قصة قصيرة
الشق
عادل كامل
وجد انه يتعثر بإكمال ترتيب جملة تتكون من ثلاثة أصوات، فما أن ينطق بالصوت الأول، حتى يتراجع للبحث عن الصوت الثاني، وما أن يعثر على الصوت الثاني حتى يكتشف انه غير مناسب للمعنى الذي قصده، وما أن يعثر على الصوت المناسب حتى يجد صعوبة اكبر في العثور على الصوت الثالث كي يكمل ما كان تبلور داخل ذهنه، بعد أن غادر الحفرة، وراح يحدق في فتحتها، من الجهات التي بدت له إنها محصنة، ولا تسمح له بالابتعاد عنها. فتحة بدت كنافذة صغيرة، ثم اعترض، إذ ْ بدت له مثل جرح لم يلتئم بعد، كأنه حز طولي حفر بقسوة، حتى وجده انه لا يعني أكثر من شق لم يعد يذكر اهو فتحة الحفرة أم نافذتها أم بوابة للطوارئ...؟ تسمر لبرهة مدركا ً استحالة بناء ثلاثة أصوات تمثل ما أثاره الشق، الذي بدا له مثل حبل رفيع يتأرجح ويتمايل ثم بدا له، على العكس، خشنا ً، وصلبا ً، فدار بخلده، انه لم يعد يمتلك وسيلة للتفكير بمعزل عن الكلمات، فالصوت، متابعا ً بحذر شارد، مكتظ بذاته حد الانفجار. فرفع رأسه قليلا ً مستدلا ً برائحة التراب الرطب، ممتزجة بالدغل، والأوراق، والأشواك، إنما كانت رائحة الحفرة حادة، لم تسمح له بالحركة والابتعاد أكثر من أمتار قليلة، ليس لوجود الحواجز سببا ً ليمنعه من التقدم، ومن اجتيازها، بل لأنه، منذ سنوات، اكتفى بما توفره له من حركة، وصلة حميمة لا يمكن فصلها عن الحفرة. حفرة لا تمتد عميقا ً في الأرض الرخوة، ذلك لأنه لم يجد ثمة ضرورة للتوسع بفضائها الداخلي، مكتفيا ً بما توفره لجسده من استقرار، بعد أن اعتنى بتكور جسده داخلها، ومن غير ضرورة للتوسع، لأداء أعمال باذخة، دار بباله، أو لأي نشاط يمكن الاستغناء عنه.
وعاد يتأمل: إنها ليست فتحة! لا...، معترضا ً، لأنها لا تبدو مناسبة للحفرة، فهي، رفع صوته من غير اكتراث لتداخل الأصوات، أو اضطرابها: شبيهة بالشق. ومثل حز عميق في كتلة صلدة. فلقد فكر بوجود علاقة ما بين نهاية الحفرة ـ وأحيانا كان يدعوها بالمغارة أو بالبئر المائل ـ وبدايتها. فالشق راح يؤجج لديه صورا ً لم يعد يراها، بعد أن وجد ان ظلام المغارة ـ نطقها هكذا بلحظة نشوة ـ لا علاقة له بانخفاض الأصوات، حد انه لم يجد مبررا ً للقول بان الصمت يمكن ان يكون كلمة دفينة مادامت، ردد، ان الحقائق تبرهن انه طالما لمح ما لا يحصى من الومضات تشع عندما يكون الظلام تاما ً، وقد شغل فضاء الحفرة بالكامل، ليجد انه اضطرب في العثور على سلامة التعبير، حتى لو كان أصواتا ً مبعثرة....؛ فانا هو من بدأ الحفر...، وأنا هو من اكتشف ان الصمت لا وجود له بينما لا وجود للظلام للخالص بالمرة...، وها أنا أجد ان الفتحة، لا تدل لا على الظلام، ولا على ما يمثله الصمت.
مرت الخواطر من غير زمن، فقد شعر إنها كالعلاقة بين الفتحة ونهايتها، إنما: هذه ليست مدخلا ً ولا بابا ً ولا نافذة ولا بئرا ً مائلا ً ولا حزا ً غائرا ً في جدار...، ولكنه لم يجد كلمة مناسبة إلا عندما تذكر انه لم يكن مهددا ً بعدو، أو بمداهمات مفاجئة، خاطفة، تحصل على نحو غامض، فلم يضطر لتأمل ثقوب تحميه من الخطر، للمغادرة، والهرب....، فما أن غادر جناحه، واستقل عنه، لم يجد معارضة حتى شعر انه وجد الحل المناسب، فلم يستغرق في العمل إلا ساعات حتى أكملها، بعد أن موه المدخل، حتى عندما ألقى نظرة عليه لم يتعرف عليه بيسر، ولم يفكر أن يجد له اسما ً، لا له، ولا للمغارة ذاتها التي كانت، من الداخل، شبيهة بجسده. فما ـ هي ـ الكلمة المناسبة....؟ ابتعد قليلا ً، رافعا ً رأسه، ليشاهدها تحولت إلى: شق....،لا...، وتردد، لكنها ليست فتحة، ولا نافذة، ولا ثقبا ً....، فقد تخيل انه صنعها من غير تصوّر مسبق، وان لم ينو أن يجعل منها مدخلا ً، ولا بوابة، ولا حتى بابا ً....
ترك رأسه يستقر فوق العشب: فالحفرة برمتها أصبحت بمثابة الشق الذي خرج منه...، لا...، اعترض، فانا لم اخرج منه...،فانا كنت حسمت الأمر بعد أن تشتتنا وهربنا من الجناح...، فانا إذا ً هو الذي حفره، صنعه، رتبه، وأنا هو من دخل فيه...! أغلق فمه للحظة مستنشقا ً رائحة كانت تحملها نسمات الفجر...، رائحة لدنة، طرية، فخاف...، وعندما لمح خيوط الفجر من وراء الأشجار ذات الألوان الداكنة ترسم حدا ً بين السماء والأرض، اقترب من الشق: آ ......، أنا خرجت منك، وها أنا أعود إليك! لا ...، ذلك لأنه تسمر يتأمل المدخل مرورا ً بالحفرة حتى بلغ قاعها: يا لها من مسافة؟ شق غائر يغوص في التراب، ولكنه لم ينغلق. ابتسم ساخرا ً من عملية اللهو التي انشغل بها....، إنما أجاب بأنه طالما أمضى الليل يتحسس الحرارة الصادرة عن جسده، الحرارة التي كثيرا ً ما كانت تحميه من التجمد، حرارة امتزجت بأنفاسه، وبإشعاعات صادرة من باطن الأرض...، رغم انخفاض درجات الحرارة في الخارج. حرارة كان يتغذى عليها، حتى اكتشف إنها كانت تبدد العتمة، وانه كان يستطيع رؤية السقف، والحيطان، والأرضية الترابية المغطاة بالأعشاب، والعيدان، والريش، والصوف....، ويصغي إلى أصوات غامضة متباينة في شدتها، وفي انخفاضها...، تارة يسمع في الصمت عويلا ً، وتارة يصغي إلى أنين مكتوم، وأحيانا ً يرتجف لسماع أصوات دوي وأخرى لخرير تدفق المياه، أو لسقوط الأمطار، ممتزجة بأزيز لمرور الريح....، فليس ثمة علاقة ما بين الصوت والصمت الذي تخيله كحبيبات العتمة مزدحمة بالبذور المشعة. لا يوجد صمت بإمكانه أن ينفصل عن اثر ابر ملونة ذات نهايات براقة تحدثه في جسده كالتي كانت تتركه المخالب والأنياب وهي تعمل عملها في تمزيق جسده فيصرخ نافيا ً أن يكون للصمت الدلالة ذاتها لانعدام الأصوات، فكثيرا ً ما كان الصمت يلامس جسده بقسوة مثل مخالب وأنياب حادة تخترقه، فتدميه، وتعمل كعمل الإبر في جسد الطريدة فيلوذ هاربا ً باحثا ً عن جحر، أو نفق، أو حفرة، أو ثقب، أو شق، أو فجوة بين الصخور.
وكأنه تخيل جده يصغي لصوته المتقطع، غير المترابط، ساخرا ً من لجوئه إلى مكان منفصل عن جناح الأرانب....، فأنت لا تلوذ بالماضي بل بما قبله....، تريد أن تعرف كيف حصل ذلك...؟ لا....، أجاب بشرود: لا .... أنا لا ابحث عن الحقبة التي لا فزع فيها ولا ذعر أو خوف....، بل أنا مشدود حد الجنون بهذا الشق الذي افسد علي ّ فاتحة هذا النهار!
نظر إلى اليسار، والى الخلف، والى الأمام، والى اليمين، فلم يجد أحدا ً. لقد لمح خيوط الشمس تملأ الفضاء، ولمح تحول البلور الفضي إلى إشعاعات مستقيمة ومتموجة ممتزجة بالغيوم المتناثرة...
ـ أصبحت اكلم نفسي!
ضاحكا ً بسخرية:
ـ بمعنى أصبحت: أهذي!
وقال حالا ً بعد لحظة صمت:
ـ مع من أهذي.....، وأنا كنت أدركت إنني لم اعد موجودا ً...؟
لم يصدم، فلم يجد كلمة لها الأثر ذاته الذي تحول إلى: شق! فالأخير غدا مؤنثا ً. لا، رد: فأنا تماما ً لم اعد ابحث، بعد أن محوت وموهت أي اثر للفتحة والحفرة وجعلتهما يندمجان بعضهما بجسدي عميقا ً بالصمت وبالظلمات.....، فانا لم اعد منشغلا ً بأحد...، ولا حتى بهذا الذي لا اعرف كيف يمتلك جرأة استفزازي...؟
انجذب لرائحة الحفرة فأحسها مثل هالات لها حافات رمادية تتدفق دافئة تخرج من الشق: رائحة بذور مضى زمن طويل على قطافها، لها مذاق العفونة. فكادت تجذبه للتراجع والعودة إلى الداخل، إنما عاد يشاهد الشق يرتفع من الأسفل إلى الأعلى: مثل هيأة الجناح الذي تهدم...، وهرب منه، فاستفزه الشكل: كأنني أراه للمرة الأولى....، وكأنه انبثق من العدم توا ً. فثمة حرارة لها رائحة رفيف أجنحة طيور ممتزجة برائحة سيقان أعشاب طرية وأخرى جافة. فضلا ً عن ومضات تحمل رائحة صوف وشعر ما انفكت تلامس انفه وتخترقه حتى أحس أن شيئا ً ما يوشك أن ينفجر داخل كيانه.
أغلق فمه بصعوبة، بعد أن شاهد الشق يتسع أمامه حتى غدا بوابة بحجم باب الحديقة...، متخيلا ً أن الشق كان فوهة بركان...، تارة، وتخيله مثل شقوق الأرض التي تحدثها الزلازل المدمرة، تارة ثانية. إنما خيّل له أن الشق مثل بحيرة بدت له مثل حوت هامد...، رأسه يرتفع قليلا ً إلى الأعلى، وله أجنحة، وينتهي أسفله بمثلث حاد الحافات: بركان استحال إلى بحيرة اتخذت هيأة سمكة عملاقة: يا له من شق!
ـ أتراني صغت جملة مفيدة....، خالية من الحركة...؟
أجاب بصمت إن الزمن انسحب وتوارى تاركا ً الفعل يتراجع حيث الصفر دفن أعداده وصار شقا ً!
ـ من يتعقبني...؟
وكتم صوته كي لا يبدو مرتبكا ً وكي لا تغدو عزلته قد تحولت إلى ما يشبه العقاب الذاتي مما تستدعي طلبا ً للعون، او الرحمة! لا...، قال مع نفسه، من غير ان يفتح فمه، كي لا يظن انه بصدد طلب المساعدة...، أو استجداء المعونة. فالعملية برمتها نجحت رغم غياب المريض! فثمة المرض وحده هو المشكلة، وليس الطبيب، ولا العقار. فانا ....، أفلحت بعزل حياتي تماما ً عن هذا الذي ...
أغلق فمه منشغلا ً ـ بلا إرادة ـ بالشق. فقد لاحظ إن السمكة لم تمت، ولها ذيل شبيه بهرم مقلوب، وهي تشع حرارة ناعمة تسللت إلى جسده مثل عطر لم يلوث بالغبار. أحس إن جسده يتهاوى، وهناك خدر بدأ يتسلل منتقلا ً من الرأس إلى الأطراف، شعر بأنه تحول إلى اخطبوط يحتضر، ويموت..!
ـ كأنك تتكون توا ً...، فقد كان موتك شبيه بالحفرة التي سكنتها وسكنتك...؟
عاد يتفحص الشق، وقد غدا أعلى من مستوى الأرض، يرتفع كنهايات أشجار تتدفق من خلفها الريح بغيوم داكنة.
ـ آ ....، ستمطر إذا ً...، وقد آن للطوفان أن ....
إنما صدم وهو يرى الشق يغيب. يلتئم، ليصبح خطا ً حفر برقة، من الأعلى إلى الأسفل، يغيب أم ينبثق؟ لم يجد ضرورة للإجابة...، فالخط كف عن أداء عمله؟ فلم يعد يعزل، ولا يفصل، وليس هو بفجوة. فقد بدا رابطا ً أو لاصقا ً بين الجهتين، ليبدو الشق مثل ثمرة ناضجة. اقترب قليلا ً...، كأنه أراد أن يراه بجسده، وليس بعينيه، ثم ابتعد...، برغبة لا إرادية ترك رأسه يستقر فوق الحشائش.
ولم يستطع تجاهل انه لا يمتلك رغبة بالذهاب ابعد من المكان الذي يتمدد فوقه، فعاد يبحث عن الخط وقد بدا له حادا ً، منحنيا ً، وليس مقعرا ً، ثم بدا له كغصن شجرة جاف وفي أعلاه تتكوم مجموعة أوراق أبرية الحافات وفي أسفله ظهرت الجذور ممتدة وغائصة في الأرض...، فأحس براحة ما قائمة على الوهم، فالظل الذي شاهده لم يكن سوى شعرة شطرت عينه اليسرى وحجبت عنها رؤية الشق كاملا ً، وكأن ما بدأ يراه هو الحقيقية الملموسة، وليس طيفها، فالانشطار سرعان ما تلاشى ليعيد مشاهدة كتلة ضبابية اتخذت شكل الأمواج، إنما عموديا ً، بعد أن اوحت له بأنها كانت مستقرة أيضا ً فوق التراب.
فدار بباله انه لم يقم بحماقة بمغادرة الحفرة، بل كل ما حصل انه خرج لتنفس الهواء، والاستمتاع برائحة النباتات، والزهور البرية، وإعادة التثبت من موقع مغارته بين الأجنحة الأخرى...، من ثم العودة والاستقرار داخلها. ولكنه سرعان ما شعر بتثاقل في ترتيب الأصوات، وصعوبة بمنحها سلاستها المطلوبة، مدركا ً انه يواجه ضربات غامضة، وان أفكاره مهزوزة، مرتجة، فقد لاحظ، في الأعلى، نباتات ترتفع عاليا ً، بدت له مثل أعمدة حجرية لم يستطع رؤية نهايتها. وواحدة ظهرت كأنها فنار، أو منارة، فقد بدت له مثل: قصر قديم شيد عند ضفة النهر...! ثم سرعان ما استبدل الكلمة بكلمة: عمارات...، كان سمعها من الزوار، وقد أربكته، فاستبدلها بكلمة: ناطحات السحاب! فوجد فمه ينفتح عن ضحكات متتالية، من غير سبب محدد، فهي بمثابة شقوق عمودية، مثل فنارات...، ترتفع عاليا ً، لا أكثر ولا اقل. معترضا ً: لكنها حادة، مستقيمة، وغير متعرجة، وليست غائرة. فهي لا تقارن بفتحة المغارة: بيتي! وانفجر بقهقهة متوترة أدت به للشعور باتساع الفراغ: إنها عمارات شبيهة بالقصور التي كان يراها تمتد عبر ساحل النهر...؛ قصور الأثرياء! وهدأ من روعه قائلا ً انه لم يعد هناك أغنياء أو فقراء...، فقد كان ذلك قبل الطوفان الأعظم ...، إنما هي، دار بخلده، هياكل معمارية شبيهة بما حكاه جده له عن منازل الصالحين في العالم الآخر. آ .....، وما شأني أنا بالتقسيمات، والفوارق، والاختلافات، إن كانت للأغنياء أو للشحاذين، إن كانت في عالمنا أو في العالم الآخر...، فإنها ليست إلا تصوّرات قلب يعمل بعشوائية!
ـ انك لم تعد ترى حتى الشق الذي طالما جذبك، ولفت حواسك، وانجذبت له شارد البال....
ـ من أنت....؟
ـ أنا هو أنت الذي لا هو داخل الحفرة ولا خارجها!
ـ آ ....، عرفتك! هو أنت جدي ...، جدي الأعظم، الذي طالما سمع عن أسلافه إن حفيدا ً سيأتي ليساوي بين الشقوق والحفر والجداول ...، الولد البار الذي سيردم العثرات ويضع حدا ً للنهب والسلب والقتل!
ـ اسكت! فالحرب لم تنه بعد، لأنك لم تعد ترى سوى الخراب والأنقاض والتصدعات!
شعر أن جسده يتخلى عنه، وانه غدا خارجه، الم ْ يصغ عميقا ً لجداته الصالحات وهن يقصصن له كيف تخرج الروح وتحوّم فوق جسدها ثم تغيب ولا ترجع أبدا ً إلا عندما لا تجد مكانا ً لها لترقد مرة ثانية في المكان الذي غادرته! وعاد يتخيل الشق مثل حدقة عين ظبية، لكن من غير بؤبؤ، بعد أن أزال الشعرة التي قسمت الشق وشطرته إلى يسار والى يمين، ليراه تحول إلى فم شبيه بفم ضفدعة كبيرة تحدق مذعورة في السماء. كتم فزعه لأنه سمع نقيقا ً تخللته حشرجات كصرير أبواب خشبية عتيقة...، وشاهد آلاف الأفواه متراصة بدت له مثل وجود فئران مذعورة جمدها البرد أو صعقت بتيار قاتل فمنعها من الحركة. سمع أنينا ً مكتوما، وأصوات آلات ومكائن ينبثق من أفواه الضفادع، والفئران، وقد استحالت إلى فوهات شبيه بفوهات البنادق التي طالما استخدمت في الحرب الأخيرة، وفي الحروب السابقة، ولكنه سمعها تصمت، بعد أن استحالت إلى أشكال لا حافات لها، فضحك متندرا ً من اللا حافات في وجودها مقيدة بهيآت لم يرها من قبل، فالصوت راح يرتد، ثم يقفز، ليجد انه تعثر بالثالث، والرابع، بعد أن تداخلت المقدمات بنهاياتها. فلم يعد يرى مثلثا ً رأسه إلى الأعلى، ولا مثلثا ً رأسه إلى الأسفل، ولم يعد يتجه إلى اليمين، ولا إلى اليسار: وجوه ضفادع، أو فئران، أو فوهات بنادق آلية ، صماء، بدت تتخذ شكلا ً بيضويا ً. فلذ ّ له أن يمد أصابعه الناعمة ويتلمس الشق.
ـ ابتعد ...، كن حذرا ً، فماذا تفعل؟
تجمد، وتخيّل جسده يتصلب، وقد تحول إلى كتلة من صلصال، لولا انه سمع همسا ً رقيقا ً، ناعما ً:
ـ بهدوء، وليس بقسوة!
مد أصابعه وتركها تغوص:
ـ ماذا تفعل، الم اطلب منك أن تكون لينا ً، سلسلا ً....؟
وارتفع الصوت يدوي في رأسه:
ـ كن رقيقا ً.
غابت ناطحات السحاب، وغاب الشق، منشغلا ً باستنشاق رائحة بذور وصوف وقشور ملأته حتى وجد جسده مسترخيا ً وممددا ً فوق العشب تماما ً:
ـ آوووووه.
فاقترب نورس يتعثر في خطاه، وسأله:
ـ أيها الحكيم ...
رفع رأسه ليرى إن كان الآخر يتحدث معه أو مع آخر سواه:
ـ معي إذا ً...؟
ودار بباله: وليس مع احد غيري. أجاب النورس:
ـ لم نرك منذ زمن بعيد ....؟
ـ وأنا أيضا ً لم يسعدني الحظ برؤيتكم!
اقترب النورس منه قليلا ً:
ـ يبدو انك خرجت للاستمتاع بأشعة الشمس في هذا اليوم البارد الحزين..، أم انك ضجرت من ظلام المغارة وعفن رائحتها...؟
لم يجب. فعاد النورس إلى الكلام:
ـ على أية حال، من الصعب البقاء وحيدا ً داخل الجدران، وأنت خلقت كي تتمتع بالحياة، لا أن تركلها!
لم يجب أيضا ً. فسأله بصوت متوتر:
ـ هل أتركك كي تستمتع بوحدتك، وعزلتك هذه ...؟
ـ هذا أفضل...، لو سمحت!
ـ ولكنهم أرسلوني كي اعرف ما إذا كنت...
فرد بغموض:
ـ ألا تراني ...، أتأمل ما آلت إليه حياتي...
ـ وما آلت له ....، وأنت وحيد في العراء، تحت هذه الغيوم...، أم أنا أرى كائنا ً آخر غير الذي عرفته...؟
ـ لا أنت تراني أنا نفسي...
ـ ماذا تقصد....؟
رد الأرنب:
ـ خرجت من الحفرة، وأنا لا اعرف ماذا اعمل خارجها، فقلت إذا دخلت فماذا افعل في داخلها، فقلت: يا لها من محنة...، ثم فجأة لم تعد هناك محنة، فقد انشغلت بتأمل الشق الذي ضاع ولم أجده كي يسمح لي بالدخول من المكان الذي خرجت منه!
ـ ها، ها، ها....، ظننت انك ضجرت من نفسك!
ـ لا...، ولم الشعور من الضجر..؟
ـ على اية حال، يبدو انك لا تفكر بمغادرة حفرتك؟
ـ ها، هل تصدق إنني الآن لا اعرف كيف ادخلها..! فمنذ وقت وأنا حائر ....، متى خرجت...، والآن لا اعرف ماذا افعل ..؟
ـ دعك من الحفرة.
ـ ليس من الحفرة...، بل من هذا الحد الفاصل الذي سد الباب علي ّ. فلم تعد هناك فتحة، أو نافذة، أو حتى ثقبا ً يسمح لي بالعودة...
ـ أي حد....؟
ـ انظر....، ألا ترى فتحة الحفرة ..؟
ـ لا ... أنا لا أراها.
ـ وأنا أيضا ً قلت لنفسي: كان الأمر وهما ً، أو شيئا ً كالوهم...؟
ـ صدقني...، لقد أرسلوني كي ترجع لتعمل معنا!
ـ من أرسلك؟
ـ هم!
ـ آ ...، فهمت، ولكن هل هناك ما يمكن عمله...؟
ـ قالوا: إذا كان اللا عمل هو الذي أفضى بما إلى هذا الوضع، فلماذا لا نجرب العودة إلى العمل!
هز رأسه وراح يقهقه:
ـ هل تسخر مني...؟
ـ لا ..، أبدا ً..، فانا جادّ ملتزم! ثم لماذا تعتقد إن العمل رذيلة؟
ـ وهل قلت إن اللا عمل حسنة؟
ـ أووو....، لم تتغير...، في المرة السابقة قلت لك: انظر... لقد أعادونا إلى عصور الكهوف، والبراري، والى أزمنة المستنقعات، فقلت لي: وهل كنا ذهبنا ابعد منها؟ والآن اطلب منك أن تشاركنا العمل .. فتسكت!
ـ أنا لم اسكت...، لكنك ترى إنني ما انطق الصوت الأول حتى أراها يتراجع ليزحف نحو الصوت الخامس فتضيع الأصوات علي ّ وكأنني لم أغادر المصح، وإنني مازلت ارقد هناك في ظلمات السرداب، تحت وأنا اجهل أولدت أم مت أم إنني مازالت بينهما ...؟
ـ آه ...، كان هذا من الماضي السحيق....، أما الآن فان العزلة تؤذيك!
ـ بالأمس جاء السيد الغراب وعرض علي ّ خطة للنهوض بجناح المواشي، فسألته: ما الذي تغير.....؟ فلم يجب. والآن تطلب مني الشروع بالعمل ....، على تغيير جناح الأسماك ...، فما الذي تغير...؟ حسنا ً ما الذي حدث...؟
ـ آ ...، كأنك لا تريد أن تتغير، وكأن تلك الجرثومة التي طالما تحدثت عنها قد وجدت مأواه داخل رأسك العنيد؟
ـ أية جرثومة، يا سيدي النورس، تتحدث عنها، وليس باستطاعتي القول إلا إنني أصبحت ظلها! وليس لغزها العنيد.
وأضاف:
ـ عندما اقترحوا علي ّ أن اشرف على تطوير مشروع الغابات، والجداول، فرحت! وما أن بدأت بالعمل، حتى وجدت مصيري معلقا ً بالحبل! فأعادوني إلى زمن السراديب! لأنهم قالوا لي: خذ ما تشاء.... ودعك من المباشرة بالعمل!
ـ آ ....، كان هذا قبل الطوفان.....، وقبل التغيير...؟
ـ والآن...، وغدا ً، مثلما كان بالأمس، وقبل الأمس...، سألك: ما الذي تغير...، وانتم تعرفون إنني لم اكسب سوى هذا الثقب، سوى هذه الحفرة.....، وسوى هذا الشق الذي لم اعد أراه....، فهل ضاع، أم غاب، أم سرقوه، أم لا وجود له في الأصل...؟
ـ لا...، انه موجود! وأنا بنفسي سأدلك عليه شرط... موافقتك حضور الاجتماع والإصغاء إلى برنامج عملنا بإنقاذ هذه الحديقة؟
ـ لا تدعني استيقظ....، لا تدعني أفيق، لا تدعني أصحو، لا تدعني أغادر حفرتي...، فانا لا أريد أن افقد هذا الكنز..!
ـ اللا شيء؟
ـ هكذا سنختلف...، ونتصادم، ويذبح احدنا الآخر....، أنت تتحدث عن شيء...، وأنا أتحدث عن شيء آخر.
ـ أنت تتحدث عن اللا شيء، أم أنا فأتحدث عن أشياء!
ـ دعني ابحث عن الشق الذي غاب! فان وجدته فسأتخذ قراري....
ـ دعنا نبحث...، أين كان موقعه؟
ـ هنا...، فبعد ان لم يعد لدي ّ ما افعله، وأصبحت وحيدا ً، رحت احفر....، لأنني قلت: لا يصح ان أبقى من غير عملً...، فحفرت حفرة لا تتسع إلا لجسدي، من غير بذخ، أو رفاهية! حفرة لا تتسع إلا لأحلامي! فهل أذنبت، أم ارتكبت خطيئة، أم فسقت، أم خالفت الأعراف، أم تذمرت.....؟ حفرة ملأتها بالقش، والورود، والريش، والقشور....، وببعض البذور، ورحت أغط في سبات عميق، وقد أصبحت لا اعرف من يتسلى بالآخر، هل هي الحياة أم أنا هو من راح يجد فيها مثل هذه السلوى...؟
ـ ها، كأنك تتحدث عن الفردوس؟
ـ عن أي فردوس تتحدث، يا صديقي القديم، صديق الضفاف، والشواطئ، والشمس....، وأنا لا أتحدث إلا عن حفرة بحجم أحلام رجل يحتضر، وعن حفرة من غير شق؟
ـ كنت أظن انك تحلم؟
فصاح الأرنب فجأة:
ـ من أرسلك....، اخبرني، وماذا تريد مني؟
ـ الذي أرسلك هو الذي أرسلني...، وما يطلبونه منك هو الذي تطلبه منهم...، فلماذا نختلف؟
ـ قلت لك: كانت لدي ّ، قبل قليل، حفرة اسكنها، والان...، كأنها توارت...، ام كأنكم سرقتكم حفرتي...؟
ـ ولماذا نسرقها.....، ام تظن انها منحت لك الى الابد...؟
ـ ها أنت تفصح عن نواياك، عن سرك، لأنك في الواقع لم تأت من اجل العمل...، كي تدعني لا اعمل! فأنت أضعت على الشق نفسه الذي طالما كنت أتسلى ...، أو هو الذي كان يتسلى بي؟
ـ أي شق...؟
ـ هذا الذي كنا خرجنا منه...، فأين اذهب الآن إن لم أجده...؟
ـ أنت تذكرني بحكاية الأسد الذي استولى على مغارة الجرذان...، وراح يزأر: أين عريني؟ فضحكت الجرذان منه حتى ماتت من الضحك!
ـ لم افهم شيئا ً.
ـ لأن السيد الأسد طرد من مغارة الجرذان ذاتها بعد ان كان قد تخلى عن عرينه!
ـ وهل أنا فعلت الأمر نفسه...؟ هز النورس رأسه، فقال الأرنب:
ـ اسمع...، كانت البسالة لها معنى، اقصد كان للموت معناه، قبل الطوفان، فكنا نذهب ولا نرجع، من غير تذمر، أو تردد، أو خوف...، ثم حل الطوفان...، فكنا نقاوم السيول، والرعد، والأمطار، ونموت بشهامة وببسالة وبلا ذعر وبلا عويل ...، فكنا نعرف ماذا كنا نعمل، وكان من لا يعمل يساق إلى العمل، فلا احد باستطاعته التحايل، أو الخداع أو التمويه....، ثم حل العصر الذي مازالت سنواته تمتد...، وتمتد...، فلا احد يرغب ان يصبح بطلا ً، ولا احد يرغب ان يكون باسلا ً...، فلا احد يكترث للهزيمة، فان متنا أو لم نمت فالقضية أو المعضلة لم تعد مثار جدل، أو اعتراض!
ـ ها أنت تبدو كمن أضاع عقله؟
ـ ها، سيدي، لو كان لي عقل، لعرفت كيف استخدمه وليس كيف ادعه يضيع؟
ـ كأنك لم تكن معنا تشاركنا الصولات...؟
ـ نعم، كنت...، فانا كنت واحدا ً منكم...، ولم أكن واحدا ً من كوكب آخر....
ـ وكأنك لم تنل وسام المجد الأعلى ...
ـ وهل نفيت أو نكرت أو تجاهلت الأمر...، فانا كنت معكم في ...
ـ فماذا حدث إذا ً....؟
ـ الذي حدث...، أيها النورس، إنني لم اعد أرى الشق الذي خرجت منه، وهذه هي المعضلة!
ـ دعك من الشق، ودعك من المعضلة...، فليس كل من يخرج منها يتحتم عليه العودة إليها...، وليس كل من يدخل يسمح له بالخروج! إنها حتميات أو احتمالات أو مصادفات لها قوانينها وأنت ـ مثلي ـ لا تمتلك إلا أن تكون جزء ا ً منها.
ـ ها أنت تذكرني بالذئب الذي فضل العيش وحيدا ً في مغارته...، فاضرب عن الصيد، بل حتى انه أبى أن يشارك القطيع طعامه...، حتى قيل انه عاش غير مكترث بالبحث عن الذي شغلنا، واكتفى بالهواء والماء والتغذي على الأعشاب، والتبن! وقد ذاعت شهرته كأعظم حكماء البرية، منشغلا ً بقراءة الكواكب، وفك رموز الليل والنهار، عالما ً بالريح والأمطار والجفاف والفصول....، وشاء أمير الصحراء أن يرد العدوان عنا ...، فنصحوه بالذهاب إليه، كي يقود الحرب. اعتذر الذئب العجوز واخبره بأنه لا يمتلك من الدنيا غير ما لا ينفع احد ولا يضره! فقد تساوت عنده الهزائم بالانتصارات، والخسائر بالأرباح، والأحزان بالمسرة...، لكن أمير الصحراء أصر أن يتولى قيادة الجيش، وإدارة الحرب...، فلم يجد وسيلة للاعتذار، أو حسن التخلص من أوامر الأمير، بالهرب، والنجاة، فاضطر إلى تحمل المسؤولية حتى اختتمها بالنصر المؤزر كما يقال، ونال ـ لدى الأمير، أرقى الجوائز والأوسمة وآيات الثناء. ثم مات أمير الصحراء، فخلفه ولده الأعرج الأعور الاثول المشهور بالخسة والسرقة والتجسس والدناءة...، على عرش الصحراء، فلم يأمر بإعادة الذئب العجوز إلى مغارته، بل الذهاب للعمل مع النعاج، واليرابيع، والفئران! فقال الذئب الحكيم مع نفسه: كنت اعرف أنني سأخسر الهواء والماء وعزلتي، ولن يسمح لي حتى بربح ما فقدته، وما خسرته، وما صار بحكم التراب! فما معنى الحكمة عندما لا يكون الحكيم فيها لا يمتلك شيئا ً من أرادته، ولا ظلها؟
ـ ولكننا لا نطلب منك أن تكون زعيما ً، ولا قائدا ً...، ولا حتى مسؤول جناح....!
ـ ماذا تريدون مني...؟
ـ نريد أن لا تفقد حفرتك...!
ـ وها أنا فقدتها، بل وفقدت بابها أيضا ً!
ـ يا صديقي العجوز...، الحفرة في الأرض، والأرض كلها حفرة، فهل يصح اتهامنا بأننا سرقتنا حفرتك؟
رفع رأسه وقال بصوت مذعور، متلعثم:
ـ حتى أني لا أرى أثرا ً لها!
ـ ألا ترى هذا الشق...، كم واسع هو...، شق هذه الأرض؟
ـ هذا .. وحده .. هو الذي يراني، ولا أراه! فانا اعرف إن الحديقة تراني...،مثلما السماء تبصر، ولكنني لم اعد استطيع رؤية فتحة الحفرة التي أمضيت حياتي فيها ...
ـ لم تتغير؟
ـ الم ْ أسألك: ما الذي حدث...، وما الذي تغير...، غير إن الماضي يتابع محو ما دوّنه ماضيه السحيق!أو قل يكمله!
ـ وأنا قلت لك: العزلة تضر بك، وتسبب لك الأسى، والحزن.
ـ آ ....، علي ّ أن افهم، إن الموت معكم لا يشبه الموت مع نفسي...، فالموت وحيدا ً مع نفسي اقل درجة من الموت معكم...، مع إن الموت معكم لا يختلف عن موتي وحيدا ً مع نفسي!
ـ كان عليك أن تقول: إن المشي معنا غير أن تمشي وحيدا ً حتى من غير نفسك؟
ـ وهل كنت وحيدا ً...؟
متمتما ً بشرود:
ـ يبدو إنني لم أكن حتى مع نفسي...، وإلا أين اختفت الحفرة، وأين اختفى شقها...؟
ـ ها أنت تدرك عمق المعضلة، ولغز حقيقتها؟
ـ بل أنا أدركت حقيقة اللغز!
ـ كأنك لا تريد أن يكون لموتك معنى...؟
ـ لا....، لأنني، يا صديقي، كنت أدركت، منذ زمن بعيد، لا معنى موتي معكم، ولا معنى لموتكم مع موتي...، والآن أدرك تماما ً لا معنى موتي مع نفسي، ففي المرة الأولى انجذبت إليكم من غير إرادة...، وفي المرة الثانية تركت موتي يمشي أمامي كي أتتبع خطاه....، فكانت الحصيلة إنني خسرت ما كان يمكن عدم خسارته، وفي المرة الأخيرة لم اربح حتى هذا الذي من المستحيل أن تجد له أثرا ً، كي تجد له معنى!
26/1/2016
Az4445363@gmail.com
الشق
عادل كامل
وجد انه يتعثر بإكمال ترتيب جملة تتكون من ثلاثة أصوات، فما أن ينطق بالصوت الأول، حتى يتراجع للبحث عن الصوت الثاني، وما أن يعثر على الصوت الثاني حتى يكتشف انه غير مناسب للمعنى الذي قصده، وما أن يعثر على الصوت المناسب حتى يجد صعوبة اكبر في العثور على الصوت الثالث كي يكمل ما كان تبلور داخل ذهنه، بعد أن غادر الحفرة، وراح يحدق في فتحتها، من الجهات التي بدت له إنها محصنة، ولا تسمح له بالابتعاد عنها. فتحة بدت كنافذة صغيرة، ثم اعترض، إذ ْ بدت له مثل جرح لم يلتئم بعد، كأنه حز طولي حفر بقسوة، حتى وجده انه لا يعني أكثر من شق لم يعد يذكر اهو فتحة الحفرة أم نافذتها أم بوابة للطوارئ...؟ تسمر لبرهة مدركا ً استحالة بناء ثلاثة أصوات تمثل ما أثاره الشق، الذي بدا له مثل حبل رفيع يتأرجح ويتمايل ثم بدا له، على العكس، خشنا ً، وصلبا ً، فدار بخلده، انه لم يعد يمتلك وسيلة للتفكير بمعزل عن الكلمات، فالصوت، متابعا ً بحذر شارد، مكتظ بذاته حد الانفجار. فرفع رأسه قليلا ً مستدلا ً برائحة التراب الرطب، ممتزجة بالدغل، والأوراق، والأشواك، إنما كانت رائحة الحفرة حادة، لم تسمح له بالحركة والابتعاد أكثر من أمتار قليلة، ليس لوجود الحواجز سببا ً ليمنعه من التقدم، ومن اجتيازها، بل لأنه، منذ سنوات، اكتفى بما توفره له من حركة، وصلة حميمة لا يمكن فصلها عن الحفرة. حفرة لا تمتد عميقا ً في الأرض الرخوة، ذلك لأنه لم يجد ثمة ضرورة للتوسع بفضائها الداخلي، مكتفيا ً بما توفره لجسده من استقرار، بعد أن اعتنى بتكور جسده داخلها، ومن غير ضرورة للتوسع، لأداء أعمال باذخة، دار بباله، أو لأي نشاط يمكن الاستغناء عنه.
وعاد يتأمل: إنها ليست فتحة! لا...، معترضا ً، لأنها لا تبدو مناسبة للحفرة، فهي، رفع صوته من غير اكتراث لتداخل الأصوات، أو اضطرابها: شبيهة بالشق. ومثل حز عميق في كتلة صلدة. فلقد فكر بوجود علاقة ما بين نهاية الحفرة ـ وأحيانا كان يدعوها بالمغارة أو بالبئر المائل ـ وبدايتها. فالشق راح يؤجج لديه صورا ً لم يعد يراها، بعد أن وجد ان ظلام المغارة ـ نطقها هكذا بلحظة نشوة ـ لا علاقة له بانخفاض الأصوات، حد انه لم يجد مبررا ً للقول بان الصمت يمكن ان يكون كلمة دفينة مادامت، ردد، ان الحقائق تبرهن انه طالما لمح ما لا يحصى من الومضات تشع عندما يكون الظلام تاما ً، وقد شغل فضاء الحفرة بالكامل، ليجد انه اضطرب في العثور على سلامة التعبير، حتى لو كان أصواتا ً مبعثرة....؛ فانا هو من بدأ الحفر...، وأنا هو من اكتشف ان الصمت لا وجود له بينما لا وجود للظلام للخالص بالمرة...، وها أنا أجد ان الفتحة، لا تدل لا على الظلام، ولا على ما يمثله الصمت.
مرت الخواطر من غير زمن، فقد شعر إنها كالعلاقة بين الفتحة ونهايتها، إنما: هذه ليست مدخلا ً ولا بابا ً ولا نافذة ولا بئرا ً مائلا ً ولا حزا ً غائرا ً في جدار...، ولكنه لم يجد كلمة مناسبة إلا عندما تذكر انه لم يكن مهددا ً بعدو، أو بمداهمات مفاجئة، خاطفة، تحصل على نحو غامض، فلم يضطر لتأمل ثقوب تحميه من الخطر، للمغادرة، والهرب....، فما أن غادر جناحه، واستقل عنه، لم يجد معارضة حتى شعر انه وجد الحل المناسب، فلم يستغرق في العمل إلا ساعات حتى أكملها، بعد أن موه المدخل، حتى عندما ألقى نظرة عليه لم يتعرف عليه بيسر، ولم يفكر أن يجد له اسما ً، لا له، ولا للمغارة ذاتها التي كانت، من الداخل، شبيهة بجسده. فما ـ هي ـ الكلمة المناسبة....؟ ابتعد قليلا ً، رافعا ً رأسه، ليشاهدها تحولت إلى: شق....،لا...، وتردد، لكنها ليست فتحة، ولا نافذة، ولا ثقبا ً....، فقد تخيل انه صنعها من غير تصوّر مسبق، وان لم ينو أن يجعل منها مدخلا ً، ولا بوابة، ولا حتى بابا ً....
ترك رأسه يستقر فوق العشب: فالحفرة برمتها أصبحت بمثابة الشق الذي خرج منه...، لا...، اعترض، فانا لم اخرج منه...،فانا كنت حسمت الأمر بعد أن تشتتنا وهربنا من الجناح...، فانا إذا ً هو الذي حفره، صنعه، رتبه، وأنا هو من دخل فيه...! أغلق فمه للحظة مستنشقا ً رائحة كانت تحملها نسمات الفجر...، رائحة لدنة، طرية، فخاف...، وعندما لمح خيوط الفجر من وراء الأشجار ذات الألوان الداكنة ترسم حدا ً بين السماء والأرض، اقترب من الشق: آ ......، أنا خرجت منك، وها أنا أعود إليك! لا ...، ذلك لأنه تسمر يتأمل المدخل مرورا ً بالحفرة حتى بلغ قاعها: يا لها من مسافة؟ شق غائر يغوص في التراب، ولكنه لم ينغلق. ابتسم ساخرا ً من عملية اللهو التي انشغل بها....، إنما أجاب بأنه طالما أمضى الليل يتحسس الحرارة الصادرة عن جسده، الحرارة التي كثيرا ً ما كانت تحميه من التجمد، حرارة امتزجت بأنفاسه، وبإشعاعات صادرة من باطن الأرض...، رغم انخفاض درجات الحرارة في الخارج. حرارة كان يتغذى عليها، حتى اكتشف إنها كانت تبدد العتمة، وانه كان يستطيع رؤية السقف، والحيطان، والأرضية الترابية المغطاة بالأعشاب، والعيدان، والريش، والصوف....، ويصغي إلى أصوات غامضة متباينة في شدتها، وفي انخفاضها...، تارة يسمع في الصمت عويلا ً، وتارة يصغي إلى أنين مكتوم، وأحيانا ً يرتجف لسماع أصوات دوي وأخرى لخرير تدفق المياه، أو لسقوط الأمطار، ممتزجة بأزيز لمرور الريح....، فليس ثمة علاقة ما بين الصوت والصمت الذي تخيله كحبيبات العتمة مزدحمة بالبذور المشعة. لا يوجد صمت بإمكانه أن ينفصل عن اثر ابر ملونة ذات نهايات براقة تحدثه في جسده كالتي كانت تتركه المخالب والأنياب وهي تعمل عملها في تمزيق جسده فيصرخ نافيا ً أن يكون للصمت الدلالة ذاتها لانعدام الأصوات، فكثيرا ً ما كان الصمت يلامس جسده بقسوة مثل مخالب وأنياب حادة تخترقه، فتدميه، وتعمل كعمل الإبر في جسد الطريدة فيلوذ هاربا ً باحثا ً عن جحر، أو نفق، أو حفرة، أو ثقب، أو شق، أو فجوة بين الصخور.
وكأنه تخيل جده يصغي لصوته المتقطع، غير المترابط، ساخرا ً من لجوئه إلى مكان منفصل عن جناح الأرانب....، فأنت لا تلوذ بالماضي بل بما قبله....، تريد أن تعرف كيف حصل ذلك...؟ لا....، أجاب بشرود: لا .... أنا لا ابحث عن الحقبة التي لا فزع فيها ولا ذعر أو خوف....، بل أنا مشدود حد الجنون بهذا الشق الذي افسد علي ّ فاتحة هذا النهار!
نظر إلى اليسار، والى الخلف، والى الأمام، والى اليمين، فلم يجد أحدا ً. لقد لمح خيوط الشمس تملأ الفضاء، ولمح تحول البلور الفضي إلى إشعاعات مستقيمة ومتموجة ممتزجة بالغيوم المتناثرة...
ـ أصبحت اكلم نفسي!
ضاحكا ً بسخرية:
ـ بمعنى أصبحت: أهذي!
وقال حالا ً بعد لحظة صمت:
ـ مع من أهذي.....، وأنا كنت أدركت إنني لم اعد موجودا ً...؟
لم يصدم، فلم يجد كلمة لها الأثر ذاته الذي تحول إلى: شق! فالأخير غدا مؤنثا ً. لا، رد: فأنا تماما ً لم اعد ابحث، بعد أن محوت وموهت أي اثر للفتحة والحفرة وجعلتهما يندمجان بعضهما بجسدي عميقا ً بالصمت وبالظلمات.....، فانا لم اعد منشغلا ً بأحد...، ولا حتى بهذا الذي لا اعرف كيف يمتلك جرأة استفزازي...؟
انجذب لرائحة الحفرة فأحسها مثل هالات لها حافات رمادية تتدفق دافئة تخرج من الشق: رائحة بذور مضى زمن طويل على قطافها، لها مذاق العفونة. فكادت تجذبه للتراجع والعودة إلى الداخل، إنما عاد يشاهد الشق يرتفع من الأسفل إلى الأعلى: مثل هيأة الجناح الذي تهدم...، وهرب منه، فاستفزه الشكل: كأنني أراه للمرة الأولى....، وكأنه انبثق من العدم توا ً. فثمة حرارة لها رائحة رفيف أجنحة طيور ممتزجة برائحة سيقان أعشاب طرية وأخرى جافة. فضلا ً عن ومضات تحمل رائحة صوف وشعر ما انفكت تلامس انفه وتخترقه حتى أحس أن شيئا ً ما يوشك أن ينفجر داخل كيانه.
أغلق فمه بصعوبة، بعد أن شاهد الشق يتسع أمامه حتى غدا بوابة بحجم باب الحديقة...، متخيلا ً أن الشق كان فوهة بركان...، تارة، وتخيله مثل شقوق الأرض التي تحدثها الزلازل المدمرة، تارة ثانية. إنما خيّل له أن الشق مثل بحيرة بدت له مثل حوت هامد...، رأسه يرتفع قليلا ً إلى الأعلى، وله أجنحة، وينتهي أسفله بمثلث حاد الحافات: بركان استحال إلى بحيرة اتخذت هيأة سمكة عملاقة: يا له من شق!
ـ أتراني صغت جملة مفيدة....، خالية من الحركة...؟
أجاب بصمت إن الزمن انسحب وتوارى تاركا ً الفعل يتراجع حيث الصفر دفن أعداده وصار شقا ً!
ـ من يتعقبني...؟
وكتم صوته كي لا يبدو مرتبكا ً وكي لا تغدو عزلته قد تحولت إلى ما يشبه العقاب الذاتي مما تستدعي طلبا ً للعون، او الرحمة! لا...، قال مع نفسه، من غير ان يفتح فمه، كي لا يظن انه بصدد طلب المساعدة...، أو استجداء المعونة. فالعملية برمتها نجحت رغم غياب المريض! فثمة المرض وحده هو المشكلة، وليس الطبيب، ولا العقار. فانا ....، أفلحت بعزل حياتي تماما ً عن هذا الذي ...
أغلق فمه منشغلا ً ـ بلا إرادة ـ بالشق. فقد لاحظ إن السمكة لم تمت، ولها ذيل شبيه بهرم مقلوب، وهي تشع حرارة ناعمة تسللت إلى جسده مثل عطر لم يلوث بالغبار. أحس إن جسده يتهاوى، وهناك خدر بدأ يتسلل منتقلا ً من الرأس إلى الأطراف، شعر بأنه تحول إلى اخطبوط يحتضر، ويموت..!
ـ كأنك تتكون توا ً...، فقد كان موتك شبيه بالحفرة التي سكنتها وسكنتك...؟
عاد يتفحص الشق، وقد غدا أعلى من مستوى الأرض، يرتفع كنهايات أشجار تتدفق من خلفها الريح بغيوم داكنة.
ـ آ ....، ستمطر إذا ً...، وقد آن للطوفان أن ....
إنما صدم وهو يرى الشق يغيب. يلتئم، ليصبح خطا ً حفر برقة، من الأعلى إلى الأسفل، يغيب أم ينبثق؟ لم يجد ضرورة للإجابة...، فالخط كف عن أداء عمله؟ فلم يعد يعزل، ولا يفصل، وليس هو بفجوة. فقد بدا رابطا ً أو لاصقا ً بين الجهتين، ليبدو الشق مثل ثمرة ناضجة. اقترب قليلا ً...، كأنه أراد أن يراه بجسده، وليس بعينيه، ثم ابتعد...، برغبة لا إرادية ترك رأسه يستقر فوق الحشائش.
ولم يستطع تجاهل انه لا يمتلك رغبة بالذهاب ابعد من المكان الذي يتمدد فوقه، فعاد يبحث عن الخط وقد بدا له حادا ً، منحنيا ً، وليس مقعرا ً، ثم بدا له كغصن شجرة جاف وفي أعلاه تتكوم مجموعة أوراق أبرية الحافات وفي أسفله ظهرت الجذور ممتدة وغائصة في الأرض...، فأحس براحة ما قائمة على الوهم، فالظل الذي شاهده لم يكن سوى شعرة شطرت عينه اليسرى وحجبت عنها رؤية الشق كاملا ً، وكأن ما بدأ يراه هو الحقيقية الملموسة، وليس طيفها، فالانشطار سرعان ما تلاشى ليعيد مشاهدة كتلة ضبابية اتخذت شكل الأمواج، إنما عموديا ً، بعد أن اوحت له بأنها كانت مستقرة أيضا ً فوق التراب.
فدار بباله انه لم يقم بحماقة بمغادرة الحفرة، بل كل ما حصل انه خرج لتنفس الهواء، والاستمتاع برائحة النباتات، والزهور البرية، وإعادة التثبت من موقع مغارته بين الأجنحة الأخرى...، من ثم العودة والاستقرار داخلها. ولكنه سرعان ما شعر بتثاقل في ترتيب الأصوات، وصعوبة بمنحها سلاستها المطلوبة، مدركا ً انه يواجه ضربات غامضة، وان أفكاره مهزوزة، مرتجة، فقد لاحظ، في الأعلى، نباتات ترتفع عاليا ً، بدت له مثل أعمدة حجرية لم يستطع رؤية نهايتها. وواحدة ظهرت كأنها فنار، أو منارة، فقد بدت له مثل: قصر قديم شيد عند ضفة النهر...! ثم سرعان ما استبدل الكلمة بكلمة: عمارات...، كان سمعها من الزوار، وقد أربكته، فاستبدلها بكلمة: ناطحات السحاب! فوجد فمه ينفتح عن ضحكات متتالية، من غير سبب محدد، فهي بمثابة شقوق عمودية، مثل فنارات...، ترتفع عاليا ً، لا أكثر ولا اقل. معترضا ً: لكنها حادة، مستقيمة، وغير متعرجة، وليست غائرة. فهي لا تقارن بفتحة المغارة: بيتي! وانفجر بقهقهة متوترة أدت به للشعور باتساع الفراغ: إنها عمارات شبيهة بالقصور التي كان يراها تمتد عبر ساحل النهر...؛ قصور الأثرياء! وهدأ من روعه قائلا ً انه لم يعد هناك أغنياء أو فقراء...، فقد كان ذلك قبل الطوفان الأعظم ...، إنما هي، دار بخلده، هياكل معمارية شبيهة بما حكاه جده له عن منازل الصالحين في العالم الآخر. آ .....، وما شأني أنا بالتقسيمات، والفوارق، والاختلافات، إن كانت للأغنياء أو للشحاذين، إن كانت في عالمنا أو في العالم الآخر...، فإنها ليست إلا تصوّرات قلب يعمل بعشوائية!
ـ انك لم تعد ترى حتى الشق الذي طالما جذبك، ولفت حواسك، وانجذبت له شارد البال....
ـ من أنت....؟
ـ أنا هو أنت الذي لا هو داخل الحفرة ولا خارجها!
ـ آ ....، عرفتك! هو أنت جدي ...، جدي الأعظم، الذي طالما سمع عن أسلافه إن حفيدا ً سيأتي ليساوي بين الشقوق والحفر والجداول ...، الولد البار الذي سيردم العثرات ويضع حدا ً للنهب والسلب والقتل!
ـ اسكت! فالحرب لم تنه بعد، لأنك لم تعد ترى سوى الخراب والأنقاض والتصدعات!
شعر أن جسده يتخلى عنه، وانه غدا خارجه، الم ْ يصغ عميقا ً لجداته الصالحات وهن يقصصن له كيف تخرج الروح وتحوّم فوق جسدها ثم تغيب ولا ترجع أبدا ً إلا عندما لا تجد مكانا ً لها لترقد مرة ثانية في المكان الذي غادرته! وعاد يتخيل الشق مثل حدقة عين ظبية، لكن من غير بؤبؤ، بعد أن أزال الشعرة التي قسمت الشق وشطرته إلى يسار والى يمين، ليراه تحول إلى فم شبيه بفم ضفدعة كبيرة تحدق مذعورة في السماء. كتم فزعه لأنه سمع نقيقا ً تخللته حشرجات كصرير أبواب خشبية عتيقة...، وشاهد آلاف الأفواه متراصة بدت له مثل وجود فئران مذعورة جمدها البرد أو صعقت بتيار قاتل فمنعها من الحركة. سمع أنينا ً مكتوما، وأصوات آلات ومكائن ينبثق من أفواه الضفادع، والفئران، وقد استحالت إلى فوهات شبيه بفوهات البنادق التي طالما استخدمت في الحرب الأخيرة، وفي الحروب السابقة، ولكنه سمعها تصمت، بعد أن استحالت إلى أشكال لا حافات لها، فضحك متندرا ً من اللا حافات في وجودها مقيدة بهيآت لم يرها من قبل، فالصوت راح يرتد، ثم يقفز، ليجد انه تعثر بالثالث، والرابع، بعد أن تداخلت المقدمات بنهاياتها. فلم يعد يرى مثلثا ً رأسه إلى الأعلى، ولا مثلثا ً رأسه إلى الأسفل، ولم يعد يتجه إلى اليمين، ولا إلى اليسار: وجوه ضفادع، أو فئران، أو فوهات بنادق آلية ، صماء، بدت تتخذ شكلا ً بيضويا ً. فلذ ّ له أن يمد أصابعه الناعمة ويتلمس الشق.
ـ ابتعد ...، كن حذرا ً، فماذا تفعل؟
تجمد، وتخيّل جسده يتصلب، وقد تحول إلى كتلة من صلصال، لولا انه سمع همسا ً رقيقا ً، ناعما ً:
ـ بهدوء، وليس بقسوة!
مد أصابعه وتركها تغوص:
ـ ماذا تفعل، الم اطلب منك أن تكون لينا ً، سلسلا ً....؟
وارتفع الصوت يدوي في رأسه:
ـ كن رقيقا ً.
غابت ناطحات السحاب، وغاب الشق، منشغلا ً باستنشاق رائحة بذور وصوف وقشور ملأته حتى وجد جسده مسترخيا ً وممددا ً فوق العشب تماما ً:
ـ آوووووه.
فاقترب نورس يتعثر في خطاه، وسأله:
ـ أيها الحكيم ...
رفع رأسه ليرى إن كان الآخر يتحدث معه أو مع آخر سواه:
ـ معي إذا ً...؟
ودار بباله: وليس مع احد غيري. أجاب النورس:
ـ لم نرك منذ زمن بعيد ....؟
ـ وأنا أيضا ً لم يسعدني الحظ برؤيتكم!
اقترب النورس منه قليلا ً:
ـ يبدو انك خرجت للاستمتاع بأشعة الشمس في هذا اليوم البارد الحزين..، أم انك ضجرت من ظلام المغارة وعفن رائحتها...؟
لم يجب. فعاد النورس إلى الكلام:
ـ على أية حال، من الصعب البقاء وحيدا ً داخل الجدران، وأنت خلقت كي تتمتع بالحياة، لا أن تركلها!
لم يجب أيضا ً. فسأله بصوت متوتر:
ـ هل أتركك كي تستمتع بوحدتك، وعزلتك هذه ...؟
ـ هذا أفضل...، لو سمحت!
ـ ولكنهم أرسلوني كي اعرف ما إذا كنت...
فرد بغموض:
ـ ألا تراني ...، أتأمل ما آلت إليه حياتي...
ـ وما آلت له ....، وأنت وحيد في العراء، تحت هذه الغيوم...، أم أنا أرى كائنا ً آخر غير الذي عرفته...؟
ـ لا أنت تراني أنا نفسي...
ـ ماذا تقصد....؟
رد الأرنب:
ـ خرجت من الحفرة، وأنا لا اعرف ماذا اعمل خارجها، فقلت إذا دخلت فماذا افعل في داخلها، فقلت: يا لها من محنة...، ثم فجأة لم تعد هناك محنة، فقد انشغلت بتأمل الشق الذي ضاع ولم أجده كي يسمح لي بالدخول من المكان الذي خرجت منه!
ـ ها، ها، ها....، ظننت انك ضجرت من نفسك!
ـ لا...، ولم الشعور من الضجر..؟
ـ على اية حال، يبدو انك لا تفكر بمغادرة حفرتك؟
ـ ها، هل تصدق إنني الآن لا اعرف كيف ادخلها..! فمنذ وقت وأنا حائر ....، متى خرجت...، والآن لا اعرف ماذا افعل ..؟
ـ دعك من الحفرة.
ـ ليس من الحفرة...، بل من هذا الحد الفاصل الذي سد الباب علي ّ. فلم تعد هناك فتحة، أو نافذة، أو حتى ثقبا ً يسمح لي بالعودة...
ـ أي حد....؟
ـ انظر....، ألا ترى فتحة الحفرة ..؟
ـ لا ... أنا لا أراها.
ـ وأنا أيضا ً قلت لنفسي: كان الأمر وهما ً، أو شيئا ً كالوهم...؟
ـ صدقني...، لقد أرسلوني كي ترجع لتعمل معنا!
ـ من أرسلك؟
ـ هم!
ـ آ ...، فهمت، ولكن هل هناك ما يمكن عمله...؟
ـ قالوا: إذا كان اللا عمل هو الذي أفضى بما إلى هذا الوضع، فلماذا لا نجرب العودة إلى العمل!
هز رأسه وراح يقهقه:
ـ هل تسخر مني...؟
ـ لا ..، أبدا ً..، فانا جادّ ملتزم! ثم لماذا تعتقد إن العمل رذيلة؟
ـ وهل قلت إن اللا عمل حسنة؟
ـ أووو....، لم تتغير...، في المرة السابقة قلت لك: انظر... لقد أعادونا إلى عصور الكهوف، والبراري، والى أزمنة المستنقعات، فقلت لي: وهل كنا ذهبنا ابعد منها؟ والآن اطلب منك أن تشاركنا العمل .. فتسكت!
ـ أنا لم اسكت...، لكنك ترى إنني ما انطق الصوت الأول حتى أراها يتراجع ليزحف نحو الصوت الخامس فتضيع الأصوات علي ّ وكأنني لم أغادر المصح، وإنني مازلت ارقد هناك في ظلمات السرداب، تحت وأنا اجهل أولدت أم مت أم إنني مازالت بينهما ...؟
ـ آه ...، كان هذا من الماضي السحيق....، أما الآن فان العزلة تؤذيك!
ـ بالأمس جاء السيد الغراب وعرض علي ّ خطة للنهوض بجناح المواشي، فسألته: ما الذي تغير.....؟ فلم يجب. والآن تطلب مني الشروع بالعمل ....، على تغيير جناح الأسماك ...، فما الذي تغير...؟ حسنا ً ما الذي حدث...؟
ـ آ ...، كأنك لا تريد أن تتغير، وكأن تلك الجرثومة التي طالما تحدثت عنها قد وجدت مأواه داخل رأسك العنيد؟
ـ أية جرثومة، يا سيدي النورس، تتحدث عنها، وليس باستطاعتي القول إلا إنني أصبحت ظلها! وليس لغزها العنيد.
وأضاف:
ـ عندما اقترحوا علي ّ أن اشرف على تطوير مشروع الغابات، والجداول، فرحت! وما أن بدأت بالعمل، حتى وجدت مصيري معلقا ً بالحبل! فأعادوني إلى زمن السراديب! لأنهم قالوا لي: خذ ما تشاء.... ودعك من المباشرة بالعمل!
ـ آ ....، كان هذا قبل الطوفان.....، وقبل التغيير...؟
ـ والآن...، وغدا ً، مثلما كان بالأمس، وقبل الأمس...، سألك: ما الذي تغير...، وانتم تعرفون إنني لم اكسب سوى هذا الثقب، سوى هذه الحفرة.....، وسوى هذا الشق الذي لم اعد أراه....، فهل ضاع، أم غاب، أم سرقوه، أم لا وجود له في الأصل...؟
ـ لا...، انه موجود! وأنا بنفسي سأدلك عليه شرط... موافقتك حضور الاجتماع والإصغاء إلى برنامج عملنا بإنقاذ هذه الحديقة؟
ـ لا تدعني استيقظ....، لا تدعني أفيق، لا تدعني أصحو، لا تدعني أغادر حفرتي...، فانا لا أريد أن افقد هذا الكنز..!
ـ اللا شيء؟
ـ هكذا سنختلف...، ونتصادم، ويذبح احدنا الآخر....، أنت تتحدث عن شيء...، وأنا أتحدث عن شيء آخر.
ـ أنت تتحدث عن اللا شيء، أم أنا فأتحدث عن أشياء!
ـ دعني ابحث عن الشق الذي غاب! فان وجدته فسأتخذ قراري....
ـ دعنا نبحث...، أين كان موقعه؟
ـ هنا...، فبعد ان لم يعد لدي ّ ما افعله، وأصبحت وحيدا ً، رحت احفر....، لأنني قلت: لا يصح ان أبقى من غير عملً...، فحفرت حفرة لا تتسع إلا لجسدي، من غير بذخ، أو رفاهية! حفرة لا تتسع إلا لأحلامي! فهل أذنبت، أم ارتكبت خطيئة، أم فسقت، أم خالفت الأعراف، أم تذمرت.....؟ حفرة ملأتها بالقش، والورود، والريش، والقشور....، وببعض البذور، ورحت أغط في سبات عميق، وقد أصبحت لا اعرف من يتسلى بالآخر، هل هي الحياة أم أنا هو من راح يجد فيها مثل هذه السلوى...؟
ـ ها، كأنك تتحدث عن الفردوس؟
ـ عن أي فردوس تتحدث، يا صديقي القديم، صديق الضفاف، والشواطئ، والشمس....، وأنا لا أتحدث إلا عن حفرة بحجم أحلام رجل يحتضر، وعن حفرة من غير شق؟
ـ كنت أظن انك تحلم؟
فصاح الأرنب فجأة:
ـ من أرسلك....، اخبرني، وماذا تريد مني؟
ـ الذي أرسلك هو الذي أرسلني...، وما يطلبونه منك هو الذي تطلبه منهم...، فلماذا نختلف؟
ـ قلت لك: كانت لدي ّ، قبل قليل، حفرة اسكنها، والان...، كأنها توارت...، ام كأنكم سرقتكم حفرتي...؟
ـ ولماذا نسرقها.....، ام تظن انها منحت لك الى الابد...؟
ـ ها أنت تفصح عن نواياك، عن سرك، لأنك في الواقع لم تأت من اجل العمل...، كي تدعني لا اعمل! فأنت أضعت على الشق نفسه الذي طالما كنت أتسلى ...، أو هو الذي كان يتسلى بي؟
ـ أي شق...؟
ـ هذا الذي كنا خرجنا منه...، فأين اذهب الآن إن لم أجده...؟
ـ أنت تذكرني بحكاية الأسد الذي استولى على مغارة الجرذان...، وراح يزأر: أين عريني؟ فضحكت الجرذان منه حتى ماتت من الضحك!
ـ لم افهم شيئا ً.
ـ لأن السيد الأسد طرد من مغارة الجرذان ذاتها بعد ان كان قد تخلى عن عرينه!
ـ وهل أنا فعلت الأمر نفسه...؟ هز النورس رأسه، فقال الأرنب:
ـ اسمع...، كانت البسالة لها معنى، اقصد كان للموت معناه، قبل الطوفان، فكنا نذهب ولا نرجع، من غير تذمر، أو تردد، أو خوف...، ثم حل الطوفان...، فكنا نقاوم السيول، والرعد، والأمطار، ونموت بشهامة وببسالة وبلا ذعر وبلا عويل ...، فكنا نعرف ماذا كنا نعمل، وكان من لا يعمل يساق إلى العمل، فلا احد باستطاعته التحايل، أو الخداع أو التمويه....، ثم حل العصر الذي مازالت سنواته تمتد...، وتمتد...، فلا احد يرغب ان يصبح بطلا ً، ولا احد يرغب ان يكون باسلا ً...، فلا احد يكترث للهزيمة، فان متنا أو لم نمت فالقضية أو المعضلة لم تعد مثار جدل، أو اعتراض!
ـ ها أنت تبدو كمن أضاع عقله؟
ـ ها، سيدي، لو كان لي عقل، لعرفت كيف استخدمه وليس كيف ادعه يضيع؟
ـ كأنك لم تكن معنا تشاركنا الصولات...؟
ـ نعم، كنت...، فانا كنت واحدا ً منكم...، ولم أكن واحدا ً من كوكب آخر....
ـ وكأنك لم تنل وسام المجد الأعلى ...
ـ وهل نفيت أو نكرت أو تجاهلت الأمر...، فانا كنت معكم في ...
ـ فماذا حدث إذا ً....؟
ـ الذي حدث...، أيها النورس، إنني لم اعد أرى الشق الذي خرجت منه، وهذه هي المعضلة!
ـ دعك من الشق، ودعك من المعضلة...، فليس كل من يخرج منها يتحتم عليه العودة إليها...، وليس كل من يدخل يسمح له بالخروج! إنها حتميات أو احتمالات أو مصادفات لها قوانينها وأنت ـ مثلي ـ لا تمتلك إلا أن تكون جزء ا ً منها.
ـ ها أنت تذكرني بالذئب الذي فضل العيش وحيدا ً في مغارته...، فاضرب عن الصيد، بل حتى انه أبى أن يشارك القطيع طعامه...، حتى قيل انه عاش غير مكترث بالبحث عن الذي شغلنا، واكتفى بالهواء والماء والتغذي على الأعشاب، والتبن! وقد ذاعت شهرته كأعظم حكماء البرية، منشغلا ً بقراءة الكواكب، وفك رموز الليل والنهار، عالما ً بالريح والأمطار والجفاف والفصول....، وشاء أمير الصحراء أن يرد العدوان عنا ...، فنصحوه بالذهاب إليه، كي يقود الحرب. اعتذر الذئب العجوز واخبره بأنه لا يمتلك من الدنيا غير ما لا ينفع احد ولا يضره! فقد تساوت عنده الهزائم بالانتصارات، والخسائر بالأرباح، والأحزان بالمسرة...، لكن أمير الصحراء أصر أن يتولى قيادة الجيش، وإدارة الحرب...، فلم يجد وسيلة للاعتذار، أو حسن التخلص من أوامر الأمير، بالهرب، والنجاة، فاضطر إلى تحمل المسؤولية حتى اختتمها بالنصر المؤزر كما يقال، ونال ـ لدى الأمير، أرقى الجوائز والأوسمة وآيات الثناء. ثم مات أمير الصحراء، فخلفه ولده الأعرج الأعور الاثول المشهور بالخسة والسرقة والتجسس والدناءة...، على عرش الصحراء، فلم يأمر بإعادة الذئب العجوز إلى مغارته، بل الذهاب للعمل مع النعاج، واليرابيع، والفئران! فقال الذئب الحكيم مع نفسه: كنت اعرف أنني سأخسر الهواء والماء وعزلتي، ولن يسمح لي حتى بربح ما فقدته، وما خسرته، وما صار بحكم التراب! فما معنى الحكمة عندما لا يكون الحكيم فيها لا يمتلك شيئا ً من أرادته، ولا ظلها؟
ـ ولكننا لا نطلب منك أن تكون زعيما ً، ولا قائدا ً...، ولا حتى مسؤول جناح....!
ـ ماذا تريدون مني...؟
ـ نريد أن لا تفقد حفرتك...!
ـ وها أنا فقدتها، بل وفقدت بابها أيضا ً!
ـ يا صديقي العجوز...، الحفرة في الأرض، والأرض كلها حفرة، فهل يصح اتهامنا بأننا سرقتنا حفرتك؟
رفع رأسه وقال بصوت مذعور، متلعثم:
ـ حتى أني لا أرى أثرا ً لها!
ـ ألا ترى هذا الشق...، كم واسع هو...، شق هذه الأرض؟
ـ هذا .. وحده .. هو الذي يراني، ولا أراه! فانا اعرف إن الحديقة تراني...،مثلما السماء تبصر، ولكنني لم اعد استطيع رؤية فتحة الحفرة التي أمضيت حياتي فيها ...
ـ لم تتغير؟
ـ الم ْ أسألك: ما الذي حدث...، وما الذي تغير...، غير إن الماضي يتابع محو ما دوّنه ماضيه السحيق!أو قل يكمله!
ـ وأنا قلت لك: العزلة تضر بك، وتسبب لك الأسى، والحزن.
ـ آ ....، علي ّ أن افهم، إن الموت معكم لا يشبه الموت مع نفسي...، فالموت وحيدا ً مع نفسي اقل درجة من الموت معكم...، مع إن الموت معكم لا يختلف عن موتي وحيدا ً مع نفسي!
ـ كان عليك أن تقول: إن المشي معنا غير أن تمشي وحيدا ً حتى من غير نفسك؟
ـ وهل كنت وحيدا ً...؟
متمتما ً بشرود:
ـ يبدو إنني لم أكن حتى مع نفسي...، وإلا أين اختفت الحفرة، وأين اختفى شقها...؟
ـ ها أنت تدرك عمق المعضلة، ولغز حقيقتها؟
ـ بل أنا أدركت حقيقة اللغز!
ـ كأنك لا تريد أن يكون لموتك معنى...؟
ـ لا....، لأنني، يا صديقي، كنت أدركت، منذ زمن بعيد، لا معنى موتي معكم، ولا معنى لموتكم مع موتي...، والآن أدرك تماما ً لا معنى موتي مع نفسي، ففي المرة الأولى انجذبت إليكم من غير إرادة...، وفي المرة الثانية تركت موتي يمشي أمامي كي أتتبع خطاه....، فكانت الحصيلة إنني خسرت ما كان يمكن عدم خسارته، وفي المرة الأخيرة لم اربح حتى هذا الذي من المستحيل أن تجد له أثرا ً، كي تجد له معنى!
26/1/2016
Az4445363@gmail.com