ملف حول الفنان رافع الناصري
رافع الناصري
المعلم
عادل كامل
لم نخسر رافع الناصري، برحيله، اليوم، بل خسرناه عندما وجد انه لا يمتلك إلا ان يغادر مشغله في بغداد، بحثا ً عن هواء صالح للتنفس: نهاية مازالت تجرجر مقدماتها معها، من غير خاتمة. فالفنان الذي أكمل دراسته في معهد الفنون الجميلة ببغداد، وبكين، ولشبونة، عاد ليؤسس ورشة لفن الطباعة (الكرافيك) في المعهد الذي درس فيه ببغداد. ورشة للطلاب، وأخرى شخصية، لكنها سرعان ما تحولت إلى مشغل للعمل الجمعي.
فالذي تعلمه من الأستاذ فائق حسن، ومن الرواد عامة، طوره في بكين، بدراسة أصول أقدم فن، هناك، ثم تعرف على التقنيات المتقدمة له، بأصولها الأوربية، في لشبونة. وخلاصة هذا الدرس، أن رافع الناصري، تعلم أن (يتعلم) وان يكون (معلما ً)، مثل أستاذه فائق حسن، وأساتذته في الصين، والبرتغال.
وكلمة معلم، جديرة بفنان كرس حياته للفن، وللفن بصفته علامة حضارية، أكثر من أية كلمة أخرى. فالمعلم اجتمعت فيه خصال لم تتوفر إلا لدى (أسطوات) وادي الرافدين، ولدى الحرفيين القدماء، كالصاغة، والخطاطين، والنساجين، والحفارين، والبنائيين في العراق القديم.
تعلم كيف يتعلم. وهذا لا علاقة له، بفنه، أو حتى بشخصيته، بل له علاقة بأخلاقيات العمل. بالحرفي البغدادي الذي ترجع جذوره إلى سومر وأكد، وبالحرفي الصيني التي ترجع جذوره إلى كونفشيوس، وبحرفي أوربا الكبار أمثال دورر، ورامبرانت، وغويا، ومونخ. وهي أصول اشتركت فيها حضارات متعددة، تاريخية ومعاصرة، لكنها مكثت تتقدم مع تقدم المفاهيم، والتقانات.
وإذا كنت كتبت فصولا ً عن فن الناصري، وتحولاته، وتنويعاته، فان دوره، كمعلم، تبقى لها أهمتها الخاصة. فهو يشترك مع عدد من (المنفيين) حمل رسالة (المعلم)، في عالم تحول إلى قرية صغيرة، خارج مساحات المنافي، والغربة. فأسس مشاغل عدة، في عمان، والمنامة، ودرس في أكثر من معهد، ومديرية، وجامعة، ليس بدافع تفرده بالحرفة، وألغازها، وأصولها، بل لأنه أدرك ان دور (المعلم) إن غاب، فان الفوضى لن تبني حضارة.
ومفهوم فن الطباعة يعد من أقدم المفاهيم: فالختم السومري، بصفته أقدمها، يعد الأقدم بتكرار النسخ، ثم، مع وجود (البردي) في مصر، والورق، في الصين، ازدهر هذا الفن، وغدا أكثر انتشارا ً. وبالتطور الصناعي، في أوربا، وفي ألمانيا تحديدا ً، أصبحت (ماكنة) الطباعة جزءا ً سمح للتقنية ان تمنح (العاطفة/ التعبير) مساحة أوسع للتداول. لأن مفهوم (الكرافيك)، ببساطة، يعني تعدد الطبعات، كي يغادر حدود (النخبة)، ويغدو جماهيريا ً.
والأستاذ رافع الناصري، على مدى نصف القرن الذي أمضاه في الفن، لم يتخل عن دور (المعلم) ـ لنفسه ـ وللآخرين، وكأنه ـ منذ البدء ـ تعلم ان المعرفة هي ممارسة يومية، وهي تحافظ على شرعية أنها تمتد، بحكمة ان الفن هو العمل الذي يقابل: الفراغ ـ أو الكسل. فالمعلم تعلم كيف يبني، يركب، ينسج، يولف، يجمع، يصهر ..الخ، مجذرا ً دور المتلقي شريكا ً في الفلسفة: أي حب المعرفة، كجزء من المدرسة ، الورشة، الصف، التي تمنح الجذور أصولها في الامتداد والاستحداث، كما ترسخ أصول التجدد بالاستناد إلى الأسلاف التي كانت مهمتهم، كما يقول لا وتسي: ان تضع قدمك في الطريق، لا ان تغادره، أو تمشي في المتاهة. رافع الناصري، تعلم ان يؤدي هذا الدور، نموذجا ً لتعاليم يصعب إغفال مكانتها في حاضر الفن العربي، اليوم.
فالشعوب التي تفتقد إلى (المعلمين)، بالضرورة، ليس لديها علامات. لأن حرفيات ـ تقانات ـ المعلم تتجاوز الأشكال، والأعراف، كي تجعل (الفن) حياة إزاء نشأتها، في ماضيها، أو في مصيرها. فالمعلم، لن يصبح معلما ً لأنه امسك بما هو غائب، بل لان ثمة إرادة عامة ـ قد لا تبدو معلنة ـ تعمل عملها. وهذا كان سر اعتراف رافع الناصري، لي، في ذات مرة: لا اعرف لماذا ارسم! انه لن يجد إجابة لو انه لم يختر الرسم، ولم يرسم. فهو لا يعرف لماذا يرسم، ولكنه اختار ان يرسم، وهنا تكمن جذور الحرفة ـ الصنعة، النفش، وصياغة (النص).
فالأختام، في سومر، قد لا تنتمي إلى الفن، بمعناه المعاصر، لا لأنها تؤدي وظيفة الإيصال ـ التبادل ـ، بل لأنها تفتقد إلى المغامرة. لكن هذا محض تأويل. ذلك لأن فن (الأختام) تضمن لغز معناه، غير الشكل او أجزاءه، أو عندما تقودنا الأجزاء إلى الشكل في مقاصده؛ تلك التي لم تعد توصل (المعنى) والتي لا تستقل عنه أيضا ً. ولو لم تكن ثمة مدرسة في سومر، لكان وجود الأختام ـ فن الطباعة وتكرار النسخ ـ مستحيلا ً. والأمر اقل تعقيدا ًلدى كونفشيوس، بشعار: من لا يعمل لا يمتلك المزيد من الحقوق. فالعمل وحده سمح للفلسفة الصينية ان تنمو ـ بعد ألفي وخمسمائة عام ـ بالديالكتيك الماركسي، وتنتج مفهوما ً متجددا ً للمعلمين، بقلب التخلف إلى حضارة. ولم يجد رافع الناصري صعوبة، أو تقاطعا ً مع هذا الإرث ـ حتى مع نقيضه في التاو ـ بل مساحة للحرية: اعني: حرية ممارسة الحرية، لا تركها محض تأويلات، أو مخيالات تجريدية. فالمعلم ـ من سومر إلى الصين إلى أوربا ـ أعاد بناء النسق ذاته عند صانعي الدمى، ورسومات الكهوف، وما تم نقشه فوق الأواني من أساطير عملية ـ راح يستنطق التجربة، ويستثمرها، كي لا تفضي التجربة إلى فوضى، بل إلى خطوات تقود المعلم، إلى وجود: المدرسة ـ المحترف/ المشغل. وهو ما سمح للناصري ان يجد مجموعات من التلامذة، في بغداد أو خارجها، في أزمنة تعرضت فيه (الأعراف/ التقاليد) إلى الهدم، لمواصلة خطاه. وهو عزاء لا مناص لن يتوقف عند الرثاء، بل سيتمم مسيرة تعيد للمعلم ـ في الفن والمجالات الأخرى ـ كل ما توخته (المحترفات) و (الأكاديميات) إزاء النزعات التدميرية، للحروب، وللتلاعب بمصائر الشعوب، في عصرنا. وهذا ـ بحد ذاته ـ جزء من دينامية (اللغز) في مواجهة تحدي القواعد، وثوابتها الخلاقة.
Az4445363@gmail.com
رافع الناصري
المعلم
عادل كامل
لم نخسر رافع الناصري، برحيله، اليوم، بل خسرناه عندما وجد انه لا يمتلك إلا ان يغادر مشغله في بغداد، بحثا ً عن هواء صالح للتنفس: نهاية مازالت تجرجر مقدماتها معها، من غير خاتمة. فالفنان الذي أكمل دراسته في معهد الفنون الجميلة ببغداد، وبكين، ولشبونة، عاد ليؤسس ورشة لفن الطباعة (الكرافيك) في المعهد الذي درس فيه ببغداد. ورشة للطلاب، وأخرى شخصية، لكنها سرعان ما تحولت إلى مشغل للعمل الجمعي.
فالذي تعلمه من الأستاذ فائق حسن، ومن الرواد عامة، طوره في بكين، بدراسة أصول أقدم فن، هناك، ثم تعرف على التقنيات المتقدمة له، بأصولها الأوربية، في لشبونة. وخلاصة هذا الدرس، أن رافع الناصري، تعلم أن (يتعلم) وان يكون (معلما ً)، مثل أستاذه فائق حسن، وأساتذته في الصين، والبرتغال.
وكلمة معلم، جديرة بفنان كرس حياته للفن، وللفن بصفته علامة حضارية، أكثر من أية كلمة أخرى. فالمعلم اجتمعت فيه خصال لم تتوفر إلا لدى (أسطوات) وادي الرافدين، ولدى الحرفيين القدماء، كالصاغة، والخطاطين، والنساجين، والحفارين، والبنائيين في العراق القديم.
تعلم كيف يتعلم. وهذا لا علاقة له، بفنه، أو حتى بشخصيته، بل له علاقة بأخلاقيات العمل. بالحرفي البغدادي الذي ترجع جذوره إلى سومر وأكد، وبالحرفي الصيني التي ترجع جذوره إلى كونفشيوس، وبحرفي أوربا الكبار أمثال دورر، ورامبرانت، وغويا، ومونخ. وهي أصول اشتركت فيها حضارات متعددة، تاريخية ومعاصرة، لكنها مكثت تتقدم مع تقدم المفاهيم، والتقانات.
وإذا كنت كتبت فصولا ً عن فن الناصري، وتحولاته، وتنويعاته، فان دوره، كمعلم، تبقى لها أهمتها الخاصة. فهو يشترك مع عدد من (المنفيين) حمل رسالة (المعلم)، في عالم تحول إلى قرية صغيرة، خارج مساحات المنافي، والغربة. فأسس مشاغل عدة، في عمان، والمنامة، ودرس في أكثر من معهد، ومديرية، وجامعة، ليس بدافع تفرده بالحرفة، وألغازها، وأصولها، بل لأنه أدرك ان دور (المعلم) إن غاب، فان الفوضى لن تبني حضارة.
ومفهوم فن الطباعة يعد من أقدم المفاهيم: فالختم السومري، بصفته أقدمها، يعد الأقدم بتكرار النسخ، ثم، مع وجود (البردي) في مصر، والورق، في الصين، ازدهر هذا الفن، وغدا أكثر انتشارا ً. وبالتطور الصناعي، في أوربا، وفي ألمانيا تحديدا ً، أصبحت (ماكنة) الطباعة جزءا ً سمح للتقنية ان تمنح (العاطفة/ التعبير) مساحة أوسع للتداول. لأن مفهوم (الكرافيك)، ببساطة، يعني تعدد الطبعات، كي يغادر حدود (النخبة)، ويغدو جماهيريا ً.
والأستاذ رافع الناصري، على مدى نصف القرن الذي أمضاه في الفن، لم يتخل عن دور (المعلم) ـ لنفسه ـ وللآخرين، وكأنه ـ منذ البدء ـ تعلم ان المعرفة هي ممارسة يومية، وهي تحافظ على شرعية أنها تمتد، بحكمة ان الفن هو العمل الذي يقابل: الفراغ ـ أو الكسل. فالمعلم تعلم كيف يبني، يركب، ينسج، يولف، يجمع، يصهر ..الخ، مجذرا ً دور المتلقي شريكا ً في الفلسفة: أي حب المعرفة، كجزء من المدرسة ، الورشة، الصف، التي تمنح الجذور أصولها في الامتداد والاستحداث، كما ترسخ أصول التجدد بالاستناد إلى الأسلاف التي كانت مهمتهم، كما يقول لا وتسي: ان تضع قدمك في الطريق، لا ان تغادره، أو تمشي في المتاهة. رافع الناصري، تعلم ان يؤدي هذا الدور، نموذجا ً لتعاليم يصعب إغفال مكانتها في حاضر الفن العربي، اليوم.
فالشعوب التي تفتقد إلى (المعلمين)، بالضرورة، ليس لديها علامات. لأن حرفيات ـ تقانات ـ المعلم تتجاوز الأشكال، والأعراف، كي تجعل (الفن) حياة إزاء نشأتها، في ماضيها، أو في مصيرها. فالمعلم، لن يصبح معلما ً لأنه امسك بما هو غائب، بل لان ثمة إرادة عامة ـ قد لا تبدو معلنة ـ تعمل عملها. وهذا كان سر اعتراف رافع الناصري، لي، في ذات مرة: لا اعرف لماذا ارسم! انه لن يجد إجابة لو انه لم يختر الرسم، ولم يرسم. فهو لا يعرف لماذا يرسم، ولكنه اختار ان يرسم، وهنا تكمن جذور الحرفة ـ الصنعة، النفش، وصياغة (النص).
فالأختام، في سومر، قد لا تنتمي إلى الفن، بمعناه المعاصر، لا لأنها تؤدي وظيفة الإيصال ـ التبادل ـ، بل لأنها تفتقد إلى المغامرة. لكن هذا محض تأويل. ذلك لأن فن (الأختام) تضمن لغز معناه، غير الشكل او أجزاءه، أو عندما تقودنا الأجزاء إلى الشكل في مقاصده؛ تلك التي لم تعد توصل (المعنى) والتي لا تستقل عنه أيضا ً. ولو لم تكن ثمة مدرسة في سومر، لكان وجود الأختام ـ فن الطباعة وتكرار النسخ ـ مستحيلا ً. والأمر اقل تعقيدا ًلدى كونفشيوس، بشعار: من لا يعمل لا يمتلك المزيد من الحقوق. فالعمل وحده سمح للفلسفة الصينية ان تنمو ـ بعد ألفي وخمسمائة عام ـ بالديالكتيك الماركسي، وتنتج مفهوما ً متجددا ً للمعلمين، بقلب التخلف إلى حضارة. ولم يجد رافع الناصري صعوبة، أو تقاطعا ً مع هذا الإرث ـ حتى مع نقيضه في التاو ـ بل مساحة للحرية: اعني: حرية ممارسة الحرية، لا تركها محض تأويلات، أو مخيالات تجريدية. فالمعلم ـ من سومر إلى الصين إلى أوربا ـ أعاد بناء النسق ذاته عند صانعي الدمى، ورسومات الكهوف، وما تم نقشه فوق الأواني من أساطير عملية ـ راح يستنطق التجربة، ويستثمرها، كي لا تفضي التجربة إلى فوضى، بل إلى خطوات تقود المعلم، إلى وجود: المدرسة ـ المحترف/ المشغل. وهو ما سمح للناصري ان يجد مجموعات من التلامذة، في بغداد أو خارجها، في أزمنة تعرضت فيه (الأعراف/ التقاليد) إلى الهدم، لمواصلة خطاه. وهو عزاء لا مناص لن يتوقف عند الرثاء، بل سيتمم مسيرة تعيد للمعلم ـ في الفن والمجالات الأخرى ـ كل ما توخته (المحترفات) و (الأكاديميات) إزاء النزعات التدميرية، للحروب، وللتلاعب بمصائر الشعوب، في عصرنا. وهذا ـ بحد ذاته ـ جزء من دينامية (اللغز) في مواجهة تحدي القواعد، وثوابتها الخلاقة.
Az4445363@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق