الجُرح المُعتَّق ، أو غالب ليلو البزّاز كما عرفته
أحمد الحلي
مقتربات أولى
منذ وقت ليس بالقصير أتيح لمثقفي الحلة وأدبائها أن يتعرّفوا على عدد من مثقفي المحافظات الأخرى الوافدين إلى مدينتهم من مدنٍ أخرى ، لدوافع شتى لغرض الإقامة والاستقرار فيها واتخاذها مدينة بديلة عن مدنهم الأصلية ...
أتيح لنا أن نتعرّف على أدباء وفدوا من مدينة الناصرية بصفة خاصة ، ومن بين هؤلاء صديقنا الشاعر ناهض الخياط الذي أخذ حظاً وافراً من الذيوع والشهرة بوصفه شاعراً متمكناً ، وكذلك أخوه القاص والشاعر عادل الخياط ، وكذلك الشاعر محمد علي كاظم حيدر ، وأتيح لنا أيضاً أن نتعرّف على أديب كفيف البصر هو الشاعر غالب ليلو البزاز الذي يبدو أنه عانى كثيراً ، وعاش في أخريات سنواته حياة الشظف والبؤس والحرمان والتشرّد ، على الرغم من أن بعض أصدقائه على قلّتهم ظلوا أوفياء له حتى اللحظات الأخيرة ...
استطاع شاعرنا ، غالب ليلو البزاز ، أن ينال قسطاً وافراً من التعليم من مصادر متنوعة ، وتمكن من أن ينهل ثقافته شفاهياً أو من خلال ما يقرأه له بعض أفراد العائلة أو الأصدقاء من روائع القصائد والمأثورات ، وفيما بعد قضى شطراً من حياته يدرس في الحوزة العلمية بالنجف الأشرف إلا أنه ولأسباب متنوعة توقف عن مواصلة الدراسة ، وربما عزونا ذلك إلى ضيق ذات اليد أو ربما هو عامل التمرد وعدم الاستعداد للإنصياع أياً كان نوعه التي جبل عليها الشعراء دوماً هي التي حدت به إلى التوقف عن إكمال دراسته الحوزوية ومحاولته اصطناع فسحة أكبر للحرية تتحرك ضمن مساحتها ذاته اللائبة ...
كنتُ أراه ، إبان فترة الحصار الاقتصادي القاسي وهو يتمشى وئيداً على الرصيف قاطعاً المسافة بين (فندق أبو ذر) وهو الفندق الذي اعتاد أن ينزل فيه عدد وافر من المحرومين والمدقعين في المدينة ، كنت أراه وهو بأناقته المعهودة متأبطاً ديوانه الوحيد لغرض االوصول إلى مكتبتي في شارع الإمام علي ، أو على الأرجح لغرض تناول وجبة الغداء الشحيحة في مطعم أبو جورج المجاور لمكتبتي في الطابق الأرضي من عمارة العزاوي ، وغالباً كنت أسمعه يتمتم مع نفسه ببعض الهمهمات والكلمات ، إلا أنه مع كل ذلك كان قنوعاً ويستقبل كل ما كان يحوط حياته من بؤس وشظف وحرمان برحابة صدر بل وكثيراً ما كنت أراه وهو يصطنع النكتة والظرافة ويضحك ملء فمه ...
روى لي أحد أصدقائه المقرّبين حكاية مؤلمة تنم عن مدى الخسة والدناءة التي يمكن أن يصل إليها بعض الناس ، هذه الحكاية وقعت للشاعر مع أحد المقرّبين منه إبان فترة الحصار الإقتصادي ، حيث أن هذا الأخير كان يمرّ بضائقة مالية ، وكان يعلم أن الشاعر يدّخر بعض المال من راتبه الشحيح الذي كانت تخصصه له وزارة الأوقاف بوصفه مؤذناً في أحد المساجد ، وبعد أن وقف الشاعرعلى صعوبة الوضع المادي الذي تمر به عائلة هذا الشخص ، وافق على إقراضه بعض المال ، وطلب منه أن يذهب معه إلى المسجد الذي كان يقيم فيه آنذاك ، وذهب إلى إحدى (الروازين) واستخرج من تحت سجادة الصلاة النقود التي كان خبّأها ، وطلب منه أن يأخذ ما يحتاجه ويعيد المبلغ المتبقي إلى مكانه .. ويمر يوم آخر ليكتشف الشاعر أن المبلغ برمته لم يعد موجوداً في مكانه ، ثم ليجد أن صديقه المقرب قد هرب منه بعيداً أيضاً ....
وقد كنت بحكم عملي وقربي منه ملماً ومطلعاً على الكثير حيثيات حياته وكذلك أتيح لي أن أطّلع على قصائده التي أودعها ديوانه المخطوط ( شفاه ظمآى أو شفاه عطشى) ... والذي استقرَّ أخيراً على " شفاه عطشى" ووجدت أن عدداً من الأصدقاء على قلتهم كما أسلفنا كانوا عوناً وعضداً للشاعر في أشد الظروف قسوة ... ومن بين هؤلاء وأبرزهم السيد علي حمزة ، وآخرون اضطلعوا بكتابة قصائد الديوان بخط أنيق وجميل ، فلهم الشكر والعرفان على هذا الدور المشرّف
روى لي أحد أصدقائه المقرّبين وهو الشاعر محمد علي حيدر حكاية مؤلمة تنم عن مدى الخسة والدناءة التي يمكن أن يتصف بها بعض الأشخاص ، هذه الحكاية وقعت للشاعر مع أحد المقرّبين منه إبان فترة الحصار الإقتصادي ، حيث أن هذا الأخير كان يمرّ بضائقة مالية ، وكان يعلم أن الشاعر يدّخر بعض المال من راتبه الشحيح الذي كانت تخصصه له وزارة الأوقاف بوصفه مؤذناً في أحد المساجد ، وبعد أن وقف الشاعرعلى صعوبة الوضع المادي الذي تمر به عائلة هذا الشخص ، وافق على إقراضه بعض المال ، وطلب منه أن يذهب معه إلى المسجد الذي كان يقيم فيه آنذاك ، وذهب إلى إحدى (الروازين) واستخرج من تحت سجادة الصلاة النقود التي كان خبّأها ، وطلب منه أن يأخذ ما يحتاجه ويعيد المبلغ المتبقي إلى مكانه .. ويمر يوم آخر ليكتشف الشاعر أن المبلغ برمته لم يعد موجوداً في مكانه ، ثم ليجد أن صديقه المقرب قد هرب منه بعيداً أيضاً ....
وكان وروى لي أيضاً حكايةً معطّرة عن أحد أخوة الشاعر وهو السيد طالب الذي عمل معلّماً وكان شخصية وطنية مرموقة في سوق الشيوخ بل وفي الناصرية برمتها ، وأن السلطات آنذاك كثيراً ما كانت تعمد إلى اعتقاله بسبب نشاطه ومشاركاته في التظاهرات ضد النظام خلال فترة الخمسينيات حيث يقضي في مراكز التوقيف عدة أيام ثم يُطلقون سراحه ، "وما إن كنا نعلم بإطلاق سراحه حتى نُهرَع إليه ، بوصفنا شبّاناً طامحين نحب وطننا ومتطلّعين إلى الإستزادة من الثقافة والمعرفة ، فنلتفّ حوله ليروي لنا ما الذي فعله رجال الأمن معه وكيف أنه خرج وهو أكثر صلابة واقتناعاً بأفكاره من ذي قبل ، فكنا نرى فيه مثلنا الأعلى ...." ، يُذكر أن طالب قد تم اغتياله في العام 1966 وهو في أوج شبابه ونضوجه ...، وقد رثاه شاعرنا بقصيدتين بحسب المعلومات المتوافرة لدينا ، وقد جاء في قصيدته الثانية التي قالها في العام 1992 بمناسبة مرور ربع قرن على وفاته ؛
أنساكَ ؟ مَنْ قالَ وهمٌ في تصوُّرِهِ إني عشِقتُكَ عِشْقَ الأرضِ للدِيَمِ
يا ابن الثلاثين يا جُرْحاً يُعَذِّبني ما للزمانِ أمانٌ قِيلَ من قِدَمِ
ناجيتُ قبرَكَ والآلامُ تعصِرني يا منبعَ الحبِّ يا لحنَ الهوى بفمي
ما زلت أتذكر ، كيف أننا اخترنا بيتين شعريين له من إحدى قصائده والتي هي بعنوان ( ليل) التي نظمها الشاعر في العام 1984 وهو في طريقه إلى سوق الشيوخ بالناصرية والتي مطلعها ؛
قلبي تلازم فيه الهمُّ والضَجَرُ إنْ أشتكي جَزَعاً قالوا هو القَدَرُ
والبيتان هما ؛
لا الصبحُ ياربَّة الأحلامِ مبتسِماً
عندي ، ولا الليلُ في آفاقِه قَمَرُ
يا ليتَ ما كانَ لي حِسٌّ يُعذّبني
كم كانَ يُبهِجُني لو أنني حَجَرُ
وقد نبّهني الفنّان المطرب الذي كان يحضر معنا في جلساتنا سمرنا الليلية الخاصة إلى ضرورة أن يقوم الشاعر نفسه بإجراء بعض التعديل على البيت الأول من أجل أن يُصبح متوائماً مع ضرورة التلحين والغناء ، وبالفعل أخبرت أبا سلام بذلك ، فقال لي ؛ " نعم هو محق ، امهلني بعض الوقت " ، وفي اليوم التالي حضر إلى مكتبتي جذِلاً ، ووافاني بالصيغة الجديدة وهي ؛
لا الصبحُ عندي كصبحِ الناسِ
مبتسِماً ، ولا الليلُ في آفاقهِ قَمَرُ
فاستقام البيت لحنياً . وقد فرح المطرب لذلك أيما فرح .
وبعد وفاة الشاعر المؤسية ، أصبح الديوان المخطوط بعهدة صديقه الوفي السيد علي حمزة الويسي ( أبو زهراء) ، الذي كان يأمل أن يجد من يتطوع بطباعته ، ولكن جميع من كان يُرتجى منهم خيراً كانوا يتعهدون بذلك ويبدون استعدادهم ، ولكنهم كانوا على الدوام يتهربون من التنفيذ ... وهكذا ظلَّ الديوان يتنقل من يد إلى يد ، ثم ليضيع في نهاية المطاف ، وكنت أرى السيد علي فزِعاً ومفجوعاً بهذا الفقدان الفادح أيما فجيعة ، وكيف لا وهو الذي اصطفاه الشاعر وعهد إليه برعاية أعز وأثمن ما يملك ...
وتمر السنوات تتلوها سنوات ، ثم وبمحض الصدفة ، أو ربما هو الحظ وحده يتم اكتشاف الديوان من قبل صاحب المقهى الذي اعتاد الشاعر أن يجلس فيه ، ذلك أن أحد الأشخاص كان يحمله معه حين اتخذ مقعده وجلس لاحتساء الشاي ، وبعد أن جلس وقتاً قصيراً قام وذهب ونسي المخطوط ، فأسرع إحسان وهو صاحب المقهى حيث كان يعرف الديوان جيداً وكذلك قصة اختفائه وفقدانه ، وأخفى الديوان ، وبعد وقت قصير يعود ذلك الشخص ليسأل عن الدفتر الذي فقده ، فينفي إحسان أنه وجد شيئاً ، فيذهب هذا إلى حال سبيله وكله حيرة ومرارة ....
وعلى أية حال ، شاعت في الوسط الأدبي ، وكذلك جميع المقرّبين من الشاعر قصة العثور على الديوان مجدداً واستبشر الجميع خيراً ، ولا سيما وأن إحسان وجد أن خير من يأتمه على الديوان هو صديقنا الشاعر ولاء الصوّاف خاصّة وأنه يمتلك أكبر دار لنشر الكتب في المدينة ...،واستقر رأي ولاء أن يطبع الديوان ، على أن يتم ذلك عن طريق جمع التبرعات من الأصدقاء ومحبي الشاعر الفقيد ...
قرأت بدقّة وتحرٍ شديدين نسخة منضّدة من الديوان ، فوجدت أخطاءً كارثية هائلة ، خاصة وأنه عُهد إليَّ بتصحيحه قبل إرساله إلى الشام لطباعته ، والقصائد تندرج تحت أبواب وأغراض محددة ، وهي أبواب اعتاد شعراء العمود الكتابة ضمن أُطرها ... وأستطيع إجمالها بما يلي ؛
باب الغزل والوجدانيات
أجاد الشاعر وأبدع أيما إبداع في هذا الباب ، ونرى أن ذلك يمكن أن يعكس فداحة المصيبة التي حلّت به من ناحية فقدان البصر وكذلك تخلي عائلته وكذلك الكثير من المقربين عنه ، فوجد في المرأة عزاءه وسلواه ، وكان يجد في القرب منها ما يُبهج فؤاده المكلوم والمحروم ... ، وقد ترك لنا في هذا الإطار قصائد غاية في الجمال والبراعة والعذوبة وتطالعنا في هذا المنحى امرأتان ، الأولى اسمها بلقيس ويبدو أنها كانت المرأة الأولى في حياة الشاعر حيث قال فيها قصائده الأولى ابتداءاً من العام 1957 وما بعده ، ومما جاء في إحداها ؛
ألفُ وجْهٍ يمرُّ في ذاكرتي مثلُ بلقيسَ عليها لن يمُرّا
إي وعينيكِ وأيّامِ الهوى أنتِ يا بلقيسُ بالعُشّاق أدرى
يا ابنةَ الأحلامِ أنّى نلتقي نغمرُ الدنيا أناشيداً وزهرا
وقال فيها أيضاً ؛
يا ابنة الأحلامِ أنّى نلتقي نغمرُ الدنيا أناشيداً وزهرا
وقال فيها ؛
ذكراكِ فوق شفاه الفجرِ أغنيةٌ حمراءُ ما برحتْ تجري على وتري
على أنه سرعان ما يتبدى لنا فيما بعد اسم امرأة أخرى أكثر رسوخاً وفاعلية ، ، وإن كنا لا نعرف نوع الحب نشأ بينهما ؛ أهو من طرف واحد أم أنه كان هناك تواصل حسّي أو معنوي بين الطرفين أو أن الشاعرَ كان يتعكز الشاعر فيه على خياله الجامح كما اعتاد أن يفعل ذلك عددٌ من الشعراء ، اسم هذه المرأة هو سهيلة ، حيث نراه يقول فيها مصرّحاً باسمها ؛
حسبي أُحسُّكِ يا سهيلةُ في الكرى وجهاً به تتلألأ الأنوارُ
ويقول ؛ مُحبُّكِ يا سهيلةُ لا يُلامُ وفي جَنبيه يحتدِمُ الغرامُ
ويقول فيها
شفتاكِ بالخمرِ الشهيِّ مليئةٌ يا عذبةَ الشفتينِ ما أحلاكِ
ويقول ؛ عيناكِ يا سِحرَ الوجودِ قصيدةٌ غنّتْ بها منذ الصِبا شفتانا
ويقول ؛ ما أطيبَ القُبلةَ لو عنوةً تؤخذ من خدّيكِ يا ناسيهْ
ما مرَّ في جَفنيَّ طيبُ الكرى مُذْ هِمتُ في عينيكِ يا غاليهْ
ويقول ؛ ما لي على بُعدِ الأحبّةِ مُهجةٌ أبداً ، ولستُ على نواكِ بصابرِ
قصائد في حب ورثاء أهل البيت
احتلت هذه الثيمة حوالي ربع مساحة الديوان ، والشاعر هنا ينسج قصائد تطفح بالألم والشجن الرفيع تجاه مصائب العترة النبوية ، التي تعرّضت إلى الكثير من الويلات والظلم على يد السلطات الجائرة على مر العصور ، والشاعر يؤكد هنا على المعاني النبيلة التي درج الشعراء الآخرون على التغني بها وإبرازها ...، إلا أننا نستطيع أن نلحظ أنه استطاع من خلالها أن يمرر ما كانت تمور بها نفسه التواقه أبداً إلى الحرية والانعتاق من تبرّم وسخط على السلطات الحاكمة التي سلبت البلاد وحرمت المواطن من أبسط حقوقه الأساسية ، وهو يقول ؛
ومن البليّة أن تُداسَ كرامةٌ في أرضنا وتُهانَ حُرمةُ مسجدِ
حين تنعمُ في البلادِ عصابةٌ من كل أجيرٍ مًفسِدِ
إنا نُكيلُ قصائداً لعدوِّنا ولنا يكيلُ قذائفاً لم تخمُدِ
ويقول في أخرى ؛
أمنَ العدالةِ في الحياةِ مُنَعَّمٌ فرْدٌ ، والآلافُ تكِدُّ وتُحرَمُ ؟
ثيمة الشكوى ومعاناته من الغربة الذاتية
تحتل هذه الثيمة المساحة الكبرى من الديوان ، ويبدو أن هذا الوتر الأثير إلى نفس الشاعر يمتد ويتفرع في جميع الاتجاهات ويتخلل غالبية القصائد ، ونرصد هنا أبياتاً غاية في الجمال والعذوبة وعمق المعنى ، فالشاعر يبوح بالمضمر من آلامه وأوجاعه التي تفرّد بها أو كُتِب عليه أن يتفرّد بها ، فنراه يقول ؛
ويلي على قلبي توطّنه الأسى ولقد تصاعَد كالجريحِ تنَهُّدي
ويقول ؛
ما مرَّ في دنيايَ يومٌ مشرِقٌ أبداً ، وما مرَّ الربيعُ ببابي
ويقول ؛
أرأيتَ في الدنيا أديباً ضائعاً مثلي ، يبيتُ على قناً وقَتادِ
ويقول ؛ من الدنيا رضيتُ ببيتِ شعرٍ وإن عليه تحسدني اللئامُ
ويقول في أخرى ؛
أحيا غريباً في الحياةِ مضيَّعاً ما بين أبقارٍ ونِعاجِ
ويقول ؛
جارتْ عليَّ أحِبَّةٌ وأعادي وقستْ عليَّ محافلٌ ونوادي
وعصتني حتى القافياتُ فلم تعدْ كالأمسِ طوعَ مشيئتي وقيادي
أبداً وما ضمّتْ على أملٍ يدي وتعثَّرتْ منذ الشبابِ جيادي
ويقول في قصيدة ( يا صبرَ أيوب) ؛
ستون ما حملتْ بداخلها ما يُبهِجُ النفسَ من أُنسٍ ومن سَمَرِ
عانيتُ منها ومن أوجاعِ محنتها ما لا يُطاقُ من الأرزاء والغِيَرِ
جُرحي تعتّق في قلبي وفي بدني مَنْ ذا يُضمِّده في ساعةِ الخطرِ
الحنين إلى سوق الشيوخ
بوسع قارئ الديوان أن يلاحظ قوة الشوق الذي يعتصر قلب الشاعر والحنين إلى منطقة سوق الشيوخ بالناصرية ، حيث ولد وعاش مراحل حياته الأولى ، فيرتسم هذا السوق في مخيّلة الشاعر وكأنه الفردوس المفقود أو الحلم الذي لم يتسنَّ له الاستمرار فيه ، ونجتزئ هنا بعضاً مما كان يختلجُ في نفسه ؛
سوقُ الشيوخِ وما أُعيرُ لعاذلٍ سمْعاً ، وما أخشى من اللوّامِ
سوقُ الشيوخِ ، على ثراكَ نما الهوى وسما على قممٍ من الآدابِ
أيا سوقَ الشيوخِ ، وكلُّ شمسٍ تغيبُ ، وإن شمسَكَ لا تغيبُ
إلى سوق الشيوخ حملتُ شوقي وما بينَ الضلوع له لهيبُ
بورِكتَ يا سوقَ الشيوخِ مكرَّماً وسلمتَ في دنياكَ للأحبابِ
سوق الشيوخِ جميلٌ في تدلــله عندي ، وفي حبِّه يُستَعذَبُ السهَرُ
سوقُ الشيوخِ بماضيه وحاضرِه غنّتْ بأمجاده هاتيكمُ السِيَرُ
ويبلغ حنين الشاعر إلى سوق الشيوخ ذروته فتتضاءل مدن الله الأخرى بإزائه
خلّفتُ في سوق الشيوخِ مهجتي وأتيتُ في بدني إلى الفيحاءِ
ما شِمتُ خيراً مذْ وطأتُ أديمَها ولقد شقيتُ بها وأيَّ شقاءِ
أودُّ في نهاية المطاف أن أتحدث عن الدوافع التي حدت بي لمتابعة الشاعر والكتابة عن ديوانه هذا ، مع أن ذلك لا يقع ضمن دائرة اهتماماتي الأساسية ، وأعني بذلك أنني وعلى الرغم من كوني استوعبت قصائد الشعر العربي التقليدية قديمها وحديثها ، إلا أنني خرجت من هذه الشرنقة منذ أمد بعيد ، وأتجهت برؤاي وتفكيري نحو القصيدة الحديثة أي قصيدة النثر التي أصبحت هي السائدة والمعوّل عليها في وقتنا الحالي وربما المستقبلي أيضاً ، وفي هذا الإطار أستطيع تحديد عدد من الأسباب ، من بينها وربما أهمها أنني وجدت في الكثير من نصوص الشاعر نزوعاً متأصّلاً نحو مقتضيات الحداثة ، وأن شعره برمتّه جاء ممتلئاً طلاوةً وعذوبةً وسلاسة ، بالإضافة إلى ذلك فأنا اعتبرت نفسي قريباً ومتعاطفاً بما يكفي من قضية الشاعر ، وهي قضية انسانية ومعرفية بالدرجة الأساس ، وينسحب ذلك على البيتين الغزليين الجميلين آنفي الذكر اللذين دأبتُ على نشرِهما على نطاقٍ واسع ....
----------------------------------------------------
ملاحظة ضرورية ؛ هذه المقالة سوف يتم تثبيتها في مقدمة الديوان الذي سيصدر قريباً عن المركز الثقافي للطباعة والنشر الذي يديره صديقنا الشاعر ولاء الصواف ....
أحمد الحلي
مقتربات أولى
منذ وقت ليس بالقصير أتيح لمثقفي الحلة وأدبائها أن يتعرّفوا على عدد من مثقفي المحافظات الأخرى الوافدين إلى مدينتهم من مدنٍ أخرى ، لدوافع شتى لغرض الإقامة والاستقرار فيها واتخاذها مدينة بديلة عن مدنهم الأصلية ...
أتيح لنا أن نتعرّف على أدباء وفدوا من مدينة الناصرية بصفة خاصة ، ومن بين هؤلاء صديقنا الشاعر ناهض الخياط الذي أخذ حظاً وافراً من الذيوع والشهرة بوصفه شاعراً متمكناً ، وكذلك أخوه القاص والشاعر عادل الخياط ، وكذلك الشاعر محمد علي كاظم حيدر ، وأتيح لنا أيضاً أن نتعرّف على أديب كفيف البصر هو الشاعر غالب ليلو البزاز الذي يبدو أنه عانى كثيراً ، وعاش في أخريات سنواته حياة الشظف والبؤس والحرمان والتشرّد ، على الرغم من أن بعض أصدقائه على قلّتهم ظلوا أوفياء له حتى اللحظات الأخيرة ...
استطاع شاعرنا ، غالب ليلو البزاز ، أن ينال قسطاً وافراً من التعليم من مصادر متنوعة ، وتمكن من أن ينهل ثقافته شفاهياً أو من خلال ما يقرأه له بعض أفراد العائلة أو الأصدقاء من روائع القصائد والمأثورات ، وفيما بعد قضى شطراً من حياته يدرس في الحوزة العلمية بالنجف الأشرف إلا أنه ولأسباب متنوعة توقف عن مواصلة الدراسة ، وربما عزونا ذلك إلى ضيق ذات اليد أو ربما هو عامل التمرد وعدم الاستعداد للإنصياع أياً كان نوعه التي جبل عليها الشعراء دوماً هي التي حدت به إلى التوقف عن إكمال دراسته الحوزوية ومحاولته اصطناع فسحة أكبر للحرية تتحرك ضمن مساحتها ذاته اللائبة ...
كنتُ أراه ، إبان فترة الحصار الاقتصادي القاسي وهو يتمشى وئيداً على الرصيف قاطعاً المسافة بين (فندق أبو ذر) وهو الفندق الذي اعتاد أن ينزل فيه عدد وافر من المحرومين والمدقعين في المدينة ، كنت أراه وهو بأناقته المعهودة متأبطاً ديوانه الوحيد لغرض االوصول إلى مكتبتي في شارع الإمام علي ، أو على الأرجح لغرض تناول وجبة الغداء الشحيحة في مطعم أبو جورج المجاور لمكتبتي في الطابق الأرضي من عمارة العزاوي ، وغالباً كنت أسمعه يتمتم مع نفسه ببعض الهمهمات والكلمات ، إلا أنه مع كل ذلك كان قنوعاً ويستقبل كل ما كان يحوط حياته من بؤس وشظف وحرمان برحابة صدر بل وكثيراً ما كنت أراه وهو يصطنع النكتة والظرافة ويضحك ملء فمه ...
روى لي أحد أصدقائه المقرّبين حكاية مؤلمة تنم عن مدى الخسة والدناءة التي يمكن أن يصل إليها بعض الناس ، هذه الحكاية وقعت للشاعر مع أحد المقرّبين منه إبان فترة الحصار الإقتصادي ، حيث أن هذا الأخير كان يمرّ بضائقة مالية ، وكان يعلم أن الشاعر يدّخر بعض المال من راتبه الشحيح الذي كانت تخصصه له وزارة الأوقاف بوصفه مؤذناً في أحد المساجد ، وبعد أن وقف الشاعرعلى صعوبة الوضع المادي الذي تمر به عائلة هذا الشخص ، وافق على إقراضه بعض المال ، وطلب منه أن يذهب معه إلى المسجد الذي كان يقيم فيه آنذاك ، وذهب إلى إحدى (الروازين) واستخرج من تحت سجادة الصلاة النقود التي كان خبّأها ، وطلب منه أن يأخذ ما يحتاجه ويعيد المبلغ المتبقي إلى مكانه .. ويمر يوم آخر ليكتشف الشاعر أن المبلغ برمته لم يعد موجوداً في مكانه ، ثم ليجد أن صديقه المقرب قد هرب منه بعيداً أيضاً ....
وقد كنت بحكم عملي وقربي منه ملماً ومطلعاً على الكثير حيثيات حياته وكذلك أتيح لي أن أطّلع على قصائده التي أودعها ديوانه المخطوط ( شفاه ظمآى أو شفاه عطشى) ... والذي استقرَّ أخيراً على " شفاه عطشى" ووجدت أن عدداً من الأصدقاء على قلتهم كما أسلفنا كانوا عوناً وعضداً للشاعر في أشد الظروف قسوة ... ومن بين هؤلاء وأبرزهم السيد علي حمزة ، وآخرون اضطلعوا بكتابة قصائد الديوان بخط أنيق وجميل ، فلهم الشكر والعرفان على هذا الدور المشرّف
روى لي أحد أصدقائه المقرّبين وهو الشاعر محمد علي حيدر حكاية مؤلمة تنم عن مدى الخسة والدناءة التي يمكن أن يتصف بها بعض الأشخاص ، هذه الحكاية وقعت للشاعر مع أحد المقرّبين منه إبان فترة الحصار الإقتصادي ، حيث أن هذا الأخير كان يمرّ بضائقة مالية ، وكان يعلم أن الشاعر يدّخر بعض المال من راتبه الشحيح الذي كانت تخصصه له وزارة الأوقاف بوصفه مؤذناً في أحد المساجد ، وبعد أن وقف الشاعرعلى صعوبة الوضع المادي الذي تمر به عائلة هذا الشخص ، وافق على إقراضه بعض المال ، وطلب منه أن يذهب معه إلى المسجد الذي كان يقيم فيه آنذاك ، وذهب إلى إحدى (الروازين) واستخرج من تحت سجادة الصلاة النقود التي كان خبّأها ، وطلب منه أن يأخذ ما يحتاجه ويعيد المبلغ المتبقي إلى مكانه .. ويمر يوم آخر ليكتشف الشاعر أن المبلغ برمته لم يعد موجوداً في مكانه ، ثم ليجد أن صديقه المقرب قد هرب منه بعيداً أيضاً ....
وكان وروى لي أيضاً حكايةً معطّرة عن أحد أخوة الشاعر وهو السيد طالب الذي عمل معلّماً وكان شخصية وطنية مرموقة في سوق الشيوخ بل وفي الناصرية برمتها ، وأن السلطات آنذاك كثيراً ما كانت تعمد إلى اعتقاله بسبب نشاطه ومشاركاته في التظاهرات ضد النظام خلال فترة الخمسينيات حيث يقضي في مراكز التوقيف عدة أيام ثم يُطلقون سراحه ، "وما إن كنا نعلم بإطلاق سراحه حتى نُهرَع إليه ، بوصفنا شبّاناً طامحين نحب وطننا ومتطلّعين إلى الإستزادة من الثقافة والمعرفة ، فنلتفّ حوله ليروي لنا ما الذي فعله رجال الأمن معه وكيف أنه خرج وهو أكثر صلابة واقتناعاً بأفكاره من ذي قبل ، فكنا نرى فيه مثلنا الأعلى ...." ، يُذكر أن طالب قد تم اغتياله في العام 1966 وهو في أوج شبابه ونضوجه ...، وقد رثاه شاعرنا بقصيدتين بحسب المعلومات المتوافرة لدينا ، وقد جاء في قصيدته الثانية التي قالها في العام 1992 بمناسبة مرور ربع قرن على وفاته ؛
أنساكَ ؟ مَنْ قالَ وهمٌ في تصوُّرِهِ إني عشِقتُكَ عِشْقَ الأرضِ للدِيَمِ
يا ابن الثلاثين يا جُرْحاً يُعَذِّبني ما للزمانِ أمانٌ قِيلَ من قِدَمِ
ناجيتُ قبرَكَ والآلامُ تعصِرني يا منبعَ الحبِّ يا لحنَ الهوى بفمي
ما زلت أتذكر ، كيف أننا اخترنا بيتين شعريين له من إحدى قصائده والتي هي بعنوان ( ليل) التي نظمها الشاعر في العام 1984 وهو في طريقه إلى سوق الشيوخ بالناصرية والتي مطلعها ؛
قلبي تلازم فيه الهمُّ والضَجَرُ إنْ أشتكي جَزَعاً قالوا هو القَدَرُ
والبيتان هما ؛
لا الصبحُ ياربَّة الأحلامِ مبتسِماً
عندي ، ولا الليلُ في آفاقِه قَمَرُ
يا ليتَ ما كانَ لي حِسٌّ يُعذّبني
كم كانَ يُبهِجُني لو أنني حَجَرُ
وقد نبّهني الفنّان المطرب الذي كان يحضر معنا في جلساتنا سمرنا الليلية الخاصة إلى ضرورة أن يقوم الشاعر نفسه بإجراء بعض التعديل على البيت الأول من أجل أن يُصبح متوائماً مع ضرورة التلحين والغناء ، وبالفعل أخبرت أبا سلام بذلك ، فقال لي ؛ " نعم هو محق ، امهلني بعض الوقت " ، وفي اليوم التالي حضر إلى مكتبتي جذِلاً ، ووافاني بالصيغة الجديدة وهي ؛
لا الصبحُ عندي كصبحِ الناسِ
مبتسِماً ، ولا الليلُ في آفاقهِ قَمَرُ
فاستقام البيت لحنياً . وقد فرح المطرب لذلك أيما فرح .
وبعد وفاة الشاعر المؤسية ، أصبح الديوان المخطوط بعهدة صديقه الوفي السيد علي حمزة الويسي ( أبو زهراء) ، الذي كان يأمل أن يجد من يتطوع بطباعته ، ولكن جميع من كان يُرتجى منهم خيراً كانوا يتعهدون بذلك ويبدون استعدادهم ، ولكنهم كانوا على الدوام يتهربون من التنفيذ ... وهكذا ظلَّ الديوان يتنقل من يد إلى يد ، ثم ليضيع في نهاية المطاف ، وكنت أرى السيد علي فزِعاً ومفجوعاً بهذا الفقدان الفادح أيما فجيعة ، وكيف لا وهو الذي اصطفاه الشاعر وعهد إليه برعاية أعز وأثمن ما يملك ...
وتمر السنوات تتلوها سنوات ، ثم وبمحض الصدفة ، أو ربما هو الحظ وحده يتم اكتشاف الديوان من قبل صاحب المقهى الذي اعتاد الشاعر أن يجلس فيه ، ذلك أن أحد الأشخاص كان يحمله معه حين اتخذ مقعده وجلس لاحتساء الشاي ، وبعد أن جلس وقتاً قصيراً قام وذهب ونسي المخطوط ، فأسرع إحسان وهو صاحب المقهى حيث كان يعرف الديوان جيداً وكذلك قصة اختفائه وفقدانه ، وأخفى الديوان ، وبعد وقت قصير يعود ذلك الشخص ليسأل عن الدفتر الذي فقده ، فينفي إحسان أنه وجد شيئاً ، فيذهب هذا إلى حال سبيله وكله حيرة ومرارة ....
وعلى أية حال ، شاعت في الوسط الأدبي ، وكذلك جميع المقرّبين من الشاعر قصة العثور على الديوان مجدداً واستبشر الجميع خيراً ، ولا سيما وأن إحسان وجد أن خير من يأتمه على الديوان هو صديقنا الشاعر ولاء الصوّاف خاصّة وأنه يمتلك أكبر دار لنشر الكتب في المدينة ...،واستقر رأي ولاء أن يطبع الديوان ، على أن يتم ذلك عن طريق جمع التبرعات من الأصدقاء ومحبي الشاعر الفقيد ...
قرأت بدقّة وتحرٍ شديدين نسخة منضّدة من الديوان ، فوجدت أخطاءً كارثية هائلة ، خاصة وأنه عُهد إليَّ بتصحيحه قبل إرساله إلى الشام لطباعته ، والقصائد تندرج تحت أبواب وأغراض محددة ، وهي أبواب اعتاد شعراء العمود الكتابة ضمن أُطرها ... وأستطيع إجمالها بما يلي ؛
باب الغزل والوجدانيات
أجاد الشاعر وأبدع أيما إبداع في هذا الباب ، ونرى أن ذلك يمكن أن يعكس فداحة المصيبة التي حلّت به من ناحية فقدان البصر وكذلك تخلي عائلته وكذلك الكثير من المقربين عنه ، فوجد في المرأة عزاءه وسلواه ، وكان يجد في القرب منها ما يُبهج فؤاده المكلوم والمحروم ... ، وقد ترك لنا في هذا الإطار قصائد غاية في الجمال والبراعة والعذوبة وتطالعنا في هذا المنحى امرأتان ، الأولى اسمها بلقيس ويبدو أنها كانت المرأة الأولى في حياة الشاعر حيث قال فيها قصائده الأولى ابتداءاً من العام 1957 وما بعده ، ومما جاء في إحداها ؛
ألفُ وجْهٍ يمرُّ في ذاكرتي مثلُ بلقيسَ عليها لن يمُرّا
إي وعينيكِ وأيّامِ الهوى أنتِ يا بلقيسُ بالعُشّاق أدرى
يا ابنةَ الأحلامِ أنّى نلتقي نغمرُ الدنيا أناشيداً وزهرا
وقال فيها أيضاً ؛
يا ابنة الأحلامِ أنّى نلتقي نغمرُ الدنيا أناشيداً وزهرا
وقال فيها ؛
ذكراكِ فوق شفاه الفجرِ أغنيةٌ حمراءُ ما برحتْ تجري على وتري
على أنه سرعان ما يتبدى لنا فيما بعد اسم امرأة أخرى أكثر رسوخاً وفاعلية ، ، وإن كنا لا نعرف نوع الحب نشأ بينهما ؛ أهو من طرف واحد أم أنه كان هناك تواصل حسّي أو معنوي بين الطرفين أو أن الشاعرَ كان يتعكز الشاعر فيه على خياله الجامح كما اعتاد أن يفعل ذلك عددٌ من الشعراء ، اسم هذه المرأة هو سهيلة ، حيث نراه يقول فيها مصرّحاً باسمها ؛
حسبي أُحسُّكِ يا سهيلةُ في الكرى وجهاً به تتلألأ الأنوارُ
ويقول ؛ مُحبُّكِ يا سهيلةُ لا يُلامُ وفي جَنبيه يحتدِمُ الغرامُ
ويقول فيها
شفتاكِ بالخمرِ الشهيِّ مليئةٌ يا عذبةَ الشفتينِ ما أحلاكِ
ويقول ؛ عيناكِ يا سِحرَ الوجودِ قصيدةٌ غنّتْ بها منذ الصِبا شفتانا
ويقول ؛ ما أطيبَ القُبلةَ لو عنوةً تؤخذ من خدّيكِ يا ناسيهْ
ما مرَّ في جَفنيَّ طيبُ الكرى مُذْ هِمتُ في عينيكِ يا غاليهْ
ويقول ؛ ما لي على بُعدِ الأحبّةِ مُهجةٌ أبداً ، ولستُ على نواكِ بصابرِ
قصائد في حب ورثاء أهل البيت
احتلت هذه الثيمة حوالي ربع مساحة الديوان ، والشاعر هنا ينسج قصائد تطفح بالألم والشجن الرفيع تجاه مصائب العترة النبوية ، التي تعرّضت إلى الكثير من الويلات والظلم على يد السلطات الجائرة على مر العصور ، والشاعر يؤكد هنا على المعاني النبيلة التي درج الشعراء الآخرون على التغني بها وإبرازها ...، إلا أننا نستطيع أن نلحظ أنه استطاع من خلالها أن يمرر ما كانت تمور بها نفسه التواقه أبداً إلى الحرية والانعتاق من تبرّم وسخط على السلطات الحاكمة التي سلبت البلاد وحرمت المواطن من أبسط حقوقه الأساسية ، وهو يقول ؛
ومن البليّة أن تُداسَ كرامةٌ في أرضنا وتُهانَ حُرمةُ مسجدِ
حين تنعمُ في البلادِ عصابةٌ من كل أجيرٍ مًفسِدِ
إنا نُكيلُ قصائداً لعدوِّنا ولنا يكيلُ قذائفاً لم تخمُدِ
ويقول في أخرى ؛
أمنَ العدالةِ في الحياةِ مُنَعَّمٌ فرْدٌ ، والآلافُ تكِدُّ وتُحرَمُ ؟
ثيمة الشكوى ومعاناته من الغربة الذاتية
تحتل هذه الثيمة المساحة الكبرى من الديوان ، ويبدو أن هذا الوتر الأثير إلى نفس الشاعر يمتد ويتفرع في جميع الاتجاهات ويتخلل غالبية القصائد ، ونرصد هنا أبياتاً غاية في الجمال والعذوبة وعمق المعنى ، فالشاعر يبوح بالمضمر من آلامه وأوجاعه التي تفرّد بها أو كُتِب عليه أن يتفرّد بها ، فنراه يقول ؛
ويلي على قلبي توطّنه الأسى ولقد تصاعَد كالجريحِ تنَهُّدي
ويقول ؛
ما مرَّ في دنيايَ يومٌ مشرِقٌ أبداً ، وما مرَّ الربيعُ ببابي
ويقول ؛
أرأيتَ في الدنيا أديباً ضائعاً مثلي ، يبيتُ على قناً وقَتادِ
ويقول ؛ من الدنيا رضيتُ ببيتِ شعرٍ وإن عليه تحسدني اللئامُ
ويقول في أخرى ؛
أحيا غريباً في الحياةِ مضيَّعاً ما بين أبقارٍ ونِعاجِ
ويقول ؛
جارتْ عليَّ أحِبَّةٌ وأعادي وقستْ عليَّ محافلٌ ونوادي
وعصتني حتى القافياتُ فلم تعدْ كالأمسِ طوعَ مشيئتي وقيادي
أبداً وما ضمّتْ على أملٍ يدي وتعثَّرتْ منذ الشبابِ جيادي
ويقول في قصيدة ( يا صبرَ أيوب) ؛
ستون ما حملتْ بداخلها ما يُبهِجُ النفسَ من أُنسٍ ومن سَمَرِ
عانيتُ منها ومن أوجاعِ محنتها ما لا يُطاقُ من الأرزاء والغِيَرِ
جُرحي تعتّق في قلبي وفي بدني مَنْ ذا يُضمِّده في ساعةِ الخطرِ
الحنين إلى سوق الشيوخ
بوسع قارئ الديوان أن يلاحظ قوة الشوق الذي يعتصر قلب الشاعر والحنين إلى منطقة سوق الشيوخ بالناصرية ، حيث ولد وعاش مراحل حياته الأولى ، فيرتسم هذا السوق في مخيّلة الشاعر وكأنه الفردوس المفقود أو الحلم الذي لم يتسنَّ له الاستمرار فيه ، ونجتزئ هنا بعضاً مما كان يختلجُ في نفسه ؛
سوقُ الشيوخِ وما أُعيرُ لعاذلٍ سمْعاً ، وما أخشى من اللوّامِ
سوقُ الشيوخِ ، على ثراكَ نما الهوى وسما على قممٍ من الآدابِ
أيا سوقَ الشيوخِ ، وكلُّ شمسٍ تغيبُ ، وإن شمسَكَ لا تغيبُ
إلى سوق الشيوخ حملتُ شوقي وما بينَ الضلوع له لهيبُ
بورِكتَ يا سوقَ الشيوخِ مكرَّماً وسلمتَ في دنياكَ للأحبابِ
سوق الشيوخِ جميلٌ في تدلــله عندي ، وفي حبِّه يُستَعذَبُ السهَرُ
سوقُ الشيوخِ بماضيه وحاضرِه غنّتْ بأمجاده هاتيكمُ السِيَرُ
ويبلغ حنين الشاعر إلى سوق الشيوخ ذروته فتتضاءل مدن الله الأخرى بإزائه
خلّفتُ في سوق الشيوخِ مهجتي وأتيتُ في بدني إلى الفيحاءِ
ما شِمتُ خيراً مذْ وطأتُ أديمَها ولقد شقيتُ بها وأيَّ شقاءِ
أودُّ في نهاية المطاف أن أتحدث عن الدوافع التي حدت بي لمتابعة الشاعر والكتابة عن ديوانه هذا ، مع أن ذلك لا يقع ضمن دائرة اهتماماتي الأساسية ، وأعني بذلك أنني وعلى الرغم من كوني استوعبت قصائد الشعر العربي التقليدية قديمها وحديثها ، إلا أنني خرجت من هذه الشرنقة منذ أمد بعيد ، وأتجهت برؤاي وتفكيري نحو القصيدة الحديثة أي قصيدة النثر التي أصبحت هي السائدة والمعوّل عليها في وقتنا الحالي وربما المستقبلي أيضاً ، وفي هذا الإطار أستطيع تحديد عدد من الأسباب ، من بينها وربما أهمها أنني وجدت في الكثير من نصوص الشاعر نزوعاً متأصّلاً نحو مقتضيات الحداثة ، وأن شعره برمتّه جاء ممتلئاً طلاوةً وعذوبةً وسلاسة ، بالإضافة إلى ذلك فأنا اعتبرت نفسي قريباً ومتعاطفاً بما يكفي من قضية الشاعر ، وهي قضية انسانية ومعرفية بالدرجة الأساس ، وينسحب ذلك على البيتين الغزليين الجميلين آنفي الذكر اللذين دأبتُ على نشرِهما على نطاقٍ واسع ....
----------------------------------------------------
ملاحظة ضرورية ؛ هذه المقالة سوف يتم تثبيتها في مقدمة الديوان الذي سيصدر قريباً عن المركز الثقافي للطباعة والنشر الذي يديره صديقنا الشاعر ولاء الصواف ....
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق