بحث هذه المدونة الإلكترونية

مرات مشاهدة الصفحة في الشهر الماضي

السبت، 26 نوفمبر 2011

أختام عراقية معاصرة-عادل كامل/ الختم الخامس

أختام عراقية معاصرة



عادل كامل/ الختم الخامس

[1] التتابع: ابعد من الغياب أو الحضور تاما ً


لا أريد لبصري، وربما لأصابعي، أو باقي حواسي، ان تغادر أداة السومري في الحفر فوق الطين، فأنا ابني بالكلمات مأواي، كما يبني الطائر عشه: الم ْ يلمح باشلار إلى ذلك كعلاقة بين قلب الطائر وعشه: المكان كقلب وقد غدا شعرا ً! فانا أكاد اسمع كلماتي تغادر (ما قبل) ماضيها كي تأخذني معها إلى (ما بعد) موتي. أليس هذا ـ ولا اعرف لماذا تذكرت الشاعر سامي مهدي ـ مقاربة لتعريف الشعر: ان ننتقل من المجهول ـ بزوالنا ـ إلى ما بعد الكلمات، لغزا ً يذهب ابعد من حضوره ـ وابعد من غيابه! سر وجود كائنات وجدت مصيرها لا علاقة له بما شغلها: لا بالحواس ولا بالعقل ولا بمخفياتهما أيضا ً، إنما بعلاقة لا غياب فيها وقد أصبح الحضور تاما ً.
وها أنا اترك أصابعي تعمل كي أتتبع عثراتها، وتوقفاتها، وما تريد ان تقول.. لكنني اعرف ان الفن ليس اختيارا ً خالصا ً، أو لعبا ً حرا ً، كأنه من غير علة، أو قد عزل عن مكوناته، مثلما أدركت منذ زمن بعيد ان الحرية، كي تحافظ على ما فيها من سر، فإنها الضرورة وقد غادرت قيودها: حرية لا تذهب ابعد من هذه القيود، ولكنها ستمنح هذه القيود تاريخ الإنسان: مجده وعبثه، رمزيته وعدمه، عناده وتلاشيه.

[2] أدور، بمعنى: أتسمر!
ها أنا أدور، كالسومري الذي تحدث عن الدورات: دورة الفرد، دورة السلطة، ودورة الأرض، ودورة الكون، الأمر الذي سمح له ان يجد دافعا ً إلى: الكتابة/ الفن/ الحكمة. ومع أنني لا اعرف ـ إلا عبر الآثار ـ ذلك الزمن السحيق، لكني أكاد أعيد سكني عند ضفاف الفرات، وأنا أعيد قراءة شريعة أور نمو، بين كائنات استبعدت العنف عن حياتها، فلم تدع الراعي يسفك دم المزارع، كما في قابيل وهابيل في النص التوراتي، بل صاغت مفهوما ً تكامليا ً سنجد أصداءه في ديانات الهند، والصين القديمتين؛ وهي الذروة ذاتها التي بلغتها ملحمة جلجامش: الخالد ليس من لا يموت، بل الذي يمتلك قدرة ان يمتد صانعا مصيره، كأقدم قانون للمصالحة بين السماء والأرض، وعمليا ً، لا نستطيع إغفال العلاقة بين من تراكمت الثروات عنده، وبين من سلبت منه. ففي بنود الشريعة ان الإنسان لا يمتلك إلا ان يحافظ على المسافة النائية بين من في الأعالي وبين من صنع من الطين.
أدور، بمعنى، أتسمر! فانا مثل المسمار (إشارة إلى تماثيل الأسس) أجد أنني لم اعد معزولا ً ـ وأنا أؤدي عمل الحرية كضرورة، وأؤدي دور الضرورة عندما لا تكون الحرية وهما ً، فالمسمار ما هو إلا علاقة إقامة. انه إشارة لمفتاح بين اللاحافات ـ وحافتي: إقامتي. وهنا أجد العالم وقد تحول الى بستان، فاستعيد نسق الاسطورة في صياغة تدريباتي، لا بصفتها تسلية، ولا بصفتها عقارا ً، ولا بصفتها عبثا ُ، او ما شابه ذلك، بل واجبا ً مضادا ً للواجب: قهرا ً للقهر. ففي الفن ـ أجد أني أؤدي دور المسمار، لا دور الريح أو الزمن، فالأول علاقة، والثاني(الريح أو الزمن) امتداد عبر فواصل. ذلك لأن المسمار ذروة عمل: انه كد الإنسان وكلمته.

[3]المسمار ـ ابعد من الدفن
وربما كان للصليب، قبل ثمانية آلاف عام، المنقوش والمحفور والمرسوم فوق فخاريات أعالي الفرات، وجنوبه، إشارة لضرب من الصلح اثر اشتباكات أو تصادمات. فالصليب سيأخذ الشعار الذي اختاره (هتلر) (وكأنه فعل ذلك بوحي من نيتشه)، شبيها ً بالصليب المعقوف المرسوم فوق سطوح فخاريات أعالي الفرات: لأنه رمز إلى مركزية السلطة، وحدودها. فالسلطة هي حصيلة ما لا يحصى من الكد، حد الحرب، وهنا يلتقي قصد هتلر ويفارق: فهو شعار سلطة تحكم الجهات أربع، وعند هتلر، يتكرر القصد، ولكن في عالم يصعب حكمه خارج ديمومة الاشتباك.
إلا أنني أجد المسمار ـ الصليب ـ من جانب الرأي العام إلى الخاص، كي يتشكل عبر الدفن. فالميت مسمار، هو الآخر، وشغف الأحياء بموتاهم لن يفقد دوره أو حضوره. فالذاكرة لم تصبح مستقبلا ً معزولا ً عن مقدماتها/ جذورها. وهنا يأخذ القبر محتوى وشكل المسمار ـ الصليب أيضا ً: انه البذرة التي يتحتم ان تدفن، كي تنبت، كتأويل لأقدم آلية قتل لا واعية للإله ديموزي. فلو لم تقم (إنانا) ـ في لا وعيها ـ بإنزال حبيبها إلى العالم السفلي الذي لا عودة منه، لأصبح وجوده صنو الريح!
وليس لزمن قصير مكث سكان وادي الرافدين يندبون مأساة ديموزي، بقتل البطل ـ أي دفن البذرة ـ فسيتكرر الفعل ـ ضمن دورة وجود الإنسان ـ لتمنح الانتظار، بعد ذلك، جدلية الديمومة ـ والامتداد. الم ْ يدون الحكيم السومري: ما من امرأة ولدت ابنا بريئا ً قط! حتى أصبحت الأخيرة رمزا ً للأفعى، ورمزا ً للشيطان. من ثم دخلت اللاوعي الجمعي، وقد جعل منها الحكيم (ماني) نشاطا ً مقترنا ً بالعتمة ـ العدم. وبمعنى ما: فالحياة مكثت تمتد، مثل عمل المسمار، لا يكتفي بالحفر، والنقش، بل لأنه سيذهب ابعد من الدفن.
[4] ما بعد/ وما قبل ومضات الغياب
فيشرد ذهني، في محاولة التأويل، حول منهجي في التفكير: هل ثمة برمجة صاغتها حتميتها، أم أنها وجدت بتعديلاتها، خارج عمل المشفرات الوراثية، وعمل الجينات..؟ أي ان المضاف، يتكّون بحسب السياق ذاته حتى لو قمت بدحضه! فالمصادفة لم تحدث من تلقاء ذاتها، كي تأخذ هذا النظام المشفر، من اللا مرئيات إلى الوعي، ومن الدماغ إلى المجرة، ومن اللا حافات إلى ما هو خارجها! أتذكر ـ في هذا الجزء من اللحظة ـ أن احد الفلاسفة الأتراك، وبلذّة متصوف، أو عاشق، أو فنان، قال ان الله يقع خارج هذا كله! ولا أرى انه أضاف حرفا ً ليعزز بديهة ان الخالق وحده ليس بحاجة إلى برهان. فهناك: واجب الوجود. لكن حدود عمل الوعي تصطدم، وتشتبك، في المحدود: الانشغال بالموت، والولادة. فالإنسان يأتي إلى الدنيا ـ بحسب المثل الصيني القديم ـ في الحزن ويموت فيه. على ان فرحا ً ما بالحياة وبالموت، له سياقه العنيد: حتميته ـ: العمل. ومرة أخرى لا تبدو اختياراتي خالية من الإثم! فانا بعملي الفت النظر ...، ثمة متراكمات، كنوز صغيرة لفتت نظر اللصوص! ومثلما لا اعرف كم فقدت، من أحلامي ومن ممتلكاتي المجهولة، جرحت، وبالحزن وحده ذهبت إلى روحي: كل هذا يأخذ موقعه في الأثير: غبار المجرات، والنجوم، والأثير الممتد بين لا حافات الفضاءات. فأصغي إلى صوت موتي: أيها الولد ـ أيها العجوز ـ انك لم تذق بعد ما بعد اللذّة! فعد راقب ومضات قلبك وهي تنسج بأصابعك هذا الختم: محو الفراغات. فلا تغضب، ولا تتذمر، وإلا من يطرق بالمطرقة فوق المسمار، وإلا من سيذهب من غير ظل، بعد ان فقد نوره، ويكمل تتمات اللغز، وإلا من يحتفل بالراحل، ومن يحتفل بالحبيب، وأنت ـ وأنت كباقي الغائبين في ومضات حضورهم، وكالبشر وقد أغوتهم فخاخ ما بعد/ وما قبل ـ هذا الحضورـ تمشي في جنازة الريح، وأنت تشيّع زمنك متتبعا ً الأثر وقد سبقك في الغياب !
[5] الطيف: اكتمال دورة المقدمات بنهاياتها
ليس، كما ألمحت، ان ما أراه يتوارى، هو ان أرى حضورا ً للفن ذاته، كعدم يغادر أبديته، ليسكن المسافة ما بين الخامات والبصر/ اليد، ولكنه ليس شيئا ً مغايرا ً. ان أصابعي، مرة ثانية، تمنحني العزاء: لن أتتبع موتي! ها أنا أراه يحدق في ّ، فأموت، كي اتركه يغادرني، لكنني ـ في روحي النائية ـ أدرك استحالة صياغة هذا، أو الإمساك بأثره. فانا سأتوارى، ضمن آليات الدورة! وأعترف أني وضعت علامة التعجب لسؤال خطر ببالي قبل الكتابة: ماذا لو عدت أشاهد الزمن يرتد إلى الوراء، كما افعل بفلم أراه بالمقلوب: من الموت إلى لحظة الولادة، والى ما قبل الخلق! ثم، أواصل تتبع الانسحاب إلى ما قبل التكوين! كي أتساءل: هل تخطيت حدودي...؟ لا! فأنا ـ بداهة ـ مركب من الأبعاد اللا محدودة بدا ً من الزمن إلى ما قبله، فأنا موجود في الوجود حد استحالة وجود نقيض له، عدا تحولات الأشكال، تبعا ً لمحركاتها.
ألا يحق لي ـ كي لا ادع الفكرة تغيب ـ ان امسك بنظام سمح لي ـ خارج إرادتي ـ ان امتلك هذا الحضور...؟ أم، لأن الحضور وقد بلغ غيابه، سمح لي بما ليس غائبا ً، وبما ليس حاضرا ً، لأمر ما شبيه بالطيف، أو بما لا يمكن رسم مروره، أو وصفه بالكلمات...؟ هل تراني أصبحت نائيا ً عن جسدي، عن أصابعي، وعن رأسي، كي أوثق حالة شبيه بالصفر، التي تكتمل فيها الأبعاد، أو بالأحرى، ترجع إلى أصلها! كي يحافظ الأثر على دمج المقدمات بنهاياتها، لكن عبر هذا المرور، وقد اكتسب زمنه، ومنفاه، سواء بسواء...؟
[6] هوية الفعل ـ الأثر
يبلغ الوعي ذروته: انه ـ في كل خطوة ـ يخترع توازنه. فانا لم اعد معزولا ً عن أدواتي: القلم/ الورقة/ الضوء/ وتتبع ما أراه يتوارى ...، بل أصبحت امتدادا ً له طالما كلانا تحولات محكومة بما لم يعد للمعرفة فيه إلا الاختباء فيه. معرفة الفن وهو يخفي معناه، نائيا ً، عن كل خاتمة. فهو شريك الجسد في هذا الامتداد، وليس في القطيعة. وبمعنى ما يعلن الفن عن شراكته لي في تلافي المنفى ـ والنفي. فانا لا أتطهر فحسب، بل اكف عن المقاومة. فأجد أنني لم أتحول إلى آخر، بل أتوحد مع ذاتي كي تكتمل النهايات بمقدماتها.
هل بلغ الوعي ذروته، حقا ً، كي أرى حياتي ـ بفجواتها وبمفارقاتها وإرباكاتها ـ كعناصر انصهرت مكوناتها فيه واستحالت عنصرا ً مغايرا ً، أم ظهر لي، برغم هذه المراقبة، أني أتمسك بآليات لا واعية للتمسك بالأثر ـ دالا ً على صانعه، رغم إدراكي التام للصفر وما يخفيه من امتدادات لا تغادر لغزه!
لا يحتمل الفن، ولا العملية الفنية، هذا التأويل. فالمحكوم بالموت، قبل رحيله، وحده يكون (عبر) ماضيه، كما لا معنى للقبر، بصفته ذرات تراب، المحو وحده سيبقى يحدد هوية الفعل ـ الأثر!
[7] حافات المحو
وبمعنى ما يصعب تتبع المحركات اللا مرئية، وتحولها إلى فعل، والى مشروعات للقفز في مساحات المجهول. والأصعب من ذلك، ان تجد نفسك مشاركة في عمليات الهدم، كي تغيب، بعيدا ً عن الرصد، والتوثيق، ومدى صلتها بالإبداع، ومشاكله!
في هذا الشرود، مازلت المح هذا الكيان الغامض، القائم على أكثر من تصادم. لأن سؤال ماذا نريد لم يقترن بأدواته الحديثة، وبالوضوح المطلوب. فالعشوائية ستؤدي دورها حتى النهاية، وهي التي كادت ان تنفي شرعية (التجريب) وتجعله محض ادعاءات قائمة على الخطأ والصواب.
ماذا نريد ...وما الذي يستحق ان لا نريده، ونستبعده أصلا ً والذي سيشكل علامة لا يمكن عزلها عن كل ما سيشكل مصائر المشتغلين في الفن، وطرقه، وعلاماته..؟
لن أتحدث عن الذين كانوا يشاركوننا هذا الهاجس المعرفي، في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، لأن من مكث معنا، هو الآخر، كان لا يمتلك إلا الدرب المتغير وقد خيمت عليه غيوم كالحة بفعل تحولات العالم من ناحية، وما يجري في القارات المحتضرة، وقد زوروا الأسماء، بمنحها تسميات مراوغة: كالعالم الثالث، النامي، من ناحية ثانية!
ان كل ما يتصل بالتنمية البشرية، والتحضر، والتراكم المعرفي، تم استبعاده، واستئصاله، وترك الجميع يتخبطون في سراديب خالية من السلالم، كما ذكر منعم فرات، أو كعمل مجرشة الملا عبود الكرخي، سمة لقرن في طريقه إلى الأفول.
ولنستبعد نظريات المؤامرة، ونقول: هذه هي أخطاؤنا! حسنا ً،لكن الذي حصل شبيه بقصص ادمون صبري، ليست مضيعة للوقت، له ولنا حسب، بل لا جدوى من إعادة قراءتها!
فالتنمية ستتراجع حد الصفر، بمعنى: أنها ستغلق سرداب منعم فرات، وتترك من فيه يتخبط في الحفر! هو ذا كهف أفلاطون، يدور المفتاح في قفله، فلا إضاءة ولا ظلال! فما يروى وحده قد بلغ ذروته: لن يتزحزح لا إلى الأمام، ولا إلى الخلف!
أنا لست بصدد إعادة الحفر في موجهة الانخلاع: لماذا حدثت، وكيف استكملت برنامجها: حياتنا وهي لا تتباهى الا بخرابها! انه خرابي في نهاية المطاف. فبعد 1958، مرورا ً بالمتغيرات المشحونة بموجات القسوة، والذعر، خلال المتغيرات السياسية، وحتى يومنا هذا في عام (2011)، ولكن هل ثمة دراسات توقفت عندها، بمنظور يتوخى تفكيك المشهد كاملا ً، وليس ثقب مغلق! فالسيناريو الممسرح بين الفصائل، لم يجد من يرجعه إلى حده الأدنى من المحركات. ولا أنا سأفعل ذلك أيضا ً. لأن المشترك العام فقد مركزه. فليس هناك مقدسات، ولا وجود للحد الأدنى من الثوابت. فالجواهري، على سبيل المثال، أثنى على شخصيات لا تقل إساءة إلى الإنسان، وحقوقه، وتنميته، ومعرفته، لا مبرر لها ..الخ وهو ما ينطبق على شخصيات أخرى، مع ذلك كان غياب ألجواهري، ومئات العلامات الثقافية، في مختلف حقول المعرفة، والإبداع، ضربة توازي التنكيل بأصحاب المشاريع التنموية ، والحريات. فلقد تحولت الأراضي الزراعية إلى أدغال، وتدهورت مشاريع الري، فيما أصبحت المصانع في ذمة التاريخ، من معامل صناعة الورق إلى الزجاج، ومن النسيج إلى الجلود والمعلبات ..الخ إلى جانب دفن المصانع الأهلية، وتركها تحتضر وتلفظ أنفاسها في الأخير.
كانت الهجرة شبيهة بحدث (كارثي)، وكأنه ليس من صنع البشر، بل من عمل كائنات تعمل في كوكب آخر، لأن وضع قائمة بها، خلال نصف القرن الماضي، سيرسم لنا نهايات المشهد. فماذا لو كان الوعي، أو شيئا ً شبيها ً به، قد تصدى لموضوع الانخلاع، والفرار الجمعي، وناقشه بأدوات غير التي أدت إلى ذروته، ماذا كان سيحدث....؟ أم علي ّ ان لا ابعد شبح الأثر الكارثي الذي جعل مصائر البشر قيد التدمير، والزوال..؟
هذه الظلال، والضلال، ستعمل في أقاصي الرأس: في خلايا الدماغ، وفي ومضات الوعي، بعيدا ص عن الثنائية، وبعيدا ً عن مثنويات الفلسفات القديمة، فانا عشت ـ كعدد من زملائي ـ المشهد حد تذوق خفاياه اللاذعة، المهلكة، ثانية بثانية. فالإنسان لم يولد في الخوف، ولن يعيش فيه، كي يدفن في حفرته فحسب، بل الخوف (وربما علي ّ ان أقول: اللا تنمية/ اللا عمل/ اللا احترام، ومعاملة بعضنا للبعض الآخر وكأننا في أتون: حرب الجميع ضد الجميع) سبق حضورنا أصلا ً، لأن المشهد برمته لم يعد بحاجة إلى ديمومة. لكن الاحتضار ـ وهذه إشكالية لم نر من يشخصها لنا بما هي عليه ـ غدا البرنامج الذي علينا ان نحافظ عليه: الشعوب التي عليها ان لا ترى النور، هي ذاتها، عليها ان تبقى عليلة، تدور في المحور ذاته، ولا تنتج إلا ما شخصه الملا عبود الكرخي: مشاجرات مومسات الميدان! في ذلك الزمن (الكلجية) التي تم استبدال معناها من موقع لجماجم ثوار بغداد إلى موقع للدعارة!
لا احد أضاء لنا الدرب تمام الإضاءة، حتى لو كانت خاتمته سابقة مقدماته، إلا في حدود تنمية الإقصاء، ومن مختلف الفصائل، شعارات للتشهير، والمطاردة، والإذلال. فالمعركة، برمجت كي لا يخرج منها احد إلا مثقلا ً بالذنوب! ألا يبدو القرن الماضي (بين 1921 ـ 2011) مشهدا ً لا ينتمي إلى مسرح العبث، واللامعقول فحسب، بل إلى ما لا يسمى، والدخول فيه، كالدخول في حفرة كومت فيها مئات الجثث مجهولة الهوية في صيف بغداد الذي لا يرحم! ـ: عطر التاريخ، يا بودلير، ويا أيها المعري، ويا طرفة، ويا أيها الحكيم السومري الذي لخص المأزق ذاته قبل ستة آلاف عام، العطر المشبع بالنتانة، وشفافيات المحو، والتنكيل، باسم الحداثة، وما بعدها، حيث لم يجمعنا القبر، بل كان على كل منا ان يجد وسيلة للتواري، وتجنب الأصوات، ولفت النظر! فالفصائل ستوكل إليها مهمة تجاوز مشروع ذبح الجميع للجميع، نحو: ترك المستقبل يمحو ماضيه!


[8] ديالكتيك التتابع
لنصف قرن وأنا أفكر: هل ثمة مسافة بين إدراكي للحقائق، أو التي تحولت إلى موضوعات لهذا الإدراك، وبين ما هو حقيقي، من غير تدخل شكوكي في الإدراك، الخاصة بتلك الموضوعات، أو المرئيات، أو الأشياء...؟
انه سؤال الفلسفة السابق على حب الحكمة: هل وجدت الموجودات لغاية تشترك معي في ما هو ابعد من غايتها، وابعد من غايتي، أم وجد (وعي) ـ وعينا ـ كي يحدد وجودي وفق معايير هذا الوعي..؟ ما الحكمة عندما اكتشف ان هذا النمط من المشتغلين في التفكير، هما اقل البشر تمتعا ً بالحقوق، وهم، في نهاية المطاف، دروب لصعود اقل الكائنات إحساسا ً بموضوعات الفكر وبما يتحكم فيه، بخلاصة الحكمة، ولغزها..؟
الختم، هناـ كما في أقدم النصوص الشبيهة بالفن ـ ليس أداة تحكم، أو تعويذات، أو إشارات، وليس تمهيدا ً لتحولها إلى سلع، للتبادل، أو للهيمنة، أو لبناء علاقات حسب، بل تغذية لنزعة الشك بما في مادة الحياة ومظاهرها، وفي انساق الوعي نفسه، قبل جوهره النائي، والكامن بحصانته، وامتناعه، وما هو عليه في الأخير.
إنها لذّة مقلوبة، يبررها علم النفس، بظاهرة حب إيذاء الذات، في مقابل، إيذاء الآخر. لكن هذا لا يكفي لوجود تقاليد امتدت عبر مختلف العصور، وتحولاتها. فالفن غدا مندمجا ً في حكمة الحياة، حد لا يمكن استبعاده منها، لا في فن صناعة الطعام، ولا في فن التعذيب، والقتل، وانتزاع مخفيات العقول، ولا في العمليات الأكثر قسوة في أنظمة الحكم وما تتطلبه من فنون إبادة ـ ومحو، فحسب، بل للحياة بما لا يمكن دحضها!
لأن الإنسان لو لم يكن فنانا ً، منشغلا ً بشحذ وسائله في التقدم، والتغيير، منذ تلك الحقب السحيقة التي منحت الأصابع قدراتها، كالبصر وباقي المجسات، في صناعة ما يشبه آخر إبداعات الحداثة ـ وما بعدها، لكان اقل إثارة للجدل، عند الحكماء، وليس لدي المتحكمين بمصائر الناس، ولكان، وهو يكتفي بحياة النمل/ أو النحل/ أو الأسماك/ أو الطيور..الخ غير مراقب، وغير مسؤول، عما سيراه خطيئة، ورحمة، وتوبة، واقل براعة في البرهنة ان الوجود ـ بهذا الوعي له ـ هذا الانحدار الاستثنائي نحو المحو ـ بأكثر وسائله إبداعا ً، وعدم اكتراث!
أم على الوعي، بشكل ما من الأشكال، ان يجد نفسه ينحدر، خلف من سبقه، نحو الهاوية ذاتها، بالعثور على آليات تضمنت المسافة بين الوعي ـ وما هو مكون له ـ في الوجود، ودمجهما بعمليات التتابع حد ان هذا الوعي ـ المرهف والشفاف ـ لا يعمل على دحض ما هو عليه! بل على تغذية الامتداد، بمنح الفن تقاليده، وخصائصه، ومكانته في هذا الاشتباك..؟
[9] الذات ـ والبرمجة الجمعية

ربما هناك صيغة للإدراك تتضمن سببيتها لكنها تحافظ على جانبها الوظيفي: إنها وجدت كي توجد. وسيشكل إدراكي لها لا لأنها وجدت حسب، بل لأنني أنا هو الموجود، ولأننا ـ ثالثا ً ـ وجدنا ضمن علاقة ثلاثية، فالكائنات لديها قدرة التلقي، والتحليل، ومن ثم الدخول في عمليات الإنتاج. إنها ديمومة مركبة عبر دورات ـ كما فكر أسلافنا عند تدشين الكتابة في سومر. والروح/ أو النفس/ منذ عصور سحيقة، تجد في الجسد مأوى للإقامة ـ وللمغادرة ـ وللعودة مرة ثانية بعد الموت. وثمة، إلى جانب هذا التصور، أن شيئا ً ما ـ كالنفس أو كالروح ـ يحل في كيانات أخرى، غير بشرية، في الحيوان وفي النبات وفي الخامات. إنها تصوّرات تمنح (الوعي) صيغة جمعية متماثلة تتصدع وتنبني عبر علاقات بالغة الدقة مع المكونات الأخرى. فالوعي الجمعي للأنواع ـ إنسان/ حيوان/ نبات ـ لا يمكن فصله، في هذا السياق، عن عمل الكيانات المختلفة. والاختلاف الفردي، ليس شذوذا ً، أو طفرات تحدث إلا لتؤكد هذا الترابط. فلزمن طويل كان الحيوان الأقوى ، وضمنا ً الحيوان البشري ـ وفق قانون الصياد ـ الطريدة، الضحية، الهامش له نسقه التام. ولتعديل هذا القانون، أو دحضه، كجعل ملكية الجماعة خاصة بها، وليس لزعيمها، أو تحت زعامته، تعد وثبة نحو نظام الوعي الجمعي في حماية مكونه، وضمنا ً أفراده.
فهل ثمة وجود ادراكات خاطئة كلية، أو غير صائبة تماما ً،أم ليس هو إلا تعبير عن تدرج (سببي/ منطقي) للعمل المترابط بين الجزء والكل..؟ كالاعتراف بوجود شخص ما يتقاطع مع عادات الخرافة، مثل (غاليلو) ـ على سبيل المثال ـ أو كأبحاث دافنشي في العلوم، فان المثال يلفت النظر إلى وعي جمعي أنتجته عوامله، وان تعديل المعتقدات/ التصوّرات، في الأخير، خاص بالحقائق ذاتها، وليس في الوعي إلا لأنه أعاد اكتشافها.
وثمة أمثلة أخرى توضح، مثلا ً، ان وجود اللذّة في الوظائف، وكأنها مستقلة أو منفصلة، تؤدي الدور الجمعي لحماية النوع. على ان هناك لذّات تبدو شاذة، كوجود أجزاء ذات وظائف غامضة، كالجنس الثالث مثلا ً، المزدوج، وكوجود أعضاء إضافية، أو ناقصة، وظهور سلوكيات مغايرة تماما ً، قد تؤدي إلى ظهور سلسلة جديدة لها وعيها الجمعي، مرة أخرى، بدءا ً بالحالة الشاذة..؟
هذا المثال يؤكد تحولاته عبر أزمنة طويلة. لأن عملية استبدال الوعي، سينتظر تراكمات لا تحصى، تؤدي إلى ضرب من الموازنة بين النوع وعوامله الخارجية. فقد يؤدي ضمور نجم ما، أو أي تغير في الجاذبيات، والمسافات، إلى وجود كيانات مغايرة لأصلها، مع احتفاظها بمبدأ انها تعمل بالقانون نفسه، وفي مقدمته: إنها غير مسؤولة إلا عن حدود عمل وعيها، مع الكيانات الأخرى. فالحيوانات التي تلقى حتفها، بإرادتها، لأسباب تبدو مجهولة،لا تتمتع بالحرية التي يستخدمها نوعها قناعا ً، أو سلوكا ً يتضمن مشفراته، إلا باليات كلية تتضمن مبدأ المصادفة ـ والشاذ.
هل أنتج أسلافي تلك الإشارات الشبيهة بالفن، أقنعة، أو فرمونات، أو منبهات، لهذا السياق الجمعي في التكيف، مع الحفاظ على النوع إلى تدميره..؟ بمعنى، ابعد من ذلك: ان اللاوعي سيتضمن أشكال وعيه المعلنة، دامجا ً القصد، المصادفة، في عمله الكلي، الأمر الذي بلور حتمية التصادم، والتناقض، والتناحر، كسياق لعمليات الانبثاق/ التواري، وكامتداد للقوانين في عملها خارج حدود الإدراك.
هو ذا وعيي لن يسمح لي إلا بخلق حمايات رمزية، تستبعد الرضا بالمسلمات لأنظمة شبيهة بما يحدث في مملكات النمل/ الأسماك/ والنحل. لكن الإنسان، بعد قرون، ليس لديه هذا الوعي، بحكم الضرورات، والوثبات البديلة، التي لن تعدو أكثر من آليات عمل، تجعل الوعي يعمل بحدود ضوابطه، وفي الوقت نفسه، تسمح له بكسرها، ودحضها، ومحوها في نهاية المطاف.

[10] اللا متوقع ـ والشرود

الذهن الشارد، في حالات الاستبصار، كحال المتصوف، أو العاشق، لكن الأخير سرعان ما يدمره الصحوً لأن المتصوف يكون قد عبر حال السكر والولادة وسكن الذي استدل عليه غيابه، فلم يعد منشغلا ً بالمأوى، ولا بالمكاسب، ولا بحجابات اللغة. والعاشق،لن يشبه صانع النص، حيث الأخير كلما تخيل حافة النهاية وجدها تقع وراء الحافات. فإذا كانت العائلة ـ مع انها مازالت تتعرض إلى التفكيك والهدم ـتصهر، عبر آليات النظم المجتمعية، الذكر بالأنثى نحو سعادة تمضي باتجاه نهايتها. فالشارد الذهن ـ مثلي ـ لا يرغب ان يتوهم انه عثر على المفتاح، ونجا، وانه حاز على ما ولد لأجل ان يراه وهما ً أو كالوهم، حقيقة أو كالحقيقة. ان هذه العلاقة لن تجد رضاها لو كانت شبيهة بالعلاقات السابقة. فبكارة النص لا وجود لها في الأصل، والتأويل السيكولوجي هو جزء من مسار شائك للأنظمة الأكثر تعقيدا ً. ففي الفنان ومضات/ محركات تجعل وثباته شبيهة بقفزات الإلكترون، لا نظام لها، ولن تكرر حركاتها أبدا ً! ففي الشرود قوة يصعب تحديد أسبابها كي يصرخ الفنان: وجدتها! انها ابعد من الحقائق العلمية. فالفنان غير مشغول بتحديد نوع الخامة، لأنه، يرغب ان يمسك بما بعد الشغل، وان يبلغ الوحدة. لأنه غير معني بالربح والخسران، ولا بالصياد وطرائده، ولا بالجلاد وضحاياه. فهو خارج التناقض! فهل ثمة (وهم) تمت برمجته، بما لا يدحض..؟ وهم ان تبدو الظواهر كالحقائق، لا تفنى ولا تستحدث!
أتذكر ـ قبل أربعين عاما ً ـ سألني فاضل العزاوي ـ أستاذي وصديقي ـ عن كتاب كنت قراءته. فرحت احكي له انطباعاتي عنه. لكنه قال لي ببساطة: انه لم يقرأ كتابا ً سيئي الترجمة كهذا الكتاب، وأنني كنت اخترع ما لا وجود له في الكتاب!
أتراني كنت احفر في الكلمات، وأحول الأخطاء إلى محفزات لبناء أوهام لا وجود لها، أم كنت أفكر بمعزل عن الكتاب، ألمنبهه، لأنني لم أكن منشغلا ً بالشرح، وإعادة سرد ما في الكتاب!
هذا الشرود لا استطيع عزله عن مراقبتي لتحولات ـ وتصدعات ـ وانبثاقات ما يجري في ّ، وخارجي، ضمن الجسور القائمة بيننا، خلال عمليات المراقبة. فانا غير مشغول بـ: لماذا ..ولكنني مشغول بما وراء الارتواء المستحيل. فلم تعد تغريني ثوابت الآخر، أيا ً كانت، إلا كي أتأكد من هذا الذي يأخذني معه إلى وراء المتاهات: خلف الموت الذي أتبادل معه العبور، من الشرود إلى صحو شارد، ومن سكر مستحيل إلى رغبة كفت عن الاستغاثة، وعن الطلب. فثمة، على خلاف ما يحصل بين ذكر وأنثى، انشغلت بالشمس: لماذا تراها تقذف حممها، وإشعاعاتها، وعناصرها الأخرى، كي تخصب الأرض، لكن بخراب، هو الآخر، كالغابات/ البحار/ الحيوان وضمنا البشر، لا يمتلك إلا زمن اندثاره!
فالابن أو البنت، كالثمرة، أو البذرة، وكالأفكار، والنصوص، ما هي إلا نتائج هذا العرس: الشمس بالأرض! ويا له من خراب لا يشاطرني إلا الاحتفال بزمن لا يمتد أكثر من عبوره نحو الزوال!
[11] الشمس ـ بذور شبيهة بالحجارة
بمنى ما: ليس هذا الذي يصنعه الصانع إلا كعمل المفتاح في القفل، إنما بقفل يتوارى فيه المفتاح! وهل رأينا حقاً القفل، كي نمسك بالمفتاح! إنها ليست غنيمة، جائزة، أو نجاة من الجحيم. فانا لا اعرف كيف قالوا لناـ في معبد مردوخ ـ ان حمورابي أصغى للإله آشور، ليسن شريعته..؟ لا اعرف من كان وهمه شبيها ً بثوابت حكم الموت، والقصاص، اهو مردوخ، أم أشور، أم حمورابي، أم تصوراتنا نحن النمل/ النحل البشري!
يصعب علي ّ، ان أصغي ـ بلا ظن ـ للسكن بجوار مردوخ، مستمتعا ً بالضوء، والثمار، وبالنعيم. فعالم الآلهة لا يبدو أكثر من حلم: بيت شفاف! فيما كان حمورابي معلما ً للحكمة. ففي القانون شرود شبيه بالذي لازمني وأنا أجد ان التنازل عن طعامي كحيوان جائع يتوازن مع روح تلك الشريعة! لكن هذا لا يكفي، لا لأن الشريعة هدمت، ودفنت، مع رموزها، تحت الأرض، بل لأنني، كبذرة خزنت ماضيها، مازالت تبحث عن توكيد يتجاوز برمجة جهاز الاستنساخ. الدفن وانتظار وليد لا أب له، ولا أم، إلا بما وراء سياق: فض البكارة، أو ارتكاب العدوان، وكنز كنوز ...، ذلك لأن في الشرود ـ كالذي دفع أسلافي وهم يراقبون الشمس، الذكر وقد استحال أنثى ـ تقذف بذورها إلى الأرض، العروس/ الرحم، التي تخلت عن وليدها لا من العقم، ولا من الاخصاء، بل من خلط التدفق ـ لان الغوايات ستكمن في النسج، وفي عمليات البناء، حيث اللاحافات تمتد، وتتسع، خارج مفهوم المسافة/ الزمن، والحركة، وقد أعطتنا المفتاح، لكنها حجبت عنا القفل، تارة، أو أعطتنا القفل، وقالت لنا: هذه هي المحنة! فأين هو المفتاح، بعد ان بدا الوهم ـ وحده ـ شبيه بما لا وجود له، وقد تزين،كالمرأة العقيم، وقد أنجبت سلالات من الجلادين، ومن الضحايا، بعدد بذور الشمس التي لم تخصب إلا حجارة، وفنانين، وشعراء!
[12]

في عالم أجد نفسي فيه مرغما ً ان استكمل مقدماته، رغم انفي، وإرادتي، وأنا أرى خاتمته قد فرضت حضورها مع تلك المقدمات، لكنني، ببساطة، لا امتلك إلا ان استبعد النهايات! فسألت نفسي: هل باستطاعتي الامتناع عن الطعام، أو التنفس، او الكلام، او التفكير، أو المشاركة في حياة فقدت غواياتها، ومبررات الاندماج في كياناتها؟ وايل ديورانت يذكر مثالا ً لامير اتخذ قراره بالامتناع عن تناول الطعام بعيدا ً عن العاطفة، وبعقلانية، لكنه اضطر، تحت ضغط شقيقته بسبب زواجها، ان يتناول وجبة طعام، كي لا يحدث موته إرباكا ً لاحتفالات العرس. هل أقول: فقد لذّة الشعور بالحياة، أم على ّ الذهاب ابعد من هذا الاحتمال، وأفكر ان برنامجه الوراثي رسم له حتمية هذا القرار، أم ابحث عن ضعف المناعة تجاه الرغبة بالسكينة، والاتحاد بالأبدية، من غير ذل، وقهر، أم ان قوة الموت تفوقت على دوافع الديمومة، أم ان الرجل ذهب ابعد من الزمن الذي وجد حياته فيه لا تتوازن مع رؤاه، لعالم تمحى فيه الوصايا، وتداس، وقد بلغ الاشتباك، والتصادم، وموت البراءة، حدها الذي لم يعد يحتمله، فقرر، بهدوء، كما فعلت فرجينيا وولف، أو همنغواي، أو فان كوخ، أو ستيفانزفايج وقرينته...الخ قهر الرداءة، بأكثر الدفاعات سلبية، والتخلي عن قانون: الصياد ـ وعن أي نظام يتأسس على تراكمات الفراغ!
ملأني هذا الهاجس بفزع نحو الكتابة، ولكن ليس تجاه الألوان، أو وأنا اصنع أختامي، ثم، في أجزاء لا مرئية من الثانية، أوشكت ان أباشر في التلوين، لكنني ـ وبالمشاعر ذاتها وفي زمنها الوجيز ـ وجدت القلم بين أصابعي يلون هذه الكلمات: كلمات مازالت تلفت نظري إلى: كيف خطر ببال الرسام الأول، ان يرسم ...؟ لم أفكر، بل كتبت: انه سياق استكمال المقدمات نحو نهاياتها! فابتسم! ولكن ماذا لو قلبت المعادلة: الضرورة السابقة على الرغبة بتناول الطعام، في الأصل! بمعنى إنهما وجدا معا ً: إنها الديمومة بزوالها، والزوال بديمومته. لأن الرسام الأول، وجد لذّة ما، ونشوة في محاكاة ما رآه، أو ما نحته، وفي ما أنتجه، فأصبح عمله شبيها بعلاقة الصوت مع أعضاء الكلام، لتتشكل عملية انتقاء المفردات، مع الوظائف، عبر مكونات المجموعة، وبحكم نظامها.
فهل استطيع ان أتخلى عن الكتابة، وعن الفن، وأنا لا امتلك تصورات إضافية لعالم بعد عالمنا هذا القائم على هذه التصورات، بضروراتها، حد استحالة العثور على مبررات غير التي أصبحت تعمل كعمل الشمس: تسمح للحياة بالحضور، والتداول، من ثم تتحد بالظلمات!
فجأة وجدت الهواء يزداد سخونة، مع صداع رطب يصعد إلى أعلى الرأس، والآم في المفاصل، وحرقة مرة في القلب، كلها، مع رغبة في تأمل أشعة الشمس من وراء الشباك الزجاجي، وهي رغبة تمارس إخصاب كل ما سيتحول إلى مضادات لا تشبه ما يجري في أفران الشمس، سمحت لي ان أواصل الكتابة، عن هذا الذي أراه يتكون، لا المعنى، بل الكلمات، وهي تسبق أصابعي في أداء عملها! كي استنتج، في ذروة الشرود، ان الشمس ستبقى، تمد وجودي بلغز هذا الوجود: المرارات، والعفن، والاحتضار!
أعود إلى ذلك الرجل النبيل الذي مات بهدوء، في ايطاليا، والى رجل آخر، في الهند، درب نفسه، بعد 15 عاما ً، ان يمتنع عن تناول الطعام، ويكتفي بالهواء، واسأل نفسي: أي سياق هذا الذي يسمح لي ان أبدو حقيقيا ً، وربما، صادقا ً، حتى وأنا اجهل لماذا وقعت في غواية هذا الاختيار!

ليست هناك تعليقات: