بحث هذه المدونة الإلكترونية

مرات مشاهدة الصفحة في الشهر الماضي

الأحد، 20 نوفمبر 2011

أختام عراقية معاصرة-الختم الرابع-عادل كامل






أختام عراقية معاصرة
الختم الرابع

عادل كامل
[1] ذرائع ـ دائرة الانغلاق

كأن محركات اليد الخفية، المحمية بجدران الكهف، كانت تتلمس ـ ضمن حدود التجربة أو بدوافعها اللا شعورية ـ خاتمة ما لمصيرها. يد احد أسلافي في أزمنة ما قبل استخدام نظام اللغة، ان التشبث بالوجود، ليس إرادة ذاتية خالصة، إلا ضمن المشهد الكلي. فتلك الأصابع العنيدة التي كان عليها ان تظهر بسالة المخلوقات الأقل إدراكا ً بالنتائج، وما ستؤول إليه عدم المقاومة، كانت تخفي ذريعة أنها لن تقهر... لكن ضد من..ولأية غاية لا يشوبها الظن، أو أسى الفقدان، كانت تتمسك بأداء فعل غير مكلفة بانجازه، ولا تمتلك مبررات استحداثه بالوضوح الذي جعلها تنجزه!
لم اكف عن النحت، بهذا الهاجس النائي، ولكن بالية رهافة أعادتني إلى نهار الغابات، وومضات رذاذ الماء تحت أشعة الشمس، والى برد المغارات، والى يوتويبيا ما قبل إدراك أنني جزء من أجزاء لن تشكل الكل، لأن الكل سيبقى وحده محميا ً بمسافاته، ومدياته الشاسعة، أو غير القابلة للقياس إن لم اقل غير الخاضعة له، عدت أدوّن في الفصل الرابع، من رواية علي ّ ان أعالج فيها موقف مخلوقات خرجت توا ً من المحو، وليس عليها، إزاء عاصفة كبرى، إلا ان تترك أثرا ً ..!
احد الشخصيات، في هذا الفصل، ـ وهو في دوامة أحاسيس لم تفقده وعيه في ان الفراغ، ليس عدما ً، بل ولا الأخير خال ٍ من الذبذبات، في الأقل ـ بلغ الحالة ذاتها التي كان يحدس ان لها الفعل ذاته. فكتبت تمهيدا ً يلامس لحظة تقدمه في الفراغ، لكن الذي ـ رمزيا ً ـ يعمل بالمشفرات ذاتها التي جعلت سلفي ـ قبل مليوني سنة ـ يحفر في الصخرة أثرا ًيتضمن حضوره في الغياب، وقد بدا له جزءا ً من نظام عمل الدورات، أو الاضطرابات، في الصفر المطلق:
[ ليس لديّ ما استدل عليه كي أثبته، أو انفيه، ما اذا كنت أفقت، أو أنني مازلت عديم الوزن. الأمر الوحيد الذي لفت انتباهي أنني لم اعد أفكر، ولم اعد منشغلا ً بوجودي أو ما كنت عليه. لم يكن لي وزن، بمعنى أنا لم اعد كتلة. فانا، بحسب الترتيب، بلا أبعاد. الأمر الذي لمحته عابرا ً ان انعدام الوزن لا علاقة له بالفراغ، فانا في مكان مفرّغ، وإلا كيف مازالت تخطر هذه اللمحات في راسي؟
تذكرت ـ ربما بسبب حبيبات لمعت أمام بصري ـ ان قوة ما سحبت بذور الهواء معها، ولملمت ذرات الزمن، ولم يبق شيئا ً لي، فأنا لا امتلك أداة للمقارنة، أو التعرف، فانا عديم الحواس، وهذا الذي يخطر ببالي، ليس وهما ً وليس امتدادا ً وليس بقايا ... إنما كيف أبرهن ان الزمن اختفىن كالجاذبية، كي أكون محاطا ً بهذا الفراغ ...! استدركت، وأنا اجهل تماما ً ما اذا كنت اعبر من الموت إلى الحياة، أم من الحياة إلى الموت، ولكن الذي لا استطيع معرفته هو أنني كنت اعرف أني فقدت هذه الأشياء كلها من غير اعترض! كانت ثمة قوة ما امتصت، سحبت، جذبت، فرّغت، الهواء، والضوء، والزمن ... لكنني مازلت اجهل لماذا لم تأخذ معها هذا الذي لم اعد أتحكم فيه، مع انه يكاد لا يترك إلا أثرا ً لا يدل عليه، ولا ... عليّ!
استطيع الاعتراف أنها الأفكار التي طالما خطرت ببالي، لكن من غير صور، أو عمق، أو انعكاسات، أو أصداء. اذا ً أنا لست طاقة، ولست حبة رمل خارجة من الصفر، أو راجعة إليه، وإلا كيف لمحت تحول المدى إلى أشكال تمحو حافاتها حد أنها لم تترك حافة، أو ما يدل على أني كنت لمحتها، ولمحت تلك القوة التي لم تترك، إلا هذا الذي لا استطيع تفنيده، أو إثباته!]



[2]الزمن: حدود متناثرة ونائية
ما الذي باستطاعتها ان تقوله، اللغة، بنظامها في التعبير، أو بما تخفيه، عبر رموزها، وإيحاءاتها، وصورها، ومشفراتها، وهي جزء من مشهد كلي التحولات: الانبثاق من الموت، وموت كل ما غدا وكأنه سيقاوم الفناء!
إنها تركت (أثرا ً) وعلامة ما دالة على الحفر/ الانتهاك، وفي الوقت نفسه، أملا ً كامنا ً في آليات لاوعي الكائن الحي بالدرجة الأولى.
فانعدام الهواء، واختفاء ذبذبات الأصوات، وانسحاب حبيبات الزمن، ونضوب ومضات الضوء،حد انسحاب أو انعدام الفراغ ... كلها لا تدل على لغة، راسخة، مقدسة، أو أبدية. فاللغات، شبيهة بالكائنات الحية، لها حضورها الملازم لها ضمن شروط وجودها، وزوالها. فعدد اللغات التي لا اثر لها، لا كلغة حسب، بل كآثار أو خربشات، بعدد المنقرضات. وعندما أعود إلى (النص) السابق، لم يغب عن ذهني، ان المراقب كان واعيا ً ان أثره، كمصيره، كلاهما بلغا درجة: الصفر/ العدم/ الفراغ غير المنتهي بحدود، لكنه ـ في وعيه ـ كان يمتلك قناعة ما بان الموجودات، لم توجد ذاتها بذاتها، فهي ليست فائضة، قياسا ً بعضها بالبعض الآخر، من ناحية، أو بوجودها في المشهد الكلي غير القابل للحصر، أو ان يكون مادة للوعي. فاللغة ـ كأداة ـ تبرهن أنها لا تقول ما يريد الكائن ان يتخطى حدوده، أي حدود الاستحالة التي وجد نفسه مكبلا ً داخلها، مع انه لم ينس ان الإجابات، أو الحلول، أو الامتداد، أو الديمومة، كلها كامنة في أصل الاشتغال، وفي بناء السؤال.
ان اثر اللغة، نصا ً شعريا ً أو نثريا ً، أو بينهما، لا يقول الحقيقة أبدا ً، لأنه لا يمتلكها، ولكنه ـ كما في حالة هذا الشخصية ـ لم يستسلم للذوبان فيها. فقد اكتشف ان المعضلة لا تكمن في الزمن ـ المرور/ أو لأن المكان أزمنة تكاثفت ـ بل في الذي سكنه. لكن لغته مازالت هي لغة من صنع وجود وجد قوانينه أقوى من ان يستبدلها بقوانين مناسبة، أو حتى ان يدحضها بما غذى أحلامه من ومضات، واستحالات!
لغة ضد الاستحالة، سيبحث عنها، بعد ان وجد ان عناصر الحياة قد سلبت، جرجرت، سرقت، دمرت ...الخ منه. فهو حاول ان يوثق ذلك الذي مأواه قد توارى في الزمن! الزمن الذي لم يعد ينتج المتضادات، حد المحو، بل غدا يخترع لغة ما لوجود طالما سكنه، هو، شبيها ً بالذي لا وجود له، في وجود آثار الزمن، موزعة، ومتناثرة، في ساحة الصراع.

[3] المرآة ـ المسافة
بلا وعي لا يستثني الرهافة عن آلياته غير القابلة للاستبدال (الحتميات)، لا يتكون الختم من غير مراقبة شاملة، حتى في تأمل ما يبدو محض مصادفة، أو فائضا ً، أو لا متوقعا ً، أو وهماً.
فإذا كنت كررت، بأشكال محورة، حد التمويه، علاقة الرائي بالمرآة، فقد خطر ببالي السؤال التالي: أيهما يحدق في الآخر الوجه في المرآة، أم المرآة في الوجه! لكن هذا محض مدرج لسؤال: ما المسافة بينهما،ومن ناحية أخرى: أيهما أكثر بعدا ً عن الآخر؟ أتراهما سيلتقيان، أم أنهما لم يفترقا في الأصل...؟
كان الوجه يعبر عما لا يحصى من أجزاء الأجزاء اللا متناهية كي يتعرف على نهايته. يذهب ليرجع. إنها دورة. لكن هل كانت عناصر المرآة تمتلك الرهافة ذاتها في أداء دورها الآلي..؟ فماذا كانت ترى المرآة في الوجه، عبر المسافة غير القابلة للقياس، أو ان تكون محض ممرات، وكيف باستطاعتي ان احدد دورها..؟
لبرهة تجاهلت المرآة ـ بصفتها طاقة تجمدت واستحالت إلى جماد، خامة لها سمة الذاكرة، أو الحفظ، ولكنها كانت تتلاعب بالاتجاهات، كما أنها تحتفظ بوجه آخر حصلت عليه بفعل الانتقال وعبر المسافة المزدوجة، فتارة الأخيرة تؤدي دور الجسر، وتارة تؤدي دور الفجوة، وعمليا ً لا يمكن ان تكون هناك حقيقة إلا عبر هذه الازدواجية: التناقض. فالوجه النابض بمكوناته هو غير المنعكس في المرآة، والمرآة لا علاقة لها إلا بحدود أنها كانت تحتجز وجها ً بدا لها مصادفة، وأصبح حقيقة بحدود استحالة ان يكون، هو هو، وإنما الوجه ليس لكائن آخر.
لكن ماذا عن سطح الماء ...؟الماء الذي يشترك، مع الجسد (ومع الوجه) في نسبة من العناصر، وليس عن الخامة التي بدت منفصلة عن الوجه!

[4] الماء: المرآة/ المسافة/ والأثر
للمرة الأولى لمح الوجه هيأته في الماء، وللمرة الأولى اكتشف ـ في مسلسل التعرف على وجود له خصائصه الموضوعية ـ ما سيحمل عنوان: نرسيس. لكن هل حب الذات حد العشق هو الجانب الأخير من الاكتشاف..؟ ان الماء أدى دور المرآة، وسمح للوجه ان يتعرف على ذاته، ذاته هو، كما هو عليها، وليس كما في عيون الآخرين. فمرآة الماء أداة محايدة، فهل هي محايدة حقا ً، أم أنها ستفتح هوة لن تردم ترسخ عزلة (انفصال) الوجه عن باقي المكونات...؟ مرة أخرى عملت مرآة الماء بازدواجية زاخرة بأسئلة مولدة للإجابات، وبإجابات عملها لن يتوقف عند أسئلة أخيرة. فالوجه تعرف على 1 ـ ذاته 2 ـ وعلى الماء 3 ـ وعلى المسافة ما بينهما. وفي ذات الوقت تعرفت مرآة الماء على 1 ـ عملها 2 ـ وعلى الآخر 3 ـ وعلى المسافة بين شكلين لهما خصائص مشتركة، ومختلفة في وقت واحد.
لم انشغل كثيرا إلا بالمسافة وما يحدث عبرها من متغيرات في الوجه، وفي المرآة، وفي مرآة الماء، لأنها وحدها أدت دور الجسر ـ ودور الجدار، ومن ثم لا احد تعرف على الآخر، عن إجابات، وعن أسئلة لا خاتمة لها.
ألا تبدو المرآة، مرآة الماء، والمرآة التي ستصنع أو تستحدث لأداء هذا الدور، ولتؤدي دور الذاكرة: تكدس أطياف الصور/ وأشباحها/ والصور التي تلتقطها لتتجمع فيها، كما ستتجمع في خلايا الذاكرة، ضمن عمل الدماغ المستحدث، لدى الآخر، كائنا ً حيا ً أو جمادا ً!
[5] العبور إلى الصفر

فثمة مادة ما لديها خاصية الحفظ، فانا لا اعرف كم تجمعت، في مرآة الماء، وفي المرايا الأخرى، من صور؟ لكن تفكيك الذرة ـ كما اعُتقد أنها اصغر وحدة للقياس ـ لا يفضي إلى خصائص مكان له ثبات جدران: الرأس/ الرحم/ الكهف/ القاصة/ المتحف ..الخ بما هو مشترك بينها في الخزن، وفي الحماية، وفي الاستثمار، حيث يتهدم نسق الديمومة برمته! لا المرآة ستتذكر ما خزنته، ولا خلايا البصر ستحتفظ بما رأت إلا في حدود زمن زوال ما مر بها. فالموجودات وجدت كي تدرك أنها تؤدي دورها في العبور إلى اللا وجود، لا وجودا هي، الوجه أو المرايا، بل استحالة الاحتفاظ بما مر بها، وكنزته، وحسبته أبديا ً!
فهل يحتفظ الختم ـ التوقيع، الشبيه بالمرآة أو المتحف أو الرحم أو القاصة، بما يتحدى فيه عوامل انحداره إلى المغيب، وهل لديه قدرة الاحتفاظ بالجهد الذي بذل من اجل ان يكون معدا ً سلفا ً، وبحكم القانون، لهذا المغيب؟


[6] جذور ـ المرآة ومشفراتها

ولأن الإنسان ليس مجموع مكوناته، إلا لأنه ـ بحسب احد معتقدات الشرق ـ امتاز بحمل (نفس) من الأعالي، وهي، بحدود الكلمات، الآلهة. فالإنسان المكّون من خامات الأرض، وجد هبة من مكان آخر. فهو ليس عناصر تجمعت مصادفة، وقفزت من العشوائية إلى النظام الذي شكله، بل جاء ـ بحسب هذه الومضات ـ حصيلة تداخل، وتركيب، وتوحد. انه غدا يحمل نفسا ً (روحا ً) جاء نتيجة عطف الآلهة على هيأته البدئية، ثم حصل على عمل: خدمتها! خدمة تلك الآلهة تحديدا ً. لكن المسافة ستتسع بين الأعالي والمخلوقات ـ التي حكمت بالعودة إلى عناصرها، وعزل (النفس)، مرة أخرى، عنها!
تلك (الوظيفة) ستؤدي إلى فجوة. لأن عمل البشر لن يذهب إلى الآلهة، ولا أضاحيه، وفي مقدمتها إراقة الدم البشري، إنما ستذهب إلى بيتها، الذي استولى عليه عدد من أقدم سحرة العالم، كي لا يذهب عمل الإنسان إلى الأعالي، أو إلى من وهبه الروح، بل إلى حفنة راحت تتحكم بالتصورات، والموارد، وبالإنسان نفسه.
وأختام الأزمنة التي وثقت أقدم أشكال (الاغتراب) تحكي ما هو ابعد من ذلك: الحرية بصفتها فخا ً، غواية، لعبة يذهب ضحيتها الجميع، لكن ضمن جدلية: الصياد ـ الطريدة.
فالمرآة ستعمل في حدود مساحة كهف الساحر، ومعابده ـ وصولا ً إلى الرأسمالي، وخزائنه في رسم مشهد تطور الصياد إلى زعيم كلفته الآلهة بأكثر الأدوار ديمومة على الأرض: النهب، ومنح العنف مبرراته تزكية لنظام الاحتكار،في أكثر المعادلات استحالة على التفكيك..!
فما ـ هو ـ حاجة الآلهة الأولى، في أقدم التصورات، لعمل ما تجمع في المرايا، عدا منح الاستحالة منطقها الأرضي لصالح طرف على حساب الطرف الآخر! لكن الذات التي رأت زوالها، قبل ان تراه في الآخر، لم تكف عن البحث في العثور على مبررات أنها ولدت لتمحو ذاتها. فلا خاسر إلا من ربح خسائره، لكن، في ما هو خلف المرآة، ومنحها لغز الأبدي، وقد عاد إلى: الصفر.
[7[ الفجوات ـ تتسع
فكرت ان للختم الدور المعلن هذا بالإضافة إلى مخفياته. وسأفترض ان للختم ـ وللفنون والثقافات وللدوافع الجمالية ـ دور المرآة، لرائي ناء ٍ. كالمجتمع أو الضمير أو قوى ما لها هذا الدافع. ثم طورت آليات هذا النسق. فثمة ومضات أراها تأتينا من وراء مسافات غير قابلة للقياس: مليارات من السنوات الضوئية، وأكثر ـ لأنني محكوم بحدود أدواتي العملية والمخيالية ـ لكنها تصلنا بعد ان تكون قد فقدت وجودها، معناها وشكلها. وفي الوقت نفسه، هي لا ترى إلا الومضات التي فقدت وجودها برمته، ولم يبق منها، إلا ما هو آت ٍ من وراء المسافات: لا وجود لمرآة يرى فيها أيا ً منهما ـ هنا ـ إلا ما سيسكن الطاقة، أو في أقاصيها، كالذي سكن المسافات بين الكتل، مدى الانجذاب، الشبيه بالفراغ، بما فيه من ( ! ) من محركات ستعيد إليه أشكالا ً ليس لها إلا متغيراتها، وتحولاتها، بحسب مكونات ما هو ابعد من الختم، والصانع، والمتلقي!
فلا احد باستطاعته ان يرى الآخر، بمعنى: لا احد رأى. لأن الماضي، وحده هو الجذر الذي لانهاية له في توغلاته، لأن الحاضر هو ما لم يحدث (يكتمل) بعد، كلاهما، لا يتحدان إلا بما قبل الزمن، وقبل المسافات، وقبل الحركة.
انه ليس الماضي، بل السابق عليه. الأمر الذي يجعله ان يضع حدا ً للاستحالات، ويتركها تكمل دورتها، خارج ما بين المرايا. فلا احد رأى الآخر إلا وقد اكتملت الرؤية! أما ان تكون قد أؤجلت، بانتظار ان تكتمل، فتلك قضية ستغدو قد خضعت لبرمجة كلية بالغة التجريد، وخارج نطاق الإدراك البشري.

نصوص علي النجار
شهادات وأختام في عصر اليورانيوم
عادل كامل
[1] بذور النشأة والانشقاق
لم يغادر على النجار مأواه، أو المكان الذي ولد ونشأ فيه، إلا ليكتشف ان الجنين الذي سيتكون، سيتكّون في رحم المنفى. انه افتراض يوازي نهاية ما بعد الحداثة، وكعودة إلى اتجاهات مغايرة للعولمة. فالمنفى ليس اختيارا ً، كالانتحار، كلاهما لا يمثلان إلا إرادة مقيدة. فالبذرة ـ إشارة لتكّون خلايا الخلق البكر ـ التي تولد وتنمو وتنضج وتموت أو تدُفن في أرضها، لا تؤدي إلا دورتها، إنما ثمة بذور ستجد أنها منشغلة بالبرهنة على أنها عنيدة، لا في دحض فنائها، بل لمنح الديمومة اللغز ذاته الذي كونها، أو مازال تعمل بدوافعه.
كان علي النجار، في بغداد، حتى قراره بالبحث عن أيد ٍ قد تنقذ حياته من مرض عضال، كما يقال، في أي مكان عدا الأرض التي راحت تسحق حياته. كان منشغلا ً بصناعة أختام لم يسمح لها ان تحافظ على منطق الشكل: الصورة، بل ذهب ليبحث ـ ويجد ـ ان الدوافع لن تتوقف عند حد من الحدود. وان العلامات (كأجزاء أعيد بناءها) ما هي إلا علاقة رهافة مهمتها ان لا يدع الجمال فائضا ً.
كانت أساطيره ومخلوقاته وليدة اشتباك بحثا ً عن الممكن في المستحيل، وربما عن المستحيل في الممكن، فرسوماته لا تمتلك غواية، أو ترف الرسامين الباذخين الذين لا علاقة لهم بما كان يحدث، لا في المكان ذاته ولا في أي مكان آخر من العالم، بل كانت تتوخى تفكيك المرآة وبناء علامات لا مرائية، لكنها ليست من صنع العدم! كانت الحرية، لكل من يدعو إليها، أو يقود الآخرين إليها، تتطلب محكا ً للبرهنة على أنها ليست غواية، أو كمينا ً، أو فخا ً توارت خلفه ما لا يحصى من الدوافع. فالرائي طالما غدا ضحية أحاديات تتحكم بمصيره، لتتركه، في النهاية، بلا مصير!
أختام تحكي كل ما سيكون حجابا ً بفعل الكلمات (لأننا أسرى لغتنا، وأنظمتها) فالرسام لم يرسم إلا تلك المناطق وقد جردت من الهواء، والماء، ومن الرحمة! فهل باستطاعتي ان أتصوّر أشد (وحشية/ ووحشة) من حياة تتحول فيها (الرحمة) إلى آليات لإنتاج سلع غايتها الربح، وغايتها الأبعد، تدمير الربح نفسه!
علي النجار استمد ديناميته بهدم نظام ان العالم يتكون من أشياء، وسلع، ومكاسب، لكنه سيديم بطولته بعد ان جردها من هذا كله، بل، ومن البطولة تماما ً. فان تكون بطلا ً، بحكم هذا النسق ـ السياق ـ تكون أقمت مجدك على تدمير الآخر وعلى خسائره، بعد محوه! إنما أقامها كانتماء إلى عالم بالإمكان ان يخلو من حروب الموتى، وحروب لا يقودها إلا الموتى.
[2] الاحتفال باليورانيوم!
هل باستطاعتنا ان نجد ذلك في نصوص علي النجار، وهي تفكك جحيم الألوان، وقد اشتبكت، ضمن العناصر، بخلق مشاهد لا تحدث إلا في الاستثناءات النادرة، اشتباكات شبه يومية، بل والتي أخذت تتسلل إلى الجميع، والى كل من حاول تجنبها. فالفنان كان يرى استحالة وجود مناطق آمنة، في الرحم، الوطن الذي غدا جحيما ً للإخصاب! هل باستطاعة أختامه ان تهدم أقنعة عالم تحول فيه نظام حرب الجميع ضد الجميع إلى قانون لا ينجو منه احد. ففي عصر البرية، قبل اكتشاف/اختراع النار، وقبل عصر السحر، والمعابد، والأفران النووية، وقبل عصر الشركات الساحقة للقارات، بعد حروب الصواريخ المزودة بأطنان من مواد الفتك، النظيفة!، ومن برامج التفكيك ..الخ في تلك الأزمنة الأقل قسوة، كانت حتى البكتريا تجد لها مأوى للخلاص، فقد كانت للرحمة آثار مازالت علاماتها حاضرة وشاهدة ومحمية بين الطبقات العميقة للصخور البركانية!
أختام علي النجار مكثت تحافظ على مشفرات الرموز، وعناصرها، حيث الأمل لم يكن وهما ً، إلا بحدود المشاركة، لا بحدود تبادل الاجتثاث، والمحو...! فهي تحكي كم هي بذور الشمس قادرة على إخصاب رحم الأرض! لتقيم عرسا ً، مهما كانت تأويلاته تقودنا إلى مناطق نائية، إنما مازال يمتلك صدى ان الحياة ليست فائضة، أو من صنع العشوائيات، أو أنها محض جذام!
أنا كتبت ذلك، قبل ثلاثين عاما ً، عندما كنت أولي الآخرين ذات المهمة التي سيضطلع بها صديقي علي النجار، وهو يكرس فنه للاحتفال بنكبات اليورانيوم!
[3] ـ ملاذ المرارات ـ الحياد المستحيل

يا له من احتفال...!
في أيام حروب الحجارة، والسهام، والبارود، والكمائن الصغرى، كان باستطاعة الباحث عن ملاذ ان يتجنب الموت، وان يستعيد حياته، بعد الارتواء من القتل، وسفك الدماء. وحتى أبشع حالات الذعر، لم تكن قد بلغت ذروتها، كي يصبح طلب الموت وحده كالحالم بالحصول على جناح في الفردوس! لأن للنجاة منافذ ليست بلا وجود، أو فقدت.
ربما هناك تلك الإبادات التي ستستلم إليها الكائنات، قبل ان يتحول الذعر إلى وعي به، والى فرصة تأمل، والى انشغالات فلسفية ... ففي تلك الإبادات، كالبركان الذي يحول نهار الأرض إلى ليل متجمد، أو كسقوط نيزك، أو انخفاض حاد في درجات الحرارة، للحد الذي تتجمد فيه بذور الخلق ...الخ لا فرصة للبحث عن كوكب آخر، أو حتى تخيل إمكانية الحصول على عزلة في الفضاءات البعيدة، لكن درجات الحرارة الباذخة في الارتفاع، كانت تحول العضويات، إلى هواء، والى فراغات، والى ما يشبه الأثير الذي يتخذ أشكالا ً بفعل تجمد العناصر المنصهرة، وتحولها إلى مجسمات!، لكن، لها أشكالها، وتفاصيلها الدقيقة أيضا ً.
ثمة ذعر ... مازال صداه يأتينا، كرائحة غبار تلك البراكين، والنيازك، ممتزجا ً في الملامح، وفي الهيئات.
فكانت رهافة علي النجار، لا تكمن في رصد أشكال الانتهاك ـ التقليدية ـ للغالب أو للخاسر، بل للخسران الذي تعرضت إليه الحياة، عبر أزمنتها الطويلة. ولعل سؤال: لماذا تعاقب ارق المخلوقات، هذا العقاب، يوجه إلى الخاسر الأكبر: الصياد أو من سيقوم بدوره. لكن نصوص الفنان ليست إعلانات لصالح طرف ضد الطرف الآخر، وإنما لمنح الفن لغزه، كي يتمتع بهذا الدور الذي لم يفقده بعد!

[4] خلايا تفتك بخلايا
فهل تراه يحتفل، أم يحتفي، أم يدحض أي مفهوم للاحتفال والاحتفاء، وهو يعيد قراءة نتائج ما ستؤول إليه الحروب، والتصادمات (إن كانت قذرة أو نظيفة)، التي لا تستخدم السهام، والبارود، والخردل، بل تستخدم أكثر أنواع الأسلحة فتكا ً، من غير الم، وربما من غير اثر! الأسلحة التي أصبحت شرعية للاستخدام، منذ هيروشيما، حتى يومنا هذا، لكنها التي أصبحت تخلف آلاما ً، وتشوهات، ولا أخلاقيات انحدر إليها المشهد الكلي، وغدا خارج حدود الاحتمال.
علي النجار يعنّون برنامجه للعمل الفني لا كإعلان لجماعة مسالمة، أو تنتمي إلى منظمات الخضر، أو الرفق بالحيوان، أو تنتمي إلى فلسفات البيئة (الايكولوجي)، ولا إلى اللا عنف، ولا إلى بعض أنقى الديانات الهندية، التي ترجعنا إلى مفاهيم العدالة، في سومر فحسب، بل إلى ضرب من (الانطولوجيا)، وقد أعاد بنائها بوعي بدا له متحررا ً من قيود المنفى، وما ورثه من مشفرات مدافنه القديمة، ولكنه الوعي الذي يتقمص رسالة ما، غير ربحية، أو تعمل بالأقنعة، تتحدث عن اثر (اليورانيوم) في الأشياء، والنبات، والحيوان، وفي مقدمتها: الإنسان.
انه لا يمرح، ولا يصنع لوحات باذخة الجمال، للصالات، مع ان الذين يواجهون الموت، يمتلكون أحيانا ً قدرات نادرة على إنتاج الطرائف، بمعنى: الأمل، من غير ارتداد أو لجوء إلى الحميات الوهمية. فهو يحدق في خلايا تفتك بخلايا! فالمشترك هو الانشطار، وهدم برامج الكائنات الحية، ودفع حياة المصاب إلى ذروتها: لا جدواها، بعد ان أصبحت فائضة. لكنه يضعنا في مفهوم آخر للانشطار، خاص بالزيادة السكانية (السرطانية)، إزاء ثابت الإنتاج ومحدوديته المالتوسية *،أي إزاء رداءة المعايير المتعارف عليها منذ غدا نظام البقاء للأقوى راسخا ً. انه، عمليا ً، يحدق في حضارتنا المعاصرة، ويعرضها من غير رتوش، أو تزوير.
* ـ دوّن مالتوس في كتابه بحث في مبدأ السكان عام 1798 سلسلتين أصبحتا شهيرتين:
ـ السلسلة الهندسية لتزايد السكان (التزايد الهندسي)
ـ السلسلة الحسابية لنمو وسائل المعيشة (التزايد الحسابي) . مستنتجا ً بضرورة وضع حد لزيادة السكان، لتلافي الحروب. ولكن كارل ماركس فند هذا الرأي، وأرجعه إلى عوامل تخص النظام نفسه، وليس إلى الحتميات. انظر (التنمية صفر) ريموند ريشنباخ/ سيلفن اورفر. ترجمة: سهام الشريف. وزارة الثقافة والإرشاد القومي ـ دمشق ـ 1978 ص7

[5] لأجل القتل
ليس لأن اليورانيوم محض خامة إبادة، أو احد عناصر أسلحة الاشتباك، بل لأنه يحكي ـ من غير شروح ـ صمت الحكمة، بل موتها. فعلي النجار حفظ عن ظهر قلب مقولات: موت الفلسفة وموت الفن وموت الإنسان نفسه، لكنه حفظ أيضا ً ان شيئا ًما أقوى من الموت، ليس هو مشفرات بذرة الخلق، بل استحالة تدمير نظامها العنيد بعد! فالرسام يصوّر عالما ً لم يتطرق إليه (المعري) في زيارته إلى العالم الآخر، ولا (دانتي) في جحيمه، لأنهما، لم يمتلكا تصورا ً حول انشطار الذرة وما تكونه من طاقة مروعة على: المحو. لكن المحو النووي، لن يتوقف عند الموت، أو دفع اصلب الفلزات كي تستحيل إلى أثير، بل ستترك أثرها في إنزال اشد التشوهات في الأجنة، وفي المواليد، لأن اليورانيوم، سيعمل ـ كباقي المستحدثات في هذا المجال ـ على تخريب، وتدمير الخارطة الجينية للموروثات التي صمدت في البقاء مع نشوء بذور الخلق قبل مليار ونصف المليار سنة. وقد كان الفيلسوف البريطاني برنارد رسل قد لفت النظر في كتابه (هل للإنسان مستقبل؟) ما يحدثه استخدام هذه الأسلحة، لا في الجسد فحسب، بل في التدهور الأخلاقي أيضا ً. فالفنان يرث ـ وهو يعيد القراءة ـ مشروعا ً لسلوك لا ينحدر إلى عصور الزواحف، والثدييات، بل إلى ضرب من أفعال (الشيطان) التي وثقها المدوّن الحكيم السومري، في نص (العادل المعاقب)، أيوب، ليمثل (اليورانيوم) سلاحا ً دالا ً على أفعال (الشيطان) ـ أو أي اسم آخر للذي يجد في التعذيب تسلية من غير دوافع منطقية، عدا القتل لأجل القتل ـ تحسينات عليه، كي لا يكتفي بالفتك، بل كي يحافظ على ديمومة إنزال شتى صنوف التعذيب. فهو لا يبرر لدوافع اقتصادية، أو من اجل المجد، والزهو بالنصر، أو بدوافع الكرامة، أو من اجل العالم الحر، المتعدد الهويات، الديمقراطي، والشفاف، بل لدوافع ـ كما لفت فرويد النظر إليها ـ ان الإنسان لم يخلق لبناء حضارة، ولا كي يحمل بذورها! مما سمح له ان يعمل على تفكيك النظام (البشري) برمته، جاعلا ً من الموت، كالحياة، آليات لا واعية تعمل خارج الإرادة، ومنطق العقل.
علي النجار، رأى آثار اليورانيوم، وهي تهدم البيوت على ساكنيها الحياديين، غير المشاركين في جرائم إنسانية، اللهم عدا ركونهم إلى الصمت، وشاهد، عبر بعض الفضائيات، مسلسلات وبرامج ما تركته الأسلحة، لا في مكان واحد، بل في الفضاء الأرضي من القطب الشمالي إلى جنوبه، عبر البحار والغابات والصحارى.
وعلي النجار، كفنان لم يعد ينتمي إلى ارض، أو قارة، أو منحازا ً إلى طائفة، أو ديانة، بل إلى ذاته، في قرية تحولت إلى أسواق، وأسوار، وفراغات مشغولة بالفضائيات، وبشبكات ألنت، والفيس بوك، في غسل العقول ـ المصابة بالبراءة ـ راح يصنع أختامه، بعيدا ً عن البذخ، وبعيدا عن أقنعة الرفاهية.
[6] الجسد: الشخصي والعام
بين نصوص الفنان السابقة، ونصوص عامي 2010 ـ 2011، لم يغب الجسد (من الرأس إلى أخمص القدمين)، بل أفصح عن اختيار الفنان، وعن تنوع زوايا المشاهدة. الجسد بصفته امتدادا ً، حدثا ً، ومركبا ً، وأداة معرفة، يغدو في الفن مدخلا ً لعالم آخر، غير السطح، وغير الشكل. فالجسد الذي شهد طفرات، وتحسينات، وتهذياب، مكث يعلن عن محنته: تارة يجتاز العقبات، وتارة لا يتستر عليها، وفي الغالب يكون قد اجتازها نحو أسئلة لا تقود إلى إجابات، بل إلى استحالات.
في نصوص (اليورانيوم) يترك علي النجار جسده يتحدث عن خفاياه، لا يعلن عن استعراض، أو أناقة، أو تهذيبات جمالية، بل عن الأذى الذي سكنه، حيث أصبح جسده مأوى للأسئلة والإجابات معا ً. فالمطلق ليس بانتظار كلمة تتفوه بها مخلوقات الأرض، المكونة من الوحل والدم، الواهنة، والمبرمجة بحدود منفاها، واستحالة عثورها على خلاص، فلا وجود إلا لفراغ مشغول ببذور وذرات وومضات، وإشعاعات ذات أذى بالغ ـ كأشعة غاما وما يصلنا من المناطق السحيقة من الكون ـ الجسد الذي تحول إلى علامة حضور، في الأرض، منفاه الذي التصق به، وتقيد بغوايته التي لم يخترها، ولم يقدر على تهذيبها،غدا علامة غياب.
على النجار لم يرسم موت الفن، أو موت الجسد، أو موت الإنسان، بل سكنه، وقلب المعادلة. فجسده غدا متحفا ً، مدفنا ً/ ومساحة للمصائر، وأخيرا ً مشهدا ً له يستعرض فيه عبوره من المجهول إلى مجهول آخر.
فاليورانيوم علامة (حضارة) استخدم فيها الإنسان كل أقنعته كي يجعلها لا تحكي ما هي عليه: الفتك. الفنان لا يذهب ضحية اختياراته، وأفكاره، وفلسفته، أو ما تبقى من أحلامه، بل جعل وعيه (الفني) شهادة أمام لا احد! لأن المتلقي، في الغالب، شريك في الإثم!
[7] مقاربة ـ كاظم حيدر (أ)
في التشكيل العراقي الحديث، كان كاظم حيدر، لسنتين أو ثلاث سنوات، يواجه آثار اليورانيوم. كان باسلا ً في التعامل معه، شبيه بحكاية (أيوب) جرب حد ان الأذى بلغ أقاصي جسده، لكنه لم يجدف. كاظم حيدر ، هو الآخر، بحسب الطبيب الكوبي المعالج الذي حاورته، بعد رحيله بيوم، ذكر لي ان الفنان مات باطمئنان تام، فلم يولول، كمعظم المرضى، أو يتفوه بغضب. كان كاظم حيدر، قبل شهور، وفي لندن، قد رسم سلسلة من الرسومات، شبيهة بأختام عراقية قديمة، سومرية أو أكدية، وقد أزاح قشورها، ليرسمها من الداخل: شبكات أوردة، وشرايين باللونين الأحمر والأزرق. كان يصوّر محنته، محنة جسده، هو، وكان يراقبه عن بعد أيضا ً.كان شيّع جسده، قبل الموت، كآخر وثيقة له مع الحياة. عندما سألته: هل لديك تصوّرا ً بصرياً عن العالم الآخر..؟ أجاب بالنفي..! ربما كان سؤالي غريبا ً، ولكنه برهن لي انه كان متوازنا ً، ولا يرغب ان يكون مضطربا ً في قضية لا جدوى من التوقف عندها.
في رسائل (علي النجار) إلي ّ، أراه اجتاز مفهوم (التعبير)، والتضرع، والاستعانة، نحو الانغماس بعمله الفني، وقد امتزجت تأملاته لجسده ـ وللعالم كفراغ مشغول بما لا يحصى من الذرات ـ بخامات وخلاصات تكمن فيها استحالة فك المعنى عن سياق النص ومعالجته كعلامة تكاملت فيها عناصرها. فلم يتوخ طلب الاتكاء على احد، أو استدراج عاطفة ما يدرك أنها، تأتي وتذهب بعلتها، إنما لم تغب عنه رهافة انه لم يخلق فائضا ً، أو خلق كما تخلق الأشياء متضمنة معناها في ذاتها، بمفهوم عمانوئيل كانت، وإنما هناك علاقة ما بالغة الدقة بين الكلي والأجزاء، مثلما هي علاقة بين الأجزاء والكل الكوني. فجسده لم يعد قابلا ً للتلف، وفي الوقت نفسه ليس باستطاعته ان يبلغ خاتمة المقدمات التي دارت بخله، ذات يوم، حول الإنسان، ولغزه. وكأنه ـ في هذه التجارب ـ سمح للأبدية، ولحافاتها غير المقيدة بحافة، ان تميز بين صانع الموت، والآخر الذي سيبقى يحدق فيه! أبدية الأسئلة وقد سكنت، لبرهة، زوالها العنيد!
[8] مقاربة ـ محمود صبري (ب)
اذا كان علي النجار قد جعل جسده (وثيقة/ ختما ً) كما فعل أسلافه في سومر، وفي أكد، من غير استثناء هاجس التعارض بين اللامحدود وحدود خامات الجسد وقيود وعيه ـ فان محمود صبري، في خمسينيات القرن الماضي، كان صوّر القهر عبر الشهيد، بصفته نذرا ً أو أضحية بانتظار اكتمال دورتها. فاللاوعي ـ وبرمجته أو سياقه الحتمي ـ لم يقلل من منح الشهادة سحرها، والانجذاب إليها. عمليا ً انه سيغدو نظاما ً في حماية المركز (السلطة/ أو كل من يمثلها) وكأن التجانس بين اللاوعي ـ الحتميات ـ والنظام الاستبدادي للدكتاتوريات ـ من كبير الصيادين إلى المتحكم بالمصائر ـ مسلمة لن تدحض. وعلى كل أولى محمود صبري نصوصه في الرسم، نظام الختم أيضا ً. مانحا ً المشهد الجمعي للصراع أولوية دمج فيها الذات، في سياق تصوير المتضادات. فلم يكن في خمسينيات القرن الماضي، في بغداد، إلا لمحات غامضة عن حقبة ما بعد الحداثة: من الألسنية/ البنيوية/ وموت الفن، وصولا ً إلى التفكيك ـ عدا بزوغ إشعاعات شاحبة للوجودية، في مواجهة كلاسية النضال ضد الاستغلال، والهيمنة. كانت الوجودية بمثابة التمهيد لعزل الذات، وليس لمنحها قدرتها على التأمل الانطولوجي، لكن محمود صبري، سينفذ سلسلة تتفرد بمنح الفن شهادة حياة: شهداء أو ضحايا في مواجهة القهر السياسي (اليورانيوم الرمزي)، ولأجل مصائر تقاوم التزوير، وقد تمسكت بأحلامها، حد سكنها.

[9] مقاربة ـ عادل كامل (جـ)
هناك آخر، آخر محدد أو بحكم المجهول، لا تتوخى الجسور القطيعة معه، أو المصالحة. وقد يدخل الوهن، الحذر، الظن، التراخي، عائقا ً، ولكن ثمة آخر شبيه بالوهم ـ أو بصفته غائبا ً، كي يبعث رغبة خالصة تتوخى عملية الاتصال، وديمومتها...؟ لا أتخيل ان هناك حركة ـ من غير ارتداد أو تقدم ـ حركة، حتى على صعيد التجريد، باستطاعتها ان تبلغ الصفر.
يقودني هذا إلى ان هناك (في المشهد الكلي ـ وفي أدق تفاصيله) يصعب رؤيته أو تتبع مساراته كانهمار أمطار تسقط عشوائيا ، إنما بنظام خارج قدرات الرائي ـ المراقب، في القدرة على الاستنتاج. وعلى كل، هناك آخر ـ حتى لو كان جحيما ً بحسب كلمة لسارتر ـ له دوره في ديمومة التصادم/ الحركة. آخر لا يسكن خلايانا حسب، بل نسكن خلاياه. وانتظام أشكال الحركات، ستبقى تحتوي اتساع الاضطراب، لتذهب ابعد من حدود الحركة، نحو مجالها اللامحدود.
قد اجهل لماذا اخترت الجسد علامة ـ كمركز ـ لمسافة متعددة الأبعاد، مساحة يحدث فيها التقاطع، والتداخل، وانشغالاته، وإنما هل ثمة غير الجسد، حتى في أقاصي التجريد، محركا ً: الجسد بصفته غدا التقاء ما لا يحصى من العناصر، والروافد بمختلف خصائصها، كي يشكل وحدة: صورة لجوهر داخل منظومة متآلفة من النوع ذاته: نباتا ً كان أو حيوانا ً أو خامات معادن..الخ
تلك الصور للجسد لن تغيب عن الحواس، منذ تشكلها ألبدئي. فالعلاقة تبرهن أنها جزء من نظام حالما يتهدم، لأي سبب من الأسباب، سيعيد بناء تشكله بالصورة ذاتها، أو بتعديلها، أو على نحو مغاير.
جسدي في المرآة ـ وليس عبر مقارنة أخرى ـ لن يمتلك إلا ان يتوحد مع ما لا يراه فيها: انه لا يرى شيئا ً محددا ً، عدا استغراقه بالعثور على معادل للتوازن.
في لوحة لي ترجع إلى عام 1976، شديدة الصلة بتجربة ما يتعرض إليه الجسد من تعذيب. ربما هي تناور بمعناها، على خلاف نصوص علي النجار: فضيحة عصر أو آثام حضارة. مناورتي ذاتها لا اعتقد أنها بحاجة إلى إيضاح. فهل أغفلت أنني رسمت أثرا ً يعلن عن معناه: تناثر أجزاء الجسد وتحولها إلى وحدات معزولة بعضها عن البعض الآخر: أصابع/ عين شاردة/ وفم يكتم صرخة/ وجمجمة بدت متداخلة ببقايا الوجه.
انه ختم معاصر، يلبي نظام أقدم النصوص: وظيفته في مواجهة التحرر منها، معناه وهو يستدرج ما بعد المعنى، ورمزيته وقد أعادت بناء واقعيته النائية.
في أختام علي النجار، لا توجد لذّة جمالية باذخة، كالتي شغلت 90% من الفنانين العرب أو العراقيين: بل ثمة ما هو مضاد لها، لا بحثا ً عن مأوى في غريزة الموت، بل في مواجهة أنظمة لم يمت الإنسان فيها فحسب، بل المضي في عالم خال ٍ من مستقبله، وماضيه أيضا ً. فثمة انجرار إلى تيار (السوق) سمح للربح ان يستثمر أدوات الموت من غير اعتراض يذكر. فالحروب تشن، باستخدام وسائل الإعلام المتطورة، وجرجرة العاطلين عن العمل، بل وحتى العقلاء، إلى مهرجان لا احد فكر في خاتمته. والفن ـ كجزء من خطاب عام ـ لم يمتلك الكثير في مواجهة صانعيه إزاء شفافية التلوث!، والتفكيك بما يتضمنه من غوايات آنية، لا اجتماعية، تشّرع للربح النظام ذاته الذي تأسست عليه الأنظمة الدكتاتورية.
قطعا ً ليس الفن أداة جارحة، حتى عندما يتمسك برسالة ما من الرسائل، إنما، في الأقل، لا مبررات كي يتحول إلى (سلع جمالية باذخة للترفيه) تزّين جدران تعزل العالم إلى من هم يتحكمون بالمصائر، والى مصائر اندثرت، أو في طريقها إلى الاندثار.
سيقال، مرة بعد أخرى، إنها لعبة تتجاوز لاعبيها، لعبة ترك البشر في نزاع دائم، على ان الضحايا، في هذا القانون، بالدرجة الأولى، أكثر مسؤولية في صناعة اشد الطغاة جورا ً، ولا معقولية، ولكن، بشرعية لا تنقصها أوهام الأبدية، والخلود!
[10] المنافي وعلاماتها
لم يعد لدى علي النجار سوى تراكمات انخلاعات، وذاكرة زاخرة بعلامات منافيها، ابتداء ً بالوطن إلى المدن البديلة، إلى مفهوم تتهدم فيه الحدود الوهمية، أو الرملية، المتحركة، كي يصبح الجسد وحيدا ً في مواجهة المجهول. فالجسد ـ وسيغدو رمزا ًلملايين فتك بهم اليورانيوم ـ غدا علامة حضارة قائمة على سياق تقسيم البشر فيها إلى من هم خارج (التلوث) والى ـ ما كان يثير قلق دستويفسكي ـ بتلال النمل: الشعوب التي تم معالجتها بجدران عازلة، وقوانين بالغة التشدد،بأكثر من ممارسة تحافظ على ما آلت إليه، تحت نفوذ الإعلان، والأسواق، والاندثار.
جسد علي النجار، رمزيا ً، يعيد إحياء أقدم شعيرة للأضاحي: انتزاع القلب، في احتفال دموي، تحيط به النار، وإعادته إلى المجهول. لكن جسد الفنان، في نصوصه، صاغته ملوثات عصر (الحداثة وصولا ً إلى العولمة)، ودخول العالم، في نهاية المطاف، إزاء تهديدات يصعب تداركها، فضلا ً عن تأثير التلوث في المجال الجيني، بانتظار نهاية ـ أو فاتحة عهد اقل لا مبالاة تجاه المصائر.
رسوماته ليست إعلانات لاختيار عالم خال ٍ من أسلحة الدمار الشامل، الأسلحة (البيضاء) أو (النظيفة)، ولأجل حفنة من أثرياء، وسحرة عالمنا، في استبدال بناء متنزهات، ومزارعاً، ومصانعا ً تتوازن فيها رغبات الناس مع أحلامهم فحسب، بل لبناء المزيد من الأسلحة المستحدثة في محو الحياة، بمختلف صنوفها، وفي مقدمتها الإنسان.
نصوصه ستوضح حقيقة تلوث: الفضاء/ المياه/ الأرض، بإحصائيات دولية، لا تعزل قارة عن أخرى، في نهاية الأمر. فالإشعاعات لم تثبت انها علامة انتهاك، بل ـ بالوثائق ـ مشهدا ً للموت ذاته. ومن غير كلمات، فان نصوص الرسام العراقي ـ بعد نصف قرن من العمل المتواصل ـ لا تنطق بأيديولوجية أحادية، أو بمذهب ختاميا ً، أو لصالح معتقد ضد آخر، بل تلفت نظرنا إلى طريق يبدو انه سيكون وحيدا ً ألا وهو أننا بانتظار حكماء ـ في العلم والفلسفة والاقتصاد وفي باقي حقول الحياة ـ يعملون على إعادة بناء فلسفة خارج مفهوم الانتصار، وسيادة قارة على قارة أخرى، أو جنس على جنس آخر، فالدعوة المروعة التي تبناها (هانتغتون) في كتابه (صدام الحضارات) تكون قد بلغت الصفر. الأمر الذي يرسخ منطلقات مغايرة للتصادم، بكل أشكاله، وحتى الرياضية منها ـ كما أشار أريك فروم إلى ذلك ـ لعالم يتطهر فيه (الدماغ) من الجينات المسببة للعنف، وأوهام المجد والاستمتاع بمحو البشر، أو إعادة صياغتهم كمخلوقات بلا هوية، كأشباح كافكا، يساقون إلى حتفهم ككلاب!



[11] قصدية اللا قصد!
مع ان نصوص عام 2011 أخضعها للتشذيب، كي تتحول إلى: بقع/ فراغات/ علامات هندسية متداخلة شبيهة بمخلفات تأكسدت، ذات ألوان حادة، صافية، وملوثة حد التجريد بمختلف معالجاته الرمزية، والتعبيرية، والهندسية ...الخ إلا ان هاجس الفنان مكث يتتبع اثر (الموضوع/اليورانيوم) في نصوصه الفنية: فلا قطيعة أو فصل بين بنية وبنائية أو ترتيب العناصر من غير مركزها المعلن: الانشطار، التخريب، والمحو. فهل نصوصه الفنية بحاجة إلى الشرح، وكان (الضحايا) لن يشاهدونها، ولا المتابعين، إلا مع إيضاحات، أو مقدمات..؟
ربما الأمر لا يخلو من قناعة ان هناك، في الفن، كما في الكيمياء، أو في المناهج الغنوصية، أو الأمراض العصية على التفكيك، خفايا تكتم كتماناتها بمشفرات يصعب ان تلمسها أدوات الحفر، والتحري، مما يسمح للفن ان يذهب حيث الغموض لا يتقاطع مع أشكاله وعلاماته ورموزه وعناصره الخارجية. كلاهما يعملان بالصور (من الكون إلى ملامس الخامات والى باقي العناصر)، إلى جانب القصد، في المحافظة على ديالكتيك التجربة، وأبعادها.
فاليورانيوم لم يخترع كغذاء، أو لعبا ً للأطفال، أو رموزا ً للتسلية، والرفاهية، بل أصبح جزءا ً من فعل يلبي، إلى جانب القصد، لا قصدية يصعب وضعها في القفص!
هل قصدت الإشارة إلى ما هو ابعد من ذلك، غير نزعة التدمير التي توازنت فيها غريزة الموت بإرادة البقاء، كتاريخ عامر بالتصادم، والعنف،حد الجور والمحو، إلى ذات الحكاية التي تروى عن ادم، عندما سأل إبليس: لماذا أغويتني؟ فلم يجد الآخر إلا رداً بسؤال: وأنا من أغواني؟ فهل (موضوعية) الفنان بريئة من الذهاب إلى إثارة قضية ان للعذاب، في مختلف أشكاله، دربه المشفر، وليس ما ظهر عليه من استدراج للعواطف حسب! وإلا لماذا مكث فن التعذيب، بالانتقال من اللا إنساني إلى عالم حقوق الإنسان، والديمقراطية، والشفافية، وجد، في أكثر المثل رصانة، قبولا ً، واستعدادا ً، وتكلفة باهظة الثمن، فضلا ً عن الحماية القانونية أيضا ً!
إنها إشارة تحيل تجربة علي النجار إلى نشوة حياة ستبدأ فيها الفلسفة بالبحث، مجددا ً، عن عالم لا نعرف اهو آت من العدم، أم ذاهب إليه..؟
علي النجار الذي تجمعت في تجاربه خبرة طويلة، بدءا ً بالإقصاء عن (الأم/ الأرض) مرورا ً بدروب التصادم، مع الثقافات البديلة، وليس انتهاء ً بالجسد وهو يكتوي، ويفكك، إزاء مصير شبيه بالعائد إلى العدم أكثر مما هو خارج منه، يدرك ان البطولة لم يقصد منها الحصول على ثمار، أو ملذات، أو نجاة شخصية إزاء هزائم الشعوب، وتنوع هلاكات المذاهب، والأنواع البشرية، وتفتتها، إنما، ببساطة، انه شبيه بموقف متصوف، أو مازال يتمتع ببراءة من يجتز العام الأول من عمره، وقد حكم عليه بالرجم، أو النفي، أو الموت، لن تقتله إلا وردة!
[12] لوعة عصور
يعيد علي النجار، كرسام وككاتب، للختم القديم قدمه: انه لا يجرجره، كما تستخرج الآثار أو الهياكل أو البقايا، ولا يدفع به نحو المجهول. فالفن عنده غدا مأوى غير قابل للانغلاق، وغير مشرّع بلا حافات أيضا. فهو الحاضر بموقعه في دورة الزمن ـ زمن الإنسان وتاريخه. وما تثيره أختامه، المنجزة توا ً، إنها شاهدة على عصر: التلوث/ فقدان المناعة/ الانشطار، والأذى الذي صنعه الإنسان ضد الإنسان، ليضع حدا ً لمصيره في نهاية المطاف.
ففي أدبيات حضارة وادي الرافدين إشارات تتحدث عن نهاية الخلق، أي زوال البشر. وفي مقدمة أسبابها: اللغط/ الضوضاء/ التهريج/ أي: التلوث. فهناك ـ إلى جانب أدوات القتل والفتك المختلفة ـ ما ينسب إلى البناء الفوقي: اللغة. فالأخيرة تتبنى انساق البناء والهدم، وعندما لا يمتلك الباحث إشارات تكفي لاستبدال الوهم بالثابت، والزائل بالأبدي، فان تلك النصوص منحت اللغة ما سيمنحه (اليورانيوم) في فعالية الانقضاض على الحياة ذاتها.
ولقد تحولت أختام علي النجار لدي ّ، إلى اتصال بهدم الجدران العازلة، والحدود، والفجوات بين المنافي. فبعد ان عزلت نفسي، بين أربعة جدران ـ إلى جانب سطح الأرض والسقف ـ أكون قد امتلكت حرية ان أكون حرا ً في حدود المستطيل أو المكعب الذي أنا داخله: أي حريتي في حدود هذا الاختيار. فقد أتى على الإنسان زمن فقد فيه حتى حرية ان يختار عزلته، أو موته في الأقل.
أختام الفنان على النجار، تحكي لوعة عصور، وأمم، وشعوب، ومحن نكبات لا وجود لها في مملكات النبات، أو الحيوان! فلم يعرف ان فتك نبات بنبات، أو حيوان بحيوان، كما سيفتك الإنسان باختراع أندر الأنظمة والتشريعات على جعل الكراهية غير قابلة للدحض: فضحايا حماقات ما ينسب إلى الحكماء، والعلماء في شتى مجالات العلم، تكللت بصياغة ابرع فنون التدمير، والمحو، وكأن ما سعى إليه الجنس البشري، في زمنه الوجيز، قياسا ً ببعض المخلوقات المعمرة، يؤكد استحالة منع وجود أسلحة قادمة بفنون الفتك، لا بالإنسان أو بالحيوان أو بالنبات، بل بالبيئة المكونة لنشوء الحياة.
فقد تغدو الأسلحة المستخدمة لليورانيوم، شبيهة بالحجارة عند سكان الكهوف، وكالسيوف والرماح عند الفرسان في البراري، وكالصواريخ عابرة القارات في عصر حداثة أوروبا، وكاستخدام إشعاعات فائقة الأذى، يزعم أنها نظيفة، في عصر العولمة، والشفافية، والديمقراطية، والنزاهة، وفي عصر حملات الإيمان، والاحتماء بالمقدسات...الخ ليس إلا مقدمة لزمن مفرّغ من المعرفة، والى مدن خالية من البشر، والى عدم غير قابل للامتداد.

قراءة في قصة سفر الفناء لعدنان المبارك
كتابة بنسق الختم وكلمات عند حافات الصمت
عادل كامل

[1] حد بين حدين: إشكالية المسافة
اللغة تخفي أيديولوجيتها، لأنها تتستر عليها، وعلى ما تخفيه، لكنها لا تخفي سرها، فهي، في الحالة الأولى، تعمل لغاية محددة، فيما لا تمتلك اللغة إلا ان تنتهك السر، أو تدمره، أو تعلن عن عجزها في المناورة. لكن الفن ليس لغة، كعمل اللغة في الاتصال والمحاورة، وإنما تبقى الاقتراب من سبر نشأتها، بمجموع العوامل، وفي مقدمتها الإنسان ذاته. فهل الإنسان ـ كباقي الكيانات الناطقة ـ يسعى الوصول إلى الذروة: العجز، واستحالة فك المناطق التي لا تعقبها مخفيات تتطلب جهدا ً، ووعيا ً، وأدوات توازيها في الانتقال من الملغز إلى مكوناته.
وبمعنى ما فأنهما ـ لغة الفن ـ والفن الذي استدعى استخدام اللغة، يشتركان/ وينفصلان في تكوين معادلة برهنت عن تدرجها من الوظيفي إلى الديمومة، ومن المعلن إلى المتستر، ومن القابل للتفكيك إلى استحالة تتبع أثره، وقد غاب، أو اختفى تماما ً.
فالأيديولوجيات، بمعنى الأقنعة، والتصوّرات، تحافظ على مسافة ما، تتسع وتتقلص، لمن منحها حضورها، الأمر الذي يجعل ديمومة الصراع، كديمومة الحركة، تهدف إلى ما هو ابعد من السطح، والظاهر، والقناع، لكنها ـ تلك المناطق النائية ـ تمتلك كل ما سيجتمع في الأثر: الختم. وفي مكونات هويته. إنما لا تمتلك الأخيرة إلا في حالة الاضطراب ان تعلن عن ذاتها، أي في حالة الاندثار أو الموت. وبمعنى مباشر: عن الديمومة، أو الإرادة، أو الاستجابة لاستكمال الدورة.
[2] السؤال: ديمومة الاستحالة
لماذا تستحيل اللغة عند عدنان المبارك إلى (ختم): إعادة بناء ما تم حفرة، نبشه، بالأحرى محاولة الاشتباك معه من غير خسائر، وترك المعنى يعمل بالية دورته! ولأن لاوعي الكاتب لم يتنصل عن تاريخ لا وعيه المعرفي، سمح لوعيه بالتجول في تلك المناطق. كان الختم خلاصة فلسفة ان العدالة (في الأصل) إشكالية. فالعبد ـ في المحاورة السومرية ـ لن يسمح للسيد بالذهاب ابعد من موته. وقد دوّن الكاتب السومري، في الختم، استحالة عزل اللغة عما تخفيه/ وعما تعلنه، في هذا الديالكتيك. فاللغة ـ بعد ان تقول ما تريد إيصاله ـ تسكن مأواها: هذا الذي لا يمكن تجنبه: ان العدالة لن تكمن إلا باستكمال دورة الإنسان: موته، كي يبعث، ويبعث كي يرى ما هو ابعد من موته. أساطير ديموزي تفصح عن مدى استبصار السومري للحد من التناقضات، وجعلها، بدل التصادم، تأخذ نسق التكامل. فالشقيقان، الراعي والمزارع (قابيل وهابيل مستقبلا ً) لن يقتل احدهما الآخر، بل سيكمل احدهما عمل الآخر. انه سبر استثنائي لجوهر العدالة في الفكر السومري، دون إهمال ان (أيوب)، في الأخير، يترك سؤالا ً لن يجد إجابة إلا عبر ما سيضاف، ويقلب، في العصور اللاحقة. فأيوب لم يجدف، وضمنا ً، لم يول (الشطان) ـ ولا نعرف كيف تسلل الأخير إلى مجلس الإله ـ إلا عدم الاكتراث، الذي سيراهن عليه الإله، في حواره معه. فأيوب لم يسأل: ما الحكمة من الامتحان...؟ لأن أيوب حدد وجوده بالمحدود، فهو من التراب واليه يعود، عدا ان (النفس) أو (الروح) ستحل لغزها، وعملها، مادام الامتحان لا يخص الذات العليا، بل يخص الزمن، والأخير، لا يصح ان يذهب ابعد من زواله.
هذه الإشارة التي تعزل الزمن عن (داخله) أنتجت آلاف الأختام ـ الألواح، بما فيها من تشريعات، وقبل كل شيء: أنتجت فنها، بنية الختم، كبناء استمد قوته من عناصر الحياة ذاتها: مرئياتها ومخفياتها معا ً. ومثال أيوب، في نجاحه، لن يعّول على الزمن إلا ممرا ً حسب، أي درجة ـ مساحة، من العبور، وهو الذي سمح له ان يتساءل: من منا في مأزق! سؤال سيتكرر طالما استعاد الفن هويته، لغة تفند الوظيفة لدمجها بما لا يثير الشك، في مواجه فنائه.
[3] سِفر الفناء
كما يعمل الختم (تجانس عناصر: الوعي/ اللغة/ الزمن/ الوظيفة، وضمنا الهيئة مع ما يذهب ابعد منها) ـ لكن ليس بالمعنى السوريالي: سبر مناطق اللاوعي/ أو اللاشعور، في إشارات لبريتون وبياناته، بل بقلب السوريالية وجعلها لا تترنح، بل تعيد صياغة المسافة ذاتها بين نهايتها والمقدمات ـ فان عدنان المبارك يفتتح قصته (سِفر الفناء) باستشهاد لإميل سيوران، بما يصح ان يكون خاتمة: "كان هناك زمن حين لم يكن أي زمن". فماذا يستطيع، غير (الختم/ اللوح) وليس النص كما تداولته الحداثة الأوروبية وصنعته ـ ان يبنيه. فما ـ هو ـ غير الزمن ـ سوى الوجود خارج اللغة، وخارج أية وسيلة للتقدم، أو حتى للارتداد، أو للمراوحة. انه ليس العدم، إلا اذا كان العدم، بحسب فلاسفة بابل، ذروة إرادة الآلهة. وهذا ما تحول إلى إشكالية عند الهنود، عندما اضطروا لوضع حد بين الصفرين. إنما، في الأصل، كان ثمة ما هو سابق على الزمن: أي الذي لا تستطيع اللغة ان تمنحه وجودا ً. فهل ستأتي التكملة فائضة، للبرهنة أنها كانت قد بلغت خاتمتها، في الأصل، أم لأن الكاتب، عدنان المبارك، لم يغادر مفهوم لغز تكون بذرة الخلق الأولى ـ لأنها لم حتى بعدم تدخل الآلهة أو عدم وجودها في الأصل: تحكم دورة البذرة، دورة المفتاح في القفل، فيغدو السَفر/ الرحلة، كواجب الوجود ـ ولكن للذات في مواجهة فنائها، فينغلق السؤال بالإجابات. فالسومري كان منتبها ان شفرة الإجابات كامنة في السؤال نفسه، وهذا ما سيقوله ماركس، بعد خمسة آلاف سنة. بمعنى: ان العدم وجد امتداده في المساحة المشغولة بالزمن، كي تتحدد المعضلة في إطار: العناصر ـ وحركتها، وليس بفنائها. فالإنسان غير مخول لذلك، الأمر الذي دفع بالكاتب السومري للتفريق بين أهداف: عناصر الخلق، وبين مفهوم الخلق. إنها مسافة توارى فيها العدد بين ان يضع الصفر إلى اليسار أو إلى اليمين. لأن المعادلة تامة، في أصلها، أما ظاهرها، فانه سيحافظ على زمنه، وتاريخه. وضمنا ً كل ما يتعلق بالعدالة: لماذا حكم الموت سابق على الولادة! وهو الذي شوش ـ وشكك، في منطق يحاول بناء تصور للآلهة، أو لدورها في بتكبيل المحدود بالطاعة، والشقاء، واللا متوقع، تزكية للذي يستحيل ان يكون له وجود، لا بالتأويل، ولا بالصورة، ولا حتى بالمشفرات! الختم الذي سيعيد بناءه عدنان المبارك، يدمج ثقافة (كلية) تمد الذات لمغادرة الزمن، كي لا تحصل أو تجني على ما كان جلجامش يبحث عنه، بل عن دحض وهم هذا الذي لا وجود له، إلا في حدود الزمني ـ وقد كانت خاتمته سابقة على الحضور.
فهل يمكن ان ترفض الولادة، وهي مكبلة بالصفر، أي بانعدام الإرادة، إن أميل سيوران يسترجع تاريخا ً ينسج بنسقه هذا الذي تحول إلى (ختم/ لوح) لدى المبارك: العدد بين الصفرين!
[4] عودة إلى سِفر الفناء

ليس لأنها حملت عنوان المجموعة، وإنما لأنها تمتلك مفهوم الصدمة، في مواجهة الاحتواء/ الاندماج، أو الرضا بما هو سابق على اللغة، أو بما هو ابعد منها.
فمختار محمد المظهر، ولد ونشأ في بقعة نسيها الله والشيطان معا ً. لكن غدا عضوا ً في عالميا سيعمل في استعادة لغز حياته. الا انه سيدرك كم هو محكوم بالقيود، في مشهد المراقبة، والمحاسبة، فهو لم يعد نسيا ً منسيا، لكنه لم يغادر مساحتها. إنها المعادلة ذاتها الأولى: المطلق ـ والمحدود. فيهما مقيد بالأخر..؟ إنما السؤال هو: ما العمل.. وليس أين يكمن الخلاص. لأن السؤال لم يعد منفصلا ً عن الإجابة، لأن التطبيق لن يعدل ما تمت برمجته. والباقي تتمات للأصل: النسج ثم التفكيك. وهو الذي رسم مسافة هائلة بين الوعي والمصير. لقد أدرك، وهو المراقب من قبل أجهزة تعرف ماذا يعمل، عبر تأسيس جماعة لا ترى أملا ً في التعديل، ولا في الإصلاح. فالإنسان حيوان مزمن، ووجوده ليس إلا وجودا ً قهريا ً، والحياة برمتها مبرمجة بأنظمتها (الكلية/ وحرية الإنسان مقيدة بها ضمنا ً) من اللاحافات إلى أدق اشتغالات الدماغ، ومن العدم إلى الوعي، لكن ليس بالعدم، بل بظله. هذا النموذج ـ وهو واحد من ملايين فروا من منافيهم الوطنية نحو العالم، المنفى الأكبر، ولكن، قياسا ً ومقارنة بالمعنى، أو بالجوهر، سيبرهن باستحالة وجود حقيقة. إنها لعبة برمجة تعيد صياغة ما دعاه (توينبي) بالتحدي والاستجابة. إنما سيدرك ان شيئا ً مستقيما ً لن يتحقق مادام الأصل بدأ بقطعة خشب معوجة (استشهاد آخر بعمانوئيل كانت) يوضح، ان وعي مختار محمد المظهر، لم ينشغل بتفكيك اللعبة. فكلاهما، الله والشيطان، يعملان خارج الضحية!
مرة أخرى يبرز (أيوب) في المشهد، ليس رمزا ً للمعنى في تحمل ما لا يحتمل حسبن بل للبرهنة ان الشيطان لا يعرف ماذا يعمل، كما المركز، بصفته مطلقا ً، لا يعلن إلا ما كتم. فالشطان لن ينجح (لكنه نجح في القصة) بإيذاء البشر، وإثارة غيظ الله. لأن ما سيسمى بالزمن لن يغادر سِفر فنائه: عقمه، فهو باطل في الأصل، وفي الأصل، كان السومري قد فرق بين من خلق (تحت)، من الوحل والدم، والآخر، الذي لا تدركه الأبصار. لكن الله لن يخسر، والشيطان لن ينتصر، إنما القصة تحكي باللغة، الإطار ذاته في محاورة العبد والسيد، وفي محاورة المتفائل والمتشائم، مثلما في أسطورة أيوب: لن يحصل الإنسان إلا على المسافة التي هي مجموع الاندثارات.فالخسارة وحدها هي أعلى درجات الكسب، مثلما الصمت هو أعلى مراحل الحرية!
أين هو الختم في قصة لم تكتب لرفع معنويات مخلوقات رازحة تحت، في المستنقع، الذي هو الوضع البشري، ولم تكتب لتمجيد الوهم، أو المضي ابعد من برنامج (العشوائية) في عالم يتعرض لازمات تراكم رؤوس الأموال، وفي وضع لن يدور المفتاح في قفله، إلا بمزيد من الهدم، والتنكيل، والمحو. ان القصة تعيد للذهن ان (العادل المعّذب/ المعاقب من غير سبب) المطرود بوشاية أو لأي سبب، لم يخن دوافع النعمة التي فقدها، وغدا في الجانب الآخر، مع (القطيع/ العامة/ الناس) لكن ـ في سِفر الفناء، يترك القاص نموذجه يستعرض عبارات منتقاة لحكماء وفلاسفة، وهي عبارات مدوّنة في ألواح الذاكرة الحضارية ـ الثقافية العراقية، قبل ان يخترع الانكليز العراق الحديث، وقبل ان تحاول أية قوى تجديد هذا الاختراع تحت عناوين أخرى ـ بمعنى ان الكاتب ـ بوعي أو بتفكيك قيوده ـ يعيد صياغة الحكاية ذاتها التي تحدث في كل زمن، والتي تحدث في كل مكان، إنما، اشتغل الوعي، مرة أخرى، كوعي جلجامش إزاء الموت/ وكوعي أيوب إزاء المعاقبة/ وكوعي العبد إزاء سيده القابض على مصيره/ فالثنائية/ والتعارض، لا تتكرر كي لا تبدو الحياة قلما (هنديا ً/ أو مسلسلا ً مصريا ً أو تركيا ًيفجعانا بالمواعظ او الغوايات/ أو انتصارا ً أمريكيا ً ملطخا ً بالرماد والخراب/ او صينيا ً قادما ً محملا ً بالوعود والآمال ) في تصوير امتدادات حكاية مشحونة بما هو ابعد من الصخب ـ كما في ولولة بنجي فوكنر، وليس هو الموت ككلب كما في خاتمة رواية القضية لكافكا، او نهاية وليد مسعود في رواية جبرا إبراهيم جبرا ـ وبما هو ابعد من المعنى، لأن الأسئلة لم تعد متعلقة بالإجابات، وليست مرتبطة بأصل نشوء خلايا الحياة في عفن الكهوف او في المستنقعات فحسب، بل الوعي راح يحفر في كل ما لا وجود له، كي يدلنا على أعذار أنتجت هذا الانشغال، المحكوم بالخساسة، والخوف، وليس بالحزن أو الأسى ـ بحسب الحكمة الصينية القديمة ـ وهو الممهد لدرب امتد من العدم، كي يستكمل دورته، كما قال فلاسفة العراق ـ قبل ان يصب البلد باليباب عندما اختره الإله انكي الرجل المخصي والمرأة العقيم سلالات لا تعمل إلا على إدامة سِفر فنائها ـ وتجمعت فيه، كما في ألواح الحكمة ـ من سومر وأكد وبابل وأشور وصولا ً إلى آثار دماء ضحايا كل من سعى إلى تدمير العقل، والإرادة، والمنطق! فالشيطان القديم سيجد تحديا ً دائما ً طالما التراكم سيقسم البشر إلى متضادات، تحديا ً يسمح له بالمراقبة، كي لا ترى الضحية كم الجلاد توغل بعيدا ً في العدم، لأن لذّات الجلادين وحدها غير قابلة للتصالح مع الزوال، ذلك لأنها لم تر ابعد من باطل الأباطيل: البشر في مواجهة كراهية تضع ـ بين حين وحين ـ العالم عند حافة دورة من دوراته.

[5] المقدمة: الختم يدوّن/ الختم يمحو:

[1] الختم الذي ينتظر الشرح، التفسير، شبيه بالختم الذي تحول إلى اثر، لا يمدنا بغواية التأويل، وتدشين مساحة للتقدم. فعندما تم عزل الشجرة في الغابة، عن الشجرة في النص الفني، لم يلغ احدهما الآخر، كما أنها ليست شبيهة بعلاقة مرآة تراقب من يحدق فيها، أو من تحول إلى مراقب للمرايا. إنها حدود تشترك بنظام كلما توغلنا فيه ازددنا إصرارا ً للذهاب ابعد منه. فليس ثمة لا حافات للذي بدا لنا خاتمة: ختما ً، أو دماغاً، أو جسدا ًمرضض، أو قصة.
سأعترف لنفسي ـ بالدوافع ذاتها لدى عدد من بناة المجتمعات المعرفية ـ على صعيد الفن أو ما تنتجه اللغة ـ إنني عندما أتمكن من فهم القصة أو الختم أو ما بين يدي ـ أكون أضعت زمني! وفي الوقت نفسه، اضطر للتعويض، في دحض ما بدا لي إدراكا ً، أو فهما ً، أو معرفة!
عدنان المبارك، سمح لي ان لا اعزل أية ذات (مركبة عبر تاريخها وليس أنها مازالت خالصة العناصر) عن كل ما كّون ـ ويكّون ـ مجموع الأجزاء. سمح لي ان أتلمس إضاءة تقول ان شكسبير أو دانتي أو المعري أو كافكا أو ألنفري أو من أيا ً من دخل في بناء الكاتب، وفي بناء ختمه أو نصه ..الخ كلهم (أدوات) لإنتاج أدوات: فمنجزاتهم لا يمكن عزلها عن عناصرها اللا محدودة التي تبلورت باضاءات بدت لنا كما ظهرت صورنا في سطح ماء ِ لا يتحرك. انه لغم. لأن الأخير لم يهبط من مجرة أو من نجم لا نعرف عنهما إلا أنهما فقدا وجودهما قبل بضعة مليارات سنة ضوئية. فلا وجه في الماء، وصورنا لا تحاكي الأصل. سمح لي الأستاذ عدنان المبارك ان استعيد تاريخ عدد من (العلامات) مع (صانعيها) في دينامية لا امتلك منها إلا الأدوات التي تسهم بهدمها، وإعادة بنائها، وكأن الحرية وحدها المفتاح الذي يدور في القفل، يدور كي لا نغادر، وكي لا نندمج في التيه. الدنيا.
فالكاتب يرث المفهوم الذي نقل العالم من الخرافة إلى العلم، من عالم نراقبه إلى عالم يحتجزنا، من موقف التأمل إلى موقف النسف والتفجير، من دنيا نحبها إلى دنيا تبغضنا، فتفككنا إلى أجزاء، لتمحونا. فالكاتب يرث خلاصات علوم ومعارف ومحن ونكبات كانت اللغة ـ واللغة تحديدا ً ـ أداته في بناء موقعه في سياق حركة الكل الكوني/ البشري/ والشخصي. انه ـ في المقدمة ـ كما في سِفر الفناء ـ يشتغل في تفكيك الألغام، كي لا يزيلها، وكي لا يدفن أخرى في الدرب، بل يستجيب لرهافة وجد أنها معادية لموت يزحف عبر التلوث، والانتهاكات، والرداءة. المقدمة تصوّر البنية ذاتها التي كونتها؟ فالنص (الختم هنا) ليس علامة موت، بل هو علامة مرض: ذروة بلغت درجة تتستر على ما فيها من عدل غائب، أو لا وجود له. انه ـ النص ـ لا ينتسب إلى كاتبه أو عصره أو باقي خامات البناء فحسب، بل إلى كل ما يخص الاستجابة لمغادرة القفل الذي دار فيه المفتاح. هل الإنسان مرض لا يرجى الشفاء منه ...؟ فرويد قال انه لم يخلق ليبني حضارة أو ان يكون مهذبا ً..نيتشه دعاه بالجرب أو بالجذام، كارل ماركس أرجعه إلى خلايا تكونت من عفن المستنقعات، دارون العميق الإيمان بالسيد المسيح راقب الأثر، اثر هذا المخلوق، ولم يجد ـ وهو لم يكن شيوعيا ً أو زنديقا ً أو كافرا ً ـ إلا سلسلة متعاقبة من الآثار، اينشتاين تخيل ان الجنس البشري مع الكائنات الحية الأخرى، كبقعة بكتريا في جسد ضخم، انجلز تحدث عن العائلة المقدسة، ولم يكتب حرفا ً واحدا ً عن العهر، أو عن تفكك العائلة، ولم يبشر بعولمة تسحق، في الأخير، ذاتها...النحات العراقي منعم فرات تصّور الإنسان مخلوقات وجدت في سرداب خال ٍ من السلالم، ومهمتها ان تفترس بعضها البعض الآخر ...الخ عدنان المبارك، يمسك بومضات متوهجات (العقل)، مع حواسه، أو مجساته، ومع قواه الخفية، إزاء عالم يزحف نحو نهايته. فهو يدوّن رؤيته استنادا ً إلى الوثائق، والحقائق. فسكان الأرض اليوم الذين يسكنون القرية الصغيرة يجهلون أنهم سيبلغون النهاية بأسرع مما يتوقع علماء التلوث، وخبراء المجاعات، وأطباء الأعصاب، ومعلمي الحكمة. هل يغلق الإنسان فمه ـ هذا اذا كان للفم وجود ـ وهو لم يعد يفكر بخلاص ذاته، كي يرسلها إلى ركن جميل في فردوس دانتي، أو ملتن، أو إلى حديقة أو مدينة فاضلة لا وجود لها إلا عبر التصورات/ الكلمات ومشفراتها، إنما هو يتحدث عن أشجار العالم، ومدنه، وحيواناته، وعن الهنود والملونين والمنبوذين وسكان البراري، ويتحدث عن منفاه وعن المنافي وهي تتحول إلى علب وأسواق واستهلاك وهواء ملوث مدمر للمناعة وللعناصر وللجنس البشري، وللحياة برمتها. انه عمليا ً لا يتكلم، لا يعظ، بل يحفر، يكتب. وقد عمل ـ عبر موقع القصة العراقية ـ للاحتماء بمأوى لا يريد ان يتحول إلى قبر في مجرة يدوم زوالها وحده وقد دحضت كل خلود! على ان للزوال لغزه، وخلوده، وهو يسكن الموت المنبثق من الموت، حيا ً، كوليد لا يعرف أسيقوم بإنزال عقابه ضد العالم وضد البشر أم عليه تحمل ما لا يحتمل! ما ـ هو ـ الفناء ـ وما هو ـ الخلود، عندما لا يمكن عزلهما عن الكلمات، عن اللغة، التي تصطدم بـ: العلة التي لا علّة لها!
[2] تصل إلى الكاتب إشارات من قارئ مجهول. وببساطة، لا يوجد مثل هذا القارئ. انه المجهول الذي سكن الكاتب، فراح يصغي إليه، ويعيد تدوّين صوته. فالكاتب يسمع نفسه ـ سقراط كان، وقبله وبعده يتحدثون عن هذه الأصوات/ الحكيم أو النبي (ماني) كان يقول ان الإله نفسه أملاه عشرة كتب/ وبتهوفن كان يؤلف استنادا إلى الأصوات الداخلية بعد ان أصيب بالصمم/ وخبراء الجملة العصبية، بعد تفكيك الدماغ، يقولون ان الأخير لا يعمل إلا كعمل المجرة، بل ـ ربما ـ كعمل المجرات ـ ليس محض خلايا واليات عصية على الإدراك فحسب، بل مازال يجرجر صاحبه لاستكمال اكتشاف ما لم يكتشف بعد. وحسنا ً مر الكاتب سريعا ً بأصول حرفته وببعض عاداته في الكتابة، كي يلفت نظرنا إلى: يا لها من بهجة ـ كتابة كتاب! فالكتاب ـ الختم/ الجسد/ النص ..الخ هو الكل في الجزء، وهو الجزء في الكل: هو من يحدق في المرايا، وهو المرايا تدوّن، تحفر، تتوغل/ تصنع/ وتنجز مصيرها زائلا ً، وقيد الزوال، في ديمومته وليس في خلوده. فالخلود، لغة، الهامد، الساكن، الذي يستحيل ان يكون له وجود! مرة أخرى يمسك الكاتب بلذّة طفل يكتشف ان أمه ليست هي التي ولدته، إنما، هي التي ستعلمه كيف يؤدي دور صانع الولادات. فالعالم رحم، أنثى، والذكورة علامة ملحقة بها، وما ان تعزل عنها، حتى يتم استعادتها لعالم يدوم زواله، حيث الأثر وحده يؤدي دوره: دور الذي جندّ الموت، لعبره.
هل بلغنا الذروة: لا كتابة بمعزل عن أسبابها؛ كتابة خالصة، أو لنناور: جمالية، بالغة الصفاء، لا أيديولوجية، لا إعلانية، وغير قابلة للتداول ـ الاستهلاك ..الخ بمعنى: لا كتابة أبدا ً!
ان عدنان المبارك لا يتوغل في زمنه، ولا في ماضيه، بل سمح لنفسه ان لا يتخلى عن المصير الذي بناه، بالخبرة، مندثرا ً، إنما، في هذا الزمن، يكمن، كالذي يكمن في الروح ـ وليس خارجها. فاللغة، بالحدود التي تعمل فيها، تتستر على زمن سابق عليها. مرة أخرى تبزغ (الميتافيزيقا) ـ أي كل ما هو وراء الظاهر، وكل ما هو سابق على التجربة، وكل ما هو غير قابل ان يصبح واقعا ً ـ بصفتها سابقة على (اللغة)، ولكنها، في التجربة، لا تمتلك شيئا ً (في ذاته). إنها العدم ممتدا ً، أو الموت وقد غدا جذرا ً لا متناهيا ً لشجرة الحياة الخضراء!

[3] يتوقف الكاتب عند (مستنقع النشر العربي) عمليا ً، يفصح وعي الكاتب عن دحض متواصل لحياة حكمت بحدود المنفى. ببساطة يمكن تذكر أمثلة بين ما حصل في أوروبا، مع اختراع الطباعة، قبل خمسة قرون ـ أي مع عصر النهضة في ايطاليا ـ وما شخصه. فثمة دار نشر واحدة في اسبانيا، تصدر خلال سنة ما يعادل ما تنشره دور النشر العربية لعقود، وبضمنها ما تنشره وزارات الثقافة العربية ذات الموارد الخيالية. لكن الكاتب العربي ـ وليس لدي استثناءات ـ مكث يعمل باليات من أدركته حرفة الأدب: شحاذا ً أو تابعا ً لا يؤدي إلا دور العبد، العبد غير المتحرر من سيده، الموظف في مؤسسه يؤدي ما تطلبه منه، لا ما يطلبه منها. ومن النادر ان يتخطى الموظف/ العبد المستأجر، حدود عبوديته إلا عبر التماعات يصعب ان تتحول إلى فعل (تأثير ) أو إلى (علامة) إلا بالاستثناء، القريب إلى الإعجاز. فهي تولد ماضيا ً. وليس أكثر تمويها ًمن دور ما يسمى بالمنظمات الدولية ـ في شتى المجالات الإنسانية أو الثقافية ـ إزاء حياة الكاتب العربي، وإبداعه. فأي دور لها، عدا فعاليات خجولة وبعض البرامج الشبيه باستبدال وجوه بأخرى. مما يجعل نداء عدنان المبارك مشروعا ً يوازي استذكار ضحايا المشتغلين في هذا الحقل، لقرون من الزمن. ومما يسمح لدور المواقع ـ وهي قطعا ً لن تسلم من المراقبة والمعاقبة ـ بتدشين مساحات مكثت مجهولة، إنما، تضامنا ً مع بعض التيارات الثقافية الأوربية، وفي أمريكا الجنوبية، وفي باقي مدن العالم، بالإمكان ان يكون لها صدى ما ما دامت تتغذى بالمستحيلات ذاتها التي صاغت فلسفات، وآداب، وفنون، أوروبا ـ أوروبا غير المدججة بترسانات أسلحة الدمار وسحق حريات الشعوب ـ بل برموزها، وعلاماتها الجمالية، من بودلير إلى بوشكن، ومن ادغار الآن بو إلى ماركيز، ومن وليم بليك إلى أرغون، ومن رامبو إلى اليوار، ومن دستويفسكي إلى فان كوخ، ومن نيتشه إلى ماركس ...الخ ذرات فاعلة داخل فرن اسمه: الحداثة، بما يعمل ابعد مما يحدث في نجم يتوهج لملايين السنين، دون ان ينفد.
مقدمة لا علاقة لها بالقصص، كما يبدو للوهلة الأولى، لكنها تعمل على هدم العزلة التي يعاني منها كتاب عالمنا الفقير، الثالث، المشحون بالفوضى والرماد، بسفك الدماء وبهدر الثروات، مع العالم، وكي تكون لإسهاماتهم جدوى، وهم يعاملون كأتباع للشيطان تارة، أو كعبيد لحداثات العالم تارة أخرى.
[4] هل انتهى زمن النشر الورقي...؟ يلمح الكاتب، وهو يرث طرق بعضها مازال يحمل أصداء قريبة، وأخرى نائية، وثالثة مشفرة، ورابعة ستنبثق، إلى وجود لا معقول لن يقارن بما تم انجازه من تجارب ارتبطت بحقبة ما بعد الحرب العالمية الأولى: من الدادا إلى ما بعد السوريالية؛ اللامعقول ومسرح العبث واللا رواية، الشهادات الشبيهة بموقف أيوب في مأزقه (لأننا لا نعرف بالدقة رؤيته إلا عبر ترجمات لسومرية مندرسة) اذا كنت نجوت، فمن يكون قد خرب العالم، مادمت، يا الهي، قبلت بالرهان!
فـ (مستنقع النشر العربي) شبيه بواقع الزراعة، والصناعة، وبالمعايير المختلفة للمجتمع العربي، لم تجتز عصر النار! ولا ضرورة للشرح. لكن النشر العربي، كبعض المستحدثات ومنها وسائل التعذيب، تأسست بفعل خبراء أجانب، من المعسكر الاشتراكي في الغالب، دون إهمال خبراء دول الحداثة الديمقراطية، ليقولوا: عليكم، للحصول على القليل، ان لا تطلبوا شيئا ً. دعوني أعيد صياغة عبارتي بأسلوب آخر: كي يحصل الإنسان على حقه بالحياة، عليه ان لا يطلب شيئا ً. فالمشهد العام لم يسهم بترويض صانعي الكتب، بل في زجهم في السيرك (المستنقع العربي). وإذا كانت هناك استثناءات، فإنها ستبرهن ان القاعدة، كحكاية سيزيف، المسبوقة بنصوص عراقية قديمة شبيهة بها: لا حياة خارج الصخرة، خارج تعالم المعبد! إنها عودة إلى الجذر: أيوب، ضمنا ً سأل إلهه: هل عظمتك كانت تتوخى هذا الرهان، الامتحان، وهل اصدق ان الشيطان مارس أفعاله الشريرة لذّة شخصية وهو العارف ان خاتمته، لن تقارن بخاتمتي، أم اصدق ان نجاتي في الرهان، كانت ضرورية لمجدك! أنا الذي تنعمت بنعيم قصرك، لكني طردت منه بسبب وشاية، صاغتها يد كاتب التقارير، وما سيسمى بعد ذلك، بالعين، والمخبر السري، أو الرقيب، أو الشبح، ومهما تعدد الأسماء، لكنها ـ في النهاية ـ حولت عبدك إلى يده تمتد كيد شحاذ مجذوم أعمى مجدور تطلب قليلا ً من الرحمة.. ومن من، من أتباع الشيطان، وليس من أتباعك!
عدنان المبارك، في حديثه الجانبي عن مستنقع النشر العربي، ذكرني بعبارة قالها لي جبرا إبراهيم جبرا، انه لم يطبع إلا مجموعة واحدة على حسابه، ذاق بسببها اللوعة، فقر ان لا يطبع ـ على حسابه ـ كتابا آخر. لان صرخة الكاتب لن يسمعها احد، وعندما، لسبب أو آخر، يجتاز مساحة الاشتباك، فان الآخر، يكون منشغلا ً بالصمت! فأتساءل: ما جدوى النشر الورقي، في مجتمع ولد ـ بعد الحرب العالمية الأولى ـ محتضرا ً، محتضرا ً وليس ميتا ً، ميتا ً ولكن ليس بانتظار البعث!
سؤال الكاتب يعمل على خدش أهرامات الموت. فالناشرون، وضمن مؤسسات الأقاليم المنشغلة بتعميق خنادق عزلتها بعضها عن البعض الآخر، وعن العالم، والحفاظ على عادات عصر ما قبل اكتشاف النار، يعرفون ماذا يريد الكاتب ـ غير العبد المستأجر والموظف والتابع أو من أدركته مهنة الأدب، المخصي أو المكبل بالقيود، والذي تنازل عن أحلامه تحت التهديد ـ وهو يتحدث عن أسفار التراب، وواقع المخلوقات الممحوة، أو التي هي قيد المحو! فالشعار: دعونا نصف موتى، هو الجسر ما بين الناشرين والكّتاب. إنما ـ في النهاية ـ لا تحقق الرداءة نصرا ً، ولا جدوى من الثناء على الأوثان التي خاطبها أيوب!
[5] أنا أيضا ً لا أريد ان أشبه نفسي، لا أريد ان استنسخها، ولا أريد ان أتتبع من وجدتهم يقودني إلى المجهول. قررت تأجيل قراءة المقدمة، لأفكر:هل استطيع ان ابلغ الذروة التي بلغتها بعد عام 1990؛ الثمالة حد الصفر، عندما نشرت شيئا ً شبيها بما ورد في قصة سِفر الفناء: الصمت أعلى مراحل الحرية! وكان عنوانا ً لمقال نشرته في الجريدة التي اشرف على صفحتها الثقافية. فلم اصدم ـ وأنا في الصفر ـ إلا لعبارة نطق بها رئيس الجمهورية، قال ـ وكنت أراه يحق في ّـ: الشهادة أعلى مراحل الحرية! لم اعد صفرا ً! لقد أدركت ان شيئا ً ما في العدم يتململ، ينمو، ويقترب مني. ما ـ هو ـ تبريري، وما هو المشفر في العبارة الذي علي ّ ان أعلنه، أو لا أعالجه بكتمانات إضافية؟ مضى الليل، وتبعه نهار، ليل ونهار، وثالث ..فقلت لنفسي: ما الفارق بين الصمت والشهادة أو الموت بين يدي ّ حبيبة ..؟ كلها كلمات، كلمات، كلمات. فالشهيد بصمته أيضا ً يبلغ الدرجة ذاتها بموته: الحرية! ما الحرية اذا ً ...إن لم تكن السوط الذي يخرج النمل من باطن الأرض كي تسحقها بساطيل جند سليمان، ابن الملك النبي داود، والتوراة حكت القصة كاملة، لكن بعض دعاة الإيمان الراسخ سيقلبون المعادلة، بغياب الألواح. حسنا ً، ان الحرية لها سوط لا يمسك به من سيذهب فداء ً لها، إنما لدى الآخر، سمو الأمير أو حضرة الجلاد أو فخامة الرئيس أو جلالة الملك، في أي زمن وفي أي مكان، فانك تعرف انه لا يقود خرافه إلا إلى المجزرة. فهل استطيع ان أفك لغز العبارة التي نطق بها نموذجي في قصة (عربة الحصان الميت) ـ 1996 ـ عندما قال، بعد ان شاهد زميله يقتل أمام بصره ـ: لقد أمضيت نصف قرن أفكر، كي لا أفكر! ( وعندما تحدثت بها إلى زميل.. عام 2004، قال: كيف نجوت من الموت!/ علما ان د. علاء حسين بشير انذرني بحجزي في مصح إن لم اترك الصفر الذي بلغته ـ طبعا حرصا ً منه لي وليس تهديدا ً).
هو ذا الفارق ـ أستاذ عدنان ـ بين كائنات تفكر، وأخرى لا تجيد حتى استثمار ما أنتجه الفكر البشري، إن كان مصريا ً أو بابليا ً أو صينيا ً أو عربيا ً أو أوربيا معاصرا ً.. هو ذا الفارق ـ أستاذ عدنان المبارك ـ بين إنسان يفكر، وآخر لا يجيد حتى تعلم ما يفكر فيه الآخر! بل الفارق، انك لن تعاقب فحسب، إن فكرت، بل تعاقب انك لم تسلك الدرب الأعمى الذي رسمه لك!
[6] لم انشغل بإعادة تحديد مفهوم (الواقعية)، وإن لذّ للكاتب ان يمر بها، فالواقعية، أي كل شيء من الواقع، كالوجودية من الوجود! لأن عملية الوصول إلى أكثر المناطق بعدا ً لن يمر إلا بالحلول السلسة، الواضحة، غير المركبة! فانا لا اعرف هل هذا الذي يدور في الذهن، هو من صنع الواقع، عندما أدرك استحالة ان تذهب الكلمة خارج عملها، وطاقتها. لأن ما بعد الواقع، ما فوقع ـ عند السومريين ما تحت الأرض/ في العالم السفلي/ لأن الأعالي من نصيب الآلهة ـ خاص به. وعندما اخبرنا رائد الفضاء السوفيتي غارين عن زرقة الفضاء الأثيرية ، للمرة الأولى، كانت بمثابة حقيقة. فالواقعية تصنع الحقيقة، لكن الأخيرة، ليس لها مفتاح واحد. لأنني بالضرورة أكون مسؤولا ً عن تتبع الكاتب في اشتباكاته العنيدة، فقد يكون الواقع ذاته لغما ً، وقد لا تكون الحقيقة إلا بما يأتي بعدها. فانا اجهل أنني اعرف حتى هذا الموقع الذي أنا فيه، بين عدمين، وبين فضائين بلا حافات. فما هي الحقيقة ..أم هي حدود من يفكر فيها، وهي حدود من لا يفكر فيها...؟
جميل ـ للغاية/ وأنا كنت اسميها اللامبالاة الأجمل في حواراتي مع أستاذي مدني صالح فكان يقول لي: اصمت ـ ان تتحول الرقابة، والمحنة، الاستحالات، والميتات، والأمراض، والوشايات، والإهمال، والتنكيل، والفقر إلى ما يشبه من فلت من الجحيم: عقاب الضمير، وعقاب الألم، وأحيانا ً ما هو إلا نتيجة أعراض هلوسة مركبة لا بسبب الحواس، بل بسبب عمل الدماغ، عندما يستخدم لا وعيه في العثور على دفاعات نائية، وغير مرئية! فعلماء عصرنا يتحدثون عن أنظمة التفكير لدي الأشجار، وعن أحلام الطيور، وعن الصلات الفائقة بين الموتى وبين من لم يولدوا بعد، وعن اتصالاتنا بمناطق لا تحصى في الأكوان، وعن استكمال قضية فشل فيها أسلافنا في البحار كي تجد من يكملها بعدنا بدهر من الزمن، عندما ندرك ان (الدماغ) ليس محض شبكة اتصالات بين مراكز بعدد نجوم درب التبانة يعمل على مدار الساعة فحسب، بل لديه اختصاصات لم تكتشف بعد كالاتصال بمن ماتوا قبل ولادتهم! وإلا لماذا هذا التبذير في بذر بذور الحياة ...عندما تخصب البيضة الواحدة بواحد من تلك البذور وبنسبة واحد إلى بضعة ملايين، هل الطبيعة حمقاء !
هذه ليست فنتازيا .. إنها واقعية، استبعدت مبدأ توزيع الظلم على السكان، كما اتهمت الاشتراكية بذلك، كي تحصر الرقابة بنسبة 5%، وليذهب الجميع إلى الجحيم، جحيم الفاقة، وضعف المناعة، والخوف، والذل، ومن غير رحمة ... لأن الـ 5% ـ منذ اكتشفها حكماء الصين القدماء ـ برهنت ان العدالة، كالحرية، كالحقيقة، كلمات، كلمات، كلمات يمسك بها الأقوى، والأكثر مكرا ً، والأكثر خساسة، وتلونا ً،وبراعة في صناعة الأقنعة...الخ، وكي يتنعم بها الآخر، أو بظلها أو بطيفها أو بوهمها، لكن في احتضاره المستديم!
[7] حاولت ان اعثر على مقدمة كتبها قاص عراقي..، خلال القرن الماضي، فلم تسعفني ذاكرتي، بمقدمة، مع أنني كتبت مقدمات لدواوين شعرية! لكن لم يطلب مني على صعيد القصة. ولأن عدنان المبارك ـ غادر عصر ما قبل اكتشاف النار، وعصر البرية ـ فانه غدا كائنا ًكتابيا ًلم يعد شفهيا ً، أي غدا يعمل وفق النظام الذي كان أسلافنا في سومر قد أسسوه: الكتابة كدشين لعصر الحساب/ الاقتصاد، وهو عصر صهر المعادن، والتشريع، وهو العصر الذي سأل الإنسان نفسه الأسئلة التي ستتكرر: اذا كانت الآلهة فائقة القوة ـ وللمناسبة كانت في صدام دائم ما بينها للاستحواذ على الجهد البشري، عبر المعبد والقصر ـ فلماذا تصر ان تجد من يذكرنا بذلك! ولأنه يكتب، فهو لم يضع فجوات بين حياته، ومصيره، والكتابة. فهو يستشهد بنصوص، لا كي يتغذى بها، بل ليّصنع غذاءه. فهو لم يعد آلة، ولم يعد يفكر ان يصبح إلها، لأن وضوح الرؤية سيدفع به ليحدق في عالم: يأكل نفسه. والكاتب يعرف كم عالمنا شبيه بما مضى، تحيدا ً في سياق الاشتباكات ذاتها، إنما، ما هذا الذي لم يفقد شيئا ً شبيها ً بالومضات، سمح للكاتب (كانسان) ان يقاوم الاندماج..؟ أنا أدرك ـ في اللغةـ ان مهارات الكاتب لاكمن في الأسلوب، أو في المهارة حسب، بل عندما تولد الكلمات وكأنها تحطم أبواب الموت لتعلن عن: عيد او نار مقدسة، الكلمات وهي تجرجر قارئها كي لا يكون شبيها ً بأحد، ولا حتى بنفسه! ثمة حقيقة ان لا ذرة تشبه أخرى، وثانية زمنية مثل سابقتها، ولا هناك فجر أو عشق أو لون لا يبحث عن طرق لم تدشن للسفر، لا للدفن. ان مبارك يعيد للتأمل حق الشجرة ان لا يعتدى عليها،كحق الهواء ان لا يعاد وينتهك، كما يتم استهلاك العناصر، والموارد، والمفاهيم، والكلمات.
مقدمة تذهب ـ مع سِفر الفناء ـ ان نفكر في (التفكير)، ونتأمل في (التأمل)، وكما قالت رابعة العدوية: ان نعثر على من يستغفر للمستغفرين! مما يسمح لي ـ ومازال قبر الأميرة شبعاد يسكن طفولتي في صحراء ذي قار ـ الاعتراف بان مهمة الكاتب ـ وهنا الأستاذ عدنان المبارك ـ لا تتوخى خلاصه، أو حصوله على أبدية بلا حافات، أو صحة لا يمسسها الغبار، أو ذاكرة لا تخدشها الأزمنة، بل، ببساطة، ان لا يخاف من الله!
هل شططت...؟ كلا! فعدنان المبارك، في خلاياه، كما في خلايا المليارات الحالية ـ والسابقة ـ تاريخ الكلام، وتاريخ الكتابة: فإذا كانت الحياة ـ حياة البشر ـ وجدت فائضة، فهل نباركها لأنها شيدت على الباطل، كالعتاب النادر الذي دونه الشاعر العظيم ملا عبود الكرخي في المجرشة: هم هاي دنيا وتنقضي ويأتي حساب تاليه! وليس (الحساب) فالكرخي لم يحتمل غياب العدالة، لكن الحياة لم تولد من تلقاء نفسها، مصادفة، وهو استنتاج لاينشتاين، إنما لو لم يكن ثمة (الم/ ظلم/ غبن) حد السكن عند حافات الجحيم، وتحت قاع الخساسات، أكنا دوّنا ما مكث في حدود الكلمات، وفي حدود الوعي، في الماضي المسبوق بماضي، والمستقبل المحكوك بالامتداد، إلى ما بعد كل مستقبل..؟ أكنا تمسكنا، حد الموت، بهذا الذي نراه يمحو بعضه بعضا ً، بالقليل من الأمل، وبالقليل من الرجاء، وبالقليل من العدل ... ان تكون كلماتنا حربا ً ضد الحروب، ونارا ً لإخماد الحرائق!
[8] في خاتمة رواية الأستاذ جبرا إبراهيم جبرا [البحث عن وليد مسعود] يستعير الروائي، على لسان احد شخصياته، الحكاية التالية:
[يقال ان احد مريدي الحلاّج سمع صوت الناي قادما ً من البعيد، فسأل أستاذه: ما ذلك الصوت يا مولاي؟ فأجاب الحلاّج: انه صوت الشيطان وهو ينوح على دمار العالم الذي يتمنى لو يستطيع إنقاذه. والشيطان ينوح، قال الحلاّج، لأن كل شيء إلى زوال، وهو يود لو يعيد الحياة إلى كل شيء مضى ... ولكن البقاء ليس إلا لله وحده"]
من خرّب، بالأحرى، من يخرّب العالم...؟ هل المعرفة مازالت، في اللاوعي السحيق، فعلا ً شيطانيا ً..؟ ولماذا لم يجر تقدما ً يذكر في توزيع (الظلم) وليس بمنح العدل بصورة مشرفة، خارج قانون: الصياد ـ الضحية...؟
ولأننا نشترك، تحت ضغوط المبرمجات المتوارثة، في نسق متجاور، فان البحث عن المعرفة، لا يمكن عزله عن الانشغال بصناعة حياة غير خالية من الحلم. قد لا نعرف أكثر من إننا لا نعرف (يذكرها الكاتب)، وإنما تبقى المعرفة ـ هنا ـ تخص الأداة ـ اللغة، خاصة بـ: ان عالمنا ـ ككرة الثلج ـ لا احد باستطاعته ان يصرخ أو ان يستغيث أو ان يستنجد إلا وقد تحول إلى جزء من الخاتمة! أترانا نكبّل بمسؤولية المقدمات ...؟!
عدنان المبارك، لا يهمس، ولا يتكلم بصوت خفيض، ولكنه لا يسمح للكتابة إلا ان تبقى أداة تهذيب. انه، كالرواد خمسينيات القرن الماضي، برهافة ثقافة معاصرة، لم يعد يفكر كيف يخرج من المحنة/ لعبة الموجدات، منتصرا ً، ومثقلا ً بالأوسمة، والنياشين، بل يأتي (فنه) متوغلا ً في الإنسان الذي لم يعد لديه ...إلا عدمه، وليس (صليبه أو أيديولوجيته أو أسلحته أو قدراته على المحو) إزاء مليارات تشيّع مصائرها، قبل الولادة، وتحفر مستقبلها مدفنا قبل ان ـ حتى لثانية ـ ان تبصر كيف يزول العالم!
[6]عودة إلى: وجود يُستكمل بالموجودات
لم تصعد (روح) أو (نفس) مختار محمد مختار إلى السماء، مع أنها لم تفلت من المعاقبة، مما جعله يفكر ـ في حدود اللغة أو وهمها ـ بتأسيس جمعية لا علاقة لها بكارهي البشر، إنما، بإثارة شكوك تستند إلى الإحصاء، والوثائق، والأدلة الدامغة، ضد (محبي البشر) .. فهؤلاء، منذ كانت لدينا أدلة؛ من أختام ولقى وحلي وأساور وجماجم مثقبة وعظام حفرت عليها إشارات، وشخابيط، سيواجهون دعوى رسمية لدى جمعية ـ غير تابعة للبوليس الذي حقق معه، وهو المجهول المولد والزمن، وقد نساه الله والشيطان معا ًـ تعنى بديمومة هذا الذي يتعرض للخراب، والاندثار. دعوى تستند إلى ان محبي البشر، من حكماء، وعلماء، وشعراء، وملوك، وفلاسفة، وأمراء، وتجار، وعذراوات، ومتصوفة ...الخ سببوا ـ بالأرقام والصور الدامغة ـ سفك دماء لم يكن الشيطان ـ ولا الله ـ مسؤولا ً عنها، مادام ـ كما سيقول الادعاء ـ ان ما لا يحصى من المخلوقات لم تولد فائضة، أو من عمل المصادفة، لأن المصادفة بوجودها تفند أنها وجدت من غير قصد، وسيكون عبثا ً الإصغاء إلى دفاعات ـ هؤلاء محبي البشر ـ أو إلى نواياهم، أو إلى الأخطاء التي ارتكبت ضد تلك النوايا بما فيها من وعود بالغة الصدق والإمتاع !
ستكون حجة الادعاء ان الحرية، التي زعم انها منحت للبشر، ما فائدتها ان لم تهدد نوايا هؤلاء بالذات. فليس ثمة خروج على القانون، ولا على الشريعة، وإنما السياق يحتم شفافيته، مما يستعيد الإجراءات ذاتها التي واجهت (كارهي البشر). لأن الحب، والحرية، والحقيقة، قد بلغت (اللا معنى) الخالص. واللا معنى، كما يستند الدفاع إلى (يونغ) ليس هو حرمان الحياة من الامتلاء ـ وبحسب أيوب من العدل/ وبحسب رامبو من الجمال ـ فهو ليس إلا مرضا ً يتطلب خضوعه إلى العلاج!
والدفاع ـ وهم مجموعة لا علاقة لها بحب أو كراهية احد ـ سيستندون إلى القوانين ذاتها التي استند إليها (محبو البشر)، وإلا كيف يتم الانتصار على الشر ان لم نؤمن به، وربما نمارسه! مع ان الادعاء لن يتطرق إلى حكماء أمثال (ماني) أو (المعري) أو (شوبنهاور) أو (نيتشه) حول ان الأصل يكمن في حامل المرض، أي المرأة، بل في اللا معنى ذاته الذي وجد من يقلبه إلى سلسلة من الأوامر، ومنها غير القابلة للجدل، أو الشك، أو المراجعة! لكن الادعاء لن يستعين بالشيطان، بل بالرب نفسه، كي يعتقد انه يدافع عن كائنات تعمل على إنقاذ احد، لأن هذا يتقاطع تماما ً من المنطق. فكيف يطالب بديمومة حياة كتب عليها ان تزول، ان لم يستعن بالله ضد الله ذاته، كي تبلغ الدعوى حدود مغادرة اللغة، ليدرك مختار محمد المظهر انه، عمليا ً، كان يؤمن بأنه كان جزءا ً من الكل، مما سبقه ومما يليه، كأن حياته منتزعة من سلسلة لا نهائية طويلة من التتابع، مما سيدفعه للاستغناء عن الدفاع، وعن مصيره، وعمن سيخلصه من ورطته، أو محنته. آنذاك، مثل أيوب، سيحدق فيه ويتساءل: ألا تعتقد ان محبي البشر، وليس محبي الشيطان، كانوا وراء هذا الخراب! لكنه ـ ربما ـ سيدرك انها مفارقة يمكن فك لحمتها: فالشيطان لا يسكن في الكلمات حسب، فقد يجد مأواه في النور! لم يعد لدي محمد مختار المظهر قدرة على المناورة. انه تذكر ذلك الرجل الذي صاح: يا هارون. فقال الخلفية لإتباعه ـ وكان بمنزلة أوباما اليوم وخاصة بعد خطابه في 11 سبتمبر 2011 ـ من المنادي؟ فجاءوا به. يسأله الخلفية: ها أنت تجردني من ألقابي كلها، فمن أنت..؟! قال الرجل للخليفة: إننا عندما نرفع رؤوسنا إلى السماء لا نقول إلا يا الله! لكن مختار، كما في المرة الأولى، سيتوارى. لا في زنزانة، أو يذّوّب، أو يحول إلى أثير، بل سيقول مع نفسه: اذا كنت فائضا ً، وأنا بتمام الوعي، فهذا مرده ان خللا ً ما في الموجودات، أنا كنت ـ للآسف ـ علامته! أنا الذي حسبت ان العمل في الحكمة، لن يشكل خطرا ً على احد، وقد ظهر ان (محبي البشر) كأسلافهم، لم يبصروا إلا الذي لا يحق لأحد ان يجعل منه سببا ً لإيذاء طير، أو طفل، أو قطف وردة! أليس العدم، في ومضة، غدا أسير حركته. إنما، في الخاتمة، لا يمتلك ان يذهب ابعد منها: تلك هي حدود اللغة، الكلمات، حيث الصمت وحده بلا حافات!

ليست هناك تعليقات: