أختام *
الختم الثاني
عادل كامل
[3] الكتمان ـ مرئيا ً
سأعترف أنني لا امتلك حق القول أنني نفذت أختامي بموازاة ما كنت أريده، أو انه النتيجة المثلى، والأخيرة، ولكني لا اشعر أنني غادرت ولعي بإعادة صياغة أفكاري. إن أصابعي تعمل فانقاد إليها! أشيّد وأضيف مع الحذف كي ابلغ بالنص نهايته: إشارات تكاد تلغي ما تتضمنه العلامة من تجريد/ رموز/ وإيحاءات. ففي الإشارات يكمن اللا متوقع الذي كنت أراقبه، وانتظره، وليس في العلامات، بل ولا حتى في الأسلوب. فانا ازداد انشغالا ً بمغادرة أشكالي، وكل ما سيشكل خصائص الختم.
هنا اكتشف أني احفر في مدافني الأولى: في مقبرة شبعاد، قبل أكثر من نصف قرن، بجوار مقابر أور، على مسافة غير بعيدة عن الناصرية ـ مركز ذي قار ـ حيث استعيد حرارة الرمال، في الخارج، وأصداء أصوات ما جرى إبان نزول الأميرة شبعاد إلى العالم السفلي. أتذكر ـ بعد نصف قرن ـ أنني تحدثت إلى البروفسور هاوزه ـ مدير متحف برلين عام 2005 ـ عن لغز القبر السومري، وعن المعتقدات البكر للايكولوجيا الكونية. ماذا تقصد...؟ سألني. فقلت أن هناك فجوة للعبور، بين الموت والحياة، وبين الحياة والموت، تخيلها السومري كي تتحول إلى جسر، أو صلة يستحيل استبعادها. فثمة كون وجد نفسه فيه متوحدا ً عبر تحولات المظاهر، وهي التي ستظهر تأثيراتها في الهند ـ بعد ألف سنة ـ بعيدا ً عن المثنوية وصراع الضدين. فالوحدة التي تخيلها السومري تركت الزمن لا ينتهي عند خاتمة، بل يمتد، عبر دورات. فرأس الأفعى عندما يبلغ ذيلها، يمتد، عبر دورة اكبر، تتقاطع مع مفهوم الرجوع إلى التراب ـ أو إلى العدم.
موت له مذاق الأبدية! لكني لم استبعد أبدا ً حدود التجربة بحدود التصوّر؛ حدود الدفاع عن كياني، بما اعرفه، وخبرته، وعشته، مع أني لم الغ أن هناك خلايا تعمل بالنظام الأكثر تعقيدا ً، الخاص بالكون، وليس بحدود وجودي. انه إغراء آخر للعمل، كواجب، وليس ترفا ً أو بذخا ً.
على أن الكلمات أما تذهب ابعد من النص الفني، أو انها ستتحول إلى يد تدور في مفتاح الباب: الباب الذي ادخله، طالما من المستحيل العثور على سكن فيه، عدا الكون الذي لا علاقة له لا بالموت ولا بالحياة! وهنا ساترك إحساسي بالزمن، وبما سيقال حول تجربتي، فأنا بالختم اترك كياني مكبلا ً بحرية الضرورة، وبضرورات هذه الحرية.
فالفن لن يفصل الأثر عن صانعه، ولا صانعه عنه. فأدرك أن السومري صاغ مفهوما ً سترجع إليه البشرية في لحظة إدراكها انها لن تبلغ خاتمتها. فهي تتضمن دورات، شفرت عبر ما لا يحصى من الحروب والكتب في الجسد/ الوعي/ وفي الكيان بوجوده في الوجود: دينامية تتحول الحياة فيها إلى رقصة (بوذا) و (فناء ً) كما في مسلك الصوفي وطرقه.
لكن النشاط الفردي ـ الخاص ـ لن يعمم، الأمر الذي يجعل كل ختم، مستقلا ً عن سواه. فكما كل وردة، في البستان، لها تفردها، فان ما لا يحصى من الورود (والأزهار البرية) ستعمل على حماية هذا الختم: الهوية، والأسباب الكامنة في الأسباب، فلا ضرورة لسؤال مثل: لماذا اعمل ... ولا ضرورة لسؤال: ماذا لو تخليت عن العمل؟ لكني ـ هنا ـ اخترع لعبة، أو تسلية، بل وعيا ً له موقعه للتحرر من الأعباء، والضرورات اللا ضرورية، يسمح لكياني أن يتشكل مع الموجودات النائية، والمجاورة على حد سواء.
انه شرط يحرر الشرط بتحوله من قيد إلى توق. فتكف اللغة عن مجال عملها، في الاستغاثة، أو في المؤانسة، أو في الشهادة، أو الترميز، كي تغدو جزءا ً من الختم. فهو وحده يقول ما يكتمه، وهو وحده يفضح كتمانه.
[4]البحث عن الذي غادرني
ليس أكثر من تأمل ما ستؤول إليه النصوص: زوالها. وبمعنى ما فانا امسك بما أراه يندثر. ففي عالم كفت فيه قوانينه ـ عدا عنفه وأقنعته وغوايته ـ عن العمل، يغدو الفن ممرا ً للبحث عن الدوافع التي سمحت لأصابع أسلافي أن تنسج هذا الذي حفزني للعثور على توازن مستحيل في الفن:انه قيد لممارسة وهم الخلاص منه. لم يكن أسلافي في المغارات أو في أعالي الجبال يحلمون بأكثر من المرور في الدرب ذاته الذي لا طائل من المشي فيه! إلا أنني ـ وأنا أبصر حبيبات الزمن تذوب في الفراغات والمسافات اللانهائية ـ لا أرى شيئا ً باستطاعته أن يمنع بصري من الاستيقاظ: التاريخ بصفته لم يبدأ! وكأن لغز جلجامش مازال يمتلك غوايته: التفوق! والبحث عن سكينة غير التي يحدثها الفناء، أو الموت. فأتخلى عن المعاني ..فانا أدوّن بحثا ً عن هذا الذي لا أتوقعه: لون ما .. أو تصدعات، أو مخربشات تمتلك كل ما لا يمكن تحديده في الكل اللا متناهي وقد غدا مرئيا ً، أو تحت البصر. فانا لست منفصلا ً عن نفسي! ولا عن ختمي. لأننا ـ كلانا ـ لا نمتلك سوى استحالة نفي هذا الحضور ـ هذا الذي يتفتت، ويتجمع، كي يعلن عن صلابة نظام الامتداد؛ امتداد الفراغات وتجمعها، حد استحالة مغادرة حدود اللامحدود ـ والسكن فيه. لا مكان ولا زمن ـ للمؤجلات! فانا تام الموت، وتام الغياب، وحضوري وحده صار الختم بما يستحيل مغادرته. إنها لذّات أصابع أمسكت بالمفتاح وهو يدور في الهواء.
فبماذا امسك...وليس بين يدي ّ إلا ما أراه يغادرني، عدا إحساسي الخفي بان اللا متناهي يمتلك حضوره، لا كغواية، أو مناورة، بل واجبا ً.
هكذا ـ كما يحدث لمن تأجل موته ـ يختفي التذمر أو الاستسلام للتعب، فيغدو ـ هذا الغائب ـ حاضرا ً بما فقده. فاستعيد رغبة صياغة علامات أحاول فيها وضع مصيري برمته، لا للمباهاة أو لفت النظر، بل للتواري، والسكن بعيدا ً عن الرقابة. لكنني لم امتلك قدرة أن أصبح أعمى، إلا عندما ازداد ثقة بان مصيري يسبقني، فامشي خلفه، بلا استئذان، أو رغبة بالغفران. انه الذنب التام الموازي لولادة لا اختيار لي فيها بعزلها عن حتمية أن أراها تأخذ ـ غيابها وحضورها ـ كي أحافظ على شرود ـ وعزلة ـ كلاهما يجعلاني امشي في جنازتي ـ أو في موتي.
[5] المحنة: الفجوة ليست بعدا ً
عندما لا يقذف الفنان عمله (الفني) إلى السوق، بصفته سلعة، أو عندما لا يجد مبررا ً لعرضه خارج حدود المشغل، أو عندما لم يعد نتيجة أسباب خاصة، فانه، في لحظة استحالة العثور على ما يماثل مشاعر الانجذاب في الحب، أو في التصوّرات الاستثنائية، التي اتحدت وسائلها بغايتها، فان ثمة ظلمات لها فعل الغبار البركاني تجعل مصيره معلقا ً، فيرى انه ـ في العمق ـ قد هدم ما علق فيه من تاريخ، لكن ليس لصياغة علامات مميزة، وإنما كي لا يبدو ، في هذه المتاهة الحالكة ـ إلا وقد اجل خاتمته، مثلما أدرك انه كاد ينفصل عن ماضيه.
أليست هذه أزمة لاذعة، كالتي يكتوي فيها جندي في حرب لا معنى لوجوده فيها دخلها كي لا يغادرها، لا بالربح ولا بالخسارة، أو كحال من وجد انه غير قادر على الاندماج، حتى في الاستسلام لموته!
إنها ليست حالة سيكولوجية، أو اجتماعية (بسبب استحالة العثور على خلاص يوازي وعيه لوجوده) وإنما شبيه بموقف من وجد أن أفضل الاختيارات باطلة، فيكون ـ هنا ـ كمن حفر في الأرض قبرا ً لينبت فيه أسباب استحالة انه وجد فائضا ً، أو محض مصادفة، تاركا ً الأمل والخسارة والتصورات بعيدا ً عن الخاتمة.
هو ذا الطريق المائل المضاد للدرب العام، الذي لن يسمح بالارتداد أو الشكوى. فالصوفي يأمل ـ حد الصدق ـ بما سيجده في الفناء ـ أو بما لا يجده أيضا ً ـ وشبيه بمن تخلى عن أناه لقضية ما بلغت ذروتها في الوجد، والانجذاب حد المحو، إنما هنا تحدث المصالحة بين الكيان ـ كياني برمته ـ وما أراه أصبح شبيها بالملكية: الأشياء ذاتها لا تخفي إلا ما تعلنه، وهذا الذي تعلنه ليس هو الذي كنت أريد أن يكون مجموع الأشياء. إنها ـ اذا ً ـ المحنة وقد غادرت لغزها. فأنا أصبحت علامة مضادة؛ علامة بين علامات، كغريق لا يمتلك إلا أن يحيا حياة ما بعد الغرق: حال صوفي أخذه الوجد حد غياب غيابه. وهي ذاتها اللحظات التي طالما قاومت فيها موتي (المادي) كي أصحو ـ كآخر ـ كف أن يموت.
إن أصابعي تجرجر رفيف رغباتي فأراها تتداخل في وجه، أو في جسد مختزل، أو عبر اللا متوقع وقد أمد في ّ قدرة الموازنة بين المستحيلات والمنجز، وبين الأشكال وما تسترت عليه. فالإحساس الجمعي غدا لا صلة له بعلاقتي مع الآخرين، كما حرر (ذاتي) من قيودها، وغذاني بالتقدم، مرة بعد أخرى، وأنا أكاد امسك بالذي لم يسمح لي أن أعيش خارج انجذابه: أهو الفن، أم هو ما بجواره، أم هو حماية ما، أم الشيء الشبيه بـ (بالشيء)، الذي لن يقارن إلا بالمسافة بين الظل ونوره، أو ـ بمعنى أدق ـ هذا الذي أراه تكوّن عبر غيابي ..وإلا فإنني أكون قد وجدت غواية ما للاندماج .. أي: للعزلة، كالميت وقد عثر على من يرقد بجواره!
• تأملات أثناء العمل ـ وقد سبق أن نشرت حلقات من التجربة تحت عنوان: اختما معاصرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق