بحث هذه المدونة الإلكترونية

مرات مشاهدة الصفحة في الشهر الماضي

السبت، 30 يناير 2016

الذات والآخر في السرد: قراءة تحليلية لمعضلة الهوية في الرواية العراقية 1/3 -سعد محمد رحيم


الذات والآخر في السرد: قراءة تحليلية لمعضلة الهوية في الرواية العراقية 1/3


سعد محمد رحيم
مدخل؛ سؤال الهوية
الرواية خطاب جمالي؛ سردي ـ ثقافي، يُحيل إلى الواقع والتاريخ حتى وإن توسّل بالمخيلة. وهي خطابُ ذاتٍ فردية وجماعية، وخطابُ هوية وزمن وحياة. فالرواية فضاء سردي، الحفر في طبقاتها التحتية يوصل إلى منابع ثقافة، ويكشف عن إيحاءات هوية..
إن مبتدأ علاقة السرد بالهوية هو انشباك السرد بكينونة الإنسان ووجود العالم لحظة وعي الإنسان بهما.. فالهوية هي ماهية نمط وجود وكيفيته ومقاصده، وتمثلات ذلك في الوعي والوجدان.
البحث في الهوية هو من منظور فلسفي؛ بحث في الوجود، في كينونة الإنسان والمجتمعات والعالم.. هذه الكينونة بتاريخها وذاكرتها وأقدارها وحاضرها والأشكال المحتملة لمصيرها قائمة في السرد، في الفنون السردية التي ابتكرها الإنسان منذ أزمان طويلة ليفهم موقعه في الوجود، ويزيح شيئاً من الغموض الذي يجلل هذا الوجود، وهو قائم فيه..
"إن جذور العلاقة بين السرد والكينونة تمتد إلى العلاقة بين السرد والكون في طفولة الفكر البشري. وإذا كانت الكينونة بمعنى عام، تفيد ( الانوجاد ) الحضاري للإنسان في التاريخ، فإن هذا ( الانوجاد ) ذاته يرتد للرؤية التي صاغها الإنسان للكون من حوله، وهي رؤية تقوم على أنساق حكائية تمثّلَ الإنسانُ فيها الكون، وترجمها تخييلياً في أساطيره وخرافاته منذ عصور سحيقة"(1)
يصبح البحث عن الهوية معضلة وجودية حين تتحول الهوية إلى مصدر إعاقة للحياة، وحين تحول عقابيلها دون تفتح الذات وانطلاقها في أفق حر. وفي ظني؛ هذه ثيمة مقترحة دائماً لروايات جيدة.
كل رواية جيدة لابد لها، في لحظة ما، من أن تطرح سؤال الهوية.. وهو سؤال مركّب يأخذ في البدء أبعاداً ثلاثة:
ـ هوية الذات الكاتبة في مواجهتها لنفسها وآخرها، والعالم.
ـ هوية الخطاب السردي بوصفه متناً مثقلاً بالدلالات والمعاني.
ـ هوية النص المكتوب بوصفه شكلاً فنياً مائزاً، أي إبداعاً يفرض نفسه بين نصوص أخرى لا تعد.
والأبعاد الثلاثة للهوية هذه منشبكة في علاقات اتصال مرآوية وتفاعلية، مولِّدة للدلالات.
فالرواية تحكي عن شخصيات تسعى لإثبات ذواتها في العالم.. أن تقول للآخرين، من أنا، وإلى مَ أرمي؟. فينفتح السرد على المغامرة الإنسانية، على تلك التجارب التي تركِّب الإنسان، وتعيد تركيبه في خضم حركة العالم وعلاقاته. ذلك أن الشخصية الروائية تخرج على قيم انتمائها المعطى/ الموروث، رافضةً التماثل مع أعضاء جماعتها، وباحثةً عن الفرادة. فالصفة الغالبة عليها هي التمرد.. إن الممتثل والمتماثل لا يمكن أن يكون شخصية جذابة في رواية.
منذ البدء علينا أن نفترض أن الهوية تأسيس مستمر، ولذا لا يمكن منحها حدوداً صارمة أو مضموناً جوهرانياً.. معضلة الهوية أنها تتخطى نفسها دوماً باتجاه أفق لا يُدرك كأنه السراب، فهي تحفِّز الأسئلة والشكوك.. هذا لا يعني أن لا هوية ثمة.. فقط نحن نتكلم عن شيء زلق حرباوي أحياناً، ولعوب.
إن صوغ عالم روائي هو في فحواه إعادة لصوغ موقع الإنسان والمجتمع في العالم، والتعريف بماهيتيهما.
وإذن تتحدد تمثلات الهوية بـ؛
ـ ما الذي يريد أن يقوله الروائي عن نفسه خفيةً عبر السرد، وعبر ما يرويه الرواة؟.
ـ ما الذي يقوله الرواة عن أنفسهم، في خضم صراعاتهم وعلاقاتهم مع بعضهم بعضاً؟.
ـ ما الرؤية التي تنطوي عليها الرواية إزاء الوجود والعالم؟.
ها هنا لا نقرأ الرواية بعدِّها نصاً أدبياً له شكله الأستطيقي، بأنساق سردية متعينة، بقدر ما نقرأها خطاباً ثقافياً مترعاً بالدلالات التي تحيل إلى خارج النص المكتوب، والذي يرتبط بسياق اجتماعي ـ تاريخي.. فلا نسعى إلى تعيين هوية النص الأدبية. فما يهمنا، في هذا المقام، هو البحث عن تجليات الهوية التي هي موضوعة إنسانية بأبعادها الذاتية والاجتماعية والسياسية والوجودية، في الرواية العراقية المكتوبة باللغة العربية تحديداً.
الذات في السرد
السرد يخترق الذات، يحتلها ويعيد صياغتها.. الذات بعد ذلك هي غيرها قبل ذلك.. الذات السادرة في الحياة، هي الذات الساردة وقد أنسنت الطبيعة وأجرت عليها تحوّلاً، حتى وإن كان طفيفاً لا يكاد يُرى أو يُحس. وتلك هي الثقافة.. الذات الساردة هي الذات بعدما تثقفت. هنا نتكلم في الأنثربولوجيا، ولم ندخل بعد محفل الأدب، وما زلنا لم نتكلم في التاريخ.. الفضاء المشترك الذي يجعل تنقلنا بين هذه الحقول يسيراً، سلساً، هو التخييل. وقد يعترض معترض؛ أفي التاريخ الذي هو علم في الإنسانيات والاجتماعيات، فسحة للتخييل؟. وأقول؛ حتى هذه اللحظة، نعم.. ورثنا بعض حقائق عما جرى، وورثنا كثيراً مما جادت به المخيلة.. لكن هذا لا يمنحنا، ونحن مطمئنون على حكمنا، حق الجزم بأن التاريخ محض أكاذيب. إنه سرديات، كما الأدب، كما الأنثربولوجيا.
وفقط حين نقرأ التاريخ كما نقرأ الأدب، بروح تتسلى، وعقل يتعلم، من غير أثقال الإيديولوجيا، من غير عُقد جذورها في الصحارى البعيدة وفي الأزمنة السحيقة، من غير أن نسحب أدران التاريخ وسوءاته إلى راهننا، سنقلل احتمالات النزاعات، وسننعم بفرص سلام أكبر.
وإذن، الذات هي موضع التقاء جريان التاريخ ودفقات التخييل منظوراً إليها من زاوية موضوعية ـ تاريخية. وهي موضع التقاء تيار العقل والإرادة المحرِّضة على الفعل منظوراً إليها من زاوية ذاتية ـ تاريخية. أي أننا لا نستطيع أن نفصل التاريخ أبداُ عن كينونة الذات.
وعلى الرغم من أننا نعيش في عصر تعولم فيه كل شيء تقريباً، وأصبح التواصل بين البشر، مع توافر التقنيات الحديثة، أكثر يسراً، فإن هذا لم يحل دون تعميق النزعات الذاتية. ولا محل مثالي لاختبار هذه الحقيقة أكثر من ميدان الكتابة الروائية. فالانفتاح المفرط على الخارج يحفِّز في الإنسان الرغبة في العودة إلى الذات والتعرف على مكنوناتها وخلجاتها العميقة، وصراعاتها الخفية، والأهم موقعها ومكانتها، إزاء الآخر.
"إن الرواية العربية في بداية الألفية الثالثة يسكنها توجه جمالي مختلف، قوامها إنصات مرهف للذات، وسبر لأغوارها، ومساءلة تشظياتها، وآثار ذلك على الهوية في عالم مفتوح، لا يكف عن التغير والتبدل بوتيرة متسارعة"(2).
في الرواية العراقية بقيت الشخصيات غالباً، ولمدة ليست بالقصيرة، مغتربة عن ذاتها، لا تجرؤ على الإفصاح عن هويتها الذاتية كما تعيها حقاً وتشعر بها.. بقيت توارب وتناور عبر اللعب البلاغية وتتخفى خلف إنشاء فضفاض وخلف رموز مستغلقة أحياناً خوفاً من أن تكشف عن كينونتها الحقيقية.. كان السرد هرباً من ضرورة الإمساك بحقيقة الذات إلى سردية أخرى مموهة ضبابية، ومقنّعة. ففي كثر من الروايات العراقية لن تستطيع تحديد الهوية المذهبية، والعرقية ـ الاثنية لمعظم الشخصيات، وحتى الهوية السياسية كانت تبقى ملتبسة إلى حد بعيد. وما برحت الرواية العراقية لعقود طويلة تُكتب في ظل رقابة صارمة مؤسسية، وحتى ذاتية.. كان الروائي نفسه يمارس تلك الرقابة، وأحياناً بوسواس وحسابات تتعدى محددات ومعايير المؤسسة نفسها.. ولأن لا رواية جيدة يمكن أن تُنتج في مناخ من القلق والخوف والحذر المَرَضي ظلت الرواية العراقية متأخرة بخطوة أو خطوات عن مثيلاتها المنتجة في العالم، وحتى في دول عربية كمصر ولبنان والمغرب.
كما بقيت ثمة منطقة شبه مجهولة، مضببة، هلامية، خشي الروائي العراقي لمدة طويلة من انتهاكها، وإضاءتها.. كانت تلك منطقة الهوية السياسية الصريحة.. كان ذلك موقعاً مراقَباً، خطراً، ومثيراً للريبة.. أما الذات الساردة فما برحت تلجأ إلى التعمية، إلى الإنشاء الفضفاض.. إلى التداعيات التي لا تفضي إلى قرار.. كانت ثمة إشارات عابرة خجولة خائفة قابلة لتأويل مغاير.. لم تكن المخيلة محرَّرة، واللغة كانت شبه محتلة ببكتريا الخوف.. والرواية المكتوبة، في النهاية، كانت مبتغى هرب لا اعتراف.
غالباً ما نلتقي بشخصيات مأزومة، في روايتنا العراقية، وحتى أولئك المتبنين منهم لأفكار اجتماعية ـ سياسية، والمدافعين عن إيديولوجيات أو قيم عليا نجدهم مصابين بالإحباط، وقريبين من اليأس بهذه المسافة او تلك، وبذا يطغي على لغتهم التذمر والقلق والسوداوية والخيبة، فتراهم غير متوافقين مع بيئاتهم الاجتماعية، ولهم خلافاتهم الحادة، إنْ كان لهم مثل هذا الارتباط، مع مؤسساتهم أو أحزابهم.
هذا ما جرى لكريم الناصري في رواية ( الوشم ) لعبد الرحمن مجيد الربيعي، ولتوفيق في رواية ( المسرات والأوجاع ) لفؤاد التكرلي، و لـ ( كاتب القصص والروايات) هكذا سمي في رواية ( الحلم الجميل ) لأحمد خلف.
يغدو الواقع أقوى من إرادة الشخصية الساعية للتغيير. وبالتالي ينتقم الواقع من المسعى، ويكون الثمن رضوضاً نفسية، وإحباطاً معنوياً، وحيرة عقلية، وانكفاءً على الذات.
وثمة شخصيات تحاول الهرب إلى ملاذات لا تعرف عنها شيئاً. وفي أحايين كثيرة هي لا تعرف على وجه التحديد ماذا تريد.. هنا يمكننا التكلم عن فقدان الاتجاه والتيه.
ولأن أرضيتنا الاجتماعية والسياسية دائمة التعرض لزلازل وانهيارات يصبح خلق شخصية تجد خلاصها في نهاية المطاف، وتنعم بالاستقرار والسلام، ضرباً من التضليل والتلفيق.
وجهة النظر الواحدة المتسيدة على مسار السرد تكاد تطبع الرواية العراقية بميسمها.. وغالباً ما تتداخل في مثل هذه الروايات السيرة الذاتية مع المتخيل السردي، ويرفد التاريخ المتن الحكائي للنص.. في رواية ( الحلم العظيم ) لأحمد خلف يتشكل السرد في إطار واقعي يحيل إلى مرجعية تاريخية معروفة، لذا يمكن قراءتها بوصفها شهادة رجل مثقف عن حقبة مضطربة موّارة بالأحداث الدراماتيكية من تاريخنا الوطني، وعن حياة جيل عانى في خضم تلكم الأحداث. على الرغم من أن المؤلف استخدم ضمير الغائب وهو يقدِّم وجهة نظر شخصيته الرئيسة، وهو شاب يجد نفسه إزاء احتدامات واقع سياسي صاخب، فيتأسس تبعاً لذلك وعيه السياسي ـ الاجتماعي المغذي لموهبته المتفتحة في مجال الأدب.. إنه ( مؤلف القصص والروايات ) الذي لم يكتب شيئاً لافتاً بعد، لكنه يحلم بمستقبل زاهٍ لبلاده، يتساوق مع ارتقائه في عالم الشهرة الأدبية.
نقرأ الجملة الاستهلالية للرواية: "ذات ليلة باردة، اكتشف الولد، أن همس المتزوجين في غرف النوم يُسمع بعد الحادية عشرة..". وهي جملة ذات إيحاء جنسي لا يُخفى، سيمتد كشعاع منفلت ليجلل مساحات واسعة من السرد فيما بعد.. فالشخصية لم تكد تغادر مرحلة مراهقته، ويحيا في بيئة محافظة شحيحة، لا تشبع الرغبات الجنسية الطبيعية، فيعيش عالم استيهامات، عاداً إياه المكان الذي فيه مصرعه ومثواه. هنا يتناظر الحرمان العاطفي والجنسي مع ممارسات سلطة سياسية قمعية، ليعكسا أزمة الشخصية الاجتماعية والوجودية.
في واقع مترع بالتناقضات والمحبطات والكوابيس يستحيل الحلم إلى عبء، وتغدو محاولات تحقيق الذات والبحث عن هويتها فيه إشكالية كبرى.
روايات عراقية كثيرة حاولت خلال السنوات العشر الأخيرة توظيف التاريخ بوقائعه التي شهدها كتّابها، والذين خلقوا شخصيات مناظرة لشخصياتهم، أو بعثروا شخصياتهم في أكثر من شخصية واحدة داخل النص الواحد..
تنقل رواية ( المحرقة ) لقاسم محمد عباس حكاية طالب جامعي ( مروان ) يطلب منه والده، في لحظة عصيبة التخلي عن دراسته والالتحاق بوحدة عسكرية في البصرة هرب منها أخوه ( غسان ).. أي أن عليه أداء دور غسان في الجيش خشية انتقام السلطة من العائلة. فيذهب إلى هناك؛ يموّه شخصيته ويخدع الضباط، يساعده الشبه الكبير في ملامح الوجه بينه وبين أخيه.. وبخسارته لمستقبله الجامعي سيخسر حبيبته ( ياسمين ) أيضاً، وهي ابنة عمه التي تنصحه برفض هذه الصفقة غير العادلة، لكنه لن يحرِّك ساكناً، فتتزوج من رجل آخر..
سيتقمص مروان شخصية أخيه حتى لن يعود مروان مرة أخرى، ولن يغدو غسان بطبيعة الحال. ولن يكون في مكانه الذي تخلى عنه بضغط من ظروف قاهرة، بل لن يجد ذاته ثانية في أي مكان. وإذا كانت الحرب قد شطرت ذاته في ذاتين ظاهرياً فإن الشرخ سينتقل حتماً إلى ذاته الداخلية. وسيحاول من طريق الكتابة أن يمضي بالحوار حتى نهايته علّه يستوعب ما يجري، ويفهم ذاته، من أجل أن يتصالح معها ويعيد لها وحدتها، بعدما كان يقول؛ "وكأنني أتحدث إلى شخص آخر، لا علاقة له بي". فهل سيفلح؟!.
يكتب قاسم محمد عباس روايته بضمير المتكلم. وفي أية رواية مكتوبة بهذه الطريقة ثمة اقتران سري بجنس السيرة الذاتية، لا من حيث الشكل فحسب، بل من حيث التورط بالاعتراف.. إن روايات ضمير المتكلم، كما أزعم، تعد مخزون اللاوعي لكتّابها، لإنهم يُستدرجون، بحكم إغراءات الطريقة نفسها، إلى البوح الذاتي، واستعارة تفاصيل من التجربة الشخصية يستثمرونها في تعزيز عالمهم المتخيل.

ليست هناك تعليقات: