الأربعاء، 10 سبتمبر 2014

قراءة في كتاب " مئة يوم ويوم " للكاتبة النرويجية هوسنا برشتاد-أحمد الحلي

قراءة في كتاب " مئة يوم ويوم " للكاتبة النرويجية  هوسنا برشتاد
الوقوف على شفير الهاوية
أحمد الحلي
حين تقع عينك و تمسك يدك كتاباً جيداً وتشرع في قراءته ، فإنك تود لو أن رحلتك معه لا تنتهي ، ومن أجل ذلك ، فأنت لا تملك بديلاً سوى أن تمسك بتلابيب بعض التفاصيل  والوقائع ، تتوقف عندها ، تتأملها ثم تودعها خزانة مدخراتك المعرفية .
الحال هنا ينطبق مع كتاب "مئة يوم ويوم في بغداد" للصحافية النرويجية المتمرّسة هوسنا زبرشتاد ، التي وبحسب عنونة كتابها المهم هذا بوسعنا أن نستقرئ أنها تحاول محاكاة عنوان أهم كتاب تم تأليفه في بغداد إبّان العصر العباسي ، الا وهو كتاب  " ألف ليلة وليلة" ،  الذي طالما خلب ألباب المستشرقين والأدباء والكتاب الأوربيين والعالميين عبر العصور ...
وكما يتبدى لنا فإن الكاتبة ، وقبل أن تحط  رحالها ببغداد في رحلة محفوفة بالمخاطر ، فإنه كان لديها تصور كاف وواف عن المكان والمدينة التي اختارت أن تحط رحالها  فيها ، في لحظة تأريخية مفصلية مأزومة جداً في تأريخ البلاد والمنطقة  ، فهي قد هضمت وقائع التأريخ  القريب والبعيد وتمثلت خلاصاته ، كان لديها تصور وإحاطة وافية لطبيعة المهمة التي ندبت نفسها للقيام بها عن جدارة وتمكن ، فكانت ترسل تقاريرها الحارة الطازجة  إلى مصادرها في كبرى العواصم العالمية ، وكانت تحس بعظم المسؤولية المهنية والأخلاقية الملقاة على عاتقها  تجاه متلقيها ... لاسيما وأنها عملت في السابق كمراسلة في عدد من المناطق الساخنة في العالم
من شأن هذا الكتاب الحيوي ، أن يقدم لنا دروساً بليغة عن الدور الخطير الذي يتوجب أن يضطلع به الصحافي  ، وهو دورٌ شبه غائب لدينا قياساً لما يجري في دول العالم المتحضر .
لعل أبرز سمات  تتضح لنا ونحن نغذ السير في منعرجات هذا الكتاب ، هو هذا الإصرار الكبير والعناد والصبر وروح المغامرة  التي تصل إلى حدود المجازفة في  كثيرٍ من الأحيان التي تتمتع به الكاتبة في سعيها الحثيث للوصول إلى الحقيقة وامتلاك ناصيتها بعيداً عن التأثيرات الجانبية المقحمة  .
الكتاب هو عبارة عن سلسلة  تقارير قدمت لنا فيها ما يشبه السيرة الروائية  لها ولأبطالها من مسؤولين حزبيين ومتزلفين يحيطون بهم ، وكذلك أناس عاديين غالباً ما يكونون هم الضحية لمجريات الأحداث الدراماتيكية التي تدور من حولهم ولا طاقة لهم بتوجيهها وجهةً أخرى  .
حدثني صديقي مترجم الكتاب الباحث صلاح السعيد عن كيفية عثوره على الكتاب وكيف أن الصدفة أو ضربة الحظ  وحدها هي التي أتاحت له  أن يحصل عليه ، حيث كان في رحلة  استجمام إلى ولاية أريزونا  بالولايات المتحدة في العام 2010وبينما هو يتجول في إحدى المكتبات هناك وقعت عيناه على عنوان لأحد الكتب جذبه بشدة ، فأخذ يتصفح فيه ، فوجد أن مادته دسمة وطازجة  لا سيما وأنه يتحدث عن بغداد ، فسأل مديرة المكتبة  إن كان بوسعه أن يستعير الكتاب ، وبالفعل يتاح له ذلك ، وأتم قراءته في يومين ، ليعود إلى مديرة المكتبة ليسألها ثانية إن كان يستطيع استنساخ الكتاب ، فتقول له ؛ ولم  تتجشم كل هذا العناء ، فالكتاب موجود ومتوافر في غالبية المكتبات  ، وبوسعك أن تشتريه .
وأخيراً أصبح الكتاب بين يديه بوصفه ملكاً شخصياً له ،
وأسعده ذلك كثيراً .


قبل وخلال وبعد
قسمت الكاتبة كتابها إلى ثلاثة فصول تنم عن إحاطة وهي (قبل) و(خلال) والفصل الأخير القصير ( بعد) ، وواضح أن هذه المسميات  المقصود منها  وقائع الغزو الأمريكي للعراق .
جاء في التمهيد التعريفي ؛ " من يناير حتى نهاية عام 2003 ، عملت هوسنا زيرشتاد في بغداد كمراسلة للإعلام الألماني والهولندي والاسكندنافي ، من خلال تقاريرها اليومية وتغطيتها التلفزيونية الحية ، كانت تنقل الأحداث في العراق قبل وخلال وبعد هجوم القوات الأمريكية والبريطانية  ، كانت دائماً تبحث عن قصة أقل وضوحاً بكثير من  الاجتياح العسكري  الأمريكي  ، " لقد قامت زيرشتاد بإحياء العالم الذي يكمن وراء العناوين الرئيسية ، هذا العالم المفجع الذي يعيشه الشعب العراقي مجبراً في ذلك الوقت " .
وفي مقدمة الكاتبة نقرأ ؛ " ما الذي يمكن عمله كصحفي عندما يقول الجميع الشئ نفسه ؟ هل أن الكل يعنون ما يقولون ، وهل أن أحداً منهم يعني تماماً ما يقول ؟"
"لقد حاولت أن أخترق المجال بين الصمت الكامن والثغرات الصماء للحصول على الحقيقة ، إن الأجهزة المعقدة والمهيئة للإساءات قد تأثر بها الصحفيون أيضاً ، وكانت أحياناً تتخذ شكلاً مباشراً لما نكتبه ".
ثم تقول ؛ " تقاريري من بغداد كانت هي تقاريري ، تأتي مباشرة من تجربتي ، لكنها لم تكن دقيقة دائماً ، لربما الأحداث تفسّر بشكل متناقض من قبل المراسلين الآخرين ، فالصحفي المصري لربما يرى الحرب في العراق من زاوية أخرى والأمريكي لربما يقيّم الموقف بطريقة مغايرة ، ويمكن أن يحمل ذلك العقلاني من اللوموند ثوابت خاصة به " .


على خطى  المس بيل
منذ بداية الفصل الأول من الكتاب يتضح لنا مدى تأثر الكاتبة النرويجية بالمستشرقة الانكليزية الشهيرة جيرترود بل المعروفة  تأريخياً  أيضاً باسم المس بيل ، حيث نراها وقد اصطحبت معها كتابها "مذكرات عراقية" ..
نود أن نثبت في أدناه  باقتضاب  بعض المعلومات التي حصلنا عليها عن شخصية المس بيل المثيرة ؛
جيرترود بيل (بالإنجليزية: Gertrude Bell) ‏(14 يوليو 1868 - 12 يوليو 1926) باحثة ومستكشفة وعالمة آثار بريطانية عملت في العراق مستشارة للمندوب السامي البريطاني بيرسي كوكس في العشرينيات من القرن الماضي اسمها الكامل جيرترود بيل جاءت إلى العراق عام 1914 ولعبت دورا بالغ الأهمية في ترتيب أوضاعه بعد الحرب العالمية الأولى، فقد كانت بسعة علاقاتها ومعارفها وخبراتها بالعراق أهم عون للمندوب السامي البريطاني في هندسة مستقبل العراق, يعرفها العراقيون القدماء بلقب الخاتون, يعتبرها بعض المحدثين بأنها جاسوسة وهي في الواقع موظفة بريطانية خدمت بلدها بريطانيا بكل جد وإخلاص.
اقترحت هي وتوماس إدوارد لورنس قيام مجلس تأسيسي للدولة العراقية بهدف تنصيب الأمير فيصل بن الحسين ملك على العراق, ولها الفضل في تأسيس المتحف العراقي وظل المتحف حافظاً لاهم الاثار التي وجدتها والاثار العراقية البابلية القديمة والمخطوطات والتحف حتى عام 2003 في ظل تدهور الأوضاع اثناء حرب العراق فقد تم سرقة وتخريب الكثير من الاثار وقد أعيد البعض منها خلال الفترة ما بعد عام2006 .
كانت ذات شخصية مؤثرة شاركت مجالس سيدات مجتمع ذلك الوقت وكانت تنتقد أسلوب التحدث الجماعي للنسوة, كما كانت معروفة على المستوى الشعبي وهناك قصة لها مع أحد قطاع الطرق(ابن عبدكه) قاطع الطريق، الذي اشتهر في مناطق شمال بغداد، عند بداية القرن العشرين، وحدث ان استولى على القطار الصاعد من بغداد، والتقى فيه بـ "مس بيل" المسؤولة الانكليزية المعروفة، التي كانت تستقل القطار، وحين عرفها اكرمها، وعاملها بحفاوه، فتوسطت له، واسقطت عنه الملاحقات القانونية، ووظفته في الدولة. وقد زارت منطقة حائل في السعودية أوردت مشاهداتها عنها في مذكراتها.
توفيت المس بيل في العام 1926 ببغداد بسبب تناولها جرعة كبيرة من الدواء وحضر مراسم دفنها الملك فيصل الأول ودفنت في إحدى مقابر المسحيين بالقرب من ساحة الطيران  .
كان كتاب " مذكرات عراقية" ضالتها وتسليتها في غربتها بحثاً عن الحقيقة  في مثل هذه البيئة النائية جداً عن بيئتها ، ولكنها نزعة  حب المعرفة والاستزادة  هي التي تدفع بالإنسان قدماً نحو المزيد الاستكشاف  والتحري ...
نرى كاتبتنا تقول : " مضيت أدور في عالم جيرترودبل الساحر ، ففي بواكير القرن العشرين سافرت المس بيل لوحدها مع مهربين ولصوص في الصحراء  التي تقع مباشرة خارج نافذتي ، كانت أقوى امرأة في الامبراطورية البريطانية ومستشارة  للملوك ورؤساء الوزارات " .
وتقول ؛ " كانت جرترود بل المرأة  الوحيدة التي دعاها ونستون تشرشل إلى مؤتمر القاهرة عام 1921 ، المؤتمر الذي تقرر فيه مستقبل بلاد ما بين النهرين ، وكانت أيضاً ضمن عدد من الرحّالة الذين جابوا الشرق الأوسط ووصفوا حياة المرأة فيه ، وتنقل عنها قولها في مذكراتها  : " ها هنّ هناك ، تلك النساء المتلفّعات  بقماشٍ هندي ومثقلات بالحلي والجواهر ، يخدمهن العبيد والجواري ، وليس هناك شئٌ يشي بوجود أوربا  أو أوربيين عداي  أنا ، كنت أمثل وصمة عار بينهن ، بعض النساء في بيت الشيخلي كنّ رائعات الجمال ، كانت النساء يمررن من يد إلى يد والمنتصر من يأخذ إحداهن بسطوتها وجمالها ، فتأمّل ذلك ."
 وكانت المس بيل كتبت قد  أيضاً عن حريم ( حايل) بالحجاز في العام 1914 ، وقد أخبرها الخصي سعيد توّاً بأنها الآن أسيرة ولا يمكنها المغادرة ، وخصص لها بيتاً صغيراً في قسم الحريم حيث بقيت هناك لبعض الوقت إلى أن أطلق سراحها ، وهي تقول عن تجربتها تلك ؛ " جلست في حديقة البيت على سجادة ، مثل شكل الرسوم الفارسية في الكتب المصورة ، العبيد والخصيان يخدموننا ويقدمون الشاي والقهوة والفاكهة ، وبعد ذلك أخذنا نتمشى في الحديقة ، أخذ الأولاد يخبروننا بأسماء الأشجار باهتمام ، ثم جلسنا ثانية وشربنا المزيد من الشاي والقهوة ، إن ما يثير الغضب حقاً هو أن تجلس يوماً بعد يوم بين جدران طينية عالية ، إني أشكر السماء لأن أعصابي لم تكن مشدودة ليلة واحدة من بين سبع ليالٍ قضيتها في الأسر " .
بعد طول انتظار أطلقوا سراحها بقرار من الأمير ، " أتت جمالي بعد أن تهيّأ سعيد الأسود حاملاً حقيبة من الذهب وتصريح بالذهاب إلى أي مكان أشاء " .
بعد إجراءات وصعوبات كثيرة تواجهها كاتبتنا النرويجية ، من أجل الحصول على الموافقات الرسمية لمزاولة عملها  الصحفي في العراق في تلك الأوقات العصيبة ، يتم تخصيص أحد الأشخاص بصفة مرافق لها  ، ومعلوم أن مثل هؤلاء الأشخاص يتم اختيارهم بعناية شديدة من قبل مديرية المخابرات العراقية  مع الأخذ بنظر الاعتبار أن على عاتقها تقع مسؤولية الإنفاق على هذا المرافق .
يقول لها المسؤول عن مكتب عدي ؛ " هذا هو تكليف ، أكثر الرجال خبرة ، أعطيتك الأفضل لأنك لا زلتِ شابة " .
وبعد أن يصبحا معاً ، يبادرها  تكليف بالقول  ؛
- ما الذي تهتمين به ؟ وتعلّق هي ؛ كان هذا سؤاله الأول ، كان عليّ أن أختار واحدة من الاهتمامات  التي تبرر قدومي إلى العراق ومن ثم بقائي ، لربما مقابلة مع صدام حسين ، لم يُتح لي الوقت بأن أفكر قبل أن يُكمل :
- هل تهتمين بالثقافة ؟ اذن علينا أن نطلب زيارة بابل ، هل أنتِ مهتمة بالفن ، اذن علينا طلب زيارة مركز صدام للفنون ، أو متحف الفن المعاصر ، أو متحف التأريخ ، متحف الآثار ، نصب الثورة ، هل نبدأ من بابل غداً ؟
لم أكن في مزاج يسمح لي بهذه الجولات ، كنت أريد التحدث مع الناس ، أن أعرف كيف يعيشون ، لقد أصبح من الواضح أن تقديم الطلب هو ما عليّ فعله حتى بالنسبة لأتفه الأمور ، لزيارة مدرسة مستشفى أو معهد ، حتى لزيارة عائلة على الواحد أن يقدم طلباً يذكر فيه الاسم والعنوان .
تذهب هي وتكليف في اليوم التالي إلى مدينة بابل الآثارية ، تطلع على بعض المعالم هناك ، كان تكليف ثرثاراً ، قال مقهقهاً ؛
- أريني بابل الأمريكية ، كانوا لاشئ في الوقت الذي كنا فيه نحكم العالم ، إنهم مدّعون تأريخياً  ، لا يبنون بل يهدمون ، من الضروري أن تكتبي عن بابل ، بيّني للعالم من نحن !
في يومٍ آخر يذهبان معاً إلى مركز صدام للفنون ، " حيث تلتقي بأحد الفنانين واسمه خالد  ، الذي يخبرها كيف أصبح أحد فناني صدام الرسميين ، يقول ؛ " عندما كنت طالباً في أكاديمية الفنون تم الاعلان عن مسابقة فوتوغرافية لرسم الرئيس  ، ولكن الخيار كان متاحاً للأفكار الفنية ، فزت بالمسابقة " .
تقول له  ؛ ألم تشعر بالملل كونك ترسم الموضوع نفسه دائماً ؟
- أوه ، كلا ، فالرئيس مصدر إلهام متواصل .
يقترح عليها مرافقها أن يذهبا إلى نصب الثورة ، أو زيارة المتحف الذي يضم مقتنيات صدام من الهدايا ، وهناك الآلاف من الهدايا من جميع زعماء العالم ، أو" ما رأيك بزيارة جامع أم المعارك ، هناك مصحف داخل الجامع كتب بدم صدام نفسه ، وبستمائة وخمسين صفحة ، وعلى مدى سنتين صرف رئيسنا ثماني وعشرين لتراً من الدم كي يُكتب هذا الكتاب " .
تتطرق الكاتبة إلى الرقابة الصارمة والتضييق التي تمارسها  مخابرات النظام على الصحفيين  الأجانب العاملين في العراق ، في أحد الأيام صدر الأمر إلى ريمي من صحيفة اللوموند باللحاق بأول طائرة مغادرة إلى الخارج ، فالسفارة العراقية في باريس أرسلت بعض المقالات بالفاكس إلى مقرّبين من عدي ، في واحدة من المقالات أشار ريمي إلى ملاحظات أبداها رجل في الشارع  ؛ " دع القنابل تسقط ، حتى نتخلص في النهاية من الديكتاتور " . تم استدعاء ريمي ومثل أمام عدي نفسه الذي يصرخ بوجهه ؛ " لا يمكن لأي واحد  في العراق أن يقول مثل هذا الكلام ، أنت صنعته " .
أحد النقاد الأدبيين ، وأطلقت  الصحفية عليه اسم عصام ، عبّر عن ثقته بأن المقاومة لدخول الجيش الأمريكي إلى بغداد ستكون ضعيفة ، "الكثير من المواطنين ربما سيكونون مسلحين ، ولكن قليلين منهم مهيئون للقتال من أجل صدام ، الناس يكرهونه ، العراق أصبح بلداً لمرضى الشيزوفرينيا والجبناء ، البلد الذي يخاف فيه الناس من أصدقائهم ومن عوائلهم  بل وحتى أطفالهم " .
وفيما يشبه النبوءة و الإرهاص بما ستؤول إليه الأمور لاحقاً ، يقول لها أحد بائعي الكتب ؛ " نحن الذين بقينا نموت ببطء ، نعيش في كابوس أخرس ، نحتاج إلى زلزال ، كل شئ يجب أن يُقتلع من جذوره ، لكنّ ذلك سيكلف غالياً ، أنا عربي ومواطن عراقي وأكره الأمريكان وهيمنتهم على العالم ، لكني  لا أجد سبيلاً آخر للعراق ، دع الشياطين الأمريكان يأتون وينجزون مهمتهم ، ولكن ذلك يمكن أن يتحول إلى حرب أهلية مرعبة ، العرب ضد الأكراد ، المسلمين ضد المسيحيين الشيعة ضد السنة وبالعكس ، لن يعود الوضع إلى ما كان عليه مطلقاً " .
في أحد المفاصل ، وبينما الوضع في العراق يزداد سوءاً جراء ابتداء هجوم القوات الأمريكية يتم إبعادها إلى عمّان على متن  أقرب طائرة ، وهناك تبذل مجهودات مضنية من أجل العودة لاستئناف عملها ، وتستخدم حيلة ، حيث تنضم إلى مجموعة الدروع البشرية  الذين كانوا يتطوعون للذهاب إلى العراق  .
وتتكلم عن تجربتها ؛ " أما بشأن الدروع البشرية الذين تطوعوا من جنسيات مختلفة للوقوف بوجه الهجوم الأمريكي  ، خمسة عشر من الدروع البشرية كان يتوقع بقاؤهم في محطة بغداد للكهرباء ، البعض منهم أخذ بالانسحاب  من الحملة ، الشاب الفرنسي (آسدن) أخذته الدهشة عندما زار عائلة عراقية ، حيث قال له رب العائلة ؛
- أوقفوا هذا الهراء ، نحن نريد الحرب ، نريد القنابل ، حتى نتخلص من الدكتاتور .
أحد هؤلاء الدروع أبدى تخوفه ؛ " لقد بدأت أحس بالندم ، لربما سيقوم العراقيون بتقييدنا إلى أهداف ستراتيجية " .
في الفصل  الثاني من الكتاب ، والذي يقع تحت عنوان (خلال) ، يتم استبدال مرافقها بمرافقة اسمها عالية ، وهي شابة على قدر من الجمال والأناقة  ، تقول لها إن  وزارة الداخلية دعت المواطنين إلى فتح محلاتهم ، التظاهر بأننا شعب لا يُهزم حيث سنقف بصلابة إلى آخر مدى من الصراع ، ثم توجّه إليها السؤال بعد أن رأت قلقها  ؛
- "هل أنتِ خائفة ؟ يجب أن لا تخافي  ، مهما سيحدث أنا هنا معك ، سوف أعتني بك ، قبضت عالية على يدي ، أنتِ أختي ، إذا هاجمك أي واحد سوف أحميك بجسمي ، يمكن أن أخبئك في بيتي إذا أصبح الأمر خطيراً ، وعلى أية حال فمصيرنا بيد الرب ، أنتِ اختي العزيزة وأنا أختك السمراء ، شقراء وسمراء ، الضياء والظلام " .
أكاذيب الصحّاف المفضوحة
وأثناء ذلك تضطر لسماع هرطقات  وزير الإعلام محمد سعيد الصحاف ، الذي يؤكد أن العدو أصبح ضعيفاً وخائراً ، نحن منتصرون في كل الجبهات  .
في أحد الأيام ظهر صدام على شاشة التلفزيون ، كانت الرسالة التي وجهها  هي أن الأمريكان على وشك السقوط في الفخ أو الكمّاشة ، الكثير صدّق هذه الكلمات لا سيما وأن عاصفة  رملية شديدة هبّت في ذلك المساء ، مما اضطر القوات الأمريكية إلى التوقف عن التقدم باتجاه بغداد ، .
وأثناء تأزم الموقف ، أعلن الصحاف أن العراق من الآن سيستعمل أسلحة غير تقليدية ؟
تساءلنا ؛ هل يقصد أسلحة دمار شامل ، كيمياوي أو ذري ؟
في ذلك المساء فجّر أول انتحاري عراقي نفسه ، قاد سيارته التاكسي في طريق مغلق خاص بالأمريكان خارج النجف وقام بتفجير السيارة ونفسه معاً ، قيل إنه قتل أربعة من الأمريكان ، في اليوم التالي تم إخبارنا بأن هذا هو السلاح غير التقليدي العراقي ، الانتحاريون !
وأثناء تحاورهما معاً تبدي عالية رأيها ؛" ماذا يفعل الأمريكان اذن ؟ يقتلون النساء والأطفال الأبرياء ، أليس ذلك إرهاباً ؟ لربما يكون الأمريكان متفوقين علينا بالسلاح ، لكننا متفوقون عليهم أخلاقياً وحضارياً ، وعلى أية حال فإن الله معنا ".
 وتحتدم الأمور  ، تصبح القوات الأمريكية على مشارف بغداد ، يأمرها المسؤول الإعلامي في مكتب عدي بالمغادرة هي وعدد قليل  متبقٍ من الصحفيين الأجانب ، ولكنها تستشعر أن نهاية النظام قد اقتربت ، فتقول لها مرافقتها عالية ؛ " مهما حصل ، بإمكانك البقاء اختفي وراء ظهري ، وعندما يأتي الأمريكان سأختفي وراء ظهرك " .
أثناء ذلك يصر وزير الإعلام على الظهور أمامهم في مؤتمر صحفي يتم بثه على الفضائيات ، ويتحدث عن النهب الذي  يقوم به الجنود البريطانيون   قائلاً ؛
- في البصرة سرقوا حتى حليب الأطفال الرضّع ، سرقوا باودر الحليب من المخازن ، كانت هناك ابتسامات خفية في كل القاعة ، فتسأل مرافقتها عالية ؛
- هل تعتقدين حقاً أن الجنود البريطانيين سرقوا مخازن حليب الأطفال ؟
تجيب هذه ؛ بالطبع ، تقول لها ؛ ولكن ، ما الذي سيفعلونه بكل هذا الحليب ؟
- يستعملونه مع الشاي !
لا يلبث الصحاف أن يظهر علينا كرة ثانية ، قائلاً " أعتذر لكوني قد أيقظتكم مبكراً هذا الصباح مع صوت الإطلاقات ، ولكني أريدكم أن تعلموا بأننا أجبرنا العدو على التقهقر ويمكنكم أن ترتاحوا " .
على الجانب الآخر من النهر ، كانت  دبابات الأمريكان قد أخذت مواقعها خارج القصر الجمهوري ، " سوف تكون قبورهم جميعاً في بغداد "  يردف الصحاف  ، لقد أحكمنا الخناق حول الجيش الأمريكي ، تصوروا أن الجنود الأمريكيين محبوسون داخل دباباتهم . سوف نلقنهم درساً ، درساً  تأريخياً . أنا لا أستطيع  أن أفهم لماذا أرسلوا جنودهم إلى هنا لكي ينتحروا ، عندما قالوا إنهم استولوا على القصور الرئاسية فإنهم يكذبون ، إنهم يخدعونكم " .
رد عليه مراسل الـ bbc قائلاً ؛
- ولكن ، انظر إلى الجانب الآخر من النهر ، تلك هي الدبابات الأمريكية .
يروي لها  لورنزو ، وهو أحد زملائها من الصحفيين ، أنه كان يوم أمس  في  مدينة صدام ، قص عليها كيف احتضنه الناس هو والأمريكان ، في البداية كان الجميع يصفّقون ، ثم انتبهوا بأن أيديهم يمكن استعمالها  لغرض آخر ، انفجر النهب ، كانوا ينتزعون كل شئ  يجدونه .
بعد سقوط صدام يتاح لها أن تطلع على العديد من الحكايات ،  التي كانت ترغب بشدة في سماعها من أفواه الناس مباشرة ودون رقيب .
مجموعة من الأصدقاء يعرفون الكثير عن الذين سُجنوا  أو اختفوا خلال حكم صدام ، أحدهم وهو مهندس حاسبات أخبرها بقصة صديق  له في المدرسة أطلق نكته عن صدام حسين خلال فرصة الدرس ، " في اليوم التالي لم يأت إلى المدرسة ، وكذلك في اليوم الذي يليه ، بعد أسبوع ذهبنا إلى بيتهم لنسأل عنه ، فوجدنا أن العائلة كلها غير موجودة ، جاءت المخابرات في مساء ذلك اليوم وأخذوهم جميعاً ، لم يعودوا مطلقاً ، يقول ياسر  الذي ما يزال يتذكر تلك النكتة المميتة ؛
- في أحد الأيام يقرر صدام بأن أي واحد يريد مغادرة العراق سيُسمح له بذلك ومن دون رسوم باهظة  ، طوابير طويلة  كانت تقف أمام دائرة الجوازات ، سمع الرئيس بذلك وقرر أن يأتي بنفسه ويرى ، تنكّر ببدلة قديمة ووضع لحية مستعارة ، وقف في الطابور وعندما وصل إلى المقدمة ، طلب أن يمنحوه جوازاً ، بعد ذلك  خلع لحيته فتعرّف عليه كل من كان هناك ، قال ؛ أريد أن أسافر أيضاً ، وأصدر له الموظف المدني جوازاً ، عندما استدار وجد أن الطابور الطويل جداً قد اختفى .
- أين ذهب كل هؤلاء الذين كانوا خلفي في الطابور ؟
- سيدي ، عندما رأوا بأنك ستغادر قرروا البقاء قال الرجل الوحيد الذي كان واقفاً .
ختاماً ليس بوسعنا سوى أن نثني على  هذا الكتاب الذي وثّقت في الصحافية  بطريقة روائية طازجة لمجريات الأحداث في مفصل مهم من تأريخ العراق ، كما أننا نشيد ونمتدح المجهود الكبير الذي بذله الباحث والمترجم صلاح السعيد في إخراج هذه التحفة الأدبية  ، وبوسعنا أن نؤكد أنه وعبر هذا الكتاب تحديداً صنع مأثرته الأكثر أهمية  في ميدان الترجمة ....
بقي أن نشير أن الكتاب هو من إصدارات المركز الثقافي للطباعة والنشر في الحلة بإدارة صديقنا  الشاعر المثابر ولاء الصواف ...




ليست هناك تعليقات: