متابعات نقدية
لماذا أوقفتُ مجلة «فراديس»؟
عبد القادر الجنابي
في الطريق المعبَّد
بعدما اختتمتُ العدد الرابع والأخير من مجلة «النقطة» بعبارة لكاهن فرعوني قديم: «ألا ليتني أجد ألفاظاً لم يعرفها الناس وعباراتٍ وأقوالاً للغة جديدة لم ينقض عهدها، لا في ما تلوكه الألسن... أقوال لم تصبح تافهة مملّة ولم يقلها آباؤنا من قبل»، قرّرت، عندها، إيقاف المجلة بكراس عنوانه «مهماز النقطة» (تمّوز 1984)، الذي تضمّن نصوصاً شعرية مؤلفة ومترجمة، ونقداً لترجمة عبد الغفار مكاوي لأربع قصائد لباول تسيلان، في كتابه «ثورة الشعر الحديث»، توجّهت نحو نشاطات بالإنكليزية والفرنسية بالاشتراك مع تجمّعات سوريالية، البريطانية بالأخص، أخذت تظهر منذ سبعينيات القرن الماضي وحتى ذلك اليوم. فأصدرت مجلة «grid» التي صدر منها 5 أعداد، وعدداً من الكراريس أهمّها الرسالة التي كتبتُها بالإنكليزية ووجّهتها إلى التجمّعات السوريالية: «القطيعة ارتباط حقيقي».
وبعدها توقّفت وانعزلتُ لسنوات مركِّزاً اهتمامي على شعر باول تسيلان الذي نشرت له خمس قصائد في العدد الثاني من «النقطة» العام 1981. ونتيجة هذا الانهمام أصدرتُ أواخر العام 1988 كرّاساً ضمّ ترجمتي لـ«21 قصيدة» مع شروح ومقدّمة، يُعتبر أول تقديم منهجي لباول تسيلان في العربية.
وذات يوم اتصل بي خالد المعالي طالباً أن أعطيه شيئاً لينشره في «منشورات الجمل» التي لم يكن قد أصدر تحت اسمها، آنذاك، شيئاً ذا قيمة لا شكلاً ولا مضموناً، سوى كراريس من بضع صفحات. تردَّدت في البداية، ثم وافقت فأعطيته مجموعة قصائد صغيرة صدرت تحت عنوان «ثوب الماء»، وبعدها جمعتُ معظم ما كتبته من مقالات سجالية (1975 - 1988) لكي يظهر في كتاب تحت عنوان «معارك من أجل الرغبة الإباحية»، وهو الكتاب الأول لـ«منشورات الجمل» الذي يمكن اعتباره كتاباً؛ شكلاً وحجماً.
وما إن خرج الكتاب، حتى أخذت تطوف في الذهن الرغبة القديمة بإصدار مجلة بالعربية تعبّر عن «نهاية حقبة» من الأفكار، السياسة وطرق التفكير... مجلة «تعنى بحُرِّ الحاسة التشكيلية»، أي بعيدة عن أي سجال، واخترتُ لها اسماً هو «فراديس» وهو في الحقيقة عنوان قديم سبق أن استعملته أواخر السبعينيات على غلاف كتاب صغير عنوانه «ثمة موتى يجب قتلهم». فرحّب المعالي بالفكرة واستعدّ لإصدارها لدى «منشورات الجمل»، لكنني فضّلت أن أصدر العدد الأول كتجربة في باريس. وبالفعل صدر في تمّوز (82 صفحة 1990)، محتوياً على بعض التراجم، وبعض الأشعار لشعراء عرب من بينهم أمجد ناصر وقصة قصيرة هي «اللكمة» لسركون بولص... وكثير من صور السورياليين الفرنسيين كجويس منصور وأندريه بروتون، ولوحات فنّية بالألوان تُلصق داخل الصفحات أعطاني إياها الفنانون الفرنسيون أنفسهم. والشيء اللافت فيه: ملفّ يضمّ نصوصاً (نقلتها عن مخطوطة موجودة في مكتبة «الدراسات الشرقية» بباريس) أشبه بقصائد النثر الأوروبية للشيخ عبد القادر الكيلاني، وهي عبارة عن بورتريهات مذهلة كتبها الشيخ عن آدم، الحلاج، موسى... تتكشّف فيها القدرة على إلغاء الحدود بين ذاكرة الشيخ والنص القرآني إلى حدّ أن الآية قد كُسِّرت تكسيراً فنُثرت داخل أرضية النص كأنها دُرَرٌ تُرصِّع المعنى المطلوب بالصورة المطلوبة، كما أن تلقائية التعاشق بين الألفاظ تنتج تكثيفاً وتلخيصاً مدهشَين لسيرة الشخص المعني. لوي ماسينيو كان على حق عندما نوّه بأهمية قصائد الشيخ النثرية هذه وأمل أن تترجم إلى الفرنسية لـ«أهميتها»، في نظره، «لشعراء الغرب الحديثين».
عندها اتفقت مع خالد المعالي على إصدارها لدى «منشورات الجمل»، وإذا بصدام حسين يغزو الكويت، فتقع حرب الخليج الثانية... فيتلاشى هدف «فراديس» الإبداعي بين ثنايا المواجهة المطلوبة مع واقع سياسي جديد تنصهر فيه كل القيم رغبة باجتراح صمود ثقافي. فاضطررت إلى إصدار عدد سجاليّ يعبّر عن ظروف الحرب، فكان العدد الثاني (100 صفحة، تمّوز 1991)، واعتباراً من هذا العدد وحتى العدد السابع أخذت «فراديس» تظهر لدى «منشورات الجمل» - أي تُطبع في كولونيا - بافتتاحية نارية كتبتها ضدّ السلفية والوضع العربي السيء تحت عنوان «غداً كانت الحرب»: «لقد دقّت ساعة الانتقامات، انتقام العربية مما أُنجز باسمها، انتقام القارئ من ثقافة طوت ببطنها عن كل تصدٍّ، وانتقام الفكر من سيرورته العربية التي لم تأتِ إلا بإنتاج متعفّن أفرزته أذهان عوراء ليس فيها التماعة واحدة يُركن إليها عند اهتزاز الروح؛ قادرة على أن تفتح عيناً في مَدمَس الاندحار هذا لكل ما حاولت هذه الأذهان أن تلقّننا به. إن جلّ ما ورثناه في ليل العصور أصبح نعلاً غليظاً يدوس كل ما كان في رأس الأطفال من لُعَب وأراجيح»... وخصَّصت ملفاً كاملاً للشعراء العراقيين من سعدي يوسف إلى سركون بولص إلى صلاح فائق... وملفاً آخر عنوانه «شمال القصيدة» عن الشعر الكُردي. وقصائد لشعراء لبنانيين وعرب من بينهم الياس حنا الياس وبيار أبي صعب وزاهر الغافري، وترجمة لمقالة ماندلشتام عن المُحاوِرن وقصائد لباول تسيلان، مع ملفّ صغير عنوانه «أسئلة الغيب ومفاتيحها» وهو لعبة سوريالية شارك فيها سعدي يوسف وأدونيس وآخرون: على سبيل المثال أطرح على أدونيس أسئلة ناقصة مثل: «ما هي...؟»، «في ظل الظروف الراهنة ما الذي يجب على... القيام به»؟ فيجيب عنها دون أن يكون في علمه عمَّن يدور السؤال. وهنا سأختار هذه الأمثلة من بين 15 سؤالاً وجّهتها لأدونيس، وسأضع الكلمات الناقصة أي التي لم يعلم بها بين مزدوجتَين:
الجنابي: ما هي «الحداثة»؟
أدونيس: ريح تحاول أن تنام، ولا تستطيع.
الجنابي: ما الذي يجب على «الشاعر» القيام به؟
أدونيس: عليه أن يجهل نفسه.
الجنابي: متى تشعر بأنك في حاجة إلى «كتابة قصيدة»؟
أدونيس: عندما تتلاقى يدانا: الريح وأنا.
وأتذكّر أن أدونيس بعد مرور شهرَين على صدور العدد، نشر مقالاً في جريدة «الحياة» أشبه بالتعريفات: للتاريخ، الشعر... إلخ على منوال اللعبة، فكانت معظمها ساذجة، لأنه لم يفهم بأن الصُّدفة هي الكفيلة خلق تعريف عميق وشعري.
واختُتم العدد بصفحة تحت عنوان «ملاحظات» تركتها كي يكتب القارئ ملاحظاته فيها كما يشاء وبلا أيّ مراقبة.
بين درجة الأرض وقدم السماء
وهكذا أخذت أعداد «فراديس» تتوالى كنهر متدفّق بملفّات غريبة ومواد شعرية وثقافية لم يتعوّدها القارئ العربي، ففي العدد الثالث (132 صفحة، شباط 1992)، نشرتُ ملفَّ المرايا «أتمرّى، إذاً أنا موجود»، ضمَّ أجمل النصوص في موضوع المرآة، واستفتاء الحرب الذي شارك فيه: أنسي الحاج، محمود درويش، أحمد بيضون، فواز طرابلسي، لطف الله سليمان، أنور عبدالله، جورج طرابيشي، أحمد قصير، ونصير مروة؛ وملف «طغاة/ جبابرة، سفّاحون» (سِيَرُ أخطر طغاة التاريخ)؛ وملف «أودن شاعر العصر» من إعداد سركون بولص؛ وملف الشعر العالمي، ومقالات لأندريه بروتون، سيوران، وعدداً كبيراً من قصائد وكتابات عربية، ولعبة سوريالية: «حظُّ الكلمات من التعريف الحر» التي قمنا بها، سعدي يوسف، سركون بولص وأنا في منزلي. وخلاصتها: اخترنا حوالى 66 كلمة مراد تعريفها. كُتبت مرقّمةً من 1 إلى 66 على كاغد طويل طوله متر ونصف، ثم عُلِّق على حائط... وكان لكل منا 22 وريقة وقلم مميّز اللون، يُسجِّل به على إحدى الوريقات، كل ما يطرأ - وهو يتحدث أو يأكل أو يضحك - على ذهنه من جملة يخالها مفيدة. بعد الانتهاء من كتابة الوريقات الـ66، الملفوفة على شكل سيجارة - تُخلط الأوراق كلّها في سلّة، ويبدأ السحب حسب التتابع المقترح بيننا - من هو أول، ثانٍ وثالث - حتى تفرغ السلّة. إن الورقة الأولى التي سُحبت هي تعريفٌ للكلمة التي تحمل رقم 1، الملصوقة على الكاغد المعلّق، والورقة التي يسحبها الشخص الثاني هي تعريف للكلمة التي تحمل رقم 2، والثالث للكلمة المرقمة 3، وهكذا دواليك: «الحزب عقل يدور حول سياج مستشفى»، «الشطحة عجوزة شمطاء»، «البديع خيط ذو إبرتَين»، «التراث حمار يضحك مع شرطي»، «الحكمة نافذة حمراء على بياض اللانهاية»، «النعاس قرية ومشعلٌ؛ شحّاذ تترقّبه الشوارع»...
أما العدد المزدوج 4 و5 (288 صفحة، آب 1992)، فقد صمّمته ليفتح ملف جيل الستينيات كتمهيد لثقافة ما بعد صدام. وفيه - للمرّة الأولى - يُخصَّص ملف بهذا الشكل الحر لجيل فترة عاشها العراق بجوّ من الحرّية والنشاط الإبداعي: اشترك فيه معظم الذين حضروا في ميدان الستينيات. وفي الحقيقة فإن ملف جيل الستينيات أُعجب به كثير من اللبنانيين من بينهم هشام شرابي الذي كتب رسالة إلى محمود شريح جاء فيها: «قسم الستينيات لا مثيل له بالعربية، في عمقه وأبعاده الوجودية والفكرية. الرجاء إيصال سلامي الأخوي وإعجابي «الأبوي» إلى عبد القادر الجنابي والعاملين معه».
كما ضمّ العدد ملفّاً ضخماً للشعر العالمي فيه نماذج من الشعر الأميركي المعاصر (أنطولوجيا صغيرة أعدّها سركون بولص)، ومختارات كريستيان مورغنشتيرن (ترجمها فاضل العزاوي)، وملف الشعر الإسرائيلي (أعدّه سمير نقاش)، وترجمات قمت بها لنصوص وقصائد لشعراء عدّة منهم: باث، بيريه، هولوب وآخرون. وهناك أيضاً مقالات لهوركهايمر، وكارل كراوس، كما ضمّ العدد مقابلة مع نعيم قطان، والنسخة الأولى من رسالتي إلى أدونيس، مبيّناً فيها البون الشاسع ما بين السوريالية والصوفية في كل شيء، فالأولى استنارة مادية تريد نعيم الدنيا، بينما الثانية إشراقة إلوهية ترتجي مغفرة الآخرة. الصوفية تستعير المواد الدينية لتجعل منها أساساً لافتراضاتها، بينما السوريالية ترى في هذه المواد عين الحاجز الذي يجب تحطيمه. والمحبوب في نظر الصوفي هو الله، في حين أن المحبوب في نظر السوريالية هو المرأة لحماً ودماً. كما تضمّن العدد استفاء جميلاً: سيرورة فكرك بعيداً عن كل رقابة: «عزيزي المدعو للمشاركة في هذا الاستفتاء، نطلب منك أن تأخذ معك (ذات صباح تقرّره أنت) ورقة واحدة وتدوِّن عليها أثناء هذه المسافة الممتدّة من بيتك إلى مكان عملك/ موعدك، سيرورةَ فكرك الحقيقية خارج كل اهتمام جمالي وأخلاقي، كلَّ ما يطرأ على ذهنك من هواجس مالية كانت أو جنسية، أدبية أو عادية... إلخ. نرجو منك الصدق لأننا لسنا في حاجة إلى نص أدبي». لكن للأسف جاءت أجوبة معظمهم نصوصاً أدبية عادية جاهزة في رؤوسهم. إلا أن الصادم في هذا العدد هو مقتبس للماركيز دوساد حول رجال الدين، أثار رعب الشيوعيين العراقيين، خصوصاً الذين ساهموا في العدد.
وأخيراً ضمّ العددُ اللقاءَ الشهير والمثير مع محمد شكري، والذي يفضح فيه لا أخلاقية محمود درويش والياس خوري، ما سبّب ابتعاد الذين كانوا يعملون تحت إدارة محمود درويش عن المجلة، كفوّاز طرابلسي الذي كان في نّيته إعداد ملف مع عزيز العظمة، عن جيل الستينيات اللبناني.
وهنا أنقل ما جاء حرفياً على لسان شكري لتقديم صورة حيّة عن اختراق «فراديس» لكلّ المحرّمات والإقصاء التام للرقابة فيها. يقول شكري:
«سأُدلي باعتراف خطير، اعتراف ساخر جداً، حدثَ لي مع الشاعر محمود درويش بحضور الياس خوري. ربّما كانا صديقَين لأحد منكم أو أكثر، لكن أنا لا تهمُّني الصداقة بقدر ما تهمُّني حقيقة الأمور. تلقَّيتُ يومها مكالمة تلفونية من محمد برادة رئيس «اتحاد كتّاب المغرب» سابقاً، وهو صديق حميم لي، وكلَّفني بخدمة أؤدِّيها له. وأدَّيتها بكل حبور. فقد سبق له أن أدّى لي خدمات جليلة أشكره عليها شكراً جزيلاً. طلب منّي أن أذهب إلى فندق «سيناتور» في طنجة وأن أوقظ محمود درويش والياس خوري لكي يُشارك محمود درويش في قراءة شعرية كانت مع محمد علي شمس الدين وأدونيس الذي امتنع يومها عن قراءة الشعر، فقرأ درويش وشمس الدين ولم يقرأ أدونيس. أنا جئت إلى هذا الفندق (إني أسوق هذه الحادثة في سياق الحديث عن الجنس ومفهومه في العقلية العربية مبدعةً كانت أم لا، أي في الشارع). إذاً أيقظتُ درويش وخوري من نومهما على أن يحضرا، فقالا لي: انتظرنا في الغرفة. كانت هناك زجاجة ويسكي ملآنة تقريباً وإلى جانبها بعض الفستق، فأخذت آكل الفستق وكانت لي أسنان ما تزال قويّة في ذلك اليوم. اليوم سقطتْ. عندما انتهيا من التنظيف والنظافة خرجا ليقول لي محمود درويش (أنا بسذاجة كنتُ رأيت حقيبة مفتوحة فيها نسخ عدّة من أحد دواوين درويش، فقلتُ له: هل يمكن لك أن تهديني نسخة من ديوانك الأخير؟) هذه العبارة: «ليس من عادتي أن أُهدي دواويني». أنا سكتُّ طبعاً وكان في ذهني أن أفعل تماماً ما طلبه مني محمد برادة. بعد لحظة، استفزازاً قال لي درويش: «آ شكري كيف حالك في طنجة»؟ فقلت له: «والله عادي جداً». فقال: «أليس لديك فيللا في الجبل» (وكان رأى الجبل قبل يومَين حين كان في أصيلة)، فقلت: لا. فقال: «وكيف يحدث أنك عرفتَ تينيسي وليامز وجان جينيه وهذان شخصان معروفان أنهما غنيّان ولم تغتنِ من خلالهما مع أنك كنتَ خليلهما أو صاحبهما»؟ فقلت له: «لم أعرف كيف أغتني لكي أكسب فيللا، لكن ربّما أعتقد أنك أفحل مني، فأنا لم أعرف كيف أصير فحلاً تجاه وليامز وجينيه، لكن إذا شئتَ فمن الممكن أن أُسوِّي لك مع تينسي وليامز أو جان جينيه لكي تكسب هذه الفيللا لأنك أفحل مني». وربّما كان زب درويش أو زب الياس خوري، وكلاهما زوج أزباب بالنسبة إليّ، زبَّين لا ينتعظان ولا ينتصبان. تصوَّر: أهانني لأنني طلبت منه توقيع ديوانه لي ولم يُعطِه، وكنتُ أنا شبه خادم وأوصلتهما إلى الرباط».
العالم العربي ثقب كبير، أفكاره الكبيرة فأر صغير
إلا أن قضية الشعر التي أناضل من أجلها دفعتني إلى تخصيص العدد المزدوج 6 و7 (182 صفحة، نوفمبر 1993) لقصيدة النثر الأوروبية كي يتضح جوهرها للقارئ العربي، بل حقيقة المصطلح الشعري نفسه بمقاربة معرفية جديدة تضيء نشأته، تطوّره، إضاءةً تُرئِّي لنا حمولاته المستقبلية. لذا جاء العدد في معظمه حول قصيدة النثر الأوروبية نموذجاً وتنظيراً، فضمّ تراجمَ لما يقارب الستين قصيدة نثر عالمية مع تقديمات وشروح، ونماذج عربية مكتوبة على شكل كتل وقريبة من النموذج الأوروبي اخترتها من إنتاج قصيدة النثر العربية، فقدّمت نماذج من أنسي الحاج، شوقي أبي شقرا، محمد الماغوط وآخرين مع تقديمات مكثّفة، وأجريت استفتاء حول قصيدة النثر مع 15 شاعراً عربياً من بينهم أمجد ناصر، قاسم حداد، أنور الغساني... كما ضم العدد السيرة المفصّلة للماركيز دوساد كتبتها أنا، وطلبت من صديقي سحبان مروّة أن يترجم نص دوساد الفلسفي العظيم: «محاورة كاهن ومُحتضَر». وهكذا اجترح هذا العدد موضوعَين للمرّة الأولى في العربية: قصيدة النثر الأوروبية والماركيز دوساد.
أما العدد الثامن (110 صفحات، ديسمبر 1994 وسبب انخفاض عدد الصفحات أني قمت بطباعته في باريس بعد جمع تبرّعات من أصدقاء وشعراء منهم محمود درويش، وليس على حساب «منشورات الجمل») فجاء شعرياً محضاً اشترك فيه: عبد الرحمن طهمازي، محمد علي شمس الدين، محمد سعيد الصكار... مع مقال لروبرت بلاي: «الشعر والأدمغة الثلاثة»، ولصبحي حديدي «تأمّلات في الشعرية المعاصرة»، وتراجم لقصيدة النثر الأوروبية مع مقالات عنها، وتضمّن كذلك ردّي على مقال هجوميّ لفاضل العزاوي نشره في مجلة «الناقد» لصاحبها رياض الريّس.
عندها قرّرت إغلاق «فراديس» بعدد استخلاصيّ ونهائيّ، حمل رقم 9 و10 (144 صفحة، تمّوز 1995)، شارك فيه سركون بولص، أمجد ناصر، هاتف الجنابي، وتضمّن ملفاً عن جان شوستر مع ترجمة كاملة لبيانه الذي نشره في «اللوموند» عام 1969 معلناً فيه حلّ الحركة السوريالية الفرنسية. وضمّ أيضاً ملفّاً مهماً عن شعر الزن الهايكو، مع دراسة حول شعر الموت في الزن، كما ضمّ ترجمات كثيرة لقصائد النثر العالمية، وملفاً عن الشعر المغربي الجديد. وكذلك احتوى العدد على اللعبة السوريالية التي طرحتها في العدد الثاني، وهذه المرّة مع ما يقارب عشرين شاعراً عربياً، وهنا أقتطف جزءاً من الصفحة الخاصة بمحمود درويش، لأنها جاءت معبِّرة للغاية (الكلمة الناقصة أضعها بين مزدوجتَين):
الجنابي: من هو «أدونيس»؟
درويش: معنى يبحث عن عبارة.
الجنابي: من هو «سعدي يوسف»؟
درويش: يوثّق ما يغيب عن الشعر.
الجنابي: من هو «عباس بيضون»؟
درويش: يعرف ما الشعر ولا يبلغ القصيدة.
الجنابي: ما هي «فلسطين»؟
درويش: طاولة من زجاج.
انهض أيّها الكلام وأمضِ إلى عالمك
في الحقيقة، كانت «فراديس» آخر تعبير عن رؤيتي للشعر، مفهومي للثقافة والثورة. كنت أفكّر بكل صغيرة من أجل أن يكون كل عدد له نكهة خاصة ذات متفجّرات لغوية تستفزّ مشاعر القارئ مُدخلةً إيّاه في نطاق المخيّلة الفعّالة، لتعلّمه أن الشعر في متناول يدَيه. فطريقة إخراج المجلّة وتضارب المواد فيها جعل من «فراديس» مجلة ذات طابع حركي، بحيث ظنّ الكثيرون بوجود حركة لسان حالها «فراديس»، وكان لهم حق الظن بسبب التقديمات الحركية التي كنت أكتبها من دون توقيع لهذه المقالة أو تلك الوثيقة: «اقرأ فراديس ولن تموت غبياً»، «تذكّر أن الجنس عند العرب هو الكتاب الوحيد الذي يقرأه رجال الدين في الخليج»، «والآن تنكيلاً بأعداء الشعر استردّت «دار الجديد» أعمال أنسي الحاج الشعرية»، بل لقد أوجدتُ شعاراً طريفاً لـ«منشورات الجمل» يقول: «الجمل يمرّ والأفق يتحرّك» وهو تحريف لجملة شعرية ترجمتُها عن الإنكليزية لشاعر أوروبي (خالد المعالي يستخدمها إلى اليوم ولا يعرف عن أي شاعر أُخذت). وهنا أودّ أن أؤكّد أن المعالي لم يكتب جملة واحدة في «فراديس»، فمهمّته كانت تنحصر في دفع تكاليف العدد ورقن النصوص، ولهذا السبب كنت أقول له عند تصميم كل عدد: «خذ ثلاث أو أربع صفحات لنصوصك»، دون أن أقرأ جملة واحدة منها. بل حتى المواد المترجمة كنتُ أختارها بنفسي وأطلب من الأصدقاء ترجمتها، فمثلاً طلبتُ من صبحي حديدي أن يترجم مقال جوناثان مور الطويل عن قصيدة النثر، فأعدّ خلاصة منه، ومن سحبان مروة طلبتُ ترجمة ملف الزن، وكذلك تراجم سركون بولص وهاتف الجنابي... ولولا ذلك لما كان ثمة دلالة للعبارة المكتوبة في الصفحة الأولى من كل عدد: «فكرة وتنفيذ: عبد القادر الجنابي».
لقد حاولتُ أن أخلق نوعاً من الموازنة بين الفعل الشعري الصافي والتفضيح حدّ السباب؛ موازنة تمّت أحياناً على حساب الشعر. ولا أجد بداً من الاعتراف بأني كثيراً ما اضطررت إلى نشر قصائد لا تستحق النشر! لا مفرّ من هذا. فلكل حركة إبداعية حرّة حصّتها أيضاً من العشب الضار. آه كم كنت أكره هذه العبارة: «لا يعبّر عن رأي المجلة»! فعلى العكس من ذلك، كان كل ما كنت أنشره لأيٍّ كان، يعبّر بالضرورة عن «فراديس» وبالتالي عنّي. «فالمبدع الحق، كما يقول نيتشه، لا يمتلك فكره فحسب، بل يمتلك أيضاً فكر أصدقائه. فكل صديق له يعيره حواسه، لا بل أكثر من ذلك يعيش من أجله». وهنا يحضرني ما كتبه عباس بيضون عن العدد الثالث من «فراديس» (الملحق، العدد 13، 6 حزيران 1992) حيث يقول: «أنشأ الجنابي «الرغبة الإباحية» و«النقطة» وما لا نذكر من المجلات والنشرات... وكلّها كانت قبل كل شيء لسانه وصوته. لكنه دائماً لسان وصوت يتسعان لما لا يُحصى من اللهجات واللغات والأسماء، بل نحن نجد الجنابي في نصّه ونصوص سواه لا فرق، فكأن المجلة به وبسواه جيش من غير المنظورين. أوسع الجنابي الثقافة العربية والمعارضة العربية نقداً وسبّاً، وانتقد الدين ودعا إلى الحرّية الجنسية. توشك كلماتي للأسف أن تغدو شعارات ميّتة، والجنابي يتقن فناً أكثر حياة، فن الفضيحة. كانت نشراته لذلك فضائح متجدّدة. وقد يرى البعض أنها فاقعة أو يرى بعض آخر أنها صاخبة قتالية فوق ما يطيق التحليل والبحث. إلا أن نشرات الجنابي تدحرج فضائح وكلمات مقذعة في «مهوار» بلادتنا وصمتنا فلا يبقى لها صوت. لذا كان صخبها وإقذاعها جزءاً من وجودها وحياتها. بل إنها على كل هذا الاحتفال والمسرح والضجيج ما كانت تسمع، يكفيها أنها سمَّت وتُسمِّي ما لم يعد له في حاضرنا اسم. ويكفيها أنها التمست هنا وهناك ثقافة ملعونة مخالفة أو التمست أيضاً عرقاً من الأحرار».
وداعاً أيها التمرّد في مجتمع عربي لا يستحقّ حتى التمرّد عليه
بعدما ألقيت نظرة على ما يقرب الألف صفحة من القصائد، الترجمات، الاستفتاءات، الألعاب، الشتائم، النقد الجذري، والاستفتاءات الاستفزازية كهذا الذي طرحته على الرؤساء العرب: «أيها الحاكم، ما الذي ستفعله عندما تستقيل وتبقى حياً؛ أو عندما تُعزل عن الحكم؟ هل ستفكّر بمؤامرة جديدة، أم ستذهب إلى جزيرة صغيرة حيث تُمضي وقتك مع أطفالك وحريمك، أم ستذهب مباشرة إلى مونتي كارلو لتلعب القمار حتى الثمالة ثم تعود إلى البيت، غير قادر على المواطئة، تاركاً زوجتك وحدها مع الخدم، أم ستتجرأ لأول مرّة في حياتك على قراءة كتاب، وأي كتاب سيكون سميراً لك في وحدتك؟» لم يصل أي جواب.
بعد هذا النَّفَس الطويل الذي استغرق خمس سنوات، قرّرت أن أوقف «فراديس» عن الصدور وأن تدخل أرشيف التاريخ، على أن تجترّ نفسها مكرّرة المواضيع ذاتها كأيّ مجلة عربية. فـ«فراديس» ليست «الآداب» ولا «شعر» ولا «المعرفة» وليست مجلة تجارية. لقد تعلَّمتُ من تجربة السورياليين والحركات الطليعية كـ«أممية مبدعي الأوضاع»، بأن مجلة ذات نبرة طليعية، هدفها أن يكون الشعر في فراديسه لا مجرّد نتف للزينة الأدبية، يجب ألا تستمرّ أكثر من بضع سنوات... وإلا ستضطر إلى المساومة والتواطؤ وقبول أي كان فقط لملء فراغ الأعداد التي لم يعد فيها، أصلاً، حياة.
«فراديس» إنتاج وضع مليء بالأحلام، والحرّية بأعلى درجاتها، حيث كان «ينبغي أن تكون الكلمة مطرَ نفسِها» (سهراب سبهري)؛ حيث كان السباب مَخرَج اللغة النقدية الوحيد حفاظاً على ماء وجهها من هذا السَّيَحان المأمورة به لغة العرب. لقد أدّت «فراديس»، رغم التوزيع السيء والطباعة المحدودة النسخ، مهمّة التفضيح؛ مبادرة انتهاك المحرّم الكتابي المتواضع عليه. لقد كانت مركّب شراسة الفكر الغربي ونشاط العربية المنفلت نحو هواء الاستنارات في حارة ترابط الصور والأفكار.
إن ما يميّز «فراديس» هو أنها اختارت الصدام مع كل الجدران الثقافية، الاجتماعية، الجنسية... بينما السائد في الثقافة العربية هو أن المثقفين، الشعراء، الكتّاب ليسوا سوى وطاويط ينحصر ذكاؤها في عمل واحد: ألاّ تصطدم بجدار
أسفي الوحيد هو أن «فراديس»، ككل المجلات التي أصدرتُها، لم تصل إلى يد القارئ العادي، بل إلى أيدي مثقّفين وشعراء وكتّاب منتحلين؛ يغرفون ما يشاؤون دون أي ذكر للمصدر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق