بحث هذه المدونة الإلكترونية

مرات مشاهدة الصفحة في الشهر الماضي

السبت، 25 يونيو 2016

حكاية فيل شارد الذهن-عادل كامل

قصة قصيرة


حكاية فيل شارد الذهن

إلى زكريا تامر

عادل كامل
    وجد الفيل العجوز نظره تائها ً، فلم يعد يتذكر ـ إلا بصعوبة ـ انه ولد في حديقة أخرى، من ثم وجد نفسه يتنزه في الغابات، مع قطيع من الفيلة، عبر سهول شاسعة،      بعدها أعيد بقفص كبير ليتدرب على الرقص، والحركات البهلوانية، بعدها وجد مصيره خارج الخدمة، لينقل، مع عدد من التماسيح، والضباع، والسباع، والقردة، إلى مكان لم يعتد الإقامة فيه ـ لشدة ارتفاع درجات الحرارة وكثافة الهواء المشبع بالغبار والملوثات ـ إلا بمرور الوقت.
      نظر الفيل إلى هيئته في مرآة ماء البركة، عند الفجر، ليجد قربه جسدا ً مكورا ً يربض بمحاذاة الضفة، فاقترب منه، فرفع الأخير رأسه، ومن غير مقدمات، ناوله قنينة خمر، شربها الفيل، من غير تردد، أو اعتراض، كي يشعر بحرقة لذيذة لاذعة سمحت له أن يقترب من الرجل، ويتمدد بجواره، وهو يحدق في عينيه. فسأله الرجل:
ـ ما الذي يشغلك...؟
ـ آ ....، القصة طويلة لدرجة من المستحيل اختزالها...، فانا ـ اليوم ـ وجدت أنني لا استطيع التخلي عن خرطومي هذا...، ولا عن انفي...، ولا عن أي قدم من أقدامي الثقيلة، لا استطيع أن استبدل وجودي بوجود آخر، كأن أصير طيرا ً، أو سمكة، أو غزالا ً...، أو ...، ثم منحوني اسما ً: الدب العنيد! وكما تراني أنا لست دبا ً، ولا حمارا ً، ولا هدهدا ً أيضا ً، ولكني بدأت أصير فيلا ً أليفا ً، رقيقا ً، بل شفافا ً، فرقصت في السيرك عقود طويلة من الزمن...، زرت خلالها أوربا وأفريقيا واسيا وبلدان أخرى اجهل أسمائها...، حزت على جوائز كثيرة...، ثم فجأة نقلوني إلى هذه الحديقة...، لأجد أنني صرت وحيدا ً...، متعبا ً، منهكا ً، فرحت أفكر بأسئلة غامضة بالغة الالتباس: فانا  لم اختر فصيل دمي ولا لوني، لا جلدي ولا عظامي، لا أمراضي ولا مشاعري، لا حجمي ولا ذيلي هذا النحيل القصير...، وأنا لم اختر هذا المكان الذي لا استطيع مغادرته أبدا ً...، وقالوا لي: تمتع!
   ضحك الرجل:
ـ هل سكرت؟!
  رد الفيل بصوت واهن:
ـ لو كنت انتمي إلى نوعكم، يا سيدي، لكنت شربت حد الموت!
ـ آ .....، أنت تعاني من الكآبة، ومن الشرود، بسبب الحزن...، وربما تشعر انك لست أنت كما حلمت أن تكون!
فسأله بتعجب:
ـ ما أدراك؟
ـ أنا أيضا ً قصتي لا يمكن اختزالها برجل ينوي أن يموت..، هنا، بهدوء أمام الماء....، في هذا الفجر الأغبر.
ـ كلانا إذا ً يمتلك أسبابا ً لا تدعه إلا أن يجعل منها أسبابا ً مغايرة...، لكنهم يقولون لنا: تمتعوا!
أجاب الرجل:
ـ أنا عمليا ً لا يعنيني أمر هذه الدنيا، إن كانت تمتلك خطة عميقة شبيهة بنظرية المؤامرة أم لا ...، ولا يعنيني كيف بدأت وكيف ستنتهي ...
  وسكت بغتة. فسأله الفيل بشغف:
ـ ماذا يعنيك إذا ً...، مما جعلك تنوي الانتحار...، هنا، معي، في هذا الفجر؟
  فسأل الرجل الفيل:
ـ  وهل كنت تنوي التخلص من حياتك، هذه التي يقولون إنها: لا تقدر بثمن...؟
ـ لا! بل حياتي هي التي بلغت ذروتها، ولا تريد الإقامة معي!
ـ آ ....، يا صديقي، لا أنت تستطيع أن تساعدني على اجتياز محنتي، ولا أنا استطيع أن أخبرك، انك، مهما عشت، فان جسدك هذا سيصبح خارج الخدمة! لأن حياتك، وحياتي،  لا قيمة لهما إلا بحمل ما لا يحتمل من الأوزار، الآثام، الآلام، والذنوب!
  لم يدعه يكمل:
ـ أنا طردوني من السيرك، تخيل، لم اعد صالحا ً حتى للرقص، مع الكلاب والأرانب!
   بكى الرجل، وشرب حتى لم يبق قطرة خمر واحدة في الزجاجة، وقال للفيل:
ـ أنا ـ مثلك تماما ً ـ لم يتركوا لي إلا أن أدرك إنني خلقت فائضا ً!
ـ غريب...، غريب، لأنني تخيلتكم، أيها البشر، اقل لوعة منا.
   انفجر الرجل ضاحكا ً:
ـ أنا لا اعرف من منا كان فائضا ً عن الآخر!
قرب الفيل رأسه منه، هامسا ً:
ـ لا احد!  فأنت الآن أصبحت الهواء الذي أتنفسه، بل أنت العطر الذي أصبحت استنشقه أيضا ً! أنت عفني!
ـ أنا أيضا ً اشعر أن القدر لم يحرمني من التعرف على كائن أكثر تعاسة مني!
     سمعوا لغطا ً يأتي من وراء الأشجار، فتبين انه موكب سعادة المدير، محاطا ً بالحرس الخاص، تسبقه جوقة موسيقية، وأعلام ترفرف، ودابات تدّب تفسح الدرب الذي سيجتازه المدير، نحو البركة.
   اقترب زعيم الجرذان، وأمر الفيل بأداء التحية، بعد أن كان الرجل قد توارى.
فقال الفيل:
ـ وهل ارتكبت زلة، أو عصيت أمرا ً...، أو  شطحت..؟
رد الجرذ غاضبا ً:
ـ  أراك شارد الذهن...، فهل أنت مريض؟
 قرب الفيل رأسه من كبير الجرذان:
ـ لا!  لست مصابا ً، ولست مريضا ً...، ولكنني خرجت ـ في هذا الفجر ـ انوي أن أتأمل حياتي، فنظرت  إليها، مرسومة فوق سطح ماء هذه البركة، والآن أفقت!
ـ وماذا رأيت...؟
ـ لم ْ أر إلا ظلي...، فعقدت صداقه معه...، في الماء، فراح يسرد لي قصة حياته، وأنا، بدوري، رحت اروي له روايتي، ولكن بحضوركم، سيدي، لم اعد أراه، ولم يعد يراني! فلا اعرف من منا سبق الآخر وغاب!
   لم يطلب الجرذ من الفيل الرقص، أو الهتاف بحياة سعادة المدير، لأنه، رآه يقف أمامه، بجوار سلاسل من التماثيل، وقد ترك خرطومه يتدلى، امتنانا ً أو تذمرا ً لمثل هذه الزيارة، في فجر يوم اشتدت فيه درجات الحرارة بالارتفاع، قبل أن تبلغ ذروتها.
21/6/2016

Az4445363@gmail.com

ليست هناك تعليقات: