بغداد 1424 ه 2004م
بمثابة تقديم
الشريد شاعراً
(تخطيط بالكلمات ـ أو صورة جانبية للحصيري)
*ماجـد صالح الســـــــــــامرائي
(1)
ليس من الصعب، على من يريد، بناء صورة للشاعر عبد الأمير الحصيري أن يبنيها، ذلك لأن "تفاصيلها" محصورة بالشخص في حركة حياته اليومية التي هي حركة تحددت بين "ملاذات" النوم، والمقهى، والبار. فإن كان قد ولد، ونشأ نشأته الأولى في محيط آخر غير هذا، وإن تقارب معه ثقافياً، فإن "حياته الثانية" التي عاشها واشتهر "شاعراً شريداً"، ومات غريباً عنها، هي الحياة التي تعني قلم مؤيد البصام في ما احتفظت به ذاكرته من وقائع من المسارات اليومية للشاعر يدوّنها تدوين محب لهذا الشخص الذي كان يُواجَه بالنفور أينما حلّ أو جلس، من دون النظر إلى قامته الشعرية المديدة.
وبقدر ما كانت "حياته الأولى" حياة مسالمة وهادئة.. كانت "حياته الثانية" حياة صاخبة، كل شيء فيها يُعبّر عن عبث بالنفس ومع الواقع، ويُداخلها الشعور باللاجدوى، ما جعل من ينظر فيها نظرة تأمل يُدرك على التَّو إن الحياة التي مضى فيها، أو كان يمضي عبرها ومن خلالها، حياة أقرب إلى "حالة تتكرر"، وأن "الكائن الشريد" فيها إنما يمضي بنفسه، من خلالها، نحو الموت.. وليس من أجل الحياة...
فهو يوم جاء بغداد، نازحاً إليها من النجف، في آخر سنيّ خمسينات قرنها العشرين، كان أن جاءها بعدّتين:
ـ عُدّة الشعر بما يلزمه من بناء وتكوين فنيين..
ـ وعُدّة الرغبة المشبعة بتفجير ما في نفسه من طاقات الحياة التي كان له أن يختار أكثر وجوهها تعثراً، فاستسلم لضرب مما يمكن تسميته بـ"الصعلكة المنتهكة"...
وبالعدّتين كتب شعراً كان يزهو به، وهو الذي لم يعرف من سُبل الحياة سوى "سبيل التشرّد" الذي مضى فيه، ولم يقطع مساره عليه سوى الموت.
(2)
لو اتخذ "رسّام تعبيري" من الشاعر الحصيري في حياته اليومية "مادة/ موضوعاً"، وعمد إلى تتبعه، رسوماً، في حياته التي امتدت علاقات بالواقع بما فيه من أمكنة وناس، وتشرّداً بين مقهى، وشارع، ومشرب، وحديقة عامة (غالباً ما تكون، في أيام الصيف بخاصة، ملاذاً للنوم) يجعل منها "البديل التعويضي" عن سرير مهتز المفاصل على سطح فندق مهجور إلا منه وممن يندرج ضمن حالته، أو يقع في سياق قريب منها.. و"احتكاك قاسٍ" كثيراً ما يقع له مع الآخرين، تاركاً "آثاراً لونية" في الوجه وعلى اليدين منه، ما يجعل من غير المتعذر على هذا الرسام الوصول "صيغ" و"أشكال" و"ألوان" تجعل مما يُنجز، في هذا الإطار، معرضاً متكامل الموضوع، والأسلوب، والرؤية الفنية...
وأكاد أقول: لم يكن من السهل الإبقاء عليه شاعراً خارج هذا "التكوين"، وهو الذي لم يكن يُحيط نفسه بسياج من "الوقار الكاذب"، كما فعل سواه من الشعراء المتهتكين من الداخل. ولقد كانت "نواة حياته" هذه نفسها "نواة شعره" في ما لقصيدته من تحقق إبداعي متفوّق فنياً.
(3)
ليس الكلام في شعر الحصيري بالسهولة، أو ببساطة الكلام في حياته التي أخذت :نمطها اليومي" هذا. فإن كان قد عاش حياة يمكن اختزالها ببضع جُمل (أو كما اختزلها هو في قصيدته: أنا الشريد)، فإن شعره بخلاف تلك الحياة: سعة رؤية وانفتاح أفق...
وعلى الرغم من أن جانباً كبيراً من الشعر الذي كتبَ ـ وقد كتب الكثيرـ كان يُطلق فيه أصوات الحياة المكبوتة داخله، والمتفجرة حزنا ً لا يُدركه اليأس، فإنه كتب ملتفتاً إلى الوطن، واقعاً وإنساناً، مقابسا ً، في بعض ما كتب، المعاني الكبرى لهما/ فيهما.. ومما جاء في هذا السياق قصيدته التي توقف فيها عند مأثرة وطنية كبيرة: الفنان جواد سليم وعمله الشمخ الخالد تاريخاً: "نصب الحرية". وقد ابتعد في الذي كتب عن التكرار، قولاً ورؤية، وخصّ القول منه بتلك اللغة التي تفردتْ عنده ببنائها المتين بما يستدعيه "معجمه الشعري" من لغة لها خصوصية التجربة التي يُصدر عنها، والتي كانت "تجربة معاناة" أكثر من كونها "تجربة حياة". فهو وإن أصدر في كثير مما قال عن تلك الحياة التي لم يكن الآخرون يرون لها إلا وجهاً واحداً، فإن المعاناة المعبَّر عنها هي العلامة الشعرية الفارقة التي جعلت لقوله أبعاد معناه ـ كما تمثَّلَ في قصيدته "يا باسل الحزن"، وفي قصائد أخرى انفردت بخصوصية موضوعاتها.
(4)
كانت حياته حياة تشرّد يومي بامتياز، وكان في أحيان منها يطوي ليله بنهاره فيها... غير عازم على شيء سوى ما هو فيه.
وأما شعره فيمثل لحظة إبداعية في شعر مرحلة نادرة التكرار: فهو كما كان يعيش تجربته بحيوية وتفاعل يصلان به حدّ الانقسام على الذات (بين حياة هازلة وشعر جاد)، كان يعيش لغته في تراثيتها التي تتلامس وما له من آفاق ورؤى..
كتب بمعاناة، كما عاش حياته بمعاناة.. ولعله الشاعر الذي جعل للتشرد، و"للحياة ـ العبث" تمثيلاتهما. وكما انثالت صور "الشريد" عليه وهو يتوجع بحالته، تداعت لغته بعفوية تشدّ الانتباه.
(5)
ولكن هناك حالة افتراق بين حياته مساراً يومياً، وقصيدته مبنىً شعرياً، فهي قصيدة محكمة التركيب، متماسكة البناء فناً.. الموقف الذاتي للشاعر هو جوهر الفعل الشعري فيها... بخلاف حياته التي كانت تحكمها "الفوضى اليومية" بكل ما لها من إطلاق. ولعل أجمل ما كتب من الشعر هو تلك القصائد التي كان، هو نفسه، "متنها الموضوعي".
(6)
ليس في قصيدة الحصيري من تفارق بين التشكيلين الداخلي والخارجي.. بل هناك مستوىً موضوعي تتحقق فيه شخصيته الشعرية بحركتها الحياتية اليومية المضطربة، وباضطرابات الحياة اليومية بها.. وإن بمستوى فني عالٍ. لذلك نجد "الحراك السردي" لكل من قصيدته وحياته على توافق وانسجام.
(7)
لا أعتتقد أن "الفطرة" انعقدت لشاعر، حياة وشعراً، كما انعقدت للحصيري. فقد عاش حياته بنفسه، ولنفسه، ومضى مع تلك الحياة بقبوله لها وادمانه عليها ـ من دون أن يأبه لرفض الآخرين لها وازدرائهم بها...
وبالفطرة ذاتها كتب الشعر، وإن كشف شعره عن موهبة كبيرة وثراء لغوي كان يُطوّع التعبير عنده لما يريد من القول. لذلك لا نجد في قصيدته جملة شعرية متلكئة، ولا ضعفاً يشوب التعبير.. بل كان بالغ الرهافة حتى في تعبيره عما عاش من حياة كانت قاسية الوقع عليه، وهو الذي وجد الطُرق تهرب من أقدامه إذا ما عليها مشى...
(8)
وإذا كانت حياته هذه قد جَنَتْ على وضعه شاعراً، إذ غمرت بعدميتها اليومية ما كان لقصيدته من خصائص القول، فإننا اليوم نُقبل على قراءة ذلك الشعر بمعزل عما أحاط بتلك الحياة من صخب، ورافق خطواته حيثما سار، وعلى أي طريق قطع... ذلك أن عبثيته المفرطة كانت في كثير الأحيان تكشف عن لا مبالاته بالحالتين معاً: حالة الحياة التي استسلم فيها إلى "تشرّد نوعي" في سلبيته، وحالة الشاعر الذي لم يكن حرصه واضحاً على أن يكون بشعره/ ومن خلاله، على الرغم من تماسك لحظته الشعرية فيه، والتشكيل النوعي لبنائه الفني، ورصانته لغة وتعبيراً.
وكما كانت حياته "مشهدية الصورة"، كانت قصيدته، هي الأخرى، تعتمد مثل هذا "التكوين المشهدي" الذي يعمل قلم البصام على أن يستجمع بعضاً من تفاصيله، وليس كلها، في الصفحات التاليات.
بغـداد: 20 نيسان 2015
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق