانب الحكومة أو علماء الدين بالتعاون مع العامة الذين ينفذون أحكام الإعدام دون محاكمةٍ سمةً عامة لحياة البهائي في إيران. فأثناء حياة بهاء الله وقعت حوادث اضطهاد خطيرة في أصفهان عامي ١٨٧٤ و١٨٨٠، وفي طهران من عام ١٨٨٢ إلى ١٨٨٣، وفي مدينة يزد عام ١٨٩١. وفي عام ١٩٠٣ تعرض البهائيون في مدن رشت وأصفهان ويزد لمذابح كبرى منظمةٍ على يد غوغائيين شيعة. ومع مجيء الدولة البهلوية (١٩٢٦–١٩٧٨) التي تبنت منهج التحديث والعلمانية تحسَّن قليلًا وضع معظم البهائيين ممن لا يزالون يعيشون في كَنف المجتمع المدني الشيعي المعادي لهم. في الواقع شنَّ الشاه رضا حملةً لقمع البهائيين في أواخر ثلاثينيات القرن العشرين كجزء من برنامجه الاستبدادي العام، بينما أيَّد الشاه محمد رضا لبعض الوقت المذبحة الوحشية المنظمة التي استهدفت البهائيين في جميع أنحاء البلاد عام ١٩٥٥، والتي كان يقودها رجال الدين الشيعة ومؤيدوهم في البرلمان والقوات المسلحة. ولم تعترف حكومة إيرانية قط — على عكس حكومة باكستان مثلًا — بحق البهائيين في حرية الفكر أو حرية الاعتقاد.

تغيرت طبيعة الزعامة البهائية في القرن العشرين تغيرًا كبيرًا، فبعد انتهاء فترتي الولاية الدينية الملهمة لعبد البهاء (١٨٩٢–١٩٢١) وشوقي أفندي رباني (١٩٢١–١٩٥٧)، انتخب البهائيون عام ١٩٦٣ هيئة حاكمة علمانية عالمية تُدعى بيت العدل الأعظم، وفقًا لتعليمات بهاء الله. أصبحت البهائية حركة جماهيرية وسط الفلاحين في أمريكا الجنوبية وأفريقيا، والهند على وجه الخصوص منذ أواخر خمسينيات القرن العشرين وأوائل الستينيات من القرن ذاته. وظهرت مجتمعات جيدة التنظيم في معظم بلدان العالم غير الشيوعية، ووصل عدد البهائيين في جميع أنحاء العالم إلى ٤٫٥ ملايين مع حلول عام ١٩٨٨، وفقًا للموسوعة البريطانية.

من ناحية أخرى اختلفت حدة الاضطهاد الذي تعرض له البهائيون الإيرانيون في عهد الخميني عن أيٍّ مما واجهوه من قبل، إذ اتخذ أجواءً كئيبة تكاد تماثل أجواء كتابات كافكا. اتهم رجال الدين الشيعة البهائيين ممن ساعدوا في عقد مراسم الزواج البهائي بنشر الدعارة، حيث كانوا يعتبرون تلك الزيجات غير شرعية، واتهموا من يحضرون المؤتمرات الدينية في نيودلهي أو لندن بالتجسس لصالح القوى الاستعمارية. كذلك وصموا البهائيين المتبرعين بأموال إلى مقراتهم في إسرائيل بمعاونة الصهيونية، حتى وإن لم يستفد البلد المضيف بأيٍّ من تلك الأموال مطلقًا (بينما لم يظهر استهجان مماثل حيال التبرع بأموال لدعم القضايا العربية الإسلامية في إسرائيل). وعلاوة على ذلك، اعتقلوا مئات الأطباء وموظفي الدولة وأساتذة الجامعات والتجار والطلاب البهائيين. وبينما اضطر بعضهم ببساطة إلى الاختفاء من المشهد، عُذِّب آخرون وأُعدموا، بل وطالبوا الأسر الثكالى بتحمل تكاليف الإعدام، ولم يتوقف هذا الاضطهاد إلا في أواخر عام ١٩٨٨. وصادر رجال الدين الشيعة ممتلكات البهائيين بالإضافة إلى أموال صناديق المعاشات وحسابات البنوك المخصصة للأطفال، وأصبح إرغامهم على الارتداد عن عقيدتهم أمرًا شائعًا. ورفضت السلطات منح البهائيين بطاقات تموين ومنعت أبناءهم من دخول المدارس والجامعات الحكومية، وحظرت عليهم ترك البلاد. وعلى الرغم من أن بضع مئات من أحكام الإعدام وأضعافًا مضاعفة من أحكام السجن لا ترقى إلى مستوى الإبادة العرقية، فقد كان الهدف من تلك الإجراءات استئصال الطائفة البهائية على المدى الطويل.

ونظرًا لأن الاتهامات الفعلية الموجهة إلى البهائيين تبدو غريبة بعض الشيء، فقد بحث الكثيرون عن الأسباب الخفية وراء ما يتعرضون له من اضطهاد. قد يكون من الأنسب مقارنة معاداة البهائية في إيران بمعاداة السامية في أوروبا، فمثل اليهود، اعتُبر البهائيون رمزًا للجوانب الخطيرة للحداثة، وصُوِّروا على نحو ساخر كرأسماليين فاسدين ومواطنين عالميين بلا جذور من السهل إغواؤهم بالتجسس لصالح قوى أجنبية وخيانة أوطانهم. كذلك تبنى البهائيون في حماس التعليم والعلم الحديث، فأصبح لديهم أعداد كبيرة من المفكرين والأطباء والمهندسين ورجال الأعمال، ومن ثم إذا كانت الحداثة تهدد هوية إيران، فإنهم قطعًا متواطئون. في الواقع، شكَّلت الثورة الإيرانية جزئيًّا صراعًا بين المجتمع الشيعي بطبقاته «القديمة» المؤلفة من منتجي السلع الثانوية ومسوِّقيها من ناحية وبين الطبقات الوسطى وطبقات أصحاب المهن الحرة الجديدة من ناحية أخرى. ورغم اشتغال البهائيين بقطاع السلع الثانوية بمعدل يزيد عن الملاحظ عادةً، فإن الصورة التي كوَّنها الإيرانيون عنهم تظهرهم كمنتمين للطبقة الوسطى.

وبعيدًا عن العوامل الاقتصادية، يعتبر البهائيون من وجهة النظر الشيعية مهرطقين. فمثلما أنكر اليهود العقائد المسيحية الجوهرية، أدخل البهائيون بدعًا على المعتقد الإسلامي. وعلى الرغم من تسليمهم بكون موسى وعيسى ومحمد رسلًا، فإنهم رفضوا اعتبار محمد خاتم الرسل (ودفعتهم رؤيتهم العالمية إلى قبول كريشنا وبوذا كذلك). مارس البهائيون طقوسًا دينية جديدة واعتُبروا مهددين لعفة النساء المسلمات وحشمتهن. والأسوأ من ذلك كله، أنهم أنكروا سلطة فقهاء الشيعة، في الوقت الذي تقوم فيه الدولة الحالية تحديدًا على وصاية رجال الدين على المجتمع باعتبارهم نوَّابًا عن الإمام الثاني عشر الغائب. ومن ثَمَّ يصبح الإصرار على أن الإمام الثاني عشر قد عاد بالفعل ونسخ تعاليم الإسلام تحديًّا للأسس الأيدولوجية الأصيلة التي تقوم عليها الحكومة. أخفت الصور الكاريكاتورية والأفكار الشائعة الحقيقة؛ وهي أن البهائيين معظمهم من مجتمعات الطبقات الوسطى والعاملة، ويتألفون غالبًا من مواطنين ملتزمين بالقانون على وعي هائل بالقضايا العالمية.

إن بُعد البهائيين عن العنف وإيمانهم بالديموقراطية البرلمانية والتزامهم بالعالمية الدينية والتسامح الديني وتأكيدهم على التناغم بين الدين والعلم الحديث جميعها عوامل تجعلهم جديرين بأن يلعبوا دورًا في العالم الثالث يماثل الدور الذي ينسبه المؤرخ هيو تريفور-روبير لأتباع العقيدة الأرمينية في المراحل الأولى من أوروبا الحديثة، والتي عززت حرية الاعتقاد اللازمة لتطور العلم الحديث والمجتمع السياسي. وعلاوة على ذلك، فإن التزامهم الجوهري بالعمل على ظهور حكومة عالمية قوية ومتحدة تساعد على منع الحروب بين الأمم يشير إلى كونهم جماعة مثالية حالمة، ربما تشبه الأنبياء. لكن في إيران على الأقل هم قطعًا أنبياء غير مكرمين.

ليست هناك تعليقات: