الأحد، 5 يونيو 2016

إزرا باوند.. العبقري المجنون-* نصر عبدالرحمن

إزرا باوند.. العبقري المجنون

* نصر عبدالرحمن


أهدى «تي إس إليوت» ديوانه الشهير «الأرض الخراب» إلى «إزرا باوند»، ووصفه بالمُعلم الأكبر، اعترافاً بدوره في تنقيح تلك القصيدة الملحمية الطويلة. ومن الغريب أن إليوت أصبح أهم شعراء القرن العشرين، وحصل على مكانة أدبية واجتماعية لم يحصل عليها شاعر آخر، بينما كاد النسيان يطوي باوند وأعماله شديدة التنوع والثراء، رغم دوره المحوري في تطوير الحركة الشعرية في النصف الأول من القرن العشرين، وأثره الكبير على تطور الشعر الحديث، وتأثيره العميق والمباشر على مجموعة من أشهر مُعاصريه من الشعراء.
ترك باوند أثرا كبيرا في ويليام كارلوس ويليام؛ رائد الشعر الأمريكي في النصف الأول من القرن العشرين، وروبرت فروست وغيرهم من عمالقة الشعر الأمريكي بعد ذلك. لم يقتصر تأثيره على الشعراء فقط، بل إنه أثر في العديد من الأدباء، من بينهم أسطورة السرد جيمس جويس، والروائي الأمريكي الكبير أرنست هيمنجواي، الذي اعترف بعد ذلك بأن باوند قدمه إلى العديد من مُبدعي أوروبا، وأطلعه على الكثير من الأعمال الأدبية المهمة حين التقى به في باريس، ووجه إليه نصائح ذهبية ساهمت في تشكيل أسلوبه في الكتابة ورؤيته للحياة.
يكمن السر وراء ما تعرض له باوند من حالة إنكار مُتعمد إلى كراهيته الشديدة للولايات المتحدة الأمريكية وللحركة الصهيونية، وإلى تركيبته الشخصية التي اتسمت بالتمرد ورفض الانصياع إلى المؤسسات السياسية والاجتماعية، واستهانته بالقيم الاجتماعية الراسخة. ولد باوند في ولاية «آيداهو» بالولايات المتحدة الأمريكية عام 1885. التحق بجامعة بنسلفينيا، ودرس الأدب المقارن عام 1900، ولكنه لم يتمكن من التأقلم مع المجتمع الأمريكي ولم يتأقلم مع الوسط الجامعي لرغبته المُتأصلة في التميز والتفرد. كان أول صدام له مع مؤسسة الجامعة؛ وأدى في النهاية إلى فصله، مما جعله يسخط على أمريكا، ويقرر أن يهجرها ويعيش في أوروبا عام 1908. اتجه في البداية إلى إيطاليا، لكنه غادرها بعد عدة شهور واستقر في بريطانيا، حيث عمل سكرتيراً لدى الشاعر الإنجليزي الكبير «ويليام باتلر ييتس»، وأصبح صديقه المُقرب، وتزوج ابنة زوجته «دورثي شكسبير». وفي تلك الفترة، تعلم اللغة اليابانية وبدأ يُترجم عيون الشعر الياباني إلى الإنجليزية، وتأثر بنزعته الغنائية وكثافته وقدرته على التصوير. واصل باوند التعرف على أدب وفلسفة الشرق الأقصى، وتأثر بفلسفة كونفوشيوس وبتراث الهند المتنوع والثري. ويجب الإشارة هنا إلى أن جهوده في التعرف على الشرق كانت امتداداً للحركة الرومانسية في نهاية القرن التاسع عشر، والتي سعت إلى استكشاف حضارات الشرق وفلسفاته، وسافر شعراؤها إلى مصر والهند والشرق الأقصى.

ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى، وما أدت إليه من تأثيرات عالمية ضخمة على المستويات الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية، ظهرت ضرورة مُلحة لتطوير الشعر حتى يستطيع التعبير عن الواقع الجديد. قرر باوند أن هناك حاجة إلى شكل جديد للقصيدة، وأسلوباً مُختلفاً لتناول العالم، وساهم بكتاباته النقدية في تأسيس الحركة التصويرية التي تتسم بالكثافة الشديدة والابتعاد عن الرطانة اللغوية واستبعاد أي لفظ لا يخدم القصيدة، والتركيز على قوة الصورة الشعرية كبديل لسطوة الإيقاع، والاهتمام الشديد بعناصر الطبيعة في علاقتها بالإنسان، ولكن دون الاستغراق في الرمز. نشر باوند مقالاً عام 1913 بعنوان «بعض المُحرمات في الشعر»، أشار فيه إلى تلك الرؤية، ووجه نصائحه للشعراء الشباب بضرورة الوقوف على المُنجز الشعري السابق والاعتراف بفضلهم دون التماهي معهم. كما حذر الشعراء من المجاز واعتبره العدو الأول للشعر، وطالبهم بالحرص على رسم صور شعرية جديدة وراقية، كما حذرهم من خطورة الانسياق خلف الإيقاع، وضرورة كسر رتابة القافية. لقد حاول تخليص الشعر من كل ما يُثقله، ووضع الخطوط الأولى للحداثة في هذا المقال الذي اهتم به الشعراء في الولايات المتحدة وبريطانيا على حد سواء. كان باوند أول من يكتب الشعر الحر ويتخلص من سطوة الوزن والقافية على القصيدة. بدأ تطبيق وجهة نظره في ديوانه «الأناشيد»، الديوان الذي ظل يكتبه منذ 1917 حتى 1969. 
هذا إلى جانب أنه كان حاضراً وبقوة في تأسيس الحركات والجماعات الشعرية والفنية التالية، مثل الدادائية، والسريالية؛ وكان محوراً لكل الحركات الأدبية التي أسهمت في تطوير الشعر والفن. وفي عام 1920، قرر أن ينتقل إلى باريس، ويعيش حياة بوهيمية، وأصبحت شقته الصغيرة مكاناً لالتقاء كبار مثقفي وأدباء فرنسا من أمثال جان كوكتو، وأندريه بريتون. لقد كان باوند حالة نادرة، تشبه إعصاراً من الفن والمعرفة، لم يفلت من تأثيره أي من مُعاصريه سواء في أوروبا أو في الولايات المتحدة، وليس من المُبالغة القول إنه أهم من عملوا على تطوير الشعر، بل والفن بوجه عام، في النصف الأول من القرن العشرين. 
كان باوند غريب الأطوار بالنسبة للآخرين، ونادراً ما كان يشعر بالراحة والانسجام إلا مع مجانين الفن، وعاش فترة طويلة من شبابه حياة بوهيمية صاخبة. كان متمرداً ويرفض الخضوع للقواعد، إضافة إلى نرجسيته الشديدة واعتداده بذاته لدرجة أنه قال عن نفسه إنه سيكتب أعظم قصائد كتبها إنسان على وجه الأرض. وحين أصدر مجلة للتعبير عن حركته الشعرية الجديدة أطلق عليها اسم «الأناني». وبالطبع واجه الكثير من المتاعب لأنه كان في حالة عداء مُستمر مع مؤسسات المجتمع؛ وعلى رأسها الكنيسة؛ التي دخل معها في صدام عنيف، وطالب بمصادرتها أموالها وتوزيعها على الشعراء والعلماء لأنهم الأحق بهذه الأموال من أجل تطوير الحياة البشرية. كان موقفه هذا على النقيض من موقف «تي إس إليوت»؛ الذي كان يعتبر نفسه ابناً باراً للكنيسة، وقدمت الكنائس عروضاً لمسرحياته. تمادى باوند في تطرفه، وأقدم على خطوة جنونية حين آمن بالمشروع الفاشي، وسافر إلى إيطاليا ليدعم موسيليني؛ ما أدى إلى حملة عنيفة ضده في غرب أوروبا والولايات المتحدة.
ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية، أصبح باوند مديراً للإذاعة الإيطالية المُوجهة إلى الغرب، وحمل الأثير صوته وهو يهاجم الولايات المُتحدة ويُدافع عن الفاشية والنازية ويُبشر بمشروعهما. أدى هذا إلى اتهامه بالخيانة؛ وثارت حالة من السخط الشديد عليه لدرجة أن المهمة الأولى للقوات الأمريكية التي اجتاحت إيطاليا كانت القبض عليه، بينما كانت المهمة الثانية هي القبض على موسيليني. تمكنت قوات إيطالية موالية للحلفاء من القبض على باوند، وقامت بتسليمه إلى القوات الأمريكية، وبعدها تمت مُحاكمته بتهمة الخيانة العظمى، ولكن غضب المثقفين وضغطهم أدى إلى توقف المُحاكمة وإيداعه في مستشفى للأمراض العقلية لمدة اثني عشر عاماً، خرج بعدها ليسافر إلى إيطاليا ويعيش هناك في عُزلة حتى وفاته عام 1972.

اعترف باوند في شيخوخته بأنه أخطأ بنسبة كبيرة في دعم الفاشية، لكنه تمسك بموقفه الرافض للحركة الصهيونية، والمُعادي للولايات المتحدة، التي وصفها بأنها مستشفى كبير للأمراض العقلية، وأن شعبها يعبد الدولار. هذا هو السر وراء عدم قبول اعتذاره وفرض طوق من العزلة والتجاهل حوله، وعرقلة أي محاولة لتكريمه أو الاحتفاء به وبدوره كواحد من أهم شعراء القرن العشرين، إن لم يكن أهمهم على الإطلاق.
________
*الخليج الثقافي


التاريخ : 2016/05/29 04:45:27


ليست هناك تعليقات: