مسرح
عطيل
يعود بحثاً عن دزدمونه في مسرحية ( إنا لحبيبي)...
ممثل واحد يأسر الصوت وهوامش التاريخ
ممثل واحد يأسر الصوت وهوامش التاريخ
مؤيد داود البصام
علي قاعة المسرح الرئيسي في المركز الثقافي الملكي في عمان ، قدم الفنان غنام غنام مسرحية (إنا لحبيبي ) من تأليفه و إخراجه ، و تمثيل الفنان المخرج خالد ألطريفي . و قد ارتبط الثنائي غنام و خالد كمخرجين و ممثلين في أكثر من عمل ، فقد سبق إن اخرج خالد ألطريفي مسرحية (ملحمة فرج الله ) العام الماضي في مهرجان المسرح الأردني ، من إخراجه و تأليفه و تمثيل غنام غنام احد الممثلين الرئيسيين في المسرحية ، و الآن يتبادل الأدوار فيكون غنام مؤلفاًُ و مخرجاً و خالد ممثلاً .
في هذه ، التجربة يخوض الفنان غنام ، تجربة جديدة من تجاربه في لغة متحولة علي خشبة المسرح ، فهو يحاول إن يجمع بين العمل الكلاسيكي المبني علي القواعد الأرسطية ، و بين الرؤية الحداثوية ، و الخروج من مسرح العلبة و جعلة فضاءً تسبح فيه الكتلة المنظورة ، لهذا ينوع في تجربة بين الفخامة و البساطة ، و لكنة يبقي في سعيه لإبراز قضية الإنسان و الغور في أعماقه استجلاء ما يضمر تجاه الظلم الذي يقع عليه ، أو يحركه لرفض الظلم و كشف الظالمين كما في مسرحية ( السياب يعود ثانية ) في محاولة لاختراق حاجز الصمت و جعله ينطق بما يسكت عنه ، و تبقي العناصر الجمالية التي يلجأ إليها ، هي في إيجاد خيط التطور المرتبط بالنظريات و التيارات القديمة و الحديثة ( لكون الفن المسرحي يملك اتساعاً كبيراً غير محدد و مشروط في إيجاد المناخات التي تلاؤم الرؤية ، و تعدد تأويلاتها ، فالمسرح جامع شامل لكل الفنون و الأنساق ، و لكنة وحدة منفردة في قدرته علي التماس المباشر الحي مع المتلقي) . ساعده في هذا المنحني سعة المعرفة و كثرة الاطلاع التي يمتاز بها غنام ، وحبه للمغامرة و التجديد .
مسرحية (إنا لحبيبي ) تقوم في بنائها علي ممثل واحد (خالد ألطريفي ) و مضمونها إعادة كتابة لحظة الفعل عند عطيل بين القبول و الرفض و عند ممثل شخصية عطيل ، و في هذا المنحني الذي يقدمه النص مفارقة لتعدد الأصوات في صوت واحد ، و مقارنة لفعل الأقدام و التردد في صياغة شخصيتين من الماضي و الحاضر ، و هي تؤكد علي البحث في أعماق الإنسان و مشكلته في التعامل الذاتي بينة و بين محيطة ، و كيفية تعامله مع الحدث في و وقائع الحياة اليومية ، فالاستناد علي إعادة كتابة الإعمال العظيمة من المسرح اليوناني و الإغريقي و الروماني و خصوصاً إعمال شكسبير ، فيها خصوصيات معرفية ، فقد أعيد كتابة الكثير منها برؤية معاصرة ، وكتب نص (إنا لحبيبي ) بلغة تقترب و تبتعد عن لغة شكسبير حسب متطلبات الدراما ، وهو تعامل ينبني علي أساس المسرح التجريبي الذي يحتوي علي الحداثة وما بعد الحداثة ، ولكن غنام لا يخرج إلي الحدود التي وصل إليها مسرح ما بعد الحداثة ، فهو يظل مشدوداً إلي جمهوره وواقع هذا الجمهور علي الرغم من تجاربه الحداثوية و إدخال العناصر المعاصرة في النص و الإخراج ، و التعامل مع النص الكلاسيكي لتحويل الفكرة التاريخية العامة إلي فكرة معاصرة ، موائمة للأخذ من ينبوع الماضي وإضفاء الرؤية المعاصرة علي الفكرة في الماضي ، لإعطائها صورة مستقبلية وجديدة ، فهو يعيد صياغة مسرح النص إلي رؤية جديدة لإثارة الاستفزاز في قضية معاصرة ، بحيث يأخذ من المسرح الكلاسيكي ما يشعره بوجود عناصر متطابقا مع العصر الحاضر ، فيعيد الصياغة حسب مفهومه ورأياه.
كيف تعامل
مع النص ؟
حاول غنام إن يفعل النص باختيار لحظة معينة من شخصية عطيل في مسرحية شكسبير ، لإدارة الحوار بين عطيل الماضي و بين عطيل كوجود في نص غنام وهو ممثل لدور عطيل فبني الفكرة علي هذا المقطع علي ضوء لحظة التعارض بين ماهر كائن وما يكون مع جر البناء الفكري للنص من الشخصي إلي نقد الواقع الاجتماعي، بين تكوين عطيل الاجتماعي والفكري وما خلفه هذا البناء الاجتماعي علي طابع الشخصية الشكسبيرية ،وبين الواقع الاجتماعي والفكري لممثل دور عطيل في العصر الحاضر وما يعيشه من وقائع الحياة المؤلمة وما يمر به إنساننا المعاصر من صراعات علي صعيد الواقع المحلي والعالمي ، ورسم الشخصية في تقلباتها وتحولاتها برؤية معاصرة حسب وقائع الحياة التي تلزمنا في اتخاذ مواقف متناقضة لما نطلب ونريد وهو ما نجد الإشارة إليه في ثريا النص لاسم المسرحية (إنا لحبيبي) الشعور المتناقض بين فورة الغضب والوصول بها إلي حد القطيعة بالقتل ومن ثم الندم، وهو حال الممثل في رفضه ومن ثم قبوله بين إن يكون هو وبين الرضوخ لمتطلبات الحياة التي تفرض عليه للاستجابة والانصياع،و بين طبيعة عطيل التي فرضها تكوينه الفسيولوجي والوراثي وبين الانصياع لرغبات التسلط والقمع ممثلة برغبات المخرج التي يرفضها الممثل ،ولكنه ينصاع ويقدم ما يطلب منه ،هذا الصراع والتوترات عالجها غنام باللغة الشكسبيرية وفخامتها علي صعيد النص واللهجة المحلية المحكية في تزاوج مبدع يتحرك الإيقاع للارتفاع بنا حلمياً مع تصاعد الكلمات والجمل والصوت وحركة اليدين للمثل ثم يهبط به إلي ارض الواقع عندما يعيدنا لتحسس اللغة المحكية وبنيرة تعيدك إلي ارض الواقع.
الإخراج والتمثيل
إن مسرحية الممثل الواحد من المسرحيات التي تتطلب جهدا من المؤلف والمخرج والممثل لأنها تتطلب إبعادا تختلف عما في المسرحية المتعددة الشخوص، ففي مسرحية الممثل الواحد يكون الجمهور بمواجهه شخص واحد، والقاعة تركز علي نقطة واحدة معينة، ولا بد لهذه النقطة التي يمثل مركزيتها الممثل إن تبقي المشاهد منشدا لها ولا تحدث الملل والضجر لديه وتفقد إمكانية الإثارة والاستفزاز وهو يتطلب كما سبق واشرنا إلي جهد ليس بالقليل وهو ما استطاع غنام إن يقدمه في هذه المسرحية بحركة الممثل التي حصرها في الديكور المنفذ هو الأخر بطاولة مستطيلة بحدود ثلاثة أمتار طولا والمتر عرضا مغطاة بقماش شفاف توحي بوجود شخص في أسفل الطاولة، وهو ما يشير إليه الممثل علي أساس انه مكان اختفاء (دزدمونه)، وبهذا حصر حركة الممثل في نقطة مركزية مع حركة محسوبة إلي عمق المسرح بنفس إسقاطات خطوط عرض الطاولة وترك بقية خشبة المسرح للفراغ من دون ديكور، فحقق مسألتان في هذه الحركة حداثة الفكرة وحصر تركيز المتلقي في بقعة محددة بحيث جعل المشاهد لا ينتبه إلي بقية الفراغ في خشبة المسرح بجعل الكتلة في المراكز الوسط وحقق الثقل في الوسط ،وجعل الفراغ يدور حولها ونجح في الرؤية التشكيلية بإعطاء الموازنة للإطار العام ولم يشتت الرؤية البصرية لأمن حيث الديكور أو الحركة، واحدث توازنا عاما في التشكيل للوحات ساعد في ذلك الإمكانيات الفنية للفنان محمد مرشده في ملاحقة النص والتمثيل في تصميم وتنفيذ الإضاءة التي جاءت مواكبة للحركة والحدث وأضفت روح الامتلاء علي خشبة المسرح، لاشك إن الإمكانيات التي يمتلكها الفنان خالد ألطريفي كممثل تلقائي بارع مكنته من ملاحقة النص ومنحته هذه الروح في شد الجمهور، فالحركة والإيماءة والتنغيم كلها بوصفها لغات مسرحية تختصر الكثير من الحوار والكلمات والجمل قد برع فيها الممثل خالد وجاءت القيمة التعارضية بين تكوين جسم عطيل الشكسبيري كمقاتل وذو عضلات ويتسم بالرشاقة وبين التكوين الجسدي للفنان خالد الذي تحرك علي هذا الإيقاع ليستلب الحركة الدرامية بين الشخصية الأصل والممثل المعاصر لهذه الشخصية، وان ما يريد إن يقوله المؤلف بأنه يريد إن يقدم عطيل كما أراد شكسبير ولكنه أراد إن يعطينا عطيله بصراعاته ومشكلاته المعاصرة التي تختلف عن تكوين عطيل الأصل، حتى بالتكوين الجسدي للمثل خالد الذي برع في شد الجمهور حركة وصوتا وإمكانية هائلة علي إخضاع خشبة المسرح لوجوده، واحتواء المشاهدين بفرض بساطته وعفوية الحركة والايماءه لامتلاء الكتلة والفراغ، وجعل الكتلة خاضعة لعرضه وسيطر علي الفراغ بالحركة واللاانفعالية وأسقط الانفعالات المصطنعة إنما كانت حركاته عفوية ،وحواره المتقن هي التي شدت الجمهور وحبست أنفاسه مع وضوح النطق، كما إن المخرج ترك بطله يتحرك ضمن رقعة محددة لكنه استطاع إن يغطي خشبة المسرح فلم يلجأ إلي الحركة الواسعة والمربكة إلا في حدودها لكي تأخذ دورها مع الحوار بلغته العصرية.
إن مسرحية (إنا لحبيبي) عرض متميز شد الجمهور وقرب فكرة الصراع الإنساني المعاصرة بحدودها وتناقضاتها الذاتية أو من خلال الشد الخارجي حاكت الماضي بفكرة تنتمي إلي الحاضرة وربط الماضي بالحاضر، ملتقطا لحظة واحدة من لحظات العرض الشكسبيري ليحولها إلي دراما برؤية معاصرة من دون إعادة لصياغة المسرحية بأكملها. انه يلخصها كما جاء علي لسان الممثل في نهاية المسرحية (قتيل العشق والظلم والغدر والمسرح)ليوضح لنا نضال الإنسان ضد الظلم الذي لا يستطيع إن يدرءه أو يقف منه موقف الند ، لأنه مستلب .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق