المواطنة في العراق
الأستاذ الدكتور
جواد مطر الموسوي *
اشتقت لفظة ( المواطنة) من اسم الفاعل (مواطن) وجذره الثلاثي (وطن ) وهو محل الانسان في مكان ما على وجه البسيطة ، فالأسرة والمحلة والقرية والمدينة والاقليم وطــن .
وهذا الوطن بحاجة الى تنظيم يتمثل بالدولة التي لا يمكن ان تنشأ وتقوم إلا على اساس المواطنة ، فهي جوهر التفاعلات الاجتماعية لتحديد علاقة الفرد بدولته ، وهذه العلاقة تحدد بقانون بين الدولة والمواطنة وحسب العصر الذي تعيش به ، فالتجربة التاريخية تدرس في واقعها وبيئتها ، لذلك لا يمكن ان نضع تعريفاً متكاملاً لمبدأ ( المواطـنة) لأنه مصطلح سياسي حي ومتحركة ضمن الصيرورة التاريخية ، ومع ذلك يمكن القول ( المشاركة بحرية واعية وبأثر فعال في بناء الدولة بقانون بعيد عن انتهاك حقوق الانسان ) .
يعتقد الكثير من الباحثين ان مبدأ ( المواطنة Citizenship ) بدأ من اليونان وبالذات مدينة ( اثينا) في القرن الخامس قبل الميلاد وانتشر بعد ذلك .
لكن الحقيقة التاريخية تُثبت ان ( المواطنة ) بصفتها مبدأ ممارسة قد مارسه العراقيون القدماء منذ بزوغ الحضارة عندهم ، وهم اول من علٌّم البشرية بفخر معنى( المواطنة ) واحترام ( حقوق الانسان ) لايأخذ هذا المبدأ البعد الانساني في مساهمات الحضارات البشرية الاخرى بصياغته ووضوحه وتنظيمه عبر مسيرتها من القرون السحيقة حتى الوقت الحاضر .
فقد ذكر المرحوم ( طـه باقر) في ( مقدمته) إنـنا لا نجافي الحقيقة إذا قلنا ( أنَّ حضارة وادي الرافدين تفرَّدت بأول ظهور لنظام دولة المدينةCity States على أنه شكل من اشكال الحكم في التاريخ البشري ) .
ومن المرجح جداً أنَّ اصول هذا النظام ترجع الى ظهور اول قرية زراعية في الاهوار في الالف الخامس قبل الميلاد تطورت في الالف الرابع بظهور المدن والعمران الحضاري ( (Urbanizationلازمه تتدرج للحاكم المنتخب من ( اين ( En و( انسي Ensi) ثم ( لوكَال Lugal ) .
وان المثير للأنتباه ان الولاء القبلي منذ عصور ما قبل التاريخ (Pre history) قد ضعف بصورة واضحة ولا سيما في عصر المدينة العراقية (Early Dynastic) والسبب اعتماد المدينة على الاقتصاد الزراعي والري والتجارة ، فنشأت في المدينة مجالس مدينة جاء ذكرها في اللغة السومرية مثل مجلس ( اوكن Ukin) ، وفي اللغة الاكدية مجلس ( بوفرم Pukhrum ) ومشيخة المدينة ( شيبوت آلم Shiput alim ) .
بعد ذلك قننت العلاقة بين الفرد والدولة فقد عثر على اقدم قانون في العالم ، وربما قبله قوانين عراقية اخرى لم تصل إلينا ، لأن هذا القانون كان على درجة عالية من النضج وهو قانون ( أور- نمو ) ( 2113 ـ 2096 ق.م) ، ثم قانون ( لبت عشتار ) وقانون( اشنونا ) ثم قانون ( حمورابي) ( 1792ـ 1750 ق.م) ثم القوانين الاشورية .
وقد اطلق الآثاري الاوربي ( آي.آي سبيزر ) على هذه القوانين بأنها ( لائحة لحقوق الانسان ) ، لأنها حجر العقد في كثير من الوجوه في البنية الثقافية في بلاد وادي الرافدين .. فهي التي ترشد الحاكم وتحمي الرعية .. حتى ولو اصبح الملك رئيس امبراطورية واسعة ، فإنه يظل خادم القوانين ، وليس مصدرها ، ويكون مسؤولاً امام الآلهة من اجل تطبيقه ، إنَّ مثل هذه الحماية الألهية الضامنة لحقوق المواطنة الحيوية والاساسية ، وقد تعني الكثير للمواطن الاعتيادي ، فإنها نعمة ما بعدها نعمة ، هذا يعني ان السمة الاساسية للمجتمع هي الاحترام العميق لحقوق المواطنة ، فالملك العراقي لم يكن ملكاً خارقاً مثل الملك الفرعوني .
فكان الملك العراقي يعتمد على رعاية الآلهة وموافقة( مجلس الشيوخ ) وهذا التأكيد على الشورى ، وموافقة المجلس ظاهرة للعيان في معظم تاريخ بلاد وادي الرافدين ، وإن السلطة التمثيلية هي الاساس وليس الاستبدادية ، وهذه السمة الديمقراطية حَملت منافعها الى الكثير من البلدان .
والصورة تتجلى بوضوح في الميثولوجية العراقية فالمائدة الالهية التي عقدها الاله ( مردوخ ) لأخذ رأي مجلس الالهة بالأجماع لغرض محاربة قوى الشر الذي تقوده آلهة الدمار ( تيامة ) ، وهذا انعكاس لما يحدث في المجتمع السومري من عقد المجالس والمناقشات والانتخاب الحر ، ومن دور واضح للمواطن ، لأن الآلهة السومرية تحمل الصفة نفسها التي يحملها الانسان السومري ماعدا الموت فهي خالدة .
وفي هذا المجال طرح ( جاكوبسن Jacobsen ) نظرية ( الديمقراطية البدائية في العراق القديم ) التي لم تفند الى حد الآن بل عُدّلت بعض الشيء وفحواها ( كما لخصها الاستاذ الدكتور عامر سليمان ) استاذ الآثار القديمة جامعة الموصل :( ان اولى الانظمة السياسية التي ظهرت في العراق اتسمت بالديمقراطية البدائية Primitive Democracy ) .
كانت السلطة العليا في المدينة بيد مجلس عام يضم جميع المواطنين ( النساء والرجال ) يجتمعوا ويقرروا عمله في الحالات الطارئة ، وكان لكل مواطن من المدينة حق الكلام لكن كانت هناك امتيازات للرجال المسنين .
وهذا دليل لإحترام الخبرة والعمر للذين الّفوا ما يشبه مجلس الشيوخ دخل المجلس العام وكان النقاش يستمر حتى يتم التوصل الى قرار نهائي وبالإجماع وتتولى مجموعة اخرى تدعى ( مُشرّعي القانون ) بإعلان القرار النهائي وكان من بين القرارات التي يتخذها المجلس بإستمرار هو اختيار من يكون مسؤولاً عن شؤون المدينة ( الاين En ) ، وكانت سلطاته محدودة ومقيدة بالصلاحيات المخولة له من قبل المجلس العام ، فهو يرجع الى المسنين لأخذ استشارتهم اولاً ثم يُعقد المجلس العام لطرح الموضوع عليه وهذا واضح في ملحمة( كَلكَامش)
فكانت سلطة كَلكَامش حاكم الوركاء بيد مجلس المدينة العام .
واستمرار الحال في العصر البابلي القديم ( 2000ـ 1595ق.م) حيث نجد في كل مدينة بابلية مجلس يضم المسنين للنظر في القضايا التي يحيلها الملك عليها .
وفي العصر الآشوري القديم ( 2000-1500ق.م) ، وفي اقليم (كبدوكيا ) مجلس للتجار الآشوريين ينظر في القضايا ذات العلاقة بتنظيم حياة التجار .
كما ان الملوك الذين جاءوا بالقوة الى الحكم لم ينفكوا ان يتمسكوا بالنظام الديمقراطي البدائي وبإحترام المواطنة ، وبإدعائهم أنهم جاؤا الى الحكم نتيجة انتخاب الآلهة لهم من بين جموع البشر .
وفي التاريخ العربي قبل الاسلام ، نجد "حلف الفضول " افضل انموذج عن مبدأ (المواطنة ) وهي المعاهدة التي اتفق عليها اهل مكة وطبقوها في الواقع على احترام كل الانتماءات ونصرة المظلوم ، لحماية الافراد من اي اظطهاد او قمع او ايذاء يتعلق بجنسهم او افكارهم او معتقداتهم .
وعلى الرغم من ان مفهوم ( الوطن ) في الاسلام محله مفهوم ( الامة الاسلامية ) لكن هناك محاولة لإحترام ( المواطنة ) منها: صحيفة الرسول الكريم ( صلّى الله عليه وآله وسلَّم ) في المدينة ( يثرب) ، التي قبلت ( الشراكة في الوطن ) بين المسلمين وغير المسلمين ، وكذلك ( صلح الحديبية ) الذي ساوى بين الافراد من حيث القوة والتأثير .
وفي الفكر الاسلامي نجد مباديء المواطنة موجودة بصورة واضحة ، منها: العدالة ( إنَّ أكرَمَكُم عندَ الله أتقاكُم ) و( الناس سَواسِيه كَأسنان المِشط) والتَكافؤ في الفـرص ( لافَرقَ بَينَ عَرَبيّ وأعجَمي إلا بالتقوى) والمشاركة فـي الحكـم
( مَن رَآى منكُم مُنكَراً فَليُغَيرهُ ) استمر الحال حتى العصر الاموي ، عندما حدثت قطيعة واضحة وتراجع عن مباديء ( المواطنة ) وحكم الجماعة والانتقال الى سلطة فردية وراثية ، الــى الحكم العثماني فأول استخدام للفظة ( وطـن ) عام ( 1839م) كما ذكر الدكتور ( قيس العزاوي ) في فرمان سلطاني هو خـط
( كلخانة) حيث ورد مصطلح ( الوطن ) في موقعين : الاول: عندما تحدث الخط عن الانسان العثماني الذي ( تتزايد غيرته يوماً بعد يوم على دولته وملَّته ومحبته لوطنه) ، والثاني : عندما اعتبر مهمة الجيش هي ( المحافظة على الوطن ) .
ومنذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة سنة( 1921م) وتولي انظمة حكم متعددة حتى سقوط آخرها سنة( 2003م) تعرض مبدأ ( المواطنة ) الى تهميش وضياع واضح ، وكان ذلك اشد الاخفاق الذي منيت به هذه الانظمة ، وكان ذلك على حساب الدولة ، وانهارت ( المواطنة ) نهائياً في النظام البائد الاخير مقابل الفرد والحزب الواحد فلم يكن هناك ( وطن) حتى تكون هناك (مواطنة ) فكان العراقي دائم التفتيش عن ( وطن ) آخر .
وبالمقابل حاول النظام ، الإخلال بالنسيج الوطني الاجتماعي ، وليس هذا فقط بل اهمل ( الوطن العراقي ) لصالح اوطان مفترضة لا وجود لها اصلاً من قبيل الوطن القومي والوطن الاسلامي ...
وزاد الطين بلة لهذه الدولة العراقية الحديثة بالسماح للطروحات الخارجية ان تحتل حيزاً واضحا في الثقافة والوعي الجمعي ، فأصبح الواقع مخترقاً ومهجناً ، وبذلك اصبح الطريق للأنقسام سهلاً .
وبعد سقوط النظام شيع مبدأ ( المواطنة ) الى مثواه الاخير علـى مقصلة
المحاصصة الطائفية لكنه بقي حياً في قلوب الخيرين من ابناء هذا الوطن الغالي
الذي هو فوق كل شيء ، والخيرون عليهم بناء منظومة وطنية جديدة من الواقع وثقافته الحرة ، للوليد الجديد ( المواطنة ) لضمان سلامة مجتمع رائع ودولة معافاة ووطن كبير بتاريخه .
* كاتب ومؤرخ أكاديمي
profalmosawi@yahoo.com
الأستاذ الدكتور
جواد مطر الموسوي *
اشتقت لفظة ( المواطنة) من اسم الفاعل (مواطن) وجذره الثلاثي (وطن ) وهو محل الانسان في مكان ما على وجه البسيطة ، فالأسرة والمحلة والقرية والمدينة والاقليم وطــن .
وهذا الوطن بحاجة الى تنظيم يتمثل بالدولة التي لا يمكن ان تنشأ وتقوم إلا على اساس المواطنة ، فهي جوهر التفاعلات الاجتماعية لتحديد علاقة الفرد بدولته ، وهذه العلاقة تحدد بقانون بين الدولة والمواطنة وحسب العصر الذي تعيش به ، فالتجربة التاريخية تدرس في واقعها وبيئتها ، لذلك لا يمكن ان نضع تعريفاً متكاملاً لمبدأ ( المواطـنة) لأنه مصطلح سياسي حي ومتحركة ضمن الصيرورة التاريخية ، ومع ذلك يمكن القول ( المشاركة بحرية واعية وبأثر فعال في بناء الدولة بقانون بعيد عن انتهاك حقوق الانسان ) .
يعتقد الكثير من الباحثين ان مبدأ ( المواطنة Citizenship ) بدأ من اليونان وبالذات مدينة ( اثينا) في القرن الخامس قبل الميلاد وانتشر بعد ذلك .
لكن الحقيقة التاريخية تُثبت ان ( المواطنة ) بصفتها مبدأ ممارسة قد مارسه العراقيون القدماء منذ بزوغ الحضارة عندهم ، وهم اول من علٌّم البشرية بفخر معنى( المواطنة ) واحترام ( حقوق الانسان ) لايأخذ هذا المبدأ البعد الانساني في مساهمات الحضارات البشرية الاخرى بصياغته ووضوحه وتنظيمه عبر مسيرتها من القرون السحيقة حتى الوقت الحاضر .
فقد ذكر المرحوم ( طـه باقر) في ( مقدمته) إنـنا لا نجافي الحقيقة إذا قلنا ( أنَّ حضارة وادي الرافدين تفرَّدت بأول ظهور لنظام دولة المدينةCity States على أنه شكل من اشكال الحكم في التاريخ البشري ) .
ومن المرجح جداً أنَّ اصول هذا النظام ترجع الى ظهور اول قرية زراعية في الاهوار في الالف الخامس قبل الميلاد تطورت في الالف الرابع بظهور المدن والعمران الحضاري ( (Urbanizationلازمه تتدرج للحاكم المنتخب من ( اين ( En و( انسي Ensi) ثم ( لوكَال Lugal ) .
وان المثير للأنتباه ان الولاء القبلي منذ عصور ما قبل التاريخ (Pre history) قد ضعف بصورة واضحة ولا سيما في عصر المدينة العراقية (Early Dynastic) والسبب اعتماد المدينة على الاقتصاد الزراعي والري والتجارة ، فنشأت في المدينة مجالس مدينة جاء ذكرها في اللغة السومرية مثل مجلس ( اوكن Ukin) ، وفي اللغة الاكدية مجلس ( بوفرم Pukhrum ) ومشيخة المدينة ( شيبوت آلم Shiput alim ) .
بعد ذلك قننت العلاقة بين الفرد والدولة فقد عثر على اقدم قانون في العالم ، وربما قبله قوانين عراقية اخرى لم تصل إلينا ، لأن هذا القانون كان على درجة عالية من النضج وهو قانون ( أور- نمو ) ( 2113 ـ 2096 ق.م) ، ثم قانون ( لبت عشتار ) وقانون( اشنونا ) ثم قانون ( حمورابي) ( 1792ـ 1750 ق.م) ثم القوانين الاشورية .
وقد اطلق الآثاري الاوربي ( آي.آي سبيزر ) على هذه القوانين بأنها ( لائحة لحقوق الانسان ) ، لأنها حجر العقد في كثير من الوجوه في البنية الثقافية في بلاد وادي الرافدين .. فهي التي ترشد الحاكم وتحمي الرعية .. حتى ولو اصبح الملك رئيس امبراطورية واسعة ، فإنه يظل خادم القوانين ، وليس مصدرها ، ويكون مسؤولاً امام الآلهة من اجل تطبيقه ، إنَّ مثل هذه الحماية الألهية الضامنة لحقوق المواطنة الحيوية والاساسية ، وقد تعني الكثير للمواطن الاعتيادي ، فإنها نعمة ما بعدها نعمة ، هذا يعني ان السمة الاساسية للمجتمع هي الاحترام العميق لحقوق المواطنة ، فالملك العراقي لم يكن ملكاً خارقاً مثل الملك الفرعوني .
فكان الملك العراقي يعتمد على رعاية الآلهة وموافقة( مجلس الشيوخ ) وهذا التأكيد على الشورى ، وموافقة المجلس ظاهرة للعيان في معظم تاريخ بلاد وادي الرافدين ، وإن السلطة التمثيلية هي الاساس وليس الاستبدادية ، وهذه السمة الديمقراطية حَملت منافعها الى الكثير من البلدان .
والصورة تتجلى بوضوح في الميثولوجية العراقية فالمائدة الالهية التي عقدها الاله ( مردوخ ) لأخذ رأي مجلس الالهة بالأجماع لغرض محاربة قوى الشر الذي تقوده آلهة الدمار ( تيامة ) ، وهذا انعكاس لما يحدث في المجتمع السومري من عقد المجالس والمناقشات والانتخاب الحر ، ومن دور واضح للمواطن ، لأن الآلهة السومرية تحمل الصفة نفسها التي يحملها الانسان السومري ماعدا الموت فهي خالدة .
وفي هذا المجال طرح ( جاكوبسن Jacobsen ) نظرية ( الديمقراطية البدائية في العراق القديم ) التي لم تفند الى حد الآن بل عُدّلت بعض الشيء وفحواها ( كما لخصها الاستاذ الدكتور عامر سليمان ) استاذ الآثار القديمة جامعة الموصل :( ان اولى الانظمة السياسية التي ظهرت في العراق اتسمت بالديمقراطية البدائية Primitive Democracy ) .
كانت السلطة العليا في المدينة بيد مجلس عام يضم جميع المواطنين ( النساء والرجال ) يجتمعوا ويقرروا عمله في الحالات الطارئة ، وكان لكل مواطن من المدينة حق الكلام لكن كانت هناك امتيازات للرجال المسنين .
وهذا دليل لإحترام الخبرة والعمر للذين الّفوا ما يشبه مجلس الشيوخ دخل المجلس العام وكان النقاش يستمر حتى يتم التوصل الى قرار نهائي وبالإجماع وتتولى مجموعة اخرى تدعى ( مُشرّعي القانون ) بإعلان القرار النهائي وكان من بين القرارات التي يتخذها المجلس بإستمرار هو اختيار من يكون مسؤولاً عن شؤون المدينة ( الاين En ) ، وكانت سلطاته محدودة ومقيدة بالصلاحيات المخولة له من قبل المجلس العام ، فهو يرجع الى المسنين لأخذ استشارتهم اولاً ثم يُعقد المجلس العام لطرح الموضوع عليه وهذا واضح في ملحمة( كَلكَامش)
فكانت سلطة كَلكَامش حاكم الوركاء بيد مجلس المدينة العام .
واستمرار الحال في العصر البابلي القديم ( 2000ـ 1595ق.م) حيث نجد في كل مدينة بابلية مجلس يضم المسنين للنظر في القضايا التي يحيلها الملك عليها .
وفي العصر الآشوري القديم ( 2000-1500ق.م) ، وفي اقليم (كبدوكيا ) مجلس للتجار الآشوريين ينظر في القضايا ذات العلاقة بتنظيم حياة التجار .
كما ان الملوك الذين جاءوا بالقوة الى الحكم لم ينفكوا ان يتمسكوا بالنظام الديمقراطي البدائي وبإحترام المواطنة ، وبإدعائهم أنهم جاؤا الى الحكم نتيجة انتخاب الآلهة لهم من بين جموع البشر .
وفي التاريخ العربي قبل الاسلام ، نجد "حلف الفضول " افضل انموذج عن مبدأ (المواطنة ) وهي المعاهدة التي اتفق عليها اهل مكة وطبقوها في الواقع على احترام كل الانتماءات ونصرة المظلوم ، لحماية الافراد من اي اظطهاد او قمع او ايذاء يتعلق بجنسهم او افكارهم او معتقداتهم .
وعلى الرغم من ان مفهوم ( الوطن ) في الاسلام محله مفهوم ( الامة الاسلامية ) لكن هناك محاولة لإحترام ( المواطنة ) منها: صحيفة الرسول الكريم ( صلّى الله عليه وآله وسلَّم ) في المدينة ( يثرب) ، التي قبلت ( الشراكة في الوطن ) بين المسلمين وغير المسلمين ، وكذلك ( صلح الحديبية ) الذي ساوى بين الافراد من حيث القوة والتأثير .
وفي الفكر الاسلامي نجد مباديء المواطنة موجودة بصورة واضحة ، منها: العدالة ( إنَّ أكرَمَكُم عندَ الله أتقاكُم ) و( الناس سَواسِيه كَأسنان المِشط) والتَكافؤ في الفـرص ( لافَرقَ بَينَ عَرَبيّ وأعجَمي إلا بالتقوى) والمشاركة فـي الحكـم
( مَن رَآى منكُم مُنكَراً فَليُغَيرهُ ) استمر الحال حتى العصر الاموي ، عندما حدثت قطيعة واضحة وتراجع عن مباديء ( المواطنة ) وحكم الجماعة والانتقال الى سلطة فردية وراثية ، الــى الحكم العثماني فأول استخدام للفظة ( وطـن ) عام ( 1839م) كما ذكر الدكتور ( قيس العزاوي ) في فرمان سلطاني هو خـط
( كلخانة) حيث ورد مصطلح ( الوطن ) في موقعين : الاول: عندما تحدث الخط عن الانسان العثماني الذي ( تتزايد غيرته يوماً بعد يوم على دولته وملَّته ومحبته لوطنه) ، والثاني : عندما اعتبر مهمة الجيش هي ( المحافظة على الوطن ) .
ومنذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة سنة( 1921م) وتولي انظمة حكم متعددة حتى سقوط آخرها سنة( 2003م) تعرض مبدأ ( المواطنة ) الى تهميش وضياع واضح ، وكان ذلك اشد الاخفاق الذي منيت به هذه الانظمة ، وكان ذلك على حساب الدولة ، وانهارت ( المواطنة ) نهائياً في النظام البائد الاخير مقابل الفرد والحزب الواحد فلم يكن هناك ( وطن) حتى تكون هناك (مواطنة ) فكان العراقي دائم التفتيش عن ( وطن ) آخر .
وبالمقابل حاول النظام ، الإخلال بالنسيج الوطني الاجتماعي ، وليس هذا فقط بل اهمل ( الوطن العراقي ) لصالح اوطان مفترضة لا وجود لها اصلاً من قبيل الوطن القومي والوطن الاسلامي ...
وزاد الطين بلة لهذه الدولة العراقية الحديثة بالسماح للطروحات الخارجية ان تحتل حيزاً واضحا في الثقافة والوعي الجمعي ، فأصبح الواقع مخترقاً ومهجناً ، وبذلك اصبح الطريق للأنقسام سهلاً .
وبعد سقوط النظام شيع مبدأ ( المواطنة ) الى مثواه الاخير علـى مقصلة
المحاصصة الطائفية لكنه بقي حياً في قلوب الخيرين من ابناء هذا الوطن الغالي
الذي هو فوق كل شيء ، والخيرون عليهم بناء منظومة وطنية جديدة من الواقع وثقافته الحرة ، للوليد الجديد ( المواطنة ) لضمان سلامة مجتمع رائع ودولة معافاة ووطن كبير بتاريخه .
* كاتب ومؤرخ أكاديمي
profalmosawi@yahoo.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق