بحث هذه المدونة الإلكترونية

مرات مشاهدة الصفحة في الشهر الماضي

الجمعة، 5 سبتمبر 2014

كتاب في حلقات همنجواي في الحلة 18-أحمد الحلي

كتاب في حلقات
همنجواي في الحلة 18
وقائع غير عادية في سيرة جندي عادي جداً
أحمد الحلي
توطّدت علاقتي بخطّاط الوحدة المجاورة ، وأخذنا نتزاور كلما أتيحت لنا فرصة ، وعلى الرغم من أنني أجده في معظم الأوقات ناقماً ومتذمراً ، إلا أنني رأيت فيه ميلاً متأصّلاً لاصطناع النكتة واسترسالاً بالمواضيع الطريفة الشيقة التي تتعلّق بحياة الجنود ، وعلاقتهم مع بعض ومع نواب الضباط والضبّاط أيضاً .
وبعد عدة لقاءات اكتشفت أن أحد الجنود المكلفين ، واسمه باسم هو الذي يحوز ويهيمن على الشطر الأعظم من أحاديث وحدتهم الشيّقة ، إلا أنني لم أستطع أن أُحظى بفرصة الالتقاء به ، لأنه هرب من الخدمة قبل حوالي شهرين .
1
في أحد الأيام وبعد أن اتخذت وحدتهم العسكرية التي هي كتيبة مدفعية موضعها الجديد ، وتصوّروا أنهم بوسعهم  أن ينالوا قسطاً من الراحة ، حتى جاءت الأوامر ، التي تقضي بضرورة التحرك الفوري للوحدة لمسافة 20 متراً إلى اليمين ، أي أن كل العمل الذي قاموا به قد ذهب هباءً ، وأنه يتوجب على الجميع القيام بنفس خطوات العمل السابق ، كان على باسم المتذمر  أن ينصاع  وينفّذ الأوامر أسوة بالجميع ، كانت مهمته أن يقوم بحفر الأرض بواسطة ( القزمة) ، ثم يستعمل المجرفة لإزاحة التراب ، لاحظ أنه كان إلى جواره أحد الجنود يقوم بالعمل ذاته بهمة ونشاط  وهو مغتبط ومنشرح الصدر وكأنه يعمل في تشييد أركان بيته الخاص ، قال الجندي ؛ " شكد حلوة هاي الكاع " ، فاستشاط  باسم غضباً ، وتوقف عن العمل ليقول لرفيقه مزمجراً ، وهل أنت تقوم بحراثة  أرضك التي ستزرعها يا ابن الـقحبة ؟  وحمل القزمة ورماها باتجاهه ، فذُعر الآخر واضطر إلى الهرب للعمل في مكانٍ آخر ...
2
عُرف عن باسم أنه سائق ناقلة جنود من الطراز الممتاز ، كونه قد دخل دورة دروع وبحكم صنفه فقد كان بوسعه أن يقود دبابة قتالية أيضاً .
في إحدى المرات تناهى إلى سمعنا في مكاننا الجديد  أن هناك دبابة عراقية صالحة الاستعمال متروكة في الأرض الحرام منذ ما يزيد على سنة ، وغالباً ما كان بعض الجنود الإيرانيين يتسللون تحت جنح الظلام إليها ويرصدون تحركات قطعاتنا ومواقعها ، ثم ينسحبون إلى أماكنهم ، الأمر الذي كان يتسبب بإيقاع بعض الخسائر بين صفوف قواتنا في الخطوط الأمامية ، وعبثاً حاول كبار الضباط إغراء جنودنا  من صنف الدروع وإثارة حميتهم من أجل التسلل إلى هذه الدبابة وسحبها من مكانها ، وفي أحد الأيام سمعنا أن باسم الذي كان قد عاد للتو من سبعة أيام قضّاها في معسكر الضبط جرّاء مخالفاته المستمرة وتشاجره مع أحد الضباط ، مستعد للتسلل إلى الأرض الحرام وإنقاذ الدبابة ، ولم نستغرب ذلك ، فقد تعوّدنا منه على القيام بأعمال  يتردد عن القيام بها الكثيرون ممن يعدون شجعاناً وأبطالاً ، وتتطلّب قدراً استثنائياً من الشهامة والجسارة .
بعد أن حل الظلام تسلل باسم بخفة ذئب يسابق الريح إلى حيث ترقد الدبابة ، وتفحّص برجها فوجد أن هناك إطلاقه مهيّأة ، فضغط على زر الرمي وقذف بها باتجاه العدو ثم هرع إلى مكان قيادة الدبابة وقادها باتجاه قطعاتنا ، وسط  زغاريد وهلاهل جنودنا في الخطوط الأمامية ... ومنذ ذلك الحين أخذ الجميع يحسبون لباسم ألف حساب .
3
جاءت الأوامر إلينا  ، ونحن في القَدَمَة الإدارية ، من مقر الفرقة أن نقوم بإخراج كافة العتاد السابق من الملاجئ المخصصة ، من أجل استبداله بعتاد  حديث جديد وصل للتو إلى مخازن الفرقة ، وكانت مهمة شاقة حقاً ، على الرغم من حشد عدد كبير من الجنود لهذا الأمر ، وقد اقتضى ذلك أن يأخذوني للعمل معهم أسوة بالجنود الآخرين الذين كان يُطلق عليهم (جنود شغل) ، وبينما اللغط يتصاعد وأوامر نوّاب الضبّاط والضباط  تنهال علينا بنقل هذا الصف من الصناديق ووضعها هناك وفق خطة مرسومة ، وإذا بنا نرى عدداً كبيراً من الجنود والمراتب وبينهم بعض الضباط بقاماتهم المديدة وهم يركضون قادمين باتجاهنا وعلائم الذعر والهلع بادية على وجوههم ، وحين استفسرنا منهم عن الأمر ، قالوا لنا بنفاد صبر ؛ هيا على الجميع أن يخلوا المكان ويهربوا !
حين ألقينا نظرة على المكان الذي قدموا منه رأينا عموداً من الدخان الأبيض يتصاعد وتتسع رقعته ، وفهمنا بعد ذلك أن أحد صناديق العتاد يوشك أن ينفجر وسط أكداس هائلة من البارود وإطلاقات المدفعية الثقيلة ، وبينما الجميع منهمكون في حمّى الهرب ، رأيت باسم وهو يركض بالاتجاه المعاكس أي نحو الجهة التي يتصاعد منها الدخان ، ثم  ليقوم  وسط دهشة واستغراب الجميع بفتح الصندوق واستخراج الخرطوشة التي يتصاعد منها الدخان محتضناً إياها ليذهب بها بعيداً خلف أحد السواتر ويقوم بدفنها ، ليعود بعد ذلك ، ماشياً الهوينى  نحونا  وقد عقد الذهول ألسنة الجميع ، ملتمساً من رأس عرفاء الوحدة  أن يطمئن الجميع بأن الخطر قد زال !
4
من بين مآثر باسم التي سردها على سمعي صديقي الخطاط ، حكاية تتضمن قدراً من الطرافة والفكاهة ، فبعد أن أمطرت السماء مدراراً لمدة ثلاثة أيام متتالية من أيام الشتاء ، امتلأت الأمكنة بالطين والوحول ومستنقعات الماء ، حتى أن السيارة التي تحمل تنكر الماء المخصص للشرب لم تستطع أن تصل إلى الكثير من حظائر الجنود ، الأمر الذي اضطر هؤلاء إلى استعمال  مياه البرك الصغيرة التي خلّفتها الأمطار .
في ذلك اليوم الذي كانت برودته شديدة  واستثنائية ، بحيث جعلت العظام تطقطق ، أحضروا لنا ورقة الأوامر المتعلّقة بالواجبات ، كان تسلسل باسم الثالث ، أي أنه يتوجب عليه الجلوس في خندقه القتالي الذي يقع على بعد حوالي عشرة أمتار أمام ملجأ الجنود بكامل عدته القتالية من بندقية وقناع وقاية وزمزمية ، وأن يبقى يقظاً مفتوح العينين لمدة ثلاث ساعات متواصلة بعد الساعة الثانية عشرة ليلاً .
أشار الجميع عليه أن يبقى في الملجأ ينعم بالدفء أسوة بهم ، وحاولوا إقناعه باستحالة أن يقوم ضابط الخفر بجولته التفتيشية في مثل هذا الجو  شديد البرد والعاصف ، خاصة وأن مسافاتٍ من الوحول والمطبّات تفصل بينه وبينهم ، إلا أن باسم لم يأبه لهم ، ارتدى ملابسه وتقلّد عدّته القتالية واتجه صوب الخندق الذي كان نصفه يمتلئ بالماء ، وبقي هناك ، كان الخيار خياره ، ولا أحد يستطيع إقناعه بالعدول عنه . مرّت حوالي الساعتان والنصف ، ولم يتبق من واجب باسم سوى ساعة واحدة ، وإذا بنا نسمع لغطاً وصياحاً ، وتبيّن لنا أن الضابط الخفر يقف فوق رأسه بكل كبرياء وصلف ، حيث عثر عليه متلبّساً بجرم النوم ، وقد وجدها الضابط فرصة للنيل من شهامة ونخوة باسم ، قائلاً له بلهجة الشامت ؛ ها ، نايم ؟
فلم يكن من باسم  سوى أن يرد بسخرية وحزم على صفاقة هذا الضابط  الغر ؛
أي نايم ، وين آني نايم ، قابل بالشيراتون !
فلم يجد الضابط  بداً  من أن يبتسم وينسحب ويتوارى خجلاً ..

ليست هناك تعليقات: