8 ومضات قصصية عن الجنون
عدنان المبارك
3 – السعادة في أن تكون بهلوانا ولو لأمد قصير
- نزهة عرضية في دار المجانين تظهر أن الايمان لم يدلل على أيّ شيء. فريديريك نيتشه Friedrich Nietzsche ( 1900 – 1844 )
يقول مثل عاد جدا ( الفلوس تجيب العروس ). للغالبية العظمى هو مثل عملي وصحيح تماما. لكني أحذف العروس وأضع بدلها طلبات عملية أيضا. أنا لست بحاجة الى العروس. السبب ؟ خشية ما لايحمد عقباه. فتاة ، وليس من المستبعد أن تكون جميلة ، صبغوا وجهها بالمساحيق وأجلسوها على كرسي ونصحوها بأن تمنح وجهها ابتسامة خجولة وتتظاهر بأن خوفها مما سيحصل شديد جدا. مختصر مفيد : أنا بحاجة الى دخل أضافي ، فكل الأشياء معطوبة . سيارتي المتهالكة ومبردتي العاطلة والنفقة التي أدفعها منذ عشر سنوات ، تصرخ بي : ابحث يا رجل عن مدخول إضافي ! وهكذا قررت في الأخير أن أنزل الى الشارع كبهلوان. مفهوم أني تدربت على بعض الأفعال السيركية كمهرج يتظاهر بالغباء التا م ، أو ممثل لأيمان ديني ما أوجمباز يقفز الى أعلى ويحرّك رجليه بايقاع سريع الى الأمام والخلف. فكرت بأن استعراضي سيكون أكثر اثارة وتشويقا لو رافقني قرد ألبسه طربوشا على رأسه و صدرية ملونة. صرفت النظر سريعا عن هذه الفكرة ، فامتلاك قرد يكلفغاليا رغم أن القرود البشرية متوفرة في كل مكان. من ناحية فكرت بأن أدفع اجرة لصبي يتظاهر بأنه قرد. أصبغه بالأسود وألصق بمؤخرته ذيلا. كذلك صرفت النظر عن هذه الفكرة التي كلها استفزاز : تحويل الانسان جهارا الى قرد. فتحويل القرد الى انسان ذي سلطة أمر ممكن...
بعد عرض نال الاعجاب عدت الى البيت فخورا راضيا عن النفس. واخذت أفكر بأضافة فقرات جديدة الى برنامجي. رأسي مليء بالأفكار، لكنها تتجنب تلك المتعلقة بالسياسة وشؤون الديانات وبينها معضلة هل الله موجود أم لا ، كذلك تجنب كل ما يغضب الناس عليّ. في الحقيقة بقي أمامي هامش للعمل لكنه ليس بالصغير. لمست بأن ما أعجب الجمهور وأثار عاصفة من ضحكهم هو قيامي بدور المهرج مما دفعني الى التفكير بان موهبتي تعبّر عن نفسها في حقل التهريج. اذن أخذت أهتم أكثر فأكثر بفنون التهريج التي أخذت تشيع في هذه الأيام بشكل ملفت للنظر. وهل تظنوا بأني غير متابع لما يحدث في عالم الفنون مثلا. عرفت مثلا أن الكثير من مسارح العالم يشرك الجمهور في الفعل المسرحي. بالنسبة لي ستكون فرصة طيبة بل أكثر : باهرة للغاية أن أفعل الشيء نفسه مع جمهوري .وهكذا أعددت هيبيننغ أو فعلا من هذا القبيل فحواه التوجه الى الجمهور بالاسئلة. وأعترف بأنها كلها من النوع الخبيث ، بعبارة أخرى من النوع المنتزع من واقعنا.
اذن رحت الى الشارع بعد أن بالغت في ماكياجي كمهرج وأتحفت أنفي بكريّة حمراء واستعرت من جارلي جابلن عصاه الشهيرة ، وكنت قد تدربت طويلا أمام المرآة على رمش العينين والتظاهر بالغباء والبلاهة. مجموع الأسئلة التي ألقيتها كانت أربعة قبل ظهور أولئك الثلاثة الذين بدوا وكأنهم من أبطال المصارعة الحرة.اقتادوني أمام الجمهور الذاهل الى مكان ليس بالبعيد كثيرا. قبل أن أفتح فمي للسؤال عن جلية الأمر نزلت علي كفخات قوية وجلاليق مؤلمة وسط صراخ وصياح بكلمات لما أفهم منها الكثير سوى أني ملحد وعميل سعودي ( هكذا سمعت رغم أن الصراخ كان عاليا ) ومخنث وجودي . وحين عدت الى البيت بعد هذه البهذلة التي لم تخطر على بالي أبدا اخذت أفقه السبب في ما حصل . كانت تلك الأسئلة الأربعة اللعينة ! ، فأنا سألت عن مجموع السرقات ، الكبرى بالطبع ، وهنا أردت اضحاك الجمهور بذكر قول دارج ( من طيز الدجاجة لحلك أبو علي ). السؤال الثاني : هل هي مجرد شائعة بأن الله خلق كوكبا آخر تعيش على سطحه مخلوقات هي طبق الأصل منا لكن بدون لعنات كالشر والحروب و الايمان ( في الحقيقة رفض ذلك الرجل من الجمهور الإجابة على السؤال ). السؤال الثالث كان في الواقع في غاية البساطة : هل أنت انتخبت هذه الحكومة وهل قرأت سيرة حياة الرجل رقم واحد فيها ؟ السؤال الرابع الذي لا أغفر لنفسي توجيهه الى شيخ من بين الجمهوركنت قد انتبهت الى أنه ضحك طويلا في اثناء عروضي الفقرات الجديدة من البرنامج : واحد ألماني قال بأن الله مات ، هل سمعت بهذا الخبر ، وهو قديم جدا ويعود الى نهاية القرن التاسع عشر؟ ...
انتبهت أيضا الى أني خرقت مبدئي في عدم التدخل بالسياسة والمعتقدات. وفي الصباح التالي طرق الباب بعنف. سلمني أحدهم ورقة فيها قرار سلطات المدينة بحظر عروضي الشارعية. كانت هناك ورقة أخرى من المحكمة تستدعيني للحضور بعد كم يوم للنظر في شكايات من مختلف الجهات وبينها ذلك الشيخ الذي لم يصلني حينها جوابه على سؤالي الرابع.
فكرت بأنه اذا لم يلقوني في السجن فسأفكر بعمل جديد يوفر ذلك المدخول الأضافي اللعين. وجدت من بين كل الأفكار الأكثر عملية و بعدا عن السياسة و المعتقدات والله أيضا ، أن أبيع تلك الحلوى التي تجيد اعدادها عمتي أم عمار.
*
4 - حين لم أسمع نصيحة هشام
- محادثات حلوة جنونية مليئة بانصاف الجمل و أحلام اليقظة و أحوال سوء الفهم هي أكثر أثارة من أحوال فهم سوف لن تكون أبدا . توني موريسن Toni Morrison ( 1931 )
هكذا أنا ابحث عن الناقص دائما – نقص في الفهم ، نقص في الأخلاق ، وحتى نقص في التسامح رغم أن أحاديثي مع الاخرين لا تخلو من الجنون . اسمع دائما الرد نفسه على سؤالي بخصوص هذه الهوة بيني والناس والتي أشعر بأنها تكبر باستمرار. لحسن الحظ انا أتجنب كل مواجهة ومهما كانت صغيرة وتافهة. صار طموحي كله في أن أكون مسيحيا نموذجيا ، يدير خده الآخر لتلقى الصفعة التالية ، ويحب اعداءه ( الكلام بيننا لا أحب جميع هؤلاء خاصة اذا كانوا من النوع المؤذي والخطر على المجتمع والناس الآمنين.رغم مسيحيتي النموذجية وجدت نفسي معزولا وتحيطني الشبهات . لا أعرف السبب الحقيقي. صديقي الأقرب هشام لخّص المسالة بأني لا أثير التعاطف بسبب أمراضي النفسية وشكوكي المرضية وانعدام مطلق للثقة بالجهات الرسمية. بالطبع دافعت عن نفسي بالقول اني لست شاكا بل متحوطا وحذرا ، أما علاقتي بالجهات الرسمية فهي مثقلة بالأخطاء والخطايا من جانبها. هشام يعرف كل شيء لكنه يرى بأن عليّ أن ألجا الى سلوك شبيه بما يفعله الساسة ، فالمهم هنا ليس طبيعة السلطات بل الغرض ، غرضي ، من كل هذه العلاقات السيئة. هشام صديق حقيقي ، فعلاقتنا قائمة على التفهم والتساهل من جانبه. وما يحزنني أنه لا يجد عندي هذين الشيئين. ففي أغلب الأحوال يكون شاهدا على انفجاراتي العصبية وانزال اللعنات وحتى على الرب في بضع مرات ( لعلمكم لا أعتبر هشام من المؤمنين ولا هو يعتبر نفسه هكذا ). هشام أوضح لي أكثر من مرة بأن كل هذه الانفجارات لا تقدم ولا تؤخر ، وعموما ( أنت يانعمان لن تحقق شيئا بطرقك مثل هذا الدرب الوعر ). المفارقة الكبرى هنا أني على اقتناع تام بأقوال هشام لكن المشكلة في أني أنساها بأقرب مناسبة. أنسى بأن السلطة هي السلطة وأن هناك بشرا طيبين وكلهم احتشام وآخرين على العكس منهم. اذن ما العمل؟ نفي الأشرارالى كوكب آخرأم تخويفهم ليل نهار بما سينتظرهم في العالم الآخر ؟ لا أظن بأنه تخويف ناجع ، فهم واعون بأفعالهم. أما السلطة فهي كما كانت وكما هي وكما ستكون. برأيي طالم لا يمكنني الاجهاز عليها فلألجأ الى تنغيص عيشها ومهما كان هذا التنغيص - كبيرا أو صغيرا. المهم أن أفرغ هذه السموم من جسمي. وهكذا وصلت حينها الى نتيجة معيّنة. لحسن الحظ كانت التنغيصات التي أديتها من النوع الصغير بل البريء على وجه التقريب كأن أضيف كلمة او كلمتين الى واجهات المؤسسات الرسمية. هذه الأضافات استغرق تنفيذها وقتا ليس بالصغير ، وقد حالفني الحظ في أنهم لم يكتشفوا الفاعل فورا. لعلمكم أيضا أن هشام لم يمنع نفسه من الابتسام حين عرف بمؤامراتي الصغيرة هذه. وكنت قد بدأت بواجهة وزارة الصحة التي صارت ( وزارة الصحة والعافية والأوبئة والمقروبات ). خطّي جيد جدا والتنفيذ كان متقنا حقا و لو جاء مخلوق ليس من بلادنا لصدّق بأن هذه الوزارة ترعب المقروبات أيضا. بعدها رحت الى وزارة المالية وكتبت هناك ( وزارة الخزينة الخاوية ) ثم وزارة الري التي صارت وزارة للجفاف. أقول لكم باني لم أكن مغتبطا في حياتي وكما في مغامراتي مع واجهات السلطة. جابهتني بعض الصعوبات مع واجهة وزارة الخارجية لكثرة الكلمات الموائمة لعمل هذه المؤسسة لكني أضفت في الأخيرالكثير من الكلمات : ( ... والخوارج والطبيخ و " أوكي " على بركة الله والأولياء ).
أكيد أنه كانت هناك إخبارية ضدي ، فبعد انتهائي من تلك الإضافات بيوم واحد قاموا بفتح بابي عنوة ( كنت في الحمام ولم أسمع زعيقهم ) وأكتشفوا كل شيء : الأصباغ و نماذج الكلمات المنقوشة على الواجهات. لم يضربوني بل أرسلوني الى الطبيب الاختصاصي الذي اكتشف فيّ بارانويا لا يستبعد بأنها أكثر خطورة على المجتمع من التفجيرات في الأسواق. في الحقيقة أنا سعيد في سكني الجديد. فجميع القاطنين هنا هم رمز كبير للوداعة وقلة الكلام لا أعرف مدة اقامتي في هذا السكن المريح لكن قراري نهائي : سأواصل ، في اثناء ما بقي لي من العمر ، تنغيص حياة هذه السلطة.
*
5 – أنا كلي سعادة ، ف( سقراط ) معي
- الجنون نسبي. ويعتمد الأمر على من هو المسجون وفي أيّ قفص. ري برادبري 1920 – 2012ٌ Ray Bradburyٌ
- إلى الصديق عادل كامل
يزداد يقيني بصحة حكمتنا ( الجنون فنون ). فالكثير من هذه الفنون لا يظهر على السطح دائما . بعضها كامن الى نهاية العمر ، وربما تستيقظ في العالم الآخر. الحال عندي على النقيض ، فمنذ سني الطفولة كنت أعرف بأني مجنون ، و الفضل هنا ليس لوعيي بل لسماعي في كل يوم بأني ( موعاقل ). بالفعل في عمر الرابعة أنزويت في زاوية من غرفة الجلوس الكبيرة ورحت أفكر : لي عينان وأذنان و منخران لكن عندي فما واحدا. هل كان هذا سهوا أم أمرا متعمدا ؟ بقي السؤال لغاية اليوم بلاجواب. في عمر المراهقة بقيت أوجه الأسئلة في ذلك الركن من الغرفة. ثم جاء سن البلوغ شغلتني أمور أخرى أي دفعت جانبا تلك الأسئلة لكني لم أمحيها من العقل والذاكرة. بالطبع جاءت أسئلة جديدة لكنها لا تخص فسيولوجيتي هذه المرة بل فسيولوجية المجتمع وأفراده ثم العالم القريب والآخر البعيد. كنت أسمع اللغط في شارعنا و لغط التلاميذ في المدرسة و هناك أيضا لغط الكتب . اجتمع كل هذا كي يعمّق جنوني الذي صار يتمثل بلامبالاة وانفصال تام عما يشغل الآخرين. أكثرت من التحديق في السماء . رحت أنسج قصصا عجيبة غريبة عن حيوات في النجوم. مرة كشفت عما يدور في الرأس لأمي ، وهي معلمة وتعرف الحياة على الأرض جيدا كان جوابها أني أجتاز طريقا وعرا بمثل هذا التفكير ( قالت أنها هواجس يغلب عليها اللون الأسود ) الذي يوقف مسيرة حياتي ويدفعني في طريق جانبي مسدود. أعترف بأنها لم تقنعني ، وصار شاغلي أن أعثر من يشبهني في مثل هذا التفكير. خلال عشر سنوات بحثت طويلا لكني فشلت. ليس تماما فقد كان هناك من يشبهني بخمسين بالمائة و آخر بستين وثالث بعشرين. كل هذا كان يعني أنصاف حلول. ولذلك لم تستقر علاقاتي مع هؤلاء.وهكذا دخلت دربا آخر و جديدا تماما : قوّيت علاقتي بالحيوانات خاصة أني أرى بأنها تفهمنا لكنها تعجز عن التواصل معنا بلغتنا. بضعة وقائع أقنعتني بأن الحيوان يفهمنا أيضا لكننا بدافع غرورنا البشري وتفوقنا العقلي نظن بأنها مجرد حيوانات. وهكذا مضت ست سنوات واعتاد واحدنا على الآخر. أقصد القط الذي أطلقت أسم الدلع : سقراط. وكما لمست اعتاد هو على الاسم الى درجة انه لا يقترب مني اذا ناديته بدون هذا الاسم. وكان يرافقني وحتى في اثناء الوظيفة ، فقد اتفقت مع أحد السعاة في أن يبقى ( سقراط ) في احدى الغرف الفارغة في الدائرة لغاية انتهاء الدوام. المبهج حقا أن ( سقراط ) فهم كامل هذه العملية ، وبقي في الغرفة لساعات ثمان مظهرا صبرا عجيبا. الا أني كنت أجزيه بالقشدة والمثلجات التي صار مغرما بالتهامها. وحدثت المأساة عند عبورنا الشارع . لغاية الآن لا أعرف لم تكاسل ( سقراط ) و لم يعبر بنفس السرعة التي عبرت بها. المسكين نفق فورا. ودخلت في مشاجرة حامية مع السائق مما أثار ضحك المتفرجين على هذه الواقعة.
لا أعرف أين قرأت بأن الأرواح ، وليست أرواح البشر وحدهم ، تتخاطب معنا ، وربما مع مخلوقات من كواكب أخرى. بالفعل جاءتني روح ( سقراط ) في ليلة من ليالي الشهر الماضي .لم يكن حلما بل واقعا شبيها تماما بواقع تحريك ساقي اليمنى الآن. وظهرت المشكلة القديمة من جديد فيما يتعلق بالتفاهم مع ( سقراط ) الا أني لمست تحسنا في الوضع ، فها أنه حين أتكلم يهز رأسه موافقا ويقوم بهزة أخرى حين يعلن عن عدم موافقته. بأختصار كنت في غاية السعادة ورجوت ( سقراط ) أن يعود الى رفقتي القديمة ان أمكن. تبين أن عالم الأرواح هو أحسن بكثير من عالمنا ، فهم سمحوا له بمرافقتي ليل نهار. نعم ، لا أزال سعيدا رغم تبدل سكني .الا أن ( سقراط ) معي ، و لا أظن أن بمقدورهم أن يبعدوا أحدنا عن الآخر. المهم لدي أن سكني الجديد يلقى قبول ( سقراط ) فهو سكن مشترك ، وأحيانا يعلو ضجيج السكنة من ضحك ونحيب وتمزيق اللباس بل وصل الأمر الى أن حبيب وهو جاري الذي كان وديعا وهادئا شنق نفسه. لا يهم ، فالسكن يطاق هنا ولامقارنة البتة بينه والسابق حيث كنت تحت مراقبة مشددة طوال الوقت. الأهم لدي أن لا تظهر ظروف سيئة تفصل بيني و( سقراط ). الاشكال الوحيد هنا هو أني لا استطيع توفير القشدة والمثلجات ل( سقراط ) ، فهم يمنعوني من الخروج .
( سقراط ) تقبل هذا الأمر بهدوء رواقي حقا الا أني وعدته بالقشدة والمثلجات في اول فرصة مواتية.
*
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق