بحث هذه المدونة الإلكترونية

مرات مشاهدة الصفحة في الشهر الماضي

الخميس، 10 نوفمبر 2011

قصة قصيرة-أخطاء الإمبراطور وعظمته-عادل كامل

قصة قصيرة

أخطاء الإمبراطور وعظمته

عادل كامل

منذ قرن ، لم يصدر مجلس الإمبراطورية أي أمر يخص منع حريات الناس أو أجراء حساب لهم في أية قضية من القضايا .. ليس لأن أعضاء هذا المجلس هو الشعب كله ، بل لأن أمير الأمراء ذاته قد تحول من ملك يحكم أطراف العالم البعيدة إلى إنسان يتنزه في الحقول ويجلس قرب الجداول ويتناول طعامه مع الفقراء والمتسولة و .. ..
ولكن مجلس الإمبراطورية الخالدة قد أعلن بلا أسف ان أمير أمراء العالم القديم والجديد هو الوحيد الذي لم يكن له ميلاد أو سنوات حكم أو نهاية . فهو مخلوق لا وجود له في الأصل ، وسجله الحافل بالرموز والجواهر والمآثر محض افتراء على جلالته ذاته قبل ان يكون كذبة عامة تلوث ضمائر مليارات البشر . ومثل هذا القرار الذي لم يعلن مباشرة شاع بين الناس وسمع به بطل أبطال الكواكب ، ذات يوم ، وهو يتنزه مع صبية في حقل لزراعة بنات الهوى ذوات الجمال السماوي المقدس ولم يكترث لعقوق أصحاب القرار ، فالناس ، في أعماقه ، هم الناس ولا يمكن صناعتهم حسب الفلسفات أو المعتقدات . أنهم النور السماوي فوق الأرض مثلما هم جواهر الأرض في الأعالي .
أبتسم شمس الشموس وقال لصحفي أجرى معه مقابلة استغرقت عدة عقود من الزمن :
- " في الغالب علينا تفحص الأمر من زاوية أبعد وأعمق وربما من ركن استثنائي .. فأنا نفسي لم أفكر بما حصل ولا بالطريقة التي تجري فيها الأمور .. هكذا أود من أعماقي نسيان أني مخترع هذه الأرض وهذه الشعوب .. في البدء حسبت الأمر محض لعب لا أكثر ولا اقل .. وهكذا صرت أعالج أعقد الأمور ببساطة وبعفوية .. ولكني في الأخير اكتشفت أني غير قادر على خلع الأحذية التي لبسها الشعب . وفي واقع الأمر أني لا أستطيع تصور الناس ألا بأحذيتهم . مثلما لا يمكن التحدث الى رجل بلا رأس . وعلى رغم هذا كله ياولدي فأنا غير حزين أو سعيد والأمر جد عادي هو ان الناس كائنات مصنوعة من الجلد .."

وغاب عن الوعي فترة طويلة من الزمن . وعندما آفاق كان وحيداً .. وبعد أعوام من ذلك التاريخ وجد الإمبراطور حاكم العالم القديم والجديد نفسه قد أستعاد ذاكرته . فذهب الى قصر القصور الذي شيده بمليار جمجمة من رؤوس الأعداء وألقى كلمة أذاعتها حناجر السكان في كل مكان من الأرض .. كلمة موجزة وان تجاوزت الألف صفحة من الحجم الكبير ، أعلن فيها عن ميلاد الإنسان العبقري . لقد هشم في البدء فلسفات الغطرسة وإرادة الحروب وفذلكات الخطاب الرنانة ليعلن بصراحة ان لكل ذات ولدت في عصره واستنارت بهدى وحيه المرسل الغامض القدري والمشيد بآخر حقائق إلكترون العلوم الفضائية الحق كل الحق بشرف الحياة . هكذا أصدر أمره الذي لم يفهم في سياقه التاريخي بمنع القتل والانتحار ولكن الأمر سرى كالنار في الهشيم بعد عقد واحد من الزمن عندما تم هدم السجون والمعتقلات وإلغاء الجيش والبوليس والحرس الإمبراطوري . وقال ان كل إنسان هو حارس الشعب ، والشعب كله حارس كبير الآلهة ، فالعدالة تنبع من جوهر اتحاد الجسد بالشمس العليا للذاكرة الأزلية .
صفق له الشعب سنوات طويلة جداً .. صفق له الأموات في الحروب الكبرى التي خاضها والأحياء المنذورين للخلاص الأخير .. ذلك لأنه أعلن بجلاء مطلق ان الإنسان ولد من النور وبالنور يعيش وإن مات فلا قبر له غير فردوس الشمس . ولهذا السبب أعلن الناس أنهم الملائكة فوق الأرض ، وتمت تسمية أمير العالم بشمس الشموس والنور الأزلي بعيداً عن تاريخ الميلاد أو تفسخ الجسد والظلومات . فالعباقرة ، وهم سكان الإمبراطورية الذين يحكمون العالم ، لا يخضعون لحكم الزمن الجائر .. أنهم الإمبراطور الجد والحفيد وهم الذين يحكمون أنفسهم بأنفسهم . وجاء في خطابه أيضاً ان الذات لا تمتلك ما حصلت عليه وما تحصل عليه فالملكية سر الشر كله ، فالناس ولدوا غرباء ويعيشون هكذا ولن يموتوا ألا غرباء لا شائبة تمس نورهم ولا ظلمة تسكن منازلهم الروحانية . الجميع يعبدون النور في أعالي العلي بعد هدم ظلمات ما تحت التراب الذي صنعه أشرار العالم القديم . ولهذه المعتقدات سحرها الذي قاد الأمة في نكبة النكبات الى الخلاص .. فقد تطوع الشعب كله للموت الذي لا أسم له . فالجد يحدث الابن بلا جدوى العمر تحت نير الظلمات .. والابن يحدث أولاده بالنور المفتدى . في ذلك العام هلك نصف الشعب ثمناً لكرامة الأنوار . فلمن ولد النور ؟ ذلك السؤال أجاب عليه قمر الفضاء ومسيّر الأفلاك بأن النور هو مصدر النور ..
وصفق له الشعب على مدى سنوات .. ولوحظ في هذه المرة ان الأشجار اصطفت في مسيرات حاشدة تشجب قدرية الظلام .. كما خرجت حيوانات البرية كلها : الأسود تتقدم الركب وبعدها النمور والفيلة والثعابين والعقارب والدببة والجمال والنمل والطيور .. مواكب مرت تحي بالنور شمس الشموس وتصفق له حتى في أحلامها قرار إرسال الجميع الى وحل الانتصار .. فالحياة ما عادت تحتمل من غير كرامات الأسرة الواحدة . أمة بلا جيش ولا بوليس ولا حرس ولا سجون ماذا تريد سوى الدفاع عن مملكتها المشيدة بهذا النور الساطع . حتى ان مسيرة كبرى لم تشهد لها الساحات من قبل هتفت وهتفت لسيادته وهي التي لم تولد بعد ولم تنل بعد شرف مباركته لها . تلك الجحافل ستولد في يوم ما من النور الذي لا يحمل أي تاريخ في سجل المستشفيات أو بيانات الميلاد . ففي أمة لا يوجد فيها زواج أو طلاق أعلن الشعب كله تطوعه للحرب التي لم يحسب لها الحساب .. فالقانون الأخير الذي صفقت له الريح وسجدت له الغابات بدغلها وحشراتها حفزت في الأعماق نوايا الخلاص والولاء لجلالة أمير أمراء العالم القديم والجديد . فلماذا الزواج ولماذا الطلاق . قال جلالته ان الحق ينبع من النور . والناس أدركوا من غير كلام أو ويلات حروب أنهم هم النور ولهذا أعلنوا جميعاً تطوعهم ضد الأعداء الأشرار .
وتلك هي فكرة شاعت وترسخت في قيعان الذاكرة : أنها من أشهر القصص التي كتبها أمير الأمراء بقلمه ، ونشرها منحوتة فوق الصخر ، قصة اجتماع أمير الجمال وأمير الملذات والمسرات ، وخادم الحرمات ، وأمير ملائكة الرحمة ، وأمير الحسان ، وأمير الفقراء والكلام الموزون ، وأمير فلسفات الدفاع عن مصدر الضوء وانعكاساته الخارقة والغيبية ، وأمير الصمت الصوفي الشفاف .. وغيرهم ، هؤلاء ، حسب الوثائق ، دخلوا معركتهم الأخيرة ، وماتوا كلهم دفعة واحدة بعيداً عن السيناريو الذي أعد لهم . فساد الظلام خيام القادة بينما كانت عظام مليارات المقتتلين تصفق الى كبير الآلهة الذي هو كنز الكنوز . عظام لصق عظام تصف بلا منازعات وهي غير خائفة من البرد الأخير .
وقال جلالته ، في هذا الخطاب ، ان الناس هم النذور .
وفي واقع الأمر لم يفهم الشعب فكره المتوقد ، على رغم ان الشعب والأشجار والأسماك والطيور وحيوانات حدائق الأثرياء وكل من دب فوق الأرض ذهبوا الى أبعد ما في أيمانه الأخير ، ذلك لأن الجميع أرادوا البرهنة على الولاء كنور يبدد ظلمات العالم .
ومثل تلك الفكرة وحدها بددت تخرصات الأعداء إزاء العالم المشّيد بالنور . فتم إبادة المعارضة أو أصحاب اللسان أو كل من في رأسه بقايا فكر .. وعلى الفور أعلن الأحياء والذين سيولدون في الأزمنة القادمة صواب آراء جلالة أمير أمراء العالم القديم والجديد ان الله هو الإنسان في إلغاء حدود العذاب بين الروح والقبر .
وحينذاك وعلى نحو مرتب بدقة صدرت أوامر بتأسيس قيادات حزبية لها شرفها الأول ألا تكشف أسرارها الى أبد الآبدين . وفي هذا السياق نشرت اعترافات هؤلاء القادة مثلما نشرت كتب عن وسائل متطورة للحصول على اللذة الشهوانية لإفرازات غدد كانت من صنع الإمبراطور . فالطبيعة حمقاء في جوهرها . وقال الإمبراطور أنها ليست حمقاء ألا لأنها لا تتيح للإنسان فرصة التذكر . وقد صفق الشعب كله سنوات لهذه الفكرة حتى ضجر جلالته من الهتاف فصرح ذات يوم كفى للهتاف . فصفق الشعب في أحلامه الخيالية من غير أصابع وهتفت الجماهير لقرون من غير رؤوس أو أدمغه . فقد كان قرار إلغاء وظائف الأعضاء مثمراً في هذا الشأن ، لا أحد يفكر ألا حسب القانون . ومثل هذا الأمر ذاته أكدته تلك الهتافات ألا عودة الى الابتذال الفكري للحوار أو المجادلات . فالبشر هم من نور يولدون فقط وهم قبل وبعد كل الأشياء لا قبور لهم سوى الجمال يحتويهم كبذور لأزهار لا تحترق بفعل الزمن . فالناس لا تتحكم فيهم المعرفة الجبروتية أو الديالكتيكية ألا باعتبارهم محض حيوان ستعدل من مسارها .
وأنشد الشعب وغنى ورقص بكل غرائزه الدفينة .. وتلك حالة شبه حتمية وصارت من أبرز التقاليد في الإمبراطورية ، وكان جلالته يفتخر بأن شعبه ، على عكس سكان الكواكب البعيدة أو البرابرة المجاورين له ، لا يعرف ألا حب الرقص وعبادة الأعياد والنور والخصب . فالناس هم عرس دائم ، حتى ان الشعب ، في واحدة من أكثر المعارك بشاعة ، أعلن احتفاله بزواج كل فتاة عذراء أو لم تولد بعد ، وحينها صدر القانون الذي ألغى جواز بقاء للأنثى ، كل أنثى من الحيوان أو الأشجار أو البشر بلا قرين أو زوج أو من يقوم بدور الإخصاب .. وقد صدر ذلك القرار في أشد أعوام احتدام الحرب ، والذي بالفعل صعق عقول الأعداء . فقد نشطت المخيلة على نحو غريب في إلغاء القرارات السابقة ، ذلك لأن الخصب يمنح الحياة وحدة أكثر الأشياء خفاءً مع أكثر النوايا ملائمة مع الاحتفالات .
على ان الإمبراطور أنسحب الى غابة نائية ومجهولة مع حرسه من النساء . وأعتكف هناك عدة أعوام شاعت خلالها في صحافة البرابرة وسفلة العالم البعيد ان جلالته يعاني من الذهان ، وفي تقرير سري قيل ان حالة من الطيف الشيزوفريني قد جعلته يفقد شخصيته ويتقمص روح الملائكة تارة وروح الشمس في الغالب . لكن ذلك التقرير المشؤوم لم يصمد أمام دراسة شبه ميدانية زعمت ان جلالته صار نبي البرد وأمير الثلوج وزعيم الأمراض المستعصية التي تنسف الدماغ وقوى العقل العليا . على ان الشعب في تلك السنوات ، ومنذ استقراره في الغابات أظهر عبقرية جابه بها أعداء الإمبراطورية .. فقد كان إلغاء الفاصل بين الموت والحياة بهذه الصفاقة قد ولدّ فكرة ان الجميع هم الإمبراطور وان بإمكان سكان عالمنا والعوالم القادمة من تنفيذ أوامره الديالكتيكية التي محورها ان الخصب وحده يمثل الذات منشطرة داخل الجماعات السكانية في تحقيق وحدة الزمن .
ومن ناحية إعلامية حقيقية فأن الأعداء وتحت ذعر الإبادة المخيمة في سماء المعارك قد أعلنوا هدنة مزيفة لم يكن لها من أثر سلبي في عمليات التجنيد وإرسال قوافل الفتيان والشباب والكهول الى وحل الانتصارات .. فقد أعلن أمير الطب والخصب الأزلي أن علماء الإمبراطورية بفضل نور الشمس الخالد قد توصلوا الى نظرية متطورة في الامتداد مفادها – وهذا الأمر غدا حقيقة في اليوم التالي – ان الأشجار بتناسلها لا تقل شرفاً مقدساً في إنجاب المحاربين .. كما تم تطوير الجينات المنحطة للحيوانات والبهائم التي لم تلوثها العقائد والأيديولوجيات المستوردة من الكواكب المعادية الى كائنات مثالية قادرة على الانشطار الذاتي .. وهذه النظريات ، في واقع أمرها ، جاءت لترضي مرحلة معقدة مرت بها البلاد ، خاصة أبان الحرب التي دامت قرن من الزمن الروحي الوسخ ، ذلك لأن الانحطاط الأخلاقي دفع بأكثر الناس صفاءً الى الانزواء والإدمان على تناول البراز وتدخين رائحة البول الجاف والنوم مع جث الحمير الميتة التي بلغ بها الأسى والنبل درجة اختيار الانتحار الجماعي بدل الخضوع لحيل وسفالات الأمر الواقعي . وحكاية انتحار الحمير كتبها ابن الإمبراطور وقال فيها أشياء كثيرة تندد بالانحطاط و القذارات التي لونت الناس وجعلتهم من سكان الجحيم . وانتحار الحمير من زاوية رمزية وواقعية معاً من أكثر الحكايات الشعبية ذات الفكاهة السوداء والسخف المفيد . ففي فجر يوم ربيعي مشمس ، وكان قصف الطائرات العملاقة المقاتلة وعمليات القصف الصاروخي قد توقفت لا بسبب نشوة الطبيعة وبزوغ لمحة مشرفة للجمال وإنما لأسباب تكتيكية لا أحد يعرف أسرارها شاهد الناس في أكبر الساحات والمتنزهات والحدائق والطرق قرار الانتحار الجماعي لحمير البلاد لسبب مباشر أعلن في قرار هذا الاختيار الأخلاقي وملخصه ان القائد العام لقوات وجحافل الحمير قد استيقظ وأصغى الى إذاعات الدول المتصارعة تذيع الأناشيد السماوية وحدها وان زعماء مطاحن الإبادة وهدر الدماء كانوا يتراشقون بالموت مثل كلاب مسعورة بينما كانت أطراف الحرب الخفية تقهقه بلا أسف لموت ملايين الأنذال والفقراء والمساكين ذلك لأنها عندما أشعلت تلك الحرب المسماة (( جوهرة الجواهر )) أرادت التخلص من أسلحتها ومن ثروات تلك البلدان بعد ان عقدت تلك الأطراف السلام فيما بينها لتشعل تلك الحرب بين الشعوب التي فقدت أخلاقها .. كان انتحار الحمير هو الحدث الذي تحول الى وحدة الإمبراطورية من خلال تطوير جينات السرطان حيث ولد جيل يتكاثر بلا حدود استطاع ان يغزوا العالم كله ملتهماً تجار الحروب وزعماء اللسان والكلمات التي لم يعد يصدقها حتى الكلاب والمومسات ووحل الموتى المتعفنين ..
ومثل هذه الأخبار كانت تصل الى أسماع الإمبراطور التي سخر منها أيماناً منه بأن نظرية الخصب النوراني وحدها ستعيد صياغة المخلوقات كلها .. وهذا نفذه أبناء الأمة عفوياً ومن غير ضرورة استثمار آليات العقل العليا أو خفايا الدماغ عندما تحولت الخلايا اللا عضوية الى جنود محنكين منذورين للأنوار والإمدادات والآفاق الرحبة .
ولكن عقل الإمبراطور الجبار الذي يوصف بأنه سبق الدوي المرعب الذي أنشأ الأكوان والذي سيبقى فذاً بعد انهيار هذا العالم وكل عالم أخر من المجرات والكائنات الشريرة المحكومة بحلم العودة الأبدي كان يتعرض لنزوات لا كونية وليس بمقدور أحد أو أي جهاز معلوماتي أو خزان هائل للذاكرة والابتكار الفريد من تحديد تلك الحالات أو حتى وصفها . وربما جاء ذلك بسبب معمر عاش جميع الحروب التي عاشتها الأرض منذ الجد الأول . فذلك المعمر كان يصف للإمبراطور كافة الويلات التي مصدرها عشق المخلوق العضوي لماضيه الهامد ، وان سبب التعقل لدىّ البشر والحيوان في الأزمات الاستثنائية لا يختلف عن الموت نفسه . فالتعب أو الوهن أو الشهوات أو الجوع لا تسبب الظاهرة بل تؤكد مصداقية أعلى عمليات التجريد التي تحدث للذرات المتحركة على هذا النحو الذي يعمل به الدماغ وعلى هذه الشاكلة المعقدة من وعي الوعي . ولعل فشل رسالات وأهداف وغايات كبار المصلحين قد فقدت كل الآمال بإعادة صياغة قانون التحولات .
كان الإمبراطور يصغي لهذا الصوت عله يكتشف وسيلة تفوق وعيه للنور ذاته . وربما هو ذا السبب الذي جعله يغادر المملكة معتزلاً العالم في تلك الغابة يعيش مع النباتات والطيور وينام مع الوحوش الكاسرة ويرتوي من لبنها الساخن ويتعلم لغة الأسماك والصخور فترة طويلة من الزمن اللا روحي . فقد آمن بلا رجعة ان المشكلة لا تخص الأثام الذاتية أو البشرية ولا القدر الأبله المطعون بنبال الحروب القادمة وإنما ثمة ببساطة النور الذي يتحول الى عتمة . وقد فند نظرية السكون والحركة وتم إحصاء الذكور والنساء معاً وكل من آمن بهذا على هذا النحو السطحي فالنور هناك ويليه ما بعد النور مثلما أبداً في الأسرار علانية ما قبل الأنوار الوهاجة . فالسكون حركة خصب تنتظر المباشرة بالأفعال المقدسة . وقد كان قراره بجعل الأشياء كلها والأفعال كلها ذات خاصية صافية لا يشوبها الوهن والفزع والتهتك والانحلال واللا مبالاة ثورة أصيلة هتف لها مليار مليار مليار من اتباع أتباعه والى اليوم الذي لا يأتي ..
ألا ان وهن الآلهة يختلف عن إعياء ذرات الجسد وإحباطات اللذة كما يحصل للبشر . وهذا ما دفعه في ذات يوم مشمس لتصفح مذكرات الإمبراطور الأب ..
وياله من فزع جعل بهائم الغابة تواسيه ودفع بالصخور لمراضاته والأسماك لذرف الدموع من أجله . وقد أطبقت السماء على الأرض ، وزلزلت الأكوان ، وتغير نظام سيرها وتوقدت انفجارات الرأس كماسك بالأوهام ومحلل أسبابها عندما تصفح اعترافات الأب والتي أضاف لها بصورة غير مدونة مشاعر فائقة للوصف والمذلة والجلال .. فقد وردت في فقرة تظهر تألمه اللا بشري واللا محدود لعذاب جلالة الإمبراطور الأب الذي رضخ للقبول بالسلام في ذات مرة في إحدى حروبه حيث كتب أو دون أو قال ان الأب خالجته أوهام وخيالات تخص ارتعاشات الشهوة ممتزجة بالظلام .. تلك الحالة التي أثارت شراسة الأعداء لحساسية الأب العجوز والتي دفعت بهم الى أتعس وأشهر وأنذل حصار حدث حتى عصره .. فقد مات الجند مثلما تجف الأشجار .. وهي أشهر شهدت موت المقاتلين في خنادق النور والعز والمجد وفي وحل الانتصارات .. ولم يبتسم الإمبراطور الابن قط لذلك المشهد الذي أمتزج بوراثة أفكاره ألا بعد ان هداه كبير المعمرين وطلب منه بعد اعتذار مطلق ان يخرج هؤلاء الجند من جيفة الموت .. ففعل الإمبراطور ذلك بعد حرب صاعقة مع رب الظلام وحرب أخرى ضد أميرة بوابات العالم الأخر .. وتمت له سلطة وهيبة إعادة محاكمتهم لاستسلام أجسادهم لشهوات ورغبات الجسد السافلة كحب الطعام والموت .. لكن جلالته كما في أفعاله التي لا توصف عفى وغفر لهم واستثناهم من أي عقاب ليعيدهم الى تربتهم المزروعة بالكنوز والماس والياقوت والزمرد والبترول المنقى .. لقد أعادهم الى تلك الأرض التي لم تجف فيها دماء الأجداد وأجداد الأجداد بعد .. لقد أعادهم الى الأسرار التي جذبتهم أليها أولاً بأول مفنداً تخرصات الأعداء الشيطانية حول إعيائهم ووهنهم وموتهم بسبب الحصار الاقتصادي ..
ولم يبتسم ألا عندما تذكر أسطورة انتحار الحمير المقدس الذي كان وصمة عار أبدية ضد الأعداء الملعونين الذين هم في الأزمنة اللاحقة محض تماثيل نصبت ليبول عليها من أنجبته حرة أو قحبة . وبالفعل مازالت في الإمبراطورية ملايين من تماثيل هؤلاء تستقبل البول والبراز بشهية من أرتكب الأثام كلها .. كما كانت تعلق فيها جثت المعدومين وموتى الشر فهم رمز الجيفة في أمة النور . أبتسم جلالته للحظة فقط فقد تخيل إمبراطورية الأب المحاصرة في تلك الحرب ورضوخ الأب للرحمة أبان انهياره وهو يصعد على سلم الوهم الى أعلى عليين حيث كانت الأمة على وشك الانهيار بسبب انعدام وفقدان الماء والزاد وانتشار العلل والكوارث والانهيارات النفسية التي لا تحصى عندما دخلها الأعداء وساعدوا الناس على الحياة .. تخيل ذلك المشهد المروّع حيث العقائد والدفاتر الفلسفية والكتب الزاخرة بعلوم الأولين مقذوفة بلا مبالاة وبصلف في براميل الزبل ومدفونة مع شرفاء أصحاب الفكر في المقابر الجماعية بينما الناس يزحفون كالحيوانات الكسيرة نحو طعام القمامة المتعفن ..
ولكم حاول ارواء خياله بمعجزات العقاب لهؤلاء الأبناء الأذلاء المستضعفين بدافع انحطاط الخيال من غير ارتواء أو مشاعر ود . فقد كان يستحيل عليه الشعور بالرضا من جراء الضعف البشري الذي أنهك خلايا الأحلام والذي دفعهم الى الاستسلام .
ألا ان كبير المعمرين حاول ان يذهب بخيال الإمبراطور الى مصادر مسراته : الاستمتاع بموسيقى حكاية الخليقة .. ومعرفة مصادر لذة اختراع الأوهام الأصلية ..
فقال الإمبراطور بكلمات مبهمة لكنها حازمة (( أسكت )) وكان ذلك بمثابة شك من جلالته لكبير حكماء عرشه بعد ان صفى آخر أذناب المندسين في عمل آليات الأجهزة الخاصة التي حملت له الولاء المطلق . ألا أنه لم يظهر نواياه إزاء عجوز حكيم دربته المحن وعاركته الصعاب .. لهذا تركه يحفر قبره بيديه . وبهذا التعبير السافل تذكر أجهزة الإنصات الرهيبة التي كانت تقدم له في كل يوم ما دار في خيال وخلد وذهن وأحلام ونوايا أبناء الأمة ، الأمر الذي فرضه هيمنته المطلقة لزمن لم يمتد طويلاً بعد ان أفتضح السر فغير الناس ما بداخل نفوسهم تغييراً جعل البلاد في سلام تام . فأجهزة الإنصات ، وهذا عيبها الوحيد ، غير قادرة على اكتشاف مثل هذه الكمائن ، على رغم أنها أعلنت له مراراً من وجود مشاعر غامضة لديّ من تجاوز الخمسين من العمر .. فمن خلال هلاهل وهتافات ومسيرات أبناء الأمة كان هؤلاء الكهول أقل رغبة بالرقص والشعر الميكانيكي الموزون وأهازيج المدائح وإشعال النيران في الخلايا اللا عضوية . وعلى كل فأنه لم يلتفت لتقاريرها في لحظات المحن ، كالتي يمر وهو يسترجع ، في غابته السرية ، تاريخ الإمبراطورية.
أنه الآن يرى في الشاشة الفلم الموجز لمسيرة حياة جده الإمبراطور الذي كاد يغدو إلهاً .. فقد صنع منه الأعداء وهماً سماوياً فاق أقسى الحقائق وأكثرها دقة . فقد نفى ذلك الحاكم كل التهم التي وجهت له ، وأباد ، بفعل أجهزة الإنصات ، من خالجه الشك في أمر رسالته ونواياه وغاياته .
ضحك الإمبراطور وهو يستمع الى صوت غامض يصدر من مكان مجهول .. صوت يذكره بأن الدولة ، في عصر جده الذهبي ، وبعد حروب أشارت أليها كتب التاريخ كلها ، كانت توزع مثل رغيف خبز يوزع على كلاب تنتظر حصتها بعد انتهاء مراسيم العيد واللعب . ومثل هذه المخاوف والمشاعر والكبت الروحي السقيم المزمن لم يعد يتجادل أو يتحاور بها أحد أو ترد في خواطر الناس . فلا مبالاة استقبال الخوارق تماثل الموت فوق الأرصفة أو الانتحار في ساحة النصر الأزلية . فأي إمبراطور يتدرج سلالم دفة السفينة يخترع لبني البشر البحر الكبر لها وهكذا تتبدل السفن بعد ان تتبدل السواحل .. حتى ان أكثر الأشياء ندرة صار يباع بالمجان أو بلا ثمن .. كأن المملكة برمتها تولد وتعيش وتضمحل لتولد وتنمو وتهلك مثل شريط يعاد سماعه للمرة الألف بعد الألف .. لكن لا أحد يهمه أمر الذاكرة .. وتلك جملة طيرها أحد الكتاب فشاعت فترة من الدهر .. لكنها تلاشت بعد ميلاد بشر برؤوس جديدة ، وبعد ان أزيلت من الكتب كل إشارة لها ، فالأجيال لها حق البقاء بمقدار ، ومن يبد يبد بسبب وعيه ، ومن لم يصفق للإمبراطور فهو خائن لا يؤمن بنظرية الخصب وكسول وبالتالي فعلى أقدام الثيران ان تسحقه وعلى النار ان تحوله الى رماد ليذر بعيداً في الصحراء .
فتارة تنحني الهمم فوق رغيف الخبز – قال كبير المعمرين في نفسه – وكان الإمبراطور يسمع ذلك الصوت الداخلي له – مثل انحناءة قضيب معدني تسلط عليه النار .. فإذا كابرت بعض الهمم .. فآنذاك تشتد النار لتحول الفلز الصلد الى بخار . على ان الحق يحتم علينا الاعتراف ببطولات الجند في المعارك كلها ومنها تلك التي فضل فيها آخر فصيل الاستسلام للموت الخالد بدل النجاة . ففي أسطورة الناس كانت هناك دائماً ذكرى لها مكانها في كتاب الدهر . أنها رقصة رأس مبتور في غرفة إعدام مظلمة . عيد في فرن نووي .
- (( أذهب ))
ولم يضف الإمبراطور كلمة أخرى . وإنما نادى أميرة الكلام وأخبرها بضجره الذي عكر عليه مزاج لذات الفجر . فقالت أنها ستطلب من البشرية الخروج الى الشوارع والهتاف بحياته الى يوم الدين . فقال لها :
- (( لا أريد ذلك .. بعد الآن . أغلقوا أفواه البهائم وحطموا أجهزة الكلام وأبواق اللعنة .. ))
ومنذ ذلك العهد منح الناس الحق كله في الخروج الى الشوارع والساحات والبراري والغابات والهتاف بحياة جلالة الإمبراطور الذي لن يموت الى اليوم الذي لا يأتي، وأعلنت أجهزة الكلام وأبواق الدوي ان الإمبراطور ارتقى خطوة جديدة نحو هدفه الخالد . والحق ان الناس ، بعد مئات السنين ، حولوا الأوامر الى وراثة . وليس هناك أي عالم يقدر ان يفرق بين الأسباب أو الظواهر أو تأويل النوايا . فالجميع عشاق للتصفيق وحب الرقص . أنهم ولدوا للاحتفالات . وهذا هو علم وراثة عصر ما بعد انشطار الخلايا العليا للحساسيات الفائقة . فحتى ان جلالة الإمبراطور الجد في أزمة أعلان الأعداء عن قتل الناس بالأشعة الارتجاجية لقيادة عمليات الدماغ الموحد خرج الشعب كله الذي مات بكل الوسائل ومنها الرفاهية البالغة وأيده . فهؤلاء الأكثر حقداً على جلالته والذين رحلوا مدفونين بالعار والألم والأورام والمخاوف اظهروا له الولاء بما فاق ولاء الأبناء والأحفاد من سلالة الدم الإمبراطوري المشع بالماس والجواهر والأنوار . وهذا الأمر وحده دفعه لأجراء تعديل في حساب من هم أعداء الداخل ومن هم أصدقاء الخارج والذي رسم له حقيقة ان المستقبل مثل الماضي وليمة كلام تنهش بعضها البعض الأخر حتى آخر الزمن . إنما هذا الوعي الجلل المروع والهزيل دفع بالابن لأجراء محاكمة لفكر الأب وأقصاه بعد جدل خاطف من مناصبه الألف ولم يمنحه ألا راحة الشفاء بالعذابات الدائمة . لقد حوله الى امرأة مدماة تطلق يومياً من غير إنجاب ألا هذا الشقاء المستمر . لكن الإمبراطور الحفيد فند خسة حكم الأب عندما أعاد للمرأة مكانتها الجمالية وجعل جرائمها آيات نورانية . أنه ضرب من المستحيل الذي غدا مألوفاً . وفي هذا أيده كبير الحكماء الذي نضج أكذوبة الموت الدائم . فالخصب يسبق كل نوايا الإنجاب . وبهذا أستعاد الإمبراطور نسيانه المقدس ، بعد ان مسح من الدفاتر التاريخية قذارات الأباء والأجداد ، وعاد الى حيواناته المتوحشة في البرية عند نبع الماء . وأحس كأنه عاشق ، مثله في ذلك كمثل من يستقبل الموت نفتح باب الفردوس . فنادى امرأة حسناء هيجت فيه ذكرى جميع اللائي رقد معهن واللائي سيرقد معهن كزوجات وعشيقات أو اللائي لن يحملن ألا مجد الميلاد . نادى الحسناء وقبلها وضاجعها عند نبع الماء حتى وهن جسده . فرقد بلا أحلام فوق العشب ينظر بمرح غامر سلالة من البشر الجدد يهتفون له بالمجد ويرقصون بعد ان أوقدوا النيران من حوله ، ألا أنه لم يكن من تلك السلالة التي تغريها المسرات بالنعيم .. فقد أعاد بناء ذاته المتكاملة .. وصفى حساباته مع النظريات والأفكار والمعتقدات .. ولما جاء برسالته أدرك أنه هو نورها ، وليس الماضي ألا عثرات أمامه ، فكنسه ، كذلك أزال وهم وعود الأزمنة القادمة . وعلى كل ، قال لكبير المعمرين ، أنه سيذهب الى أقصى مكان سري في الغابة . هز الأخر رأسه ومنع عمل أجهزة الإنصات والتشويش وما شاكلها . فالإمبراطور يستعد لبناء كون خارج خارطة الحرب والسلام أو الوعود المنثورة في الكتب . لكن الإمبراطور وبخ عبده وسأله :
- (( أنك تتحسس عليّ .. ))
فقال بخشوع تام :
- (( هو ذا أمرك يا جلالة الإمبراطور .. ))
- (( أعرف .. ولكني بعد الآن أريد ان أحيا بعيداً عن فذلكات أجهزتي الحمقاء .. أريد ان أعود الى .. . ))
واختفى في ركن مجهول . على ان ذلك لم يكن سراً .. فقد صدرت صحف الأعداء وأجزته كلها تتحدث عن انتحاره تارة أو اعتقاله تارة أخرى .. وقد ظهر فيما بعد ان الإمبراطور كان يسرب بعض المعلومات لأسباب خاصة . وأنها معلومات اربكت الجميع وجعلتهم يتيهون في تحليلاتهم .. لماذا أبتلع بعض المناطق المجاورة ولماذا قطع كل يد صافحته في الزمن الماضي ولماذا بارك الموت الجماعي لجحافله الخاصة ولماذا كان يتنزه تحت أشد أنواع الرعب الكوني في شوارع الإمبراطورية مع الأطفال ولماذا اخترع نظرية الخصب التي فندها ولماذا لم يعد يشعر بالسلام الذي طالما جعله جوهرة النور ..
في البلاد كانت الحياة تجري على نحو عادي .. لقد أعتاد الناس سقوط الكواكب والكتل المفككة من الداخل والموت بفعل إلغاء نظام حركة الدماغ أو الرجات الكهرومغناطيسية النووية التي تعطل عمل القلب للحظة والى الأبد والتي تورث الموتى الخمول حتى في حالات الانبعاث .. لقد أعتاد الناس تلخيص مصائرهم من خلال تقليب كتاب الإمبراطورية .. والأدهى من ذلك ان شاشات التلفاز والعروض المرئية في الساحات والمتنزهات وحتى في المعتقلات كانت تعرض أفلام الأعداء الحربية وغير الحربية .. فالناس يعرفون من غير علم أو أدراك مباشر قوة الأعداء في الهجوم والنسف الجهنمي وتشريح أقاصي الأفكار لدى الناس في الخناق أو في المدن التي مازلت تشكو من الخدر العام .. ان أفلام العدو التي شاهدها سكان الإمبراطورية زرعت ما بعد الرعب في قلوبهم حتى غدا النصر يماثل الهزيمة .. فالموت هو جزء من لعبة الأقوياء الذين هدفهم قيادة الفوضى الى نظام محكم ومغلق وسري لا يمكن شرحه أو ملامسته أو معرفة خفاياه . بيد ان احتجاج كبار كتاب الإمبراطورية حول هذا التخريب النفسي والروحي أدى الى هلاكهم المباشر أو إرسالهم الى ساحات التشهير أو دفع بعامة الناس لقذفهم بالبراز .. ومع ذلك أعتاد الناس مشاهدة أفلام وفعاليات أبطال ورموز وثقافات الأعداء مثلما اعتادوا بلذة تدمير بعضهم للبعض الأخر .
وفي تلك الأيام السود أو التي فقدت كل الألوان خرجت جموع الأمة من جحورها على زعم تعرض الأمة للموت بالرعب السماوي والجهنمي ممجدة ارتقاء الإمبراطورية خطوة أخرى في سلم المجد ذلك الذي ان رآه أحد لأبد ان يمسه الجنون . لقد خرجت عن بكرة أبيها تهتف وتصفق وترقص بعد ان زينت المدن بأبهى أشكال الاحتفالات والأعراس كان الحياة برمتها عيد وفرح ، وفي تلك الاحتفالات كان الخطباء يتبارون باشتقاق واختراع لغات محكمة وسرية ومغلقة داخل الانغلاق الصوفي والمثالي والواقعي الرصين .. وكان الناس الذين لا يفهمون الخطباء يهتفون الخطباء يهتفون بأعلى أصواتهم كلما ازدادوا لا معرفة لتلك الخطب المحنكة العظيمة .. وفي الواقع لم يفكر الخطباء ولا الشعراء ولا الكتاب بتلك البهائم التي غيرت معتقداتها آلاف المرات والتي ذاقت مليار صنف من صنوف الهلاك والموت المحقق .
فالنصر محسوم بفعل خفايا النور .. وقال هذا الخطيب الذي سبق ان هلك في عدة حروب ان الجيوش المؤمنة غريزياً بالهزائم حتى النصر قادها أب الجميع في الماضي وفي الغد حتى النصر المؤزر ليشاهد أبناء وأبناء كل الأجيال النورانية والمشعة وصاحبة القرار أوسمة الرماد والزمرد والبول الجاف مرمية في قيعان المستنقعات وفوق أكوام رماد هياكل عظام المخصيين والمحاربين والمومسات والجواسيس والمدراء الذين شبعوا من التهام الذهب وضاجعوا معظم العذراوات والمحصنات من بنات وزراء الإمبراطور نفسه .. أنه النصر الذي مصدره في الغيب آت من النور فوق البسيطة يزلزل عرش العتمة في رأس الجلاد الأكبر . وقال خطيب محنك آخر لا تحصى ثروته ولا تعد ان الهزائم هي قدر الأغنام والماشية والأبقار العجاف التي تساق الى المسلخ من غير اعتراض لأنها مؤمنة عميقاً وبصدق الحكماء ان التضحيات محسوبة ولها مكانتها في رفع شأن الراعي وأتباعه في بناء هيكل العالم الموحد والكبير الذي سيمنح القديسين الشهداء شارة الخلود فالإنسان الفرد والجماعة مثل تلك الجينات فلقها مالك الحجارة لتصير نذراً في أحكام شرعية قانون الأزل الأوحد الذي لا يحق لأحد معرفته أو ليس بالضرورة ان يشرح على رغم عدم رؤيته أو إمكانية تحديد مداه فهو في كل مكان خفي من الذرة ومن النطفة التي ستولد في كل عصر وفي كل زمن بعيداً عن أركان التعصب والغباء ونقصان الوعي . وشرح الخطيب الثالث ان الألم هو الشيطان على هذا النحو المفسد لاستقراء مصادر النور والاشتعال الأمر الذي من خلاله تم إلغاء البرد والأمراض الشتوية والحر وكل تلف قد يسبب فساد عمل حجيرات الدم في شعب الإمبراطورية الموحد الذي يذهب الى الموت كأنه في عيد .
وصار الشعب برمته يخطب ويرقص بعد ان ارتقى الإمبراطور خطوة جديدة في سلم الخلود . فالإمبراطور .. قال أحد الخطباء ذهب الى مناطق أبعد بكثير من خفايا العالم الأخير .. وهو في كلماته يؤشر حكاية الوجود كله منذ الطوفان يوم أمطرت السماء الدماء والجماجم والمتفجرات والأشتعالات فوق النورانية وحتى آخر يوم في هذا الزمن .. فالإمبراطور روى للأمة أحداث الكون قبل فساد فضاء الآلهة يوم لم تكن ضجة ولا أصوات ولا نساء ساحرات ولا رجال قوادون وجواسيس ولا أطفال عراة أو موتى فوق الأرصفة عندما كان الصمت قرين موسيقى كلمات الخلود . كانت الآلهة راضية مرضية لولا أنها ضجرت لأسباب تخصها هي وحدها فصنعت الطوفان لمحدثي الفساد بعد ان فشلت بالقضاء على الإرهاب والاغتيالات السرية وبعد ان فشلت في زرع الرحمة والأيمان فكان الطوفان هو لغتها يوم اشتبكت الآلهة بنفسها في حرب داعرة عند بيت كبيرها الذي أفاق من غفوته وهو الذي لا يغفو ولا يمس جفنه الوهن فقال لها كلمات قليلة ثم جمعها كراع يقود غنمه الى الكهف بعد هبوط الليل وأستأنس بالآراء وبالجدل الوجيز ليصدر أمره بإغراق الأرض ومسح معالمها وإزالة أفعال الشر منها . وقال الإمبراطور ان كبير الآلهة سمح لولده – وكأن الإمبراطور يتحدث عن تاريخه – الصغير بالحفاظ على نفر من البشر المقدسين الأطهار وعلى عدد من البهائم والطيور ليتبع النسل فوق الأرض .. وقال الإمبراطور ان هذا النسل أزداد وملأ الأرض مرة ثانية حتى ارتفعت ضجته وعراكه وصار مصدراً لتلوث صفاء ذهن كبير الآلهة لكن الأخير لم يرسل الطوفان من الأعلى بل ترك القوى يقضي على الضعيف حتى يتم للجميع في يوم مقدر ان تسود فيه أحكام الرب بسيادة هؤلاء الصفوة .
وشرح أحد الخطباء ان العالم اليوم هو في سير منطقي نحو هذه الخاتمة التي يقودها جلالة الإمبراطور الذي لم تلده أنثى ولم يمسسها ذكر حتى في خيالاتها وهي التي صارت أم العالم كله سيدة الأراضي والفرق والأمم وقال هذا الخطيب ان العالم سيخلع فوضاه بعد ان تضع هذه الحرب أوزارها حيث ان كبير الآلهة سيقلد إمبراطورنا وسام الألوهية . ورداً على سؤال غامض مبهم صدر عن عقل ممسوخ لا وجود له هل ان الأعداء سيقضون على هذا الحلم .. فأجاب وهو يزلزل الجبال ويهز الغابات ويرج الأرض ان الإمبراطور لن يصير ضحية غدر ولن يسعى الأعداء في نواياهم الشريرة لجعله شهيداً وإنما هو أقوى من كل الكلمات البراقة لأنهم أصلاً ل يقدرون على قتله أو القضاء عليه إذا حاولوا ذلك كذلك هم سيصابون بالذعر الأولي لو صنعوا منه رمزاً أو شهيداً لأن كل أبناء ما بعد الطوفان سيفسدون سير نظام الكوكب نحو مصيره الواحد الموصد يوم تزلزل الساعة ويقود بريات وصحارى وغابات وبحار العالم نفر قليل من أصحاب الصفوة هيكل السماء والأرض الى المصير المحتوم .
وانهالت الخطب والجمجمات وصدحت مكبرات الكلام وأجهزة الإنذار الصوتي والثقافي والفلسفي تشرح بعمق ان زمن الرعاع قد ولى الى أبد الآبدين وليس على البشر ألا الولاء والإصغاء الى موسيقى صمت كلمات الإمبراطور الآتية من أعماق غابته السرية .
وفي واقع الأمر كان الإمبراطور مسروراً السرور الذي لا يوصف بشرياً أو إنسانياً ألا كومض صادر من خفايا الكون السحيق لتلك الخطب والكتب وآلاف المجلدات التي كانت تواكب تاريخه المجيد .. فقد كان في كل صباح يطلع عليها ويرميها الى النار لتتحول الى أغنية أو كلمة واحدة يبلورها ويعيدها الى شعب إمبراطوريته حيث يجتهد فيها علماء الأمة سنوات وعقود وقرون من الإنهاك والتحليل لتغدو تلك الكلمة حكمة جيل تسري في دماء الأجيال التالية . وكان جلالته في كل مساء يطلع على اجتهاد كبار أتباعه قبل ان يخرج الى الأدغال ويجلس الى حيواناته البرية بعد ان يقذف بها في الغالب الى خزانة تتجمع فيها لقى وآثار عصره الجليدي الماجد . ففي الأدغال كان يخترع روائح التوحش الأليف لنسله القديم ويتنفس ملأ أعماقه شهوات الأنثى عند منابع المياه يخالجه أسى شبحي أنه لم يرقد في رحم امرأة ولا في رحم الآلة وإنما جاء الى هذا العالم مثل نور مصدره النور .. ونسف أسطورة الماء برمتها وبصق في محيا أصحاب النار وكبل أبناء الطين بالهواء كسجن لا مناص منه . لكن رائحة الشواء البشري كانت تحفر مغاليق روحه رغبات الرقاد في رحم أو داخل الحجارة . ألا أن ضباع وأسود وثيران البرية أنسته أحزانه وأرسلت له كل ما يشتهي من إناث البشر والحيوان والطير ومخلوقات البحار وما تحت الأرض وقالت له البرية أوقد نارك يا كبير بني الملائكة الذي لم تلده أنثى ولا أب له من البشر أو الحيوان وأمنح شعبك ذرية مصاغة بالنور من النور تأتي والى النور تذهب . فخلع عنه تاج العالم الذي بثقل كوكب الكواكب وان كان حجمه بصغر رأس دبوس ورقد مع جمع إناث الطير والأسماك والحيوان والإنسان في ليلة أنشق فيها القمر وتناثرت فيها النجوم وتعطلت فيها كافة أجهزة الإنصات والتصوير ولغات الأسرار لينجب في ليلة أم الليالي ذرية تحمل أسمه في مملكات العالم البعيد ..
إنما خرج الشعب كله في تلك الليلة فرحاً يرقص ويغني ويصفق ويهتف لأعوام متواصلة لعيد الخصب وتقدم الفرق والجحافل المنذورة لوحل الفوز والنصر المؤزر صفوف الموتى والأحياء في خنادقهم ومدنهم وقراهم وهي تكتسح الدفاعات الحصينة للأعداء . وقد شاهدت تلفازات العالم وأجهزة التجسس الإمبراطور يتقدم كل هجوم وفي الصفوف الأمامية حتى تعطلت تلك الأجهزة وتهدمت وذابت وانتحرت لأنها لم تدرب وتصمم وتزوّد بما جعلها تفقد تقنياتها المتقدمة وهي تشاهد مليار نسخة أصلية من كيان وشكل وروح الإمبراطور في كل مكان من أرض الوغى وهو يتقدم غير آبه بإنذارات العالم كله ولا بتلك الأسلحة الفتاكة المدمرة للتراب والهواء .. ذلك الحدث الذي عطلت فيه إرادة عمل ذرات وحجيرات الأدمغة التي تصالحت مع الشر والعتمة صار عيداً قومياً خالداً وخطوة أخرى تقدم فيها الإمبراطور نحو مجده المشع بالأنوار .
ولم يعد الى كهفه ألا بعد صمت أطبق على العالم كله . كان يمشي بهدوء مثل ساحر يمشي فوق الجمر غير آبه بلهب النار الموقدة . لا موت يخشاه ولا لغط يخدش سمعه .. لا بصريات تؤذي بصره ولا كلمات مدسوسة توسخ صفحات كتابه .. لا ألم ولا مسرات زائلة .. لا مكان ولا زمن .. وفي كهفه عند الباب اومى بالامتنان الى كل أنثى أخصبت وأرسلت بذريتها المنقاة الى فضاء المطاحن وانصهار الأرواح بباريها في كل ذرات الخلائق حيث أنفس ترقد آمنة مطمئنة وولج الى الداخل حيث طلب من كبير حكماء الخالدين أخبار كبير الآلهة بمجد التاريخ الذي دونه فوق مسلة الإمبراطورية فقال الأخر أنه فعل ذلك في اللحظة التي أراد فيها جلالته ان يعلم كبير الآلهة ان مجده يمتد من مكان الى آخر .. غضب الإمبراطور قليلاً ثم كتم غضبه وهو يعود الى الباب كهفه ينظر الى الباسلين الراقدين في زمن النور الخالد . ولذ له ان يرى الحقب التي مضت تاركة المجد في أبناء الأمة الذين أحبهم كخلايا أزلية تتحرك في ذاكرته الكبرى .
كان يرى المعركة قد بدأت بالكلمات الغامضة ثم بالأيدي وتطورت بعد جيل واحد لتصبح معركة بالحجارة والعصي والعظام .. وهاهو يراها تقتلع المدن والبلدان من خارطة الوجود . لكم فكر في طفولته في مغزى الحرب المدمر والسلام المهين : الموت الذي يلغي المقاصد ويجعل الأطراف كلها في حفرة غضه . كان ذلك في الماضي عندما تلقي أول عقاب صارم من الإمبراطور الأب الذي زج بالابن في خنادق الوحل الأمر الذي دفعه الى بناء هيكل النصر النهائي وجعله لا يحلم ألا بإلغاء فكرة التفسخ التي تفوق بقاء الخلايا في نظامها الرتيب . أنه منذ ذلك الامتحان الذي لم يحسم فيه اختياره للموت دفع بخياله الى أقصاه . لا راحة للجسد ولا سلام للفكر . وهاهو يرى موتاه .. حشد يتناثر فوق الأرض .. رؤوس معلقة وتتدلى من الأشجار .. موتى زرق بالغازات الروحية يقاومون ابتساماتهم الساخرة وراء الجلد المسلوخ . أكوام عظام في الساحات و المتنزهات . مدن خالية من البشر . أطفال متجمدون وشيوخ تحولوا الى بخار . تماثيل بشرية في قدح للماء . شوارع تتلوى من الرعب ومدن خسفت بها الأرض . بحار جفت فيها المياه ولا توجد فيها ألا بقايا حياة . مليار مقاتل في كف حديدي . موتى من الرعب ملتصقون بالأرض وقسم يتطاير كريش في الفضاء . بقايا أصابع فوق الموائد . أرض سوداء تمتد مع الأفق . حيوانات ميته ترتفع رؤوسها نحو السماء . بقايا غابات تحولت الى رماد ..
- (( أكل هذا فعلته أنا .. ؟ ))
فقال كبير المعمرين له :
- (( أنك يا جلالة الإمبراطور مازلت تبحث عن خلاص هذه الأمة .. ))
- (( آه .. أتعتقد أنه بمقدوري أن أفعل شيئاً ؟ أنظر الى الماضي وما بعد الماضي .. ها .. ها .. اقترب مني قليلاً أيها الجاسوس ! هل لحظات السلام الوجيزة للبشر هي الغاية الكبرى التي تحركها مليارات الحشرات البشرية ؟ ها .. لحظات سلام عفنة .. وسخة .. بينما يقود العالم نفرد قليل من أذكى الأذكياء نحو مصيره المحتوم : نحو .. أجل .. العودة الى السلام الذي تتساوى فيه الأشياء : الجلادون يعانقون ضحاياهم بلا تذمر . لا أمراض ولا شيخوخة . أصغ لي يا من أحببت الدنيا وحدها كأنها الزمن كله أني لا أعاني من الأمراض أو الأوهام .. ولا أبدل حالة بحالة .. ولا أعوض قضية بقضية أخرى .. إنما هذه البلاد أو هذا الركن من العالم لا يسعى ألا للإمساك بشرفة أو وجوده العادي .. ألا ترى أني على حق في أحداث هذا اللغط وفي هذه الضوضاء مادام العالم كله أسير حفنة من أذكى والأذكياء الأوغاد .. أو و .. ه .. يا صديقي المعمر الذي يعرف تاريخ هذه الأرض منذ كان فيها شخص واحد هو جدي الإمبراطور وجدتي التي تركت لنا هذه الذرية من الأغنام والمواشي .. أجل .. أنت تعرف تاريخ الذل كله مثلما أعرفه وكأني أعيش في قاعه .. فأين يكمن خلاص الأمة وماذا بمقدوري ان افعل ؟ لقد حاولت ان أقود حتميات الأمور الى شن حرب ضد المفسدين الذين يحاصرون أراضينا ويتلاعبون بمصائرنا ويستولون على ثرواتنا وينهبون عقولنا .. وحصل ما حصل .. لقد صمدنا أمام جبروت أعتى تلك القوى الكاسرة وصرنا على لسان كل من في قلبه نبض وفي عقله بعض خلايا تتشوف للنور .. وأنا كنت طوال الوقت أسير في المقدمة .. ولم أتخلف ولم أهمل صغيرة أو كبيرة تهم مصائر أمتي . كنت أموت وأولد مثل الجميع .. وكنت أدعو الى الإرهاب الذي أدرك الآن أنه الحل الذي يوازي حق الجميع بالحياة . علينا ضرب ونسف وتدمير مصالح الأعداء الحيوية .. ولكن .. ولكن أنت تعرف ماذا حل بنا طوال القرون الماضية . أني للآن لا أعرف لماذا يزعزع الخوف إرادة إنسان فيه من النور ما يفوق ظلمة العالم كله . لست مريضاً ولا خيالياً .. فأنا رجل مثل الجميع ، ولد من رحم أم وله أب ويتنفس الهواء ويشعر بالبرد ويبكي في لحظات الفرح ويحب ويغضب ويتبرز وينام .. ولكني على رغم هذا كله لم أخف من سطوة الأعداء .. وعلى رغم هذا كله أيضاً فأنا لم أفلت من قدري .. من الخراب الذي يمتد الى مئات السنين ومن الوحوش التي تتبادل وتتقاسم وتفترس ضحاياها .. الست أنا الوحيد الذي صرخ في وجه المجهول وصمد سنوات وسنوات للإفلات من مخالبه التي كانت تعمل في القلب ..))

وكتم صوته الداخلي . كان وحيداً بعد ان أمر وحوش البرية بالتهام أكبر المعمرين .. صنوه الذي كان يلاحقه ويطارده لحظة أثر لحظة . كان وحيداً يحدق في الظلام .. وحيداً كأنه لم يعش ولن يموت متفسخاً مثل خلايا فقدت تماسكها ، أنه يحس بذوبان جسده فوق تراب الكهف ، ممتزجاً بالعتمة ، ويشعر ان هناك قوة ما تخلص منها : هذا الشبح أو هذا القرين أو هذا الذي أقلقه طوال العمر يقف أمامه .. يصرخ فيه بكلمات .. بكلمات قليلة .. بكلمة .. بكلمة واحدة .. بلا صوت .. أنهض .. أنهض .. أنهض . لكنه كان يرى جيشاً جراراً يخرج من الكهف نحو الصحراء .. وكان يستمع الى موسيقى الحرب .. ولكنه عندما حاول إظهار مسرته العميقة الخاطفة شعر بقواه تنتقل الى تلك الخلايا وهي تعيد بناء مسلة جديدة . لقد مات وحيداً بينما كانت الحرب قد بدأت تواً . كان وحيداً إنما كان في كل مكان . وراح يحدق في مليارات المحتفلين بيوم الزهو وهي تزحف من القرى والأرياف والمدن نحو ساحة الخلود . كانت تهتف وترقص وتلوح بأسلحتها كأنها تريد ان تصعد الى السماء . كان يحدق بلا مبالاة إنما بكبرياء من حارب آلهة .. وأبتسم وهو يخبر كبير المعمرين ان الحرب لم تبدأ بعد .. وان نظرية الخصب لا بد ان تأخذ مساراً يجعل الأجيال الجديدة أكثر فعالية في نسيان مسارها القديم . فهز الأخر رأسه وأمر صانع النسل بتنفيذ الأمر . وبعد عقد من الزمن وفي هذه الساحة ذاتها أمر جلالة الإمبراطور بإعادة صياغة ذاكرة أبناء الإمبراطورية وإلغاء الخوف ومسح كلمة أعداء من الدفاتر المدرسية وهدم رموز العتمة كلها وإطلاق المشاعر الخفية والداخلية وجعلها القانون البديل للأهداف المضللة لبني البشر . لقد آمن الجميع منذ زمن بعيد بهذا الحلم الذي سبق ان تحقق في الأحلام وهاهو يهدم تلك الفواصل بين الرغبة والتجارة الأبدية . أنهم يمتلكون زمنهم ككتلة بلا مكان ولا أبعاد . أنهم مثل عرس ملائكة . لكن جلالته أعاد بنفسه كتابة أحلام الشعب ، ووزع نعمته بيديه ، ولم يهدأ له بال ألا بعد ان زار أبناء الأمة فرداً فرداً بعد انصراف الليل وتأكد له نسل المعادن ، على مدى قرن قادم ، سيشّهد أعظم إمبراطورية غير محكومة بالزوال . ذلك لأن عمل مجيرات الدماغ الروحية لن تعمل خارج إرادته المتفتحة والمتجددة أبداً . وهاهو يتنزه في أكبر حديقة تحتوي في أركانها وزواياها على نماذج لا تحصى من أسرى الأعداء ومن العلماء ومن القادة والملوك والرؤساء وهم يعاملون معاملة الأرانب والجرذان وبنات أوى .. وعندما وقف وحدق في أكبر إمبراطور دوخ الأرض وكاد يزعزع نظام الفلك وينسف منجزاتها الفذة أمر له بوجبة مضافة من العلف .. وقال لأمير الحرس ان يقوم بتوزيع هدايا على تلك المواشي الأسيرة التي مسخت الى أشكال يأتي الشعب أليها يومياً لينقعها بالبصاق والبول واللعنات .. وكانت مكرمة جلالة الإمبراطور ان يسمح لها بالتبرز خارج أقفاصها . وعندما شاهدها وهي تهرول وتهرب صرخ في وجه كبير المعمرين وأمره بإحراق الأقفاص ونقل الأسرى الى كوكب بعيد على ان يتم تصفية الضعفاء منهم . لكن الأخر حدق في محيا جلالته لبرهة وجيزة من الزمن تحول خلالها الى تمثال . فأمر بتحطيمه ونقله مع الأسرى الى ابعد كوكب لاتقاء الشر الذي خالجه في تلك البرهة الوجيزة من الزمن .
ولم يغادر عاصمته ألا بعد عام أمضاه في تفقد أحوال الناس .. وقد أعلن في خطابه الأخير الذي هو خطاب الوداع ان الإمبراطورية لن تأسف لرحيله لأن كل ذرة حية أو مستقبلاً هي الإمبراطور نفسه .
لكن الشعب أخذ يولول وينوح بعد ان أضرب عن الطعام .. ولم يفلح الإمبراطور في إعادة السلام الى النفوس ألا بعد ان أخذ يحدثهم عن آخر المعارك . هلهل الشعب كأنه في عيد . فقال الإمبراطور ان العدو في حربنا لا يُرى وليس له من وجود أو كيان فوق الأرض أو في أي جرم من أجرام الذاكرة الأزلية لهذا المجهول .. بل وان هذا العدو لا علاقة له من قريب أو بعيد بمحركات الشر في الذرات النورانية داخل مملكات الدماغ والروح والخفايا . أنه العدو الذي لا يسمى ولا يسمع ولا ثقل له ..
فصفق الشعب وآمن ان جلالة الإمبراطور قد بلغ آخر درجة في سلم الخلود .. أنها خطوة ان يكون الشعب كله هو الإمبراطور نفسه .. وفي ذلك اليوم الذي أمر جلالته فيه ألا تغيب الشمس رقد في نعشه الذهبي المشع بالجواهر والعطور التي تحي الموتى وتشفي الأمراض العصية وحدق في الفضاء اللا نهائي لرغبات الإنسان . كان الشعب كله قد غادر للسير في موكب الرحيل . ولم يحدث من قبل ان مزق الناس ملابسهم ولطموا على الخدود وحلقوا شعر الرأس وجرحوا أجزاء مختلفة من الجسد حيث الدماء كانت تسيل فوق الأرض والناس صاروا بلون الدم وهم ينوحون بصمت تارة كصمت الرماد ويصرخون مستغيثين مرعوّبين نادبين شاكين بعد ان فقدوا الصبر والرجاء . وفي الواقع كان جلالته في حياته المريرة لم يختر له قبراً بعد ان أزال قبور الأباء والأجداد وحول الأرض كلها الى حقول وبساتين وغابات .. كما أعلن ذات مرة ان تذكر الموتى هو ضرب من الإحباط وضعف يؤدي الى الإعياء .. لهذا كان نعشه الإمبراطوري يدور في شوارع المدينة العاصمة وأزقتها من غير هدف محدد .. لكن الناس كانوا لا يريدون اختفاء الإمبراطور من حياتهم مما دفعهم الى أبعاد أي احتمال بالدفن في أي مكان .. وفي الحق ليس هناك من له كلمة حاسمة .. فقد كان جلالته الرجل الأول والأخير .. على ان الناس لم يفكروا بالحاكم الجديد .. فقد شعروا بالولاء له في موته كما أعلنوا ذلك حد الموت خلال حياته . ومن يرى بكاء الناس وعويلهم والشحوب الذي غاص في محاجر عيونهم والزرقة الممتزجة بالسواد فوق الوجوه يدرك أو يشعر ان نهاية العالم قد حلت ..
وفي تلك الأسابيع التي كانت الجماهير تدور بجثمان الإمبراطور من مكان الى آخر بعد ان تعطلت أعمال الإمبراطورية كلها كان بعض الأعداء قد فقدوا عقولهم لهذا الولاء الذي لم يحدث لجلالته حتى في أيام حكمه الذهبي .. لهذا قرر كبار الأعداء في اجتماعهم السري تأجيل أعمال العنف أو أعلان الحرب أو التحرش بالبلاد . فالناس الآن لا يرغبون ألا بالثأر لإمبراطورهم ، وضد أي شيء . كما ان التوقعات بنشوب حرب أهلية كان محض هراء .. فالشعب كله قد وضع الجثمان في ساحة الخلود ورفض مغادرتها . وكانت البلاد لأول مرة وكأنها تشهد واحدة من تلك الحروب المروعة الطاحنة التي قاد بها الإمبراطور نصف الأمة الى المستنقعات والى الموت . فقد تعطلت الدولة وصار الناس يعملون بغريزة الذهول .. وخلال تلك الأشهر كانت جثة الإمبراطور تتصلب وتزداد فتوة .. الأمر الذي دفع بالغابات والحيوانات والكواكب وحيوانات البحار والأنهار وكل مخلوق حي أو ستدب فيه الحياة لمشاركة بليارات الناس ذلك المصاب الذي لم يحدث له مثيل من قبل .
وتنوعت أشكال المناحات الى مالا نهاية .. فهناك من كتب آلاف آلاف من الروايات والقصص وهناك ملايين الشعراء الذين برعوا في اختراع أصوات هزائم المجد وكلمات ترسم جرح السماء والأرض .. وهناك أجهزة الصوت المدوية تروي مآثره وحروبه ومجده الذي تبدو فوق العتمة .. وهناك النحاتون الذين شيدوا له آلاف التماثيل في كل مكان من المعمورة وأهم من كل ذلك ان هؤلاء الفنانين سوروا البلاد بسور مرتفع من تلك التماثيل الحجرية والبرونزية والحديدية حماية للبلاد من طمع الأعداء ..
ومضى أكثر من عقد والبلاد مازالت تعمق حدادها وتخترع الوسائل المستحدثة للعزاء .. ومن جهة ثانية فقد الأعداء صبرهم وراحوا يخططون لاستثمار الأمور لنواياهم باحتلال البلاد وتدمير الخيال الشعبي الذي فاق أساطير ذلك العالم .. على أنهم ، والبلاد تسّير نفسها بنفسها من غير ملك أو رئيس أو إمبراطور ، أدركوا عمق الكارثة التي ستحل بهم ان عاجلاً أو أجلاً ، لهذا أجلوا أمر غزوا البلاد واكتفوا بمراقبة الأحداث ..
ألا ان الحشود أفاقت ذات مرة والشمس مازالت مشرقة ولم تغب قط وهي ترى الإمبراطور ينهض من نعشه وقد أستعاد شبابه القديم . كان يشع مثل مصباح بين السماء والأرض ، لا يوصف ، ولا قدرة لأحد أن يراه .. وكان ذلك اليوم هو بدء تاريخ الأمة والبشر في كل مكان . وصار الناس منذ ذلك اليوم يحتفلون كل عام بذلك العيد الذي هو آخر أمجاد الإمبراطور . وعيد الخصب . وبعد مرور قرون عديدة مازال بعض كبار السن يشاهدون الإمبراطور يخرج من الماء أو من الأرض أو يهبط من السماء ويتجول مع الفقراء والفلاحين أو يشهد حفلات الأعراس أو يبارك المصلين في المعابد.. وكانوا يتحدثون عن معجزاته التي فاقت الخيال، وأفعاله التي لا توصف.. فقد كانوا يتركون أبواب منازلهم ونوافذهم مشرعة لكي يدخل منها ويشاركهم حياتهم .. ولم يشك أحد من أبناء الأمة أنه لن ينهض في ذات يوم ويعلن عن بدء حقبة من الأحداث العاصفة والمجلجلة الى أبد الآبدين .

18- 28/ 1/ 1991

ليست هناك تعليقات: