"طرفة بن الوردة" لقاسم حداد.. تجربة فريدة بين الشعري والفنّي
*د. حورية الخمليشي
خاص ثقافات
جعل قاسم حداد من التراث الشعري العربي القديم قاعدة ذوقية فنّية جمالية للقصيدة المعاصرة. فهو ينطلق من محفّزات جمالية يوفّرها التراث للكتابة الإبداعية. وقاسم حداد لا يعود إلى الأصل بقدر ما يجد هذا الأصل في حياته وتجاربه الفنّية، وهي تجربة تشكّل جزءاً من التجربة الإنسانية الكبرى للعالم.
كان طرفة بن العبد مشروع الشاعر قاسم حداد الذي يسعى إلى تحقيقه منذ أربعين سنة وكَتَبه الشاعر في أربع سنوات. يقول الشاعر:"هذا كتاب سعيتُ إليه أربعين عاماً وأنجزته في أربع سنوات، وأخشى أن ذلك كله لم يكن كافياً بعد. وحين تكتمتُ على ما كنت أشتغل عليه في المخطوطة، فذلك لأنني لستُ متيقناً مما كنت أصنع، ولم أزل، لستُ مدركاً تماماً ماذا فعلت. وكنت قد أطلعتُ بعض الأصدقاء، أدباء وفنانين، على جانبٍ مما أصنع، لأتثبّت من مواقع أقلامي."
صدر كتاب طرفة بن الوردة في نسختين مطبوعة ومخطوطة:
نسخة أصلية واحدة بخط يد الشاعر وتتكوّن من اثني عشر كتاباً.
كتابان على ورق " Fabriano fein" الإيطالي.
عشرة كتب مخطوطة بأوراق مُصنّعة يدوياً في دفاتر فنية.
كتاب الفصول ويضمّ: الأناشيد، والتحوّلات، والإشراقات، وكتاب الصحراء والبحر.
يبدأ الكتاب بفصل الأناشيد، ونقرأ تصديراً للكتاب اقتبسه الشاعر من شعر طرفة يقول فيه: "رَأيْتُ بَنِي غبْرَاءَ لا يُنْكِرُونَنِي". ويوحي هذا التصدير بأن كتاب قاسم حداد هو في الأصل تحية تقدير لموهبة شعرية لم ينل من تقدير قومه إلا الجحود والنكران. وفي هذا الكتاب يرسم الشاعر بالقلم والريشة ما رسمه طرفة بالقلم وتفوّق فيه على كثير من معاصريه.
وكتب أمين صالح مقدمة لهذا العمل بعنوان "مدخل إلى بلاغة التكوين" يقول فيها: "بدأب نقّاش، بصبر ناسك، ببصيرة راءٍ، يمسكُ القلم وفي حنوّ يخطّ على ورق حنون لا يشاكس ولا يتأفف.. ناثراً الحبر، في تناسق، على بياض يخون بياضه أحياناً، كأنه يمزج الليل والنهار في أفقٍ يتدلى كالثوب، أفقٍ لا يحكمه غير شاعر يعرف خبايا الكلمات لكن يجهل سرائر الكائنات، ولا يحتكم إليه–إلى هذا الأفق الذي يربك نفسه بتحولاته الدائمة- غير حالم يبعثر صوره لتكون علامات غامضة يستدلّ بها حالمون غامضون يأتون بعده."
ولعلّ عنوان الكتاب "طرفة بن الوردة" الذي يذكر فيه الشاعر اسم أم طرفة (وردة بنت عبد المسيح)، فيه الكثير من استرداد لحقّ الشاعر ولحقّ أمّه المهضوم من الظلم الذي لحقهما من جفوة الأهل وتخلّي القبيلة وسطوة الأعمام. يقول طرفة:
ما تَنظُرونَ بِحَقّ وَردَة َ فيكُمُ، صَغُرَ البَنونَ، ورَهطُ وردة َ غُيّبُ
ولم يرضخ طرفة بن العبد يوماً للتقاليد ولا لسطوة الأهل رغم خطر الموت الذي يهدّده.فوجد في التحدّي انتصاراً، وفي الحب عشقاً للحياة، وفي الشعر مسكناً وملاذاً لمعاناة الذات. امتاز بنبوغه وجرأته الشعرية التي كانت سبباً في معاناته. إنه الشاعر الذي حمل بيده رسالة قتله. وهو الذي قال:
ستُبدي لك الأيام ما كنتَ جاهلاً ويأتيك بالأخبار من لم تُزوِّد
ويقول قاسم حداد عن طرفة ين الوردة: "طرفة بن العبد، الفرق بيني وبينه أنه نَـهَـرَ الحياة باكراً، تجرعَ القدحَ الأعظم وذهبْ، فيما لا أزال أتعثر بحضوره الفاتن في كل نأمة ولمعة ضوء. دون أن تكون المسافة الزمنية حجاباً أو حائلاً أو امتيازاً. لم أتمكن من تفاديه لحظة واحدة. ما إن عرفتُ احتدامه مع قبيلته، ما إن شعرتُ بخروجه عن الخيمة إلى الصحراء، وسمعته يكرز في الكون: (وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة) حتى أحسستُ بذلك السر الغامض ينسرب في شرايين روحي وتفاصيل حياتي الباقية، ويبدأ في صياغة مكبوت العديد من قصائدي، التي جَهَرَتْ بتقاطعها الحميم مع «طرفة بن العبد»، كتابة وتجربة، وتلك النصوص التي استبطنته أو تقمصته، أو تلك التي وضعته تعويذةً في الحل والترحال، شعراً ونثراً ومضاهاة. كلما تقدم بي العمر والتجربة، أصبح هذا الكائن الغامض البعيد أقرب إليّ من حبل الوريد، لا أتنازل عنه، لا أنكره، وليس لي سلطة عليه، فيما سطوته الغريبة عميقة ودالّة في روحي وحبري. رافقني «طرفة بن العبد» في الحانة والزنزانة، واقتسمتُ معه النص والشخص، في المتن والهامش والحاشية. لم أنجز كتابةَ إلا وكان له فيها حصةُ القرين. لم يعد ممكناً توصيف الحدود بيننا إلا بالقدر الذي يتسنى للسيف أن يمر على مسافة الروح والجسد بلا دمٍ ولا فضيحة. رفقة تتجاوز الكلمات، رفقة تصقل الحياة."
وقدّم قاسم حداد الأعمال الفنية بخط يده، صور تشكيلية للمخطوطة الفنية، بالإضافة إلى الكتاب المطبوع بخط اليد لكتاب طرفة بن الوردة الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر. ويضم ديوان طرفة 657 بيتاً بينما تضم المعلقة 104 من الأبيات. ومُعلّقة طرفة بن العبد هي جوهرة شعره التي رفعته إلى كبار فحول شعراء العربية رغم حداثة سنه وقلة إنتاجه لشاعر عاش للشعر وبالشعر. وكانت معلّقته أطول المعلقات. وفضّلها العديد من النقاد على جميع الشعر الجاهلي، بل وعدّوا طرفة أفضل شعراء المعلقات، ومنهم من صنّفها في المرتبة الثانية أي بعد معلقة امرئ القيس. وهكذا ظلّت معلّقة طرفة بقايا وشم ساحر في الشعر العربي. كما سيظلّ كتاب طرفة بن الوردة وشماً ساحراً لمغامرة الكتابة القادمة من المستقبل الشعري لقاسم حدّاد. إنه فضاء مفتوح للقرب من فلسفة طرفة بن العبد في الحياة كرائعة من روائع الشعر الإنساني الخالد والأكثر تأثيراً في المتلقي على امتداد عصور الأدب العربي، لروعتها وقوة تأثيرها التي جعلتها قابلة لتأويلات عديدة. ولعل من أهم ميزات شعر طرفة بالإضافة إلى بلاغة الأسلوب وقوته خاصية التصوير والرسم من خلال وصفه للصحراء والسفينة والفرس والناقة ومجالس اللّهو بالإضافة إلى مظاهر الطبيعة من أمطار وغيوم ورعد وغيرها.
ولنا أن نتساءل عن مصدر إعجاب قاسم حداد بهذا الشاعر العظيم. هل هو وعي الشاعر الجمالي بمدى جمالية الصورة وسعة الخيال عند هذا الشاعر البحريني الذي وجد فيه ابتكار صور جديدة أحيت وشائج المحبة والإحساس بالجمال عند المتلقي؟ أم هي سيرة الشّاعر الشّاب التي لحقها الكثير من الخلاف والاضطراب والتناقض؟ فأراد بذلك قاسم حدّاد أن يعيد كتابة هذه السيرة التي لحقها الكثير من الغموض بعد أن ظلّ طرفة في حياته القصيرة يشكو الجحود والنُّكران. إنه شهيد الشعراء الشباب بتعبير الشاعر. لذلك كتب قاسم حدّاد سيرته من وجهة نظره هو لا كما وردت على ألسنة الرواة.
إن كتاب طرفة بن الوردة دليل على أن الحداثة ليست هي الانقطاع عن التراث، بل هي تواصل مستمر لجمالية الشعر الذي يصدر عن شعريات باذخة في التراث الشعري العربي الذي يمثّله رواد الشعر العربي في أزهى عصوره. وهو أيضاً إثبات القدرة على التجديد دون التقيّد بمعايير جاهزة، والإنصات لصوت الشاعر الذي هو مصدر تفرُّده واستمراريته. وهو ما يتوافق مع رؤية قاسم حداد للحداثة والكتابة. وكتاب طرفة بن الوردة نموذج جديد لتقديم الشعر بشكلٍ مغايرٍ ومختلفٍ لعملٍ متكاملٍ يجمع بين ألق الشعر وفنّية الخطّ العربي والرسم والتشكيل والموسيقى. يقول قاسم حداد في كتاب طرفة بن الوردة في نص "نظام الكلام":
ليس هذا كتاباً،
إنه لغةٌ تشغف كلما حرَّك الله فيها كلاما،
كلما غيَّر إيقاعه في الطبيعة،
لغة كالوشيعة تنهال ألوانها،
كلما نام خيطُ الضباب بها،
كلما اختلَّ فيها نظامٌ،
كل هذا كلامٌ من الله،
يخرج عبر حدود الكتاب"
كتاب طرفة بن الوردة احتفاء بشاعر عربي كبير بما يليق مقام قصيدة طرفة وقيمتها الفكرية العالية. وتبلغ النصوص الشعرية لقاسم حداد ذروتها الفنية في المقاطع التي تضيء الكثير من الجوانب الذاتية والفكرية لحياة طرفة بإعادة كتابة ما لم يتداوله الرّواة من حياة طرفة بصورة مدهشة تُبرز الجوانب الإنسانية السامية للشاعر.
وقد قدّم قاسم حداد كتاب "طرفة بن الوردة" من خلال عمل إبداعي موسيقي للفنّان محمد حداد (ابن الشاعر) لتخليد ذكرى طرفة واستيعاب غيابه بصحبة الكورال مع المزج بين آلة البيانو الغربية وآلة العود الشرقية. وقد نال محمد حداد عن عمله "طرفة" جائزة الموسيقى العالمية، ضمن جوائز (GMA) للموسيقى العالمية،كأفضل عرض لعام 2012م. وقدّمت طفول حداد (ابنة الشاعر) صوراً فتوغرافية ضمّها كتاب "زرقة الظل" في 115 صفحة.
إن القارئ لشعر قاسم حداد يستدعي خبرةً أدبيةً وفنّيةً عميقةً لما تمتاز به جمالية الكتابة عند الشاعر. فهو يكتب بإيقاعٍ فنّيٍّ فريد ومتميّزٍ. ومن يلج حديقة قاسم حدّاد الشعرية يُفاجأ بلوحاتٍ فنّية رائعة لأشكال الأشجار وأنواع الورود والطيور. وقد رسمها الشاعر بالرّيشة قبل أن يرسمها بالقلم، وعاد إليها من أجل تشذيبها وقصِّها وتقليمها بخبرة في فنِّ وإبداع التّشذيب الجمالي للحفاظ على استمراريتها ورونقها من أجل تأهيلها لموسمٍ جديدٍ بعد ضمان نموّها السّليم بحِسٍّ فنّيٍ عالٍ. إن شعر قاسم حداد استغوارٌ للمجهول وتجاوزٌ لكل الأشكال الموروثة. فهو من أكبر الشعراء الذين أدخلوا الحاسّة البصرية بفّنية غير معهودة في نسيج العمل الشعري. فامتازت إنتاجاته الشعرية المتفرّدة والمختلفة بانفتاحها القوي على التّشكيل والصور الفوتوغرافية والموسيقى والكاليغراف والسينما والمسرح وغيرها.
________
[1] موقع جهة الشعر
*عاش طرفة بن العبد في أسرة عُرِفت بكثرة شعرائها، فقد كان جدة وأبوه وعمّاه المرقش الأكبر والأصغر شعراء، وكان
خاله المقلي شاعراً وأخته الخرنق كذلك شاعرة.
[3] موقع جهة الشعر
[4] قاسم حداد، طرفة بن الوردة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى، بيروت، 2011، ص. 38
5 موقع طرفة بن الوردة
_______________
* ناقدة وأكاديمية من المغرب
التاريخ : 2016/01/14 02:32:53
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق