الشاعر العراقي سلمان داود محمد :
____________________________
أنا إبن هذا العدم العراقي المبين الذي يتسع وبحنان فادح للملائكة والقوادين معا ً .. !!
حاوره في بغداد : عبد الامير المجر
تميز العقد التسعيني المنصرم بظهور جيل شعري اتسمت نتاجاته بما يمكن تسميته طرح الاسئلة المربكة ، وذلك بسبب هول ما عاشه هذا الجيل من خرابين ممتدين يبدآن بذات الشاعر المعذبة وينتهيان أو لا ينتهيان بخراب محيطه ، الأمر الذي إنقسمت فيه إبداعات هؤلاء بين السوداوية والنكوص برغم ما فيها من شعرية وبين السوداوية التي تضمر إجابات ربما ذاتية محضة أو ذاتية تتموضع بتعميم السؤال واشراك الآخر بطرحه من خلال النص، وإجابته أيضاً كمعطى مضمر بمقولة النص نفسه، والشاعر سلمان داود محمد يعد من وجهة نظري من النوع الثاني، فبالرغم من أن نتاجه الشعري بشكل عام مجلل بالسوداوية لكنها تأتي في النص لتتستر على معنى يركلها أو يثور عليها لاسيما نتاجاته بعد الاحتلال التي تستحق أن تقرأ مرتين .. ولعل أبرز ما يميز سلمان داود محمد هو عصاميته التي لا تحتاج الى شهود وخصوبة عقله ما أتاح له باستمرار أن يتواصل مع الآخرين سواء أكان يتفق معهم في الرؤى أو يختلف لينضج "حواراً" مع الجميع وكذلك إستطاع "الجميع" من خلاله أن يطلعوا عليه أو يعرفوه وبعد ذلك فهو غير معني بشكل الحكم الذي يصدر بحقه . وبما إني من المختلفين "إجرائياً" معه وقد اكون متفقاً معه تماماً في "نهجه" الذي دلني عليه وربما دله عليّ لذا آثرت أن اغتنم الفرصة لأتوسع معه بحوار قد يعني الآخرين وهذا ما حصل ..
* صف لي مكانك الآن، وأين تقف في هذا الخضم المتلاطم . كي أهتدي اليك.. لنتحاور؟
- دعني في البدء أن أرتعش قليلاً، ذلك أن الخوض في مفهوم "المكان" يستوجب ذلك في تقاليدي الشخصية، بخاصة وأنا في "العراق" أو تحت وطأة هذا "الكانسر" الذي لا فرار منه وهو المتلاعب بالمصائر كيفما اتفق، فما زال يتناوب على حياتي بنقيضين من الأفاعيل، فمرة أراه قصاباً بارعاً لجسد الكلام ومرة أراه الباعث الإستثنائي لإستعادة ما مات من البوح في الآن نفسه، حدث هذا ويحدث راهناً وسيحدث حتماً في تمام الآخرة وما بعدها.. إذن أنا هنا.. أي في مكان يتسع وبحنان فادح لحشد من الملائكة والقوادين معاً، أو لجباة الدم ليل نهار، وبسالة اللاهثين في رد الضرر عن الحالمين بدفتر مدرسي أو كوب حليب أو وردة آيلة للعبق من جهة أخرى، هذا يعني أن لا فرق هناك بين إيواء أسراب من ذباب الإستبداد المفولذ سابقاً وعسليات الغزاة الزقومية لاحقاً، إن هذا الوئام الشنيع بين المتناقضات ورسوخيته في مسقط الرأس جعلني لا أفرق أيضا بين آليات "أمهات المعارك" و"القادسيات" و"نقرة السلمان" وسواها في إنتاج الضحايا، وبين غزارة "الميليشيات" و"دائرة الطب العدلي" و"الهمرات" و"الثأر القبلي" وغيرها في إعادة انتاج تلك الضحايا في الوقت الراهن .. الخ ..
لذلك أقف الآن في عز هذا العدم العراقي الجليل، فهل تستطيع ان تهتدي إلي لكي نتحاور ـ كما تقول ـ وكل هذه المبيدات القامعة للقول بيننا..؟
* أعتقد أننا نستطيع أن نتحاور، خاصة وأن موضوعنا الآتي سيخوض في آفاق المسألة الثقافية، وأرى أن هذه المسألة تقع في صلب إهتمامك بوصفك مثقفاًً عراقياً وشاعراً، فأسألك عن المشهد الثقافي العراقي بين عهدين ، كيف وجدته..؟
- تجدر الإشارة أولاً الى أن ما سيرد من أقوال على لساني في هذا النقاش لا يتبوأ بالضرورة مكانة الناطق الرسمي أو المخول الاعلامي باسم اصحاب الشأن الثقافي او غيره انما هي تفوهات صدر موجوع يريد الوقاية من اعراض التدرن "الرؤيوي" الذي فرض بخشونة الترهيب ونعومة الترغيب وعلى مدى "عهدين" على رؤوس المتضررين" كما أن مفردة "عهدين" الجاحظة من سؤالك أراها تمتد ـ زمنياً وعملياً ـ من أول دبيب للانسان على الارض وحتى الساعة، لذلك أرى أن العهدين المشار اليهما هنا هما في حقيقة الامر "عهد واحد" حيث شاءت التحولات "الفيزيقية" أو "الميتافيزيقية" ربما أن ينشطر على نفسه الى إثنين وذلك في التاسع من نيسان/ 2003، لقد أنجب الماضي طغاة من الطراز "الصغير" و"المتوسط" حتى تبلورت هذه الطغيانات بحكم العادة وإنشغال الرعية بالإختلاف على "غرة شوال" الى "دراكولا" واحد لا شريك له ومن طراز (لارج×××) الذي تم "تفكيكه" في التاريخ الوارد في إعلاه، ثم أتى الحاضر الملقح بنطفة "التغيير" لينجب هو الاخر "دراكولات جدد" توزعت على الخليقة العراقية وبالتساوي لتنعم عليها بأكاليل الأسى وبيادر الخسران
وفقاً لشرعة حقوق الناس "الفلكلورية" والإستحاقات "الديمقراطية" الفائحة من مطابخ "الدستور" الذي ولد وترعرع في كنف المصالح الفئوية وإعوجاج النظرة والأحلام التي يراد لها أن تكون من البنفسج "الحزبوي" لذلك إنعكست هذه الوقائع بألوانها الشاحبة على "قيافة" الثقافة العراقية، وكلمة "قيافة" هنا تحدد مقدار السوء العام الذي نال من الشكل العمومي لهذه الثقافة ولكن ظلت الروح التي تتوارى خلف هذه الأسمال محتفظة بسطوعها ونظافتها ومثابرتها على الإبتكار وحماية الجذر التأسيسي لها إتصالاً مع فكرة مفادها: إن لكل ثقافة رفيعها ورقيعها، والفارق بين الإثين "نقطة" كما ترى... وهذا يؤكد بالوقائع الدامغة أن الثقافة العراقية البتول قد أصابها الأذى الكثير من ضحالة الدخلاء ووساخة الأدعياء ودناءة المتاجرين على حساب عفافاتها وديمومتها التي بلا حدود وليس أخيراً على خصوبتها المعرفية التي كانت ولم تزل والى يوم يبعثون الدرس الابلغ في جمع شمل الجمال والعدالة والأبدية في ملكوت واحد إسمه "العراق" الذي تدربت على حروفه النورانية أبجديات العلم وازدهرت على الرغم من تعاقب العهود المأفونة وسلاطينها عليه، فربما لا تستطيع الثقافة العراقية الطاهرة الآن أن تعيد ذريتها المبدعة الى رحمها من جديد، بدعوى الحفاظ عليها من السوء المتفاقم حاضراً، ولكنها تستطيع وبإتقان كيف أن تضع مثقفي "ضرب السره" في الأماكن المخصصة لجمع النفايات ...
* متى بدأت مغامرتك "المهلكة" مع الكلمة، وكيف..؟!
- إن سؤالك هذا يستدعي رائحة تلك الساعات الاخيرة من الإجازات الدورية وما تنطوي عليه من إكتئاب خاكي، كما يستجلب أيضا ذلك السرد الممل بصدد "العلة" المسماة "الكتابة" التي لا شفاء منها ولا نهاية لها، حيث كانت بداية المغامرة مع الكلمة مؤطرة بفضاءات الوعي المتشكل من القدرة الابتدائية على إنتاج الأسئلة وفقاً لحداثة العمر آنذاك والإحساسات الخام أمام مجريات حياة باهظة الأحداث وجسيمة الأثر على طفل لم يبلغ بعد من إقناع "الكبار" بسؤال مؤداه:
...بماذا يضر " البالغين" لو تركونا نضع النقود المعدنية من فئة الـ"خمسة فلوس" على قضبان سكك القطارات المارة بمحاذاة بيوتنا حينذاك، ماذا يضرهم عندما تتحول حجوم الفئات الصغيرة من العملة الى فئات أكبر قد تصل الى حجم فئة "الدرهم" مثلاً بفعل مرور عجلات "الفاركونات" عليها وبالتالي ستتقلص مساحة الفقر لدى الفقراء ويتفشى الرخاء في أرجاء الحي والوطن من جراء تلك الفعلة "القطارية" التي يكمن في "دهستها" تكبير الفئات النقدية وتحقيق أماني المحرومين.. ولكن.. ياللعار.. لقد أدركت مؤخراً أن "الكبار" كانوا على حق، لاسيما وأن القطارات قد أكلت بانياب خطاها "الطرة" و"الكتبة" وفقدنا رؤوس أموالنا والامال، ومدت الفاقة لسانها ساخرة من تكدس خيبة الأحلام على أرواحنا، أرواحنا التي إستغرقت طويلاً في غباءات النوايا الحسنة.. النوايا الحسنة، التي أفضت فيما بعد الى قطارات جديدة تذهب سريعاً بالنفط الى "الآخرين" وتعود بطيئة وحبلى بالحنطة المسمومة وجرحى الحروب ومستحضرات لتجميل الهزائم .. هكذا كنت أتمثل هذا الدرس للمرة الاولى وأكتبه بلغة ركيكة وبإحساس بليغ لا يقل ركاكة وبلاغة عما يجري الآن في بلاد القطارات التي لا تنتهي ..
* بعد ثلاث مجموعات شعرية ومثلها مخطوطات وغيرها قيد الإنجاز، هل تعتقد انك قلت ما تريده حتى الآن..؟
- أنا مع أطروحة الأخ "فان كوخ" التي تنص على أن "الأحزان باقية ما دامت الحياة" وعليه لن يتوقف الفعل الشعري بإعتباره ـ حياة ومدونات ـ ولكن ثمة فاصل بسيط بين الشعر والأحزان، إذ أن الأحزان تزول بزوال أسبابها بينما الشعر إتخذ من الزمن إمتداده ولا نهائيته على الرغم من أن الشاعر كائن قابل للموت الذي شرعته الآلهة وتداوله العامة مع فائق الأسف، ولكن ليس بمقدور أحد أن يمحو الشاعر وأثره من ذاكرة الوجود حتى لو كان المحو هذا بواسطة ممحاة نووية أو مقدسة ذلك أن الأثر الشعري الحي يدل على حياة منتجة بمنأى عن الظلم الكوني الذي جعل من الشعراء نزلاء حفر مغلقة إسمها "المدافن" فاستناداً الى هذه البديهيات أقول : أنني وعبر ما أصدرته من أعمال شعرية وأدبية و غيرها قد أفصحت عما كنت أريده تماماً وما زلت، بصرف النظر عن الأثمان الدنيوية الفائقة التي ما زالت تلاحقني وتشترط على أن أكف عن البوح الشعري ولم أستطع، علماً أن أمراً كهذا يندرج في سياق الشأن الشخصي فلا أحد ملزم بتقديم التعازي او التبريكات فضلاً عن إنشغالي الآن بتأجيج جذوة تلك الأثمان الجهنمية بالتواصل الشعري مع ما أعلنته شعرياً فيما سبق من خلال "غيوم ارضية" و"علامتي الفارقة" و"ازدهارات المفعول به" بمخطوطات أُخر ستعلن عن "واوي الجماعة" و"سعفة كلام" و"هنا بغداااااااااااااااااااااه" وسواها لذلك اؤكد لك يا عزيزي أن المصاب بداء الكلمات لا تخشى عليه من أحابيل كوليرا الخرس ومخالب كاتم الصوت ومستعمرات الخراب النزيلة ـ مؤقتاً ـ في أعالي الكلام ..
* يقول البعض من الشعراء: إن الزمن العراقي الحالي ليس زماناً للشعر .. كيف تعلق على هذا..؟
- بدءاً أرجو أن تتقبل مني فائق المحبة والإمتنان بسبب تحديد الفشل الشعري والإعتباري ثم إرتباطه الوثيق بهذا "البعض" كما أعتقد، فاذا كان الزمن العراقي الحالي بحسب ما يدعون، فأي صفة يمكن اطلاقها عليهم وهم (شعراء) بلاشعر..؟ ماذا نطلق على(الشاعر) عندما نراه يتهالك على إعتناق مهن كان ينبذها ويتبجح بالترفع عنها في زمن قريب منها مثلاً : "المحلل السياسي" أو"السيد الاعلامي" او"الاستاذ لسان حال الاحزاب والقوميات والطوائف والاعراق والمناطقية.. وهكذا: أو"السيد متعهد المهرجانات الثقافية" الذي يتسلسل (رابعاً) بعد أناس لافرق لديهم بين قصيدة النثر وطريقة (لبخ) الوجوده بالمساحيق التجميلية.. وغير هذا الكثر.. لستُ هنا بصدد محاكمة (هؤلاء) أو تجريح مهابة المهن المذكورة انفاً لا، ولكنني اسأل مستغرباً: لماذا هذا(البعض) الصالح لكل شيء إلا الشعر مازال يعتلي المشهد الثقافي ولايستحي؟.. ربما(القرقوزات) الرصينة هذه أكثر مدعاة للضحك في الزمن الشعري العراقي الحالي و.......الحزين ...
*وأخيراً أرجو أن تختتم حوارنا هذا بما يعجبك من القول وبأيجاز على أن لايغضبني...!
- شكراً - أقولها على مضض- لديمقراطيتك المستبدة هذه، وبعد، أقول:
الأمراء فصيلتان:
الأولى مبجلة حررت رقاب العبيد من الجور والتعسف بلا أثر رجعي وانتهى الأمر...، والأخرى ذبّاحة حررت أعناق الناس من أجسادها بـ"شفافية" لاتقبل اللبس وانتهى الأمر أيضاً.. فلماذا أنت إذن"عبد الامير" ولم تزل.....؟؟!! ..
..............
..............
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق