قصص قصيرة جداً
عادل كامل
مقدمة:
قال الجنيد:
" فقد حكي عن الجنيد انه رأى رجلا ً
مصلوبا ً وقد قطعت يداه ورجلاه ولسانه. وعندما استفسر عن سبب ذلك قيل له كان ديدنه
السرقة فقطعت يده في السرقة الأولى والأخرى في الثانية، فثابر على السرقة برجليه
فقطعتا على التوالي، فاخذ يسرق بلسانه فقطع لسانه، واستمر بالسرقة إلى ان آل به
القضاء إلى القتل! آنذاك اقترب منه وقّبله، فقيل له:
ـ تقبل جسد لص مصلوب؟ّ!
ـ إنما أفعل ذلك لثباته!"
وقال الجنيد أيضا ً: " الصادق
يتقلب في اليوم أربعين مرة والمرائي يثبت على حالة واحدة أربعين سنة!"
وقال ألنفرّي: " كل جزيئة في
الكون موقف"
وقال محي الدين بن عربي: "لا
يؤاخذ الجاهل بجهل، فإن جهله له وجه في العلم" وقال أيضا ً:" لا يصح
الترادف في العالم، لأن الترادف تكرار وليس في الوجود تكرار"
وقال أبو علي الدقاق: " الإرادة
لوعة في الفؤاد، ولدغة في القلب، وغرام في الضمير، وانزعاج في الباطن، ونيران تتأجج
في القلوب"
[1] وشاية
انج بجلدك. ولكنه، بعد تخيَل ما سيحدث له،
تسمر. صرخ الراعي: أمش. فعاد يستمع إلى صوت زميله في القطيع: إن غادرت أكلتك
الذئاب، وإذا نجوت منها فستعيدك الكلاب إلينا، كي تنتظر موسم جز الصوف، من ثم
الذهاب إلى المسلخ. إنج بجلدك. ليجد انه كلما تقدم مع القطيع، اقترب من النهاية.
فقال الكاتب يخاطب ذاته: ما ـ هو ـ مصير هذه الكلمات. أجاب بلامبالاة: لا
احد يسمعك، ولا احد يريد ان يصغي إليك، ومصير كلماتك كمصير خروفك، إن مكث، أو غادر،
فقد وجد كي يهلك.
رفع رأسه وشاهد ـ عبر الشاشة ـ المجازر
البشرية: إن صمتوا تموت الكلمات في قلوبهم، وإن تكلموا، تسفك دمائهم في الشوارع.
فترك أصابعه تدّون: عليك ان لا تدع المدية تعمل في قلبك، بل دعها تعمل في قلب
الجزار.
سمع الآخر يهمس في آذنه: ها أنت تحرض على العصيان، وتدعوا إلى العنف!
ـ أنا، أنا اصف ما رأيت، ولكن من أخبرك؟
ـ كلماتك أوشت بك.
[2] المدينة البيضاء
عندما دخل إلى المدينة البيضاء، لم يجد القدرة على النطق، كانت نظراته
شاردة، يبحث عن آخر يرشده. فاقترب احد المارة منه وسأله: هل تبحث عن مكان، أو عن
احد ما ..؟
لم يخبره انه فر من العاصفة التي ضربت مدينته، وحولت النهار إلى ليل، وانه
لا يعرف ما الذي حل بها، ولم يجد الشجاعة كي يخبره كيف بدأت الريح باقتلاع الأشجار،
وهدم المنازل، وكيف خربت المدينة، وتم احتلالها من الغرباء، واللصوص، والقتلة.
أعاد رجل المدينة البيضاء السؤال عليه: هل
ترغب بمساعدة..؟
لم ينطق، لأنه كان يود ان يحذره من اقتراب العاصفة، وما ستحدثه في المدينة
البيضاء، ابتسم الآخر، وقال: علمت، يا سيدي، ما دار بخلدك.
مازالت الكلمات غائبة عنه، وعندما بحث عن فمه، لم يجده. كان البياض يمتد من
الصفر إلى المطلق، ومن المطلق إلى الصفر، إنما أراد ان يخبر رجل المدينة البيضاء
انه.....، يود ان يحدثه عما رأى، وشاهد، في مدينته، ويحذره من اقتراب العاصفة.
فقال الآخر: قرأت ما دار بخاطرك، يا سيدي، فلا تأسف ان الحكمة لم تأت إلا بعد فوات
الأوان، بل ـ ولا تأسف ـ حتى إن جاءت قبل أوانها، بل ولا تأسف حتى لو لم تأت أبدا
ً، إنما دع عنك الأسف، وأنت تفكر كيف لا تدع العتمة تتسلل إلى البياض، بعد ان أدركت
انك كلما تقدمت في المسافة ضاق الطريق، وكلما اشتد المصاب اقترب الفرج. رباه هذا
ما كانوا يقولونه لنا. فقال الآخر: لا تموت المدن إلا عندما لا تجد من يحمل سرها، وإذا
كان البياض بهرك، في مدنيتنا، وأعاد لك رشدك، فعد إلى مدينتك واخبر سكانها بما
رأيت، لأن الثبات هو باب الحكمة، ولغزها.
[3] مساحات
نظر إلى أصابعه، وهي تترك، فوق الورقة، بقعا ً شبيهة بكائنات مجهرية، ثم
بدت له كسرب طيور، سود، تعبر من اليمين إلى اليسار، ومن حافة الورقة إلى الفضاء
...،فاستعاد، في لمحة، كيف كان يهرول، في ذات يوم، في حلقة دائرية، في مدرسة
القرية، وكيف توارى المشهد، وغاب.
رفع رأسه قليلا ً وشاهد أشعة الشمس تأتي من
وراء الغيوم وتسقط فوق الورقة، ليرى الكلمات تحولت إلى كائنات بيضاء لها أجنحة وهي
تحّوم في فضاء الغرفة ..
عندما نظر إلى أصابعه، مرة ثانية، رآها تغيب،
فكف عن الكتابة، ومن غير مقاومة، ترك جسده يرحل، غير آسف، انه لم يترك إلا مساحة
بيضاء خالية من السواد.
[4] صوت
وهو شارد الذهن يتأمل جدران المدينة البيضاء،
وأزقتها، رفع بصره عاليا ً، والى الجهات كافة، مصغيا ً إلى صوت امرأة تستجدي. لم
يجد لديه ما يلبي طلبها، آنذاك كاد البياض يتوارى، لولا انه سمع الصوت مرة ثانية: أنا لم اطلب منك إلا
ان ترى المشهد كاملا ً.
[5] حلم
تذكر كلمات صديقه، وهو يصل إلى المدينة النائية، انه سوف لا يرى مدينة، ولن
يرى أزقة، ولن يرى كائنات بشرية، بل سيستعيد ذكرى تمنحه كل ذلك الذي، في يوم ما،
كان يحلم ألا يفقده، ويغيب.
إنما ابرق إلى صديقه برسالة موجزة يخبره فيها انه لم يستعد حلمه القديم، بل
ان الحلم هو الذي لا يعرف من منهما كان جعله يأخذه إلى البعيد.
[6] مودة
عندما رفع رأسه قليلا ً، أصغى إلى أصوات خفيضة لها لون الفجر، لم ينشغل
بالبحث عن الكلمات، وهو يشهد عقد قران ولده، بل دار بخلده، انه اجتاز مسافات طويلة
كي لا يتحدث عن الأبواب التي أوصدها، ومكث أسيرها، بل ان يختتم حياته بمقدمات ظن
انه لن يراها. كان لا يريد ان يتحدث عن ضوضاء مدينته وصخبها، لأنه وجد انه يمتلك
قدرة استعادة مشاهد لا يعرف أهي قادمة من البعيد، أم أنها ذاهبة إليه. فقال لهما
همسا ً، انه اذا لم ير سوى الجدران، في حياته، فهذا ليس المشهد، وانه لم يأت
للحديث عن هذا، إنما ـ أضاف بمرح ـ كأن الغيوم وحدها تعرف كيف تعيد للأرض أسرارها.
إنما علي ّ ان أقول: آن لكما سبر أغوار مسافاتها النائية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق