السبت، 16 يناير 2016

قصة قصيرة مستنقع الضفادع- عادل كامل

قصة قصيرة

مستنقع الضفادع

عادل كامل
     ما ان استنشقت الضفدعة الزرقاء الهواء، حتى صدمت برائحته، فأحست إنها غير قادرة على الحركة، فقالت لزميلتها البيضاء التي مازالت غاطسة تحت ماء البركة:
ـ رائحة الهواء لا تحتمل!
أجابتها:
ـ ارجعي...، الم ْ أخبرك بما حدث لي يوم أمس.
    وروت لها إنها ما ان تنفست الهواء حتى كاد جسدها يتجمد تماما ً، فراحت تصرخ طالبة النجدة، ولم تفق إلا بعد ان عادت إلى القاع.
ـ آ ....، ماذا نفعل؟
ـ وهل باستطاعة ضفدعة، مثلي، التحكم بالهواء؟
     فدار بخلد الضفدعة الزرقاء وهي تغطس:
ـ رائحة مشبعة بذرات بلورية لا مرئية خالية من الملمس كأنها شبيهة بغازات الإبادة التي تعرض لها مستنقعنا!
ضحكت الضفدعة البيضاء، وردت:
ـ لا تدعينا نفكر بما حدث لنا...، فحملات الاجتثاث متواصلة، منذ زمن بعيد...، فلا نحن نجونا، ولا هم محونا من الوجود....، ولكن لا أنا، ولا أنت، باستطاعتنا الفرار.
ـ الفرار؟
ـ لا، لا لن نفعل ذلك...، فالفرار خيانة، والهرب أنانية، والتخلي عن أهلنا نذالة، مع ان البقاء بحكم القبول بالموت. فهناك كلاب الحراسة، بنات أوى، الأفاعي، الضباع، والتماسيح  تملأ الساحل...، وهناك، في الأعلى، النسور، الصقور، والغربان.
ـ دعينا نغطس! فالخطر، في ظلمات القاع، اقل.
فسألتها قبل ان تغطس:
ـ ولكن كيف تراهم يحتملون هذه الرائحة...؟
ـ قد يجدونها عطرا ً! ما أعلمك، وإلا لطردونا من المستنقع، بالقوة، وأخلوها لهم.
ـ ربما.
   غطست، وتبعتها الأخرى، فخاطبتها بالذبذبات، من غير كلمات، ان للمياه الثقيلة، السوداء، الكثيفة، وللظلام، والديدان الحلزونية، والعضاضة، والابرية، وذات الرأس الحاد...، فوائد لا تحصى، في مقدمتها إنها أصبحت بعيدة عن المراقبة، والرصد. أيدتها رغم إنها أبدت استحالة ان تكون، كما اعتقدت، وإلا كيف نفقت آلاف الضفادع، خلال الأيام الأخيرة...، ولم يبق منها إلا عظامها تتآكل تحت الماء؟
ـ لا تدعينا نعرف أكثر من هذا ...، فقد بدأت رائحة الهواء تسري في جسدي..
ـ أتشعرين بالخدر، أو بالرجفة، أم بارتفاع الحرارة...؟
وسألتها بذعر:
ـ أتستطيعين التنفس...؟
ـ لا، بل اشعر ان الكلاب راحت تبحث عنا!
ـ أنا شعرت بذلك، فأين نهرب...؟
ـ نغطس عميقا ً، تحت، في الوحل.
ـ آنذاك نموت كأننا لم نولد! أليس كذلك، فالاستسلام للموت، في هذا الحال، يماثل الخلود!
ـ لا تجدفي، فانا وأنت ضفدعتان مؤمنتان، ونؤدي الفرائض، ولا علاقة لنا باليسار، ولا باليمين...، فعلنا، يا عزيزتي، إدراك ان الياس جريمة عقوبتها تفوق عقوبة الموت، وفقدان الأمل، أقسى منها!
ـ ماذا نفعل عندما نستطيع الفرار...، ولا نجد ملاذا ً حتى في الوحل؟
ـ دعينا نفكر.
ـ آ ......، لا تفعلي، لا تفعلي...، جدي لامي قال ان التفكير يقود إلى الخطيئة، والى الجحيم!
ـ وأنا جدي سمع عن جده النصيحة ذاتها، قال لي: لا تذهبي ابعد من انفك! فقلت له: وهل يسمح لي انفي الذهاب ابعد منه؟
ضحكت:
ـ دعينا، قبل ان نموت...، ان نتسلى!
ـ فكرة طريفة...، ولكن كيف؟
ـ سأخبرك ...، دعينا نستقبل الموت، ونحاوره!
ـ جيد...، فانا سأسأله: ماذا تريد...؟
ـ جميل..، سيقول: جئت اخذ حياتكما!
ـ أنا سأقول له: وهل لدينا قدرة على الاعتراض...، فأنت ملأت الهواء بالجيفة، والماء بالجثث، فلم تبق لنا إلا ان نستسلم لك.
ـ وأنا سأهتف له: مرحا بك أيها المغوار الشهم الباسل العظيم..
ـ أما أنا فسأرقص له، وأهلهل، وابتهج: ما أبهى نصرك المؤزر!
ـ ونتقدم منه: خذنا حيث تريد ...، ولا تدعنا فريسة للكلاب والهرر والجرذان...، ولا تدعنا نتفسخ مع النفايات فوق المزابل، ونلوث الهواء...
ـ سيفكر.
ـ لا ...، الموت لا يفكر، فهو أذكى من يستخدم وسائل الحمقى، والأغبياء.
ـ إذا ً....،  فالموت لا ينتمي إلى الحمى..؟
ـ بل ولا ينتمي إلى العقلاء؟
ـ لا، لا تتزندقي!
ـ بل أنا مؤمنة تماما ً بان موتنا حق!
ـ آنذاك ربما يغفر لنا.
ـ لكننا لم نرتكب ذنبا ً...، ولا خطيئة، عدا ارتكابنا حماقات بيضاء!
ـ الموت لا يميز بين الألوان..، أيتها الزرقاء!
ـ وهل أنا زرقاء...؟
ـ نعم، لأن الماء بلا لون، وأنا بيضاء، فالموت له لون الشمس؟
ـ آ ......، دعيني أفكر!
ـ الم ْ نقرر لعب لعبة للتسلية..
ـ لكننا بدأنا نفقد قرتنا على استخلاص الهواء من الماء الثقيل..
ـ دعينا نكف عن التنفس...، حتى لو غضب الزعيم.
ـ المشكلة إنني استسلمت للموت لكن جسدي لم يستسلم...، فهو يعمل ضد عقلي!
ـ أنا عقلي يعمل ضد جسدي!
ـ هل لديك جسدك؟
ـ  وأنت، هل لديك عقل؟
ـ إذا ً.....، ليس لدينا عقل، وليس لدينا جسد، والموت مازال يبحث عنا....، فماذا يريد؟
ـ وهذا ما شغلني طوال حياتي...
ـ ما الذي شغلك، أيتها الزرقاء؟
ـ بياضك الخالي من العقل ومن الجسد.
ـ آ ....، فالموت إذا ً وجد للبحث عنا.
ـ بحث عن اللاشيء!
ـ ربما اللاشيء هو الوحيد الذي لم نحصل عليه.
ـ إذا ً فالموت لا يبحث عن شيء له وجود إلا بوصفه ليس وجودا ً...، فهو يبحث عن وجود آخر لم نعرفه.
ـ ولكن دعيني أسألك: إذا كان الموت يبحث عن هذا الذي لا نعرفه، فلماذا لا نسأله فقد يخبرنا عنه..؟
ـ ربما ـ هو ـ مثلنا، لا يعرف شيئا ً عنه، وإلا لأخبرنا عنه...، فنعلم منه مثلا ً إننا نستحق الموت!
ـ أو  قد يكون مكلفا ً بعدم الإفصاح عن السر..؟
ـ لا اعتقد ان الموت يحمل سرا ً!
ـ تقصدين انه من المستحيل ان يعرف السر! ولكن هذا لا يستقيم مع المنطق؟
ـ صحيح..، ربما قد يكون المنطق هو السر، وقد كلف الموت بحمله؟
ـ آ ....، كأننا لم نمت بعد...، كأننا أصبحنا نتكلم كالذباب، تارة عن أشياء لا وجود لها، أحكمت قبضتها علينا، وسد منافذ الأمل، وتارة عن آمال تتسلى بنا قبيل الموت؟
ـ لكن دعينا نسأل السؤال الذي لابد ان يُسأل: هل نستطيع ان الاستغناء عن الأسئلة، بالأحرى: هل لدينا قدرة تصور إننا لم نولد، ولم يكن لنا أي وجود يستعدي هذا الانشغال...؟
ـ سأقول لك ِ: نعم! آنذاك سنسأل أنفسنا: لماذا لم نسألها. وهكذا تغدو المشكلة ان الأغبياء وحدهم يصبحون سادة، والأذكياء ينحدرون الى الحضيض. وعمليا ً لا احد يعرف لماذا ينشغل الاذكياء بقضايا الغباء، في الوقت الذي يزدهر فيه مجد الغباء، والاغبياء. انه السؤال الذي شغلنا منذ زمن بعيد: انموت وكأننا حصلنا على الخلود، أم ان الخلود جذبنا ومنحنا لغز الموت، أم إنها ترهات كلمات تتفوه بها أرانب تحولت إلى خنازير، وجمال أصبحت تزأر في حفر الجرذان، أم ان الجاموس هو وحده سيد المستنقعات...؟
ـ ما هذا الهذر..؟
ـ فلسفة!
ـ آ ...، صحيح، لأن اشد الطيور ذكاء ً نراها تستنجد بالزواحف، والأسود بدأت تمشي فوق الحبال، والجرذان بادرت بحمايتنا من الخراب!
ـ آ ...، الهواء أصبح مشبعا ً برائحة الموت، والماء، هو الآخر، ازداد كثافة...، وعقولنا لم تعد تعمل داخل أجسادنا، والأخيرة، أصبحت تعمل بطلاقة من فقد رشده..، فماذا نفعل...؟
ـ إذا خرجنا من المستنقع افترستنا الكلاب، وإذا نجونا منها تفترسنا بنات أوى، وإذا نجونا من بنات أوى فالجرذان باستقبالنا....، فصائل أعدت بإحكام وحكمة وذكاء، أما إذا مكثنا في الوحل فالموت سيأتي وينزل عقابه بنا. فمهما اجتهدنا للخلاص ندرك كأننا في المأزق نفسه. يا لها من حكمة!
ـ إذا ً...، لم يبق لدينا إلا ان نستنشق الهواء...، ونستسلم بهدوء لرحيلنا، بهدوء، ومن غير صخب، أو عويل، أو شكوى..؟
ـ يا حمقاء...، منذ ولدنا كان الموت قد اعد لنا هذه الخاتمة السعيدة!
ـ لا...، أنا اختلف معك، وإلا كيف يكون الزعيم مغوارا ً وبطلا ً وخالدا ً ...، الم ْ ينتصر على الموت، مع انه لا يفتخر إلا بعدد ضحاياه. أليس أعظم العظماء هم أكثرهم احتقارا ً لنا...؟
ـ صحيح...، ملاحظتك بارعة: فالزعيم يحتفل بهذه الحشود وهي ذاهبة إلى حتفها ...، فهو يحتفل بموتها، وكأنها خالدة إلى ابد الآبدين. لأن الزعيم وحده لوي عنق الموت.
ـ ربما يشتغل عنده؟
ـ لا اعرف...، ربما العكس؟ لكن النتيجة واحدة: لأن الموت لا معنى له من غير الزعماء، ولا الزعماء لهم معنى من غير الموت.
ـ بالضبط ...، فالزعيم أمر الموت بأداء هذا الدور: فالموت وحده لا يموت!
ـ ثم تراجع!
ـ لا...، لم يتراجع عن منهجه، ولا عن خطته..، فهو أمرنا بأمر لا طاقة لنا إلا على تنفيذه. فنحن نولد بأمر منه، ونعيش بأمر منه، ونكمل برنامجه بأمر منه أيضا ً. ففي المستنقع ولدنا ولا مستقبل لنا سواه.  
ـ يا لها من خطة..، حتى أكاد أدرك انك، في هذا المستنقع، تعملين على تنفيذها ببراعة، وذكاء...؟
ـ بل ...، حتى عندما لا اعمل على تنفيذها بذكاء وببراعة، فانا ـ لا مناص ـ أنفذها بحذافيرها بغباء نادر.
ـ ولكن الموت لم يأت... للأسف تأخر..، أو ضل طريقه...؟
ـ ربما يكون غادر؟
ـ آ ...، إذا ً فهو مثل الحياة، لا نعرف من أين دخل، ولا نعرف متى توارى. فكم تبدو الحياة سلسة ومقنعة حتى في غياب منطقها وسلاستها؟
ـ المهم إنها أتت....!
ـ آ ...، كأنها لم تأت...؟
ـ رحلت، ربما لم تأت ولم ترحل، ربما ستأتي ولن ترحل، وربما هذا كله حدث ولم يحدث.
ـ تقصدين إنها لم تأت لأنها ستأتي...، أو إنها لم تأت أبدا ً...؟
   اقتربت منها كثيرا ً:
ـ دعينا نعرف ماذا يجري فوق...، في السطح .
ـ أنا لا استطيع الحركة، جسدي ثقيل، مخثر، وقد يكون تحول إلى صخرة...
ـ حسنا ً...، أنا سأذهب واطلع كي أخبرك.
     مكثت تنظر. فدار بخلدها: قلت لها دعينا في القاع نرقد مع عظام أسلافنا، وأجدادنا، وآباؤنا...، لكنها عنيدة...، كأنها تتشهى الموت شهوتي للتشبث بهذا الوحل...؟
    رجعت الضفدعة البيضاء بلون آخر، أشلاء متناثرة:
ـ ماذا حدث لك؟
ـ احتلت الجرذان الساحل، والغربان تحّوم...
ـ عزيزتي لم يعد هناك هواء...، فما ان لمحوني حتى امسكوا بي.
   وبدأت تلملم أشلاء جسدها المتناثرة، قطعة قطعة، حتى أوشكت على جمعها:
ـ ماذا تفعلين؟
ـ أساعدك.
ـ آ ....، أرجوك، دعيني اغطس..؟
ـ لم تخبرني بما حدث بالضبط؟
ـ أنا لا أريد ان اعرف ماذا حدث لي ...، فما فائدة المعرفة يا عزيزتي، وماذا تفعلين بمثل هذه المعرفة...؟
ـ ولكن الموت تأخر كثيرا ً...؟
ـ لم يتأخر ...، نحن تأخرنا عليه.
ـ لكنك قلت انه غادر...؟
ـ أنا لم اقل انه جاء، ولم اقل انه غادر، أو وتوارى، أو غاب. كل ما في الأمر ان الماء أصبح كثيفا ً.
ـ هو .... أم نحن؟
ـ احدنا لم يعد صالحا ً للآخر...، وآن لنا ان نضع حدا ً لحياتنا.
ـ فكرة ..، فكرة جميلة، بارعة، وذكية....، ولكن كيف نحّلق، ونصعد إلى السماوات، وليس لدينا أجنحة...؟
ـ يا للكارثة...، يا للنكبة...، فلم يبق لدينا الا ان نحفر في القاع...، قبل ان يصطادونا، ويرسلوننا الى المحرقة، او يتركون القطط تتسلى بنا..؟
ـ أنا لا اقدر حتى على رؤيتك، فأين أنت، صوتك يصلني كأصداء نائية لا اعرف أهي التي تلامسني أم أنا هي التي تتوهم إنها تلامسها؟
ـ أنا اعتقد إنني ذهبت ولم اعد.
ـ إذا ً فأنت وحيدة مع وحدتك، وربما وحيدة من غيرها، مثلي لا اعرف من منا تخلى عن الآخر. فانا لم اعد اشعر حتى بالوجود الذي فقدته منذ بدأنا نتنفس الهواء، في هذا الفجر.
ـ أنا أبدو غائبة، ولست وحيدة، فحتى الماء لم اعد اعرف أمازال معنا، أم سرق منا، أم هجرنا، أم تبخر وصعد إلى الأعالي، أم ذهب إلى المجهول؟
ـ وماذا نفعل بالماء...، يا عزيزتي، والهواء لم يعد صالحا ً لنا، ونحن لم نعد صالحين للهواء...؟
ـ تقصدين: حياتنا لم تعد صالحة لا للماء، ولا للهواء، وان الماء والهواء تخليا عنا...؟
ـ آ ....، كيف مضى الوهم، كأنه حقيقة..؟
ـ تقصدين: كيف مضت الحقيقة كأنها وهم..؟
ـ لا فارق بين من أتى وذهب، وبين من ذهب وأتى، فلم يعد المستنقع لنا، ولم نعد له.
ـ ها، ها، ها.
ـ تضحكين....، بدل ان تولولي وتذرفي دموعك على ما حصل؟ تضحكين بدل ان تنوحي وتصرخين؟
ـ وماذا حصل لنا...، هل متنا ونحن لم تولد، أم ولدنا كي نموت، ماذا حصل وكأن الذي حصل لم يحصل...؟
ـ صحيح...، فالمستنقع ـ كما سمعت قبل قليل ـ سيختفي من الحديقة، فلا تسليات ولا معاقبات، لا ذئاب ولا برغوث، ولا أعياد ولا تعازي، فأفرح يا قلبي كأنك امسك بلغز الماء، حتى لو كان كثيفا ً كالوحل؟
ـ تخيلي...، حديقة بلا ضفادع..؟
ـ وبلا بعوض..؟
ـ بلا قمل ونمور وبلا تماسيح وبلا غزلان؟
ـ لكن الموت لم يأت...؟
ـ ربما خدعونا...؟
ـ لا، لم يخدعنا احد...، ولكن تخيلي إننا لم نخدع...؟
ـ سؤال دقيق: ماذا لو لم نخدع...؟
ـ الجواب ليس بحاجة إلى عقل، تفكير، روية، ومنطق...، لأن العقل نفسه ليس بحاجة إلى برهان.
ـ لكن لماذا أمضينا هذا الوقت في انتظار لا احد...؟
ـ لم يمض الوقت، أنا وأنت لم نكن بانتظار احد، ولا احد كان بانتظارنا أيضا ً.
ـ كفى ...، دعينا نفر، نهرب..، عبر الدغل، أو عبر الجداول، أو عبر الأنفاق، أو عبر الشقوق، ونبحث عن ملاذ امن ...؟
ـ فكرة عبقرية! ولكن كيف ننجوا من التماسيح، والثعالب، والقطط، والكلاب الشرسة...؟
ـ يا حمقاء..، سندعها تفترسنا، آنذاك نفقد وجدودنا، فلن نفقده أبدا ً. هل تتذكرين كيف نجونا من الحرب..؟
ـ لا، لا أتذكر.
ـ قلت لك دعينا نموت فيها، كي لا نموت مرة ثانية، فمتنا، وهكذا نجونا من فضائح الموت.
ـ آه...، تذكرت كيف متنا وولدنا بعد الموت، ثم لم نمت، ورحنا ننتظره، ولم يأت.
ـ آ ....، فلا احد بعد الآن يقدر ان يمسنا بسوء...، فعندما تبتلعنا التماسيح سنرحل معها، ونفلت من الموت...
ـ صحيح التماسيح لا تموت، فإذا ً نكون عثرنا على الخلود!
ـ ولكن...، يا عزيزتي، لماذا تموت الضفادع..؟
ـ عدنا إلى الأصل: إذا كانت الأفعى خالدة فلماذا لم تنقرض الفئران، ولماذا مازالت الأرانب تتحدى الثعالب ...؟
ـ إذا ً...، لا أحد يقدر ان يمحو الآخر؟
ـ لكن الحقيقة تقول ان الديناصورات ذهبت مع الريح!
ـ مع الريح ....، آ ...، حيث الماء غدا ثقيلا ً كالهواء، والفضاء لم يعد شفافا ً، وقد تكون التماسيح لحقت بها.
ـ الم ْ اخبرك بان النهايات مستحيلة كاستحالة مقدماتها، فمادام الموت لم يأت فانه لن يذهب، وعندما لا توجد اشياء نفقدها نكون لسنا بحاجة لها، وعندما لا يوجد هواء فهذا يعني ان الخسارة فقد لغزها!
ـ اقتربي...، الم تمزق الضواري جسدك...؟
ـ نعم.
ـ من يتكلم معي إذا ً...؟
ـ نسلي الخالد!
ـ آ ....، أيها الخلود، علينا ان نحتفل بك.
ـ لا تكوني حمقاء، الحكاية برمتها لم تحدث...، فبعد ان تكون الحكاية وقد وضعت أوزارها، لا أنا اعرف من أنت...، ولا أنت ِ تعرفين من أنا.
ـ آ ...، صحيح، قبل برهة رأيت في الحلم ساحل المستنقع ابيض مثل جسدي...،  فرحت ارقص، واللعب، واللهو ...، ثم فجأة أفقت...، فإذا أنا سوداء بلون الوحل..؟
ـ وأنا رأيت الحلم نفسه، ولكني رأيت نهايته فأسرعت إلى الفجر، رأيت الغزلان عند الضفاف، بل رأيت الثيران والنمور والخنازير أيضا ً...، ثم وثبت علي ّ أفعى برية متوحشة أمسكت بي وقالت: اغربي عن وجهي! فشكرتها. ثم أفقت...، فإذا أنا لا أرى إلا أشلاء جسدك تتناثر أمامي ...
ـ آ ...، هذا هو التفكيك...؛ أي بمعنى إعادة الصياغة، ذلك لأن اصلب المعادن، هي الأخرى، تستحيل إلى غبار!
ـ جميل...، أين أنت ِ؟
ـ من؟
ـ هذا الذي  غاب، ولم ننخدع به، ولم يخدعنا.
ـ إذا ً ..، لا خدعة، ولا خديعة، ولا أوهام.
ـ آه...، المشكلة إننا تسممنا بالهواء الملوث..!
ـ لا ..، ليس بالماء...، بل جرى اعتداء علينا، لأن الماء يدخل من الفم، ويخرج مع الفضلات.
ـ ونعود نبحث عنه...، نكد ونشقى، ثم عندما لم نجده نضطر للبحث عنه.
ـ  من اعتدى علينا؟
ـ لا اعرف..، لكن عليك الاعتذار.
ـ اعتذر لمن..؟
ـ للماء!  وللهواء أيضا ً...! فهو شبيهة بأحفادنا، يولدون هنا، ويعيشون هنا، ولا يموتون بعيدا ً عن قاع هذا المستنقع.
ـ لا ...، فانا حزينة، وأنت الآن وأنت ِ تلوحين بالمفتاح؟
ـ صحيح...، أنا امسك بالمفتاح، ولكنني لم أر قفلا ً.
ـ جدتي لخالتي قالت ان هذا هو بالتحديد دعوة للبحث عن الباب.
ـ سيدتي، لم يعد لدينا بيت، وأنت تلوحين بالمفتاح؟
ـ آن لنا ان نبحث عن فيل!
ـ جيد..، ولكن شرط ان يكون لونه شفافا ً.
ـ ليكن من غير لون، لأن العبقرية، كما يقول العباقرة، شبيهة بالأحمق الذي يعترض على الحمقى وهم يهتفون لمجده!
ـ اسكتي...، فقد تكون خواطرنا رصدت...، والتقطت ذبذبات أدمغتنا، وتم تحليها...
ـ ها، تقصدين إننا أدينا أدوارنا كاملة، ولم نخف على الريح ما حدث تحت الماء، ولم نخف ما حدث لنا.
ـ لا ...ن قسما ً بالقمل والبرغوث والذباب...
ـ لا حاجة للقسم، فانا أصدقك، لأن الضفادع التي لا تعرف الغش وحدها تذهب إلى الجحيم.
ـ جميل، كم أنت جميل أيها الجحيم، حتى لو كنت لا تخفي، ولا تتستر، ولا تراوغ ...، فقد بحت بما لم يدر برؤوسنا. لقد كانت الحياة عنيدة درجة ان مستنقعاتها تحولت إلى متنزهات، ومتنزهاتها تحولت إلى حدائق. فلا نقيق ولا نباح ولا نعيب ولا فحيح ولا عواء..!
ـ آ ....، ماذا يفعل الخوف بالعقول، لا يدعها تميز بين الأشياء، فيبدو الأسود ابيضا ً، والأزرق متوهجا ً بلون النار!
ـ بالعكس...، يا سيدتي، لولا خوفنا من التعفن، لتعرضت عقولنا للفناء.
ـ جميل، كم كان بودي لو امتلك مفتاح الفناء، بدل ان أزهو متبخترة بهذا العقل الفاسد؟
ـ لا تجدفي...، فلولا الفساد، لسردنا حكاية اقل بلادة ندفع حياتنا ثمنا ً لها.
ـ وماذا فعلنا...؟
ـ لم نفعل شيئا ً...، لأننا لم نولد لكسب هذا الذي جاء مع الهواء، وذهب مع الماء. دخل من الفم وخرج مع الفضلات، ثم عدنا نبحث عنه، وسنعثر عليه! نكد ونشقى ثم لا نجده، فنهرول خلفه، ونمسك به، لنفقده، فيمسك بنا، ليفقدنا. الم أخبرك، إنها حكاية هواء، نسجها فم، مثلما هي حكاية فم كد كي يرى ما غاب في الهواء!
14/1/2016


ليست هناك تعليقات: