مرثية مدينة اور
اهل الجنوب السمومريون
يشكل أدب مراثي المدن المدمرة جنساً خاصاً في الأدب الرافديني، ولدينا عنه نماذج عديدة منها: لعنة مدينة أكاد، ومرثية سومر وأور، ومرثية نفَّر، ومرثية مدينة أور، التي سوف نقدم فيما يلي منتخبات من سطورها البالغ عددها نحو 430 سطراً.
يعود النص بتاريخه إلى النصف الأول من الألف الثاني قبل الميلاد، وهو يصف الهجوم الكاسح الذي شنه العيلاميون الإيرانيون وقبائل السوبارتو البدوية على مدينة أور السومرية وتدميرها. ولكن كاتب النص لا يصف هذا الحدث في سياق تاريخي، بل في سياق ديني، ويعزو الحدث بكامله إلى غضب الآلهة على المدينة واتخاذهم قراراً بتدميرها.
لقد كانت السلطة العليا في الكون كما تصوره الرافدينيون تتركز في يد مجمع الآلهة. وكان هذا المجمع ينعقد، كلما دعت الحاجة، في معبد الإله إنليل المدعو إيكور في مدينة نيبور، وذلك برئاسة كبير الآلهة آن. وقبل التداول في المسائل التي عقد الاجتماع للنظر فيها،
كان الآلهة يأكلون ويشربون مما يقدم إليهم من قرابين في المعبد، وبعد ذلك يتعاهدون على الالتزام بالقرارات التي سوف تصدر عن المجمع، ثم تطرح أمامهم المسائل للتداول بشأنها، حيث يعلن كل إله بقوله (هييم)، أي فليكن ذلك، دلالة موافقته على القرار. بعد ذلك يقوم آلهة الأقدار السبعة بالصياغة الأخيرة للقرارات وتُعطى إلى الإله إنليل مهمة تنفيذها. وهو يلعب في نصنا هذا الدور الرئيسي في تدمير مدينة أور وإفناء شعبها. ولكن حتى هذا الإله الأقوى في مجمع الآلهة لم يكن بمنجاة من مساءلة المجمع الذي اعترض في إحدى المرات على سلوكه المشين عندما اغتصب في شبابه الإلهة ننليل، حيث قرر الآلهة بالإجماع نفيه لفترة مؤقتة إلى العالم الأسفل، على ما تقصه لنا أسطورة إنليل وننليل. يبتدئ نص مرثية مدينة أور بوصف الكاتب لكيفية قيام آلهة البلاد بهجر معابدها ومدنها قبل أن تحل الكارثة الوشيكة:
لقد هَجر اصطبله، وحظيرته قد أُسلمت للريح.
الثور البري، هجر اصطبله، وحظيرته قد أُسلمت للريح.
ملك كل الديار، هجر اصطبله، وحظيرته قد أُسلمت للريح.
إنليل هجر اصطبله، وحظيرته قد أسلمت للريح.
وزوجته هجرت اصطبلها، وحظيرتها قد أسلمت للريح.
ننليل هجرت اصطبلها، وحظيرتها قد أسلمت للريح.
ملكة كيش هجرت اصطبلها، وحظيرتها قد أسلمت للريح.
ننماخ هجرت كيش، بيتها، وحظيرتها قد أسلمت للريح.
يتابع كاتب النص على هذا المنوال حتى يستنفد لائحة آلهة سومر الرئيسية، وكيف هجر كل منهم مدينته ومعبده. ثم يأخذ بعد ذلك بتوجيه مرثاته إلى كل المدن والمعابد التي هجرها آلهتها بالترتيب نفسه. وعندما ينتهي من ذلك، نجد الإلهة ننجال، إلهة مدينة أور وزوجة إله القمر نانا (=سن)، تندب مدينتها أور التي حُمّ عليها القضاء.
اليوم الذي كنتُ أخشى،
يوم العاصفة ذاك، قد كُتب عليَّ وقُدّر،
هبط عليَّ مثقلاً بالدمع.
يوم العاصفة ذاك، قد كُتب علي وقُدر،
هبط عليَّ مثقلاً بالدمع.
اليوم الذي كنت أرتعد منه، يوم العاصفة،
يوم العاصفة ذاك قد كُتب علي وقدر،
هبط علي مثقلاً بالدمع.
الليلة التي كنت أرتعد منها،
ليلة البكاء المر قد قُدّرت عليّ،
لم أستطع الهرب أمام ليلة القضاء تلك.
جفا الرقاد وسادتي والأحلام،
لأن الأسى المر قد قُدِّر على أرضي وشعبي.
سعيت إلى شعبي كما البقرة على عجلها،
فلم أستطع نشله من الطين،
لأن الحزن والأسى قد قُدرا على مدينتي.
حتى لو نشرت جناحي وطرت إليها مثل طائر،
فإن أور ستُدمَّر فوق أساساتها،
أور ستفنى في مكانها.
وحتى لو أنني صرخت ونُحتُ:
" يا يوم العاصفة ذاك عُد إلى صحرائك"
فإن وطأة العاصفة لم تكن لتُرفع عني.
بعد ذلك نجد الإلهة تسعى يائسة لدفع الكارثة عن مدينتها. وتستجدي مجمع الآلهة الذي انعقد لاتخاذ القرار بشأنها:
ثم توجهتُ بتصميم نحو مجمع الآلهة قبل انفضاضه،
بينما كان آلهة الآنوناكي جلوساً يتعاهدون.
جرجرت ساقيَّ، فتحت ذراعيَّ،
بحرقة ذرفت الدموع أمام آن،
وبصدق نُحتُ أمام إنليل.
قلت لهما: عسى أور لا تُدمر،
عسى مدينتي أور لا تُدمر قلت لهما،
وعسى شعبها لا يُسلم إلى الذبح، قلت لهما.
ولكن آن لم يثلج صدري بكلمة،
بل أصدر الأوامر بهلاك أور،
وسيفنى أهلها وفق القضاء النافذ.
بعد ذلك يبدأ الإله إنليل هجومه الكاسح على المدينة مستخدماً العاصفة سلاحه المرعب الفتاك:
دعا إنليل العاصفة، والناس ينوحون.
أخذ الرياح الطيبة من سومر، والناس ينوحون.
وأرسل بدلاً منها الرياح الشيطانية، والناس ينوحون.
وأوكل بها كينجالولا حارس العواصف.
دعا الرياح التي تُهلك الديار، والناس ينوحون.
واختار إنليل جيبيل إله النار مساعداً له.
دعا الأعاصير السماوية، والناس ينوحون.
دعا الأعاصير الزاعقة عبر السماوات، والناس ينوحون.
العواصف التي تهلك الديار تزأر فوق الأرض، والناس ينوحون.
وفي جبهة الرياح أوقد النيران المتوهجة، والناس ينوحون.
والعواصف التي أمر بها إنليل في حقد،
غطت أور مثل عباءة واكتنفتها مثل ملاءة كتان.
أيها الأب نانا، لقد آلت المدينة إلى خراب، والناس ينوحون.
وجثث أهلها، مثل كسرات الفخار، ملأت جنباتها.
الجدران المتينة قد تهاوت، والناس ينوحون.
وعند البوابات العالية وفي الطرقات، تكدست الجثث،
وفي جاداتها العريضة التي شهدت الاحتفالات، اختلط الموتى،
وذابت الأجساد من تلقاء نفسها مثل زبدة تحت الشمس.
رجالها الذين لقوا حتفهم بالفأس مطروحون بلا غطاء رأس،
ورجالها الذين صُرعوا بالحراب مطروحون بلا أكفان،
في المكان الذي ولدتهم فيه أمهاتهم مضرجون بدمائهم.
في أور هلك القوي والضعيف من الجوع.
الآباء والأمهات الذين لزموا بيوتهم التهمتهم الحرائق،
والصغار الذين لزموا أحضان أمهاتهم جرفهم الطوفان مثل السمك.
تركت الأمهات بناتهن، والناس ينوحون.
ترك الآباء أبناءهم، والناس ينوحون.
وآلهة المدينة، مثل طائر محلق، هجرت مدينتها.
ننجال، مثل طائر محلق، هجرت مدينتها.
ثروات أور التي تراكمت في الديار وُضعت عليها أيدي مدنسة،
وفي عنابرها المليئة بالخيرات أُضرمت النار.
العيلاميون والسوبارتيون المخربون عاملوها باحتقار،
بالمعاول هدموا أور، البيت البار، والناس ينوحون.
أحالوا المدينة إلى ركام، والناس ينوحون.
إلهتها صرخت: وا أسفاه على مدينتي، وا أسفاه على بيتي.
ننجال صرخت: وا أسفاه على مدينتي، وا أسفاه على بيتي.
أنا السيدة، مدينتي آلت إلى خراب، وبيتي آل إلى خراب.
أيها الإله نانا، أور آلت إلى خراب وشعبها قد تشتت.
لقد لعن آنو حقاً مدينتي، ومدينتي حقاً آلت إلى خراب.
لقد أعلن إنليل حقاً عداوته لبيتي، وبيتي حقاً أُعمل فيه المعول.
في حقول مدينتي لم يعد ينبت القمح، وفلاحوها هجروها،
والكروم وبساتين النخيل التي كانت تفيض بالخمر والعسل،
صارت تغل الأشواك الجبلية.
أيها الإله نانا، أور لم تعد موجودة، ولم أعد سيدتها.
الويل لي، المدينة آلت إلى خراب، البيت آل إلى خراب.
أي نانا، أور المقام المقدس، آلت إلى خراب، وشعبها هلك.
الويل لي، أين أجلس، الويل لي أين أقف.
أنا ننجال، مثل راع مهمل راحت خرافه نهباً للسلاح.
الويل لي، أنا التي نُفيتْ من المدينة ولا تجد مكان راحة لها.
أنا ننجال التي نُفيتْ من بيتها ولا تجد لها سكناً.
بعد أن تتابع ننجال على هذا المنوال وتنتهي من تفجعها، يبدأ كاتب النص بتوجيه خطاب مطول إليها:
أيتها الملكة اجعلي قلبك مثل الماء، كيف تقدرين على العيش؟
أي ننجال اجعلي قلبك مثل الماء، كيف تقدرين على العيش؟
أيتها السيدة البارة التي هُدمت مدينتها، كيف تقدرين على البقاء؟
لقد صارت مدينتك مدينة غريبة، كيف تقدرين على البقاء؟
لقد تحول بيتك إلى بيت للدموع، اجعلي قلبك مثل الماء.
مدينتك التي آلت إلى خراب، لم تعودي سيدتها.
بيتك الذي اُسلم إلى المعول، لم تعودي تسكنين فيه.
شعبك الذي سيق إلى الذبح قد أدار ظهره لمليكته.
أور المقام المقدس راحت نهباً للرياح، كيف تقدرين على البقاء؟
أغانيك تحولت إلى نواح، وأنغامك صارت إلى نشيج.
في طرقك التي كانت ممهدة للعربات، زحفت أشواك الجبال.
أي مليكتي، حقاً لقد هجرتِ مدينتك، حقاً لقد هجرت بيتك.
فإلى متى تقفين جانباً كأنك عدو؟
ومع أنك كنت الملكة المحبوبة في مدينتك فقد هجرتها،
ومع أنك كنت الملكة المحبوبة من شعبها فقد هجرت شعبك.
عسى آنو ملك الآلهة ينطق قائلاً: هذا يكفي.
وعسى إنليل ملك كل الديار يرسم لك قدراً طيباً.
عساه يعيد مدينتك إلى مكانتها لتمارسي عليها السيادة.
أيها الأب نانا لا تدع العاصفة تستقر قرب المدينة.
عسى أن تُحطَّم شكيمة العاصفة تماماً.
ويُغلق في وجهها الباب كما تُغلق بوابة الليل العظيم.
أيها الأب نانا، إن المستضعفين الذين مشوا في طريقك،
يذرفون الدموع أمامك، دموع البيت المقوض، ويستصرخونك.
والمطروحون ذوو الرؤوس السود يسجدون أمامك.
أيها الأب نانا، إن المدينة التي ستعود سيرتها الأولى،
سوف تخطو بفخر وعزة أمامك.
إن المدينة التي ستعود إلى مكانتها، سوف تبجلك.
على هذه الطريقة ينتهي نص مرثية مدينة أور، وقد بدأت أور تنهض من كبوتها وتضمد جراحها لتعود إلى سابق عهدها كواحدة من أهم مدن وادي الرافدين الجنوبي.
على الرغم من أن هذا النص يقوم على حادثة تاريخية وقعت في زمن معين ومكان معين، إلا أن الكاتب قد ارتفع بالحدث من مستوى التاريخ إلى مستوى الأسطورة. فهو والحالة هذه ينتمي إلى زمرة من الأساطير أدعوها بالأساطير التاريخية. أما عن رسالة النص فواضحة كل الوضوح، وهي تقول لنا إن عالمنا قائم على الصيرورة والتبدل الدائم، والإنسان لا يكاد يطمئن إلى ثبات وديمومة رغده حتى يحم عليه قضاء الآلهة بغتة وهو غارق في لهوه ومتع حياته اليومية التي أَمِنَ إلى استمرارها؛ والدول والممالك لا تقوم وتزدهر فتصل أوج عزها حتى تأتي ساعة انحدارها. إن أور لم ترتكب ذنباً واضحاً ومع ذلك قررت مشيئة الآلهة الخافية على الأفهام تدميرها وإفناء شعبها، وليس على الإنسان أن يتساءل عن مشروعية القضاء والقدر. مثل هذه الرسالة يقدمها لنا مقطع من نص آخر معروف بعنوان «مرثية سومر و أور»، وهو يدور حول الموضوع نفسه. فبعد أن رأى إله القمر نانا هول الكارثة التي حلت بمدينته، يمثل أمام إنليل ملتمساً الرحمة لها:
أي أبي الذي أنجبني،
أي ذنب جنته مدينتي حتى أدرت وجهك عنها؟
أي إنليل أي ذنب جنته مدينتي حتى أدرت وجهك عنها.
أي أبي الذي أنجبني،
افتح ذراعيك، خذ إليك مدينتي انشلها من وحشتها.
أي إنليل، افتح ذراعيك خذ إليك مدينتي انشلها من وحشتها.
دع اسمك يعلو في أور مجدداً، وأهلها يتكاثرون من أجلك.
فيجيبه إنليل بعد أن استمع إليه مطولاً، بأن قرار الآلهة لا رجعة عنه، وأن البشر لم يُعطوا ميثاقاً باستمرار الأحوال وراحة البال. لم تقترف أور إثماً أو ذنباً ولكن قد حُمَّ عليها القضاء:
أجاب إنليل ابنه نانا- سُوين:
قلب المدينة يبكي، وناي القصب فيها ينوح.
شعبها يقضي يومه في النواح والنحيب.
أي نانا، أيها النبيل، عد لشأنك،
فإنك لن تقايض بالدمع شيئاً.
حُكْمنا لا مبدل لكلماته، حكم مجمع الآلهة.
لقد مُنحت أور سلطاناً ولكنها لم تُمنح دواماً.
منذ القدم، منذ أن أرسيت البلاد إلى يومها هذا،
من رأى منكم مُلكاً باقياً؟
كذا فسلطان أور قد اجتُث وولى.
أما أنت يا نانا، فدع الهم عنك واهجر البلد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق