ابن رشد.. بين مِحنَةُ الوَعْي.. ووَعْيُ المِحنَة
*إبراهيم الملا
تعتبر المحنة المعرفية والذاتية التي اختبرها المفكر والفيلسوف ابن رشد في أندلس القرن الثاني العشر، مثالاً ساطعاً لما يعانيه الفكر النقدي العربي اليوم من تضييق ومحاصرة وتهميش، خصوصا مع امتلاك فقهاء التفسيق والتبديع والتكفير لسلطة كهنوتية واسعة، وذائبة في ذات الوقت وسط منظومة من التأثيرات الدينية والعقائدية الضاغطة على الوعي الجمعي، والمنتشرة في مجتمعات عربية وإسلامية حائرة في تفسيرها للحداثة، ومنجذبة بقوة أيضا لمخيلتها الماضوية.
سعى ابن رشد في مشروعه التنويري إلى التوفيق بين الحكمة والشريعة، أو بين العقل والدين، من خلال وضع أطر ومفاهيم واضحة ومحددة تفصل الظاهر عن الباطن في مستويات المعرفة والتعاطي مع مفهوم الشريعة، فظاهر الشريعة، كما يراه ابن رشد متاح للعامة وللجمهور، أما باطنها فهو حكر على النخبة من الراسخين في العلم، والقادرين على تأويل النص المقدّس.
وعندما قدم ابن رشد شروحاته الوافية لآراء «أرسطو» سعيا منه للتقريب بين الفلسفة والدين، أو بين العقل والنقل، وعندما صرّح بمذهبه المبني على التنوير العقلي، حاربه المتنفذون من فقهاء عصره، ووجدوا في مقارباته تهديدا لمكانتهم بين العامة ولنفوذهم في البلاط، فأصدروا فتاويهم الظالمة، وأوغروا الصدور الغافلة، وفصّلوا ضدّه التهم الباطلة، فصار عند الناس من المبتدعة الضالين والكفرة، وأحرقت معظم مؤلفاته التي وصلت إلى حدود 50 مؤلفا، وتم نفيه إلى مراكش كي يموت حبيسا في داره في العام 1198 م.
ولد أبو الوليد بن أحمد بن رشد في مدينة قرطبة (1126 م) وسط أسرة أندلسية اشتهرت بالعلم والفقه، وكان جده قاضي الجماعة وإمام مسجد قرطبة، مالكي المذهب، أشعري العقيدة، ومن كبار مستشاري أمراء المرابطين، وحفظ ابن رشد كتاب الموطأ للإمام مالك ودرسه على يد والده الفقيه أبي القاسم، كما درس علوم الطبيعة والطب والفلك، أما اهتماماته المكثفة بالفلسفة اليونانية، وردوده على أبي حامد الغزالي، فكانت بمثابة الانعطافة الجوهرية، والنقطة المفصلية التي أدت إلى شهرته وذيوع اسمه بين الأوساط العلمية والفلسفية في أوروبا القرون الوسطى، حيث زاوج ابن رشد في بحوثه ودراساته تلك بين الفكر الإغريقي والفكر الإسلامي، فظهر فلاسفة كثيرون في أوروبا تتلمذوا عليه من خلال ترجمة تراثه المعرفي. ويرى الكثير من المؤرخين الأجانب أن العرب أهملوا العلوم العقلية بعد وفاة ابن رشد، وكان ذلك من بين العوامل التي أدت إلى انحطاط الحضارة العربية الإسلامية، منذ نهاية القرن الخامس عشر الميلادي وحتى أفول الخلافة العثمانية وسيطرة الاستعمار الغربي على الحواضر العربية المنهكة فكرياً وسياسياً واقتصادياً.
برهن ابن رشد على أن الوحي والعقل لا يتعارضان. وحاول النهوض بالعقل المسلم وتجديده. ووضع خطة لتربية الناشئة تربية عقلية مؤسسة على الإسلام، تحقق معرفة بشرية طبيعية تمكن من فهم قوانين الطبيعة والاقتراب من قوانين الوجود، تحترم العقل وتقدره وتراعي القواعد الشرعية في التفكير والحكم.
يقول ابن رشد في كتابه المشهور (فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال»:(الشريعة قسمان : ظاهر ومؤوَّل، والظاهر منها هو فرض الجمهور، والمؤوَّل هو فرض العلماء».
مضيفاً: «إن مقصود الشارع هو تعليم العلم الحق والعمل الحق. أما العلم الحق فهو الذي ينحصر في معرفة الله تعالى ومعرفة الموجودات على حقيقتها، ومعرفة السعادة والشقاء الأخروي، والعمل الحق هو عمل ما يفيد السعادة ويتجنب ما يفيد الشقاء. وطرق التعليم اثنان، التصور والتصديق. والتصور يكون إما بتصور الشيء نفسه أو مثاله. والتصديق يكون إما بالبرهان أو بالجدل أو بالخطابة».
والناس عند ابن رشد يختلفون بطباعهم. لذلك يرى أن الشرع جاء مشتملا على جميع طرق التعليم هذه حتى يجد كل واحد ما يلائم طبعه واستعداده. فمنهم من يصدق بالبرهان ومنهم من يصدق بالجدل ومنهم من يصدق بالأقاويل الخطابية. وهو ما ترشد إليه الآية الكريمة «ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن».
وكان ابن رشد من المنتصرين للرأي القائل بعدم وجوب العلم بباطن الشرع لمن ليس من أهل العلم به ولا يقدر على فهمه. وفي ذلك يروى عن الإمام علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) أنه قال: «حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يُكذّب الله ورسوله؟».
مشيرا إلى أن من واجب العلماء المربين أن يراعوا قدرات الناس بالاقتصار مع العامة على تعريفهم بظاهر الشرع، وعدم تجاوز ذلك إلى التأويل، وإن كانوا هم في خاصة أنفسهم مطالبين بالبحث عن معناه الباطن لأنهم أهل لذلك قادرون عليه. وخلاف هذه الطرق، كما يقول، تؤدي إلى قلة تقوى الناس وإضعاف إيمانهم ونشر البغض والكراهية والنزاعات بينهم وتفريقهم وتمزيق الشرع.
_______
*الاتحاد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق