بحث هذه المدونة الإلكترونية

مرات مشاهدة الصفحة في الشهر الماضي

الخميس، 10 نوفمبر 2011

أخلاقـــــنا هويتنــــا-بقلم مازن مريزة-باحث أكاديمي



أخلاقـــــنا هويتنــــا
بقلم مازن مريزة
باحث أكاديمي
في ستينات وسبعينات القرن الماضي ، حينما كنا نسبح سعداء في نهر طفولتنا الصافي ، بمائه الرقراق متجهين نحو شاطئ المرحلة التالية ، كنّا نستمتع بكل مرحلة وفترة نمّرُ بها ، من مراحل بناء وتشكيل أولى اللبنات التكوينية لشخصياتنا وثقافتنا العراقية الأصيلة ، التي كنا نستقي مكوناتها الأساسية من مصادر متعددة ، أولى تلك المصادر وأهمها هي المدرسة كونها فرضت نفسها كعنصر حاسم في تشكيل البناء الأساسي لشخصياتنا المستقلة ، بما قدّمته لنا من تربية أخلاقية بجانب العديد من العلوم واللغات والمعارف الأخرى ، وفي غرس القيم الصالحة ، والمفاهيم النبيلة ، في شخصياتنا البضّة التي ستكون يوما جزءا أصيلاً من نسيج البناء الكبير للمجتمع ، بمساعدة ما كان يقدمه المعلم آنذاك ، من صيانة مستمرة للقيم الاجتماعية والإنسانية والوطنية ، إلى جانب قدرته الرصينة في نشر الوعي وإكساب المعارف والخبرات ، بتأثيره الحر والمسئول ، ووعيه التام لدوره كمربي لا كملقن ، وفي مهارته على مزج ودمج جميع المعارف والأنشطة التعليمية المدرسية لتلك القيم وتضمينها في مجمل النظام التربوي المدرسي برمته ، مما دفع الكثير من المختصين إلى القول في أن تأثير المدرسة قد يفوق تأثير العائلة نفسها ، وإن كان لا يمكن بمكان ما إنكار دور العائلة الفعّال في وضع الحجر الأساس لمصفوفة أخلاقياتنا وقيمنا ، التي سنسير على خطاها في ما بعد ، وسنستمر في تقديمها إلى أبناءنا جيلا بعد جيل ، من خلال الأبوين وما قدّموه لنا من تنوع غني في رفد الجوانب المعرفية والوجدانية ، بما كان يتوافر لهم حينها من فسحة ووفرة دائمة للوقت ، وُجهت في معظمها في متابعتنا وتوجيهنا في أدق تفاصيل الدراسة والحياة اليومية والتصرفات المصاحبة لها ، وتعليمنا الموروث اللغوي والأعراف المصاحبة له ، وكيفية الإفادة من مواقف الحياة المختلفة وفنون التحدث والاستماع ، وسلسلة متينة من العلاقات الاجتماعية المترابطة ، مما ساعد كثيرا في إشباع الحاجات المعرفية الكثيرة ،عن طريق تعدد مصادر الإجابة على الأسئلة الدائمة الآتية من الفراغات الناجمة عن تواصل تشكل ونمو الشخصية ، دون الشعور بالملل أوالنقص من تلك المتابعة الدقيقة والتوجيه المتواصل، أما المصدر الثالث المباشر ، الذي خلق تأثيرات بالغة على عملية تكوين الشخصية وبناؤها ، فهو المحيط والبيئة ، بالمعنى الشامل للكلمة ، بما في ذلك من ظروف المناخ ، وأجواء المخالطة خارج البيت ، والأوضاع الاقتصادية ، والطبائع الاجتماعية العامة ، والأبعاد الثقافية للمجتمع العراقي ، ذي الأعراف السليمة المتوارثة جيلا بعد جيل ، والتي ساعدت كثيرا على التقليل من تأثير الأوضاع السياسية الرديئة السائدة آنذاك ، وإزالة الكثير من البقع القاتمة التي خلّفتها سلبيات الظواهر الفردية والجماعية التي حاول النظام الشمولي في ذلك الوقت استثمارها وتنميتها - إن لم يقم بنفسه على اختلاقها بصورة متعمدة – إذ أن تأثيرات البيئة الموبوءة تصطدم دائما ، بالصفات والقيم الايجابية المركبة التي تحيط بالمجتمع ، كفلتر تصفية لكل السلبيات و الأدران الطارئة ، لتحيلها إلى ظواهر ذات تأثيرات محدودة مهما طال بها الزمن أو قصر ، ويعد التلفاز من أهم الوسائل المباشرة للمحيط والبيئة التي تستطيع عن طريقها فرض واقعها الفعلي، وترك بصمات دائمة في ذاكرة الحواس الظاهرة والخفية في عالم الشخصية الذي لا يعرف حدودا معينة تتوقف عندها عملية اكتساب المزيد من الصفات والخصائص ، يتميز التلفاز بشدة تأثيراته المباشرة على المتلقي بغض النظر عن فئته العمرية ، ومدى استغراق شخصيته في السير نحو مقياس التشكل النهائي ، بسبب تعدد وسائله وإمكانياته المختلفة التي تتيح له أن يكون سلاحا ذو حدين ، حسب الأهداف الكامنة وراء المقاصد الظاهرة والخفية لهذا البرنامج أو ذاك ،وإمكانية استخدام هذا السلاح المدهش للمساعدة في تهذيب الشخصية وتنقيتها من رذائلها ، وصيانة فضائلها ، وغرس أرضيتها النقية؛ بأنواع القيم والمُثل السامية ودعم الأخلاقيات الفاضلة النابعة من نفس المجتمع ، وتعزيز الفطرة السليمة للفرد ، رغبة في دفع المزيد من الرقي إلى المجتمع عن طريق شحن الفرد المتلقي لتلك البرامج بالمزيد من البرامج الممتعة الهادفة ذات التوجهات التربوية بشرط عدم تخليها عن عوامل الجذب والتشويق للحفاظ على شريحة عريضة من المتلقين ،وقد يكون الحد الثاني لهذا السلاح ، نموذجا مثاليا لأبشع الوسائل وأمضاها في نشر الرذائل وتعزيزها ،وفرض نماذج تافهة وقميئة من البرامج والفنون تشوه شكل الفضائل الجميل الذي لا تخلو منه أخلاقيات أي شخص مهما كان طوعا أو اختيارا ، والتهاون في حقوق الآخرين وتنمية التوجهات ذات الصفات الذاتية المنبثقة عن الاهتمام بالجمال الخارجي للخلقة والجسد ، وخلق فراغ داخلي جسيم ، يفتقر إلى الكثير من الخصائص الأخلاقية المتعلقة بذات الشخص ، مما يجعل منه شخصا سلبيا لا يبالي إلا بنفسه وبمحيطه الضيق ، يعيش يومه لنفسه فقط مع مستوى عالي من الهامشية المطلقة ، معززا بذلك خلق شريحة متزايدة من الناس ليس لها الكثير من المعايير الدينية والأخلاقية ، مما يجعلها غير منسجمة مع محيطها وبغير ذي فائدة تجاه المجتمع ، بسبب افتقارها إلى روح الرفعة والوعي الحقيقي الذي يوجهها بصورة مستمرة إلى التوحد العام في خدمة أهداف المجتمع الراقية ، بمساعدة تلك البرامج التلفازية الهابطة ، والأغاني الماجنة ، والمسلسلات التي تبيح المحظورات ، من خلال تكرار بث المزيد من الأفكار الجديدة الملوثة بشتى أنواع الانحرافات ومخاطبة الغرائز بصورة علنية ، وبلغة رخيصة تكاد تكون غريبة عن معايير السلوك العام للمجتمع العراقي ، في محاولة مستميتة لجعل تلك الأفكار مألوفة ،بعد أن كانت مرفوضة بصورة قاطعة إلى ما قبل سنوات معدودة ، كما أن الإصرار على بث برامج مستنسخة بكل ما تحمله من إفساد من مجتمعات إباحية تألف تلك المخاطبات الغريزية ، سيؤدي بلا شك إلى تشجيع تفكيك منظومة الأخلاق العامة التي بُنيت على مر القرون ، والمزيد من الانفلات السلبي للأعمار التي مازالت شخصياتها وثقافتها وأخلاقياتها طور التكوين والبناء والتطور،من الأطفال والمراهقين والمراهقات ، الذين لم تتشكل هوياتهم الحقيقية بصورة نهائية بعد ، في خضم العشرات بل المئات من القنوات التلفازية ، التي انتشرت بصورة غير مسبوقة في خضم الأحداث والمستجدات الأخيرة خلال العقد الماضي ، مما يجعل مهمة حصر تأثير تلك القنوات على النشء الجديد شبه مستحيلة ، في ضوء ارتفاع شعبية التلفاز بين مختلف الفئات العمرية للناس ، الذين يختلفون اختلافا جوهريا في مدى حصانتهم الأخلاقية والثقافية والفكرية ، ومقدرتهم على فرز السلبي من الإيجابي ، والتمييز بين الضار والنافع ،والقدرة على التعاطي بصورة أخلاقية صحيحة مع تلك القنوات دون الانجرار وراء الغرائز الوضيعة والعواطف الرخيصة ، ومما يزيد من صعوبة الموقف ، أن هناك بعض القنوات العراقية التي كانت تُعد من ضمن قائمة القنوات الرصينة والتي تتمتع بنسب مشاهدات عالية ، بدأت تتقبل بث بعض البرامج التي قد تتمكن يوما من جرها إلى شواطئ الجانب المظلم ، إذا استمرت في غض النظر ببساطة عن سلوكيات بعض برامجها التي تبث حاليا ، بعد أن نجحت باستحقاق في أن تقدم خطابا إعلاميا شفافا متوازنا على مدى سنوات طويلة ، وأن تفرض برامجها المحترمة على شريحة واسعة من العراقيين بكل فئاتهم العمرية وأطيافهم المتنوعة ، وان تقدم برامجها بصورة هادفة لا ينقصها الكثير من عوامل الجذب والتشويق والمتعة العاطفية البريئة ، وأن تترك بصمة مميزة في عالم الدراما العراقية الجادة بقوالب جديدة ، تحاكي بجدارة مزاج المشاهد العراقي الصعب ، وتتكئ بصورة غير معقدة في اختيار مفردات برامجها المتعددة بما يناسب الذوق الملتزم واللفظ السليم ، والفكرة الهادفة بعيدا عن الجمود والتكرار ، مثل مسلسل غرباء الليل ، وطائر الجنوب ، وغيرها من المسلسلات التي تركت أثراً طيبا ورصيدا عاليا ، يسجل للقناة لا عليها ، كما سيسجل عليها كنقطة ضعف البرنامج الهزلي الهزيل بإخراجه ومقدميه ومعديه وبمحتواه (( أكو فد واحد )) ، الذي فاجأني ظهوره وبثه على تلك القناة التي كنت أعدّها من القنوات الانتقائية ببرامجها النوعية المميزة ، فهذا البرنامج في أغلبه ينجرف بصورة سلبية وإصرار غريب ، على تقديم نكات هابطة ، لا أجد لها وصفا مناسبا غير أنها (شوارعية) ذي توجهات صريحة لممارسة الرذيلة وشرب الخمور ، تخاطب الغرائز الجنسية الرخيصة ، والحاجات الإنسانية الأخرى التي لا يصح الحديث عنها تأدبا والتزاما بمستوى أخلاقي راقي ، يفرضه الذوق العام ، مما لا يصح التصريح به ، والتعاطي باستهزاء وازدراء للمشكلات والظواهر التي يعانيها المجتمع العراقي ، وبطريقة فجة ومؤلمة ، واستخدام رموز لغوية مستهجنة بدلا من الكلمات الصريحة لخلق مفردات بذيئة جديدة ، ستتسبب بلا شك في الكثير من التخريب للذوق العام ، نعم ، لا شك في أننا بحاجة إلى فرجة ملحّة من الشعور بالمرح ، والتمتع بروح الفكاهة وممارسة الضحك ، كسلوك اجتماعي تعبيري ، وانفعال عاطفي طبيعي يرتبط بالنشاط الإنساني دونا عن باقي المخلوقات ، وتشترك فيه كل اللغات ، كلغة مشتركة موحدة بين كل البشر حتى أن مادة الضحك قد وردت عشر مرات في القران الكريم ، وفي أكثر من دلالة وغرض ، أهمها التعبير عن حالة السعادة والفرح ، وعنوان للمزاج العام للشخص ، كقوله تعالى : ((وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ)) ، وقوله تعالى ((فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا)) ، وقوله تعالى ((وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ )) ، وغيرها ،وربما يكون تعبيرا عن الاستهزاء والاستخفاف ، كقوله تعالى (( إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ )) ، وقوله ((فَلَمَّا جَاءَهُم بِآيَاتِنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ )) ، وقد أسهب المختصون والمفسرون واللغويون في تفسير مادة الضحك في القرآن ،والسنة ، والتراث العربي ، فيما لا يتسع الوقت في هذه العجالة لحصره ، ولكن ما يجب التوقف عنده في ما ذُكر ، أن أهم أغراض ودلالات الضحك ، هي التعبير عن السعادة ، والدخول في حالة من المرح والفكاهة والفرح ، أو للتخلص من حالة الاكتئاب والسأم والملل ، التي قد يمر بها الإنسان بشكل يومي ، وهذا هو بالضبط ما يحتاجه المشاهد العراقي ، مع كل ما يعانيه من مشاكل ومصاعب ، وهموم ، أصبحت جزءا من حياته اليومية ، ومعاناته المستمرة ، مما يتطلب إيجاد محطات للتوقف والترويح وطرد الغم عن القلوب ، ودفع العبوس من الوجوه ، ومحاولة رسم الضحكة العفوية الصادقة على شفاهه ، بشتى الوسائل المشروعة ، والإفادة من مواد الفكاهة التي تُعد من أقرب المواضيع ، تقبلا من المشاهدين ، لاسيما أن معظم الآداب في مختلف الحضارات قد اهتمت بطريقة أو بأخرى بما من شأنه جعل الحياة باسمة مرحة وجديرة بالعيش ، بعيدا عن هموم الوجود وهاجس السفر الحتمي إلى حفرة الطين ، ولا بأس أن يكون البحث عن تلك البسمة شعارا يسعى إلى تحقيقه أي مقدم أو مخرج أو معد برامج ، وليس معيبا أن يبحث هؤلاء عن الطريقة المناسبة لتنظيم برنامج أو ملتقى ، يسعى إلى زرع الابتسامة والضحكة وإزالة التوترات التي من شأنها أن تجعل المرء متبرّما ومتشائما من ظروف الحياة ومكابداتها اليومية ، بل المعيب هو الإصرار على الإساءة للذوق العام ، والاستمرار في خدش حياء العائلات العراقية الكريمة ، المعروفة بالتزامها بمصفوفة قيمية قديمة ، وتمسكها بمنظومة أخلاقية عتيدة ، ولاسيما أن الأدب العربي يزخر بالكثير من عمالقة كتّاب النوادر والفكاهات من دون الإساءة لشخوصهم أو مكانتهم العلمية والفكرية ، فالجاحظ مثلا من أبرز مفكري المعتزلة ، توقف طويلا عند النكتة والطرفة لإثبات حضوره ، فكان أن نجح في خلق أسلوب فكاهي جديد يمزج الجد بالهزل ، في رائعته ( كتاب البخلاء ) المليء بالطرافة ، والنكتة المؤثرة من دون إسفاف أو انحطاط ، بالإضافة إلى عشرات الكتب ، التي تناولت مواد الفكاهة والضحك والنوادر الطريفة ، التي تتعدى بوظيفتها إثارة الفكاهة المرح وحسب ، بل وتسعى إلى تثقيف الناس ونشر المزيد من الحكم والأمثال وأخبار الحمقى والمغفلين والبخلاء والطفيليين ، مما يصعب حصره ، وتكفينا الإشارة إلى كتاب (( نثر الدر)) لمنصور بن الحسين الآبي ، الذي جاء في سبع مجلدات ، مليئة بالطرائف والنكات لمختلف فئات المجتمع العربي ، مما سيفيد الجادين في بحثهم عن الطرفة الصادقة والنكتة البريئة المؤثرة ، وربما ستغري القائمين على تلك النوعية من البرامج أن يتأملوا طويلا قبل طرح أي نكتة أو فكاهة مستقبلا ، لئلا تلقي بأي إساءة لتلك القيم والمعايير ، وان يكون الضحك لغرض المرح وبث روح الفكاهة البريئة ، لا الإصرار على الاستهزاء والاستخفاف ، والدعوة إلى الانحلال والرذيلة والقفز فوق كل الخطوط الحمراء للمجتمع ، عن طريق ممارسة أنواعا مبتذلة من الصخب والتهريج ،وإلقاء النكات التافهة المفتقرة لكل وزن و قيمة ، وهو ما دأب عليه مقدِمَيّ البرنامج المترهل بشتى أنواع البذاءة (( أكو فد واحد )) ، بطريقتهم المملة في التطويح وإلقاء الكلام بلا أي ضوابط أو منهجية ، بأسلوب رخيص ، تصاحبه عاصفة من الحركات الخالية من الحشمة التي ربما يسمونها في قاموسهم الجديد رقصا ، حينما يتحفنا أحد مقدمي البرنامج الذي يفتقر لأبسط المهارات كمقدم برنامج ، كالمهارات الحوارية ، ومهارات الثقافة والحضور الشخصي ، بل ويفتقر حتى لسلامة مخارج الألفاظ ، وهو برأيي لا يتمتع بأي مهنية تُذكر ، أو حرفية مهمة تؤهله للقيام بتقديم أي برنامج تلفازي حتى وإن كان هابطا بمستوى (( أكو فد واحد)) ، وأن كل ما يقوم به هو عبارة عن حركات اهتزازية تهريجية بجسمه المترهل ، وكرشه المنتفخ يمينا ويساراً بداعي إضحاك أكبر عدد من الناس ، وكان الأجدى به أن يتعلم الفرق الشاسع بين الفن الساخر والاستهزاء ، وبين الكوميديا والتهريج ، وبين إدارة حوار في برنامج تلفزيوني وإدارة حديث شخصي في ملهى ليلي ، والأهم أن يتعلم كيف أن يضحك الناس لا أن يدعهم يضحكون عليه ،وأن يقرأ بعض الشيء عن المهارات الحقيقية الواجب توفرها في أي مقدم برامج ، ويبدأ في اكتسابها فورا ، أما قائدة ما يُسمى ال (( DJ )) ، فلم أستطع بفهمي الثقيل أن أستوعب بعد ، سبب حشرها في البرنامج ، أو دورها الحقيقي أو الهدف منه ، أو أن أدرك بعد الغاية من تلك الحركات الهستيرية المصطنعة ، لا شك أن هذا البرنامج سيستقطب الكثير من المشاهدين ، ربما لأسباب مختلفة ، قد تكون بدواعي الفضول ، أو لشريحة معينة من الناس ، أو لفئة عمرية محددة ، أو لأسباب أخرى ، وربما سيستمر نجاح البرنامج ، ولكن ليس لكثير من الوقت ، وستكون تأثيراته السلبية أكبر بكثير من نتائجه الإيجابية على القناة على المدى الطويل ، ولا أظن أن هذا البرنامج الهابط سيتمكن من إلغاء تأريخ ووزن تلك القناة الموضوعية التي استطاعت أن تثبت وجودها في فترة ليست بالطويلة ، إن استطاعت تدارك الأمر بسرعة ومهنية ، والتريث قليلا قبل بث الحلقة القادمة ، والتركيز على بث كوميديا هادفة ، واختيار نكات راقية ، خالية من الألفاظ البذيئة والسوقية التي تشجع الانفلات الأخلاقي والتسيب والانحراف .
فالمشاهد العراقي يستحق أكثر بكثير من تلك البرامج التي لا شك من أنها ستترك الكثير من الآثار المؤذية مستقبلا ، والتي ستنعكس فيما بعد على سلوكه الشخصي وذوقه العام، وهي دعوة لجميع القائمين على القنوات العراقية ، لإعادة صياغة الأهداف العامة والخاصة ، للوصول إلى الهدف النهائي ، لا مجرد قنوات بأهداف عشوائية ، تستسيغ عرض أي برنامج بغض النظر عن تأثيراته اللاحقة في سبيل تحقيق المزيد من الأرباح ، أو أن تقوم بدور الطفيليات التي تغزو جسم الإنسان ، وكل غرضها هو الاستمرار وتحقيق أهدافها ومنافعها الشخصية ، بغض النظر عن الدور التدميري التي تقوم به لجسم المضيف وأخلاق الناس على حد سواء ، والتجاوز الشاذ على الأعراف ومعايير البناء الاجتماعي الأخلاقي ، وتشجيع المراهقين والمراهقات للتمادي و التمرد على المجتمع ، وإغرائهم بكسر وتحطيم قيود القواعد الأخلاقية ، التي جهد في وضع أسسها أسلافنا العظام ، ومن المنتظر أن تساعدنا في الصمود في وجه الغزو الفكري والثقافي الحالي ، والتقليد الأعمى لبعض القنوات العراقية والعربية ، للقنوات الأجنبية التي تشجع على الانفلات الأخلاقي والتسيب وربما حتى الانحراف ، ولا أظن أن تلك الأهداف تحتاج إلى الكثير من التفسير والإيضاح في تأثيراتها القاتمة على الأجيال الحالية وما بعدها ، في ظل الوضع المتأزم والمستجدات والأحداث الأخيرة ، إلى جانب انشغال أرباب العوائل بهموم تحصيل الرزق ، وانعكاسات الوضع الأمني والاجتماعي والبيئي على مجمل النشاطات الاجتماعية والإنسانية ، مما أجبرهم على الانشغال أو ربما التقاعس عن متابعة سلوك أبنائهم بالصورة المعروفة سابقا ، فالجيل الذي ينشأ بعيدا عن عيون العائلة ومتابعتها ، وفي ذات الوقت الذي لم يعد من أولويات المؤسسة التعليمة الاهتمام المطلق ببناء مجتمع أخلاقي معرفي ، بسبب انخفاض نسبة يقظتها وإصرارها السابق في شد أزر طلبتها بردود الفعل المناسبة ، في مواجهة بيئة مليئة بالتناقضات وشتى التباينات ، التي تتجلى في ما تجود به الآن العشرات وربما المئات من ماكينات الأعلام ، والقنوات المرئية والمسموعة والمقروءة ، ونوعية ما تبثّه من برامج ، وما يصاحبها من قفزات غير محدودة في وسائل الاتصال ، ووسائل الانفتاح التكنولوجية الحديثة ، وسهولة استخدامها والحصول عليها ، مما يضع جميع الآباء والمربين والقائمين على توجيه مسار المؤسسات التربوية ، وغيرهم أمام مسؤولية أخلاقية خطيرة ، في حماية الأجيال من الإعلام السائر في طريق الشبهات ، والشروع فورا في التفكير في وضع حلول مضادة ، ومسالك صحيحة ، لتكون بها الطرف الأقوى في هذا الصراع ، ووضع استراتيجيات طويلة الأمد للحد من تأثيرات تلك التربية السلبية بمناهجها الفاسدة وأهدافها المزدوجة ذات التوجهات المدمرة ، وإعادة النظر في جدولة أولوياتهم ، والالتفات إلى خطورة المشكلة ، والإقرار بها ، وتأدية الأدوار الحقيقية المناطة بهم ، كوحدة علاج موحدة ، تمارس سياسة متكاملة ، تتوزع بين الأسرة والمدرسة والمحيط البيئي ، ووضع أهداف موحدة من خلال توزيع الأدوار ، في عملية إعادة وضع وتوجيه الأجيال الحالية وما بعدها ، ودعمها بقوة نحو الصمود الواعي بوجه ما أفرزته ظروف الواقع الحالي من تناقضات ومتاهات ، وشتى أنواع الاتجاهات المغرية ، والهجمات الشرسة للغزو الفكري والأخلاقي ، عن طريق تربيتهم في أحضان مجتمع أخلاقي ، والتأكيد على العادات والأعراف والتقاليد السامية ، وتسديد هفواتهم وأخطائهم ، بحرفية ومهنية وهدوء ، على اعتبار أن تلك الأجيال ، ستأخذ دورها يوما في إعادة دورة بناء مجتمع تسوده الرفعة والتضامن والصفاء والأخلاق السامية ، بما سيتكفل بحتمية تطوره ورقيه وسموه وكرامته ، في عالم أنشغل بفك تشابكات استغراقه في مخاضات وتناقضات ترديه وأنانيته وضغائنه ، وأخيرا أذّكر بقول أمير الشعراء :
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

ليست هناك تعليقات: