الاختزال و التكثيف من مطالب الكلام الفطرية ، حتى انها تعد من جماليته الشعبية ، و ما يتفاخر به اهل اللغة من قديم الازمان ، وهو احد اهم مظاهر البلاغة و الفصاحة العربية ، كما ان قصيدة البيت الواحد معروفة و مشهورة عند العرب ، وهكذا الحال في قصائد الهايكو .
ان التوظيف الجمالي للغة الاقتصادية المختزلة له مفهومه الواضح ادبيا ، كما انه قد يحاكي الحركة التقليلية (minimalism ) التي تعتمد على اقل ما يمكن من عناصر الفن كالألوان في الفن التشكيلي ، او الكلمات ، بعيدا عن الزوائد كما نراه واضحا في كتابات ستيفن كرين احد رواد اللغة التقليلية و قصيدة الومضة في القرن التاسع عشر . و لحقيقة تخلّي اللغة الفنية المعاصرة عن الجماليات الشكلية ، فلقد برزت ملامح فنية لقصيدة الومضة صارت مقومة لتعريفها و جوهرها .
لو تتبعنا المقالات النقدية التي تناولت قصيدة الومضة ( 1) ، نجد ان هناك ملامح واضحة للفنية فيها ، يمكن تلخيصها بالأمور التالية :
1 – الاقتصاد اللغوي بالايجاز ، و الكثافة و التركيز، و تجنب الزوائد و النعوت الفرعية .
2 الوحدة العضوية المتكاملة و الفكرة الواحد و اندماج الشكل و المحتوى بحصر المحتوى بدفقة فكرية واحدة واضحة البداية والنهاية .
3 اللغة الوامضة : بالإيماض داخل النص من جهة، وفي ذات المتلقي من جهة أخرى مع توتر شديد فعلي وانفعالي، يمنحها قدرة أكبر على التعامل مع الحدث، الّذي يومض داخل النص وخارجه معتمدة المفارقة الصادمة وكسر التوقع و الإدهاش العالي .
.فهنا لدينا ثلاثة فصول سنتناول فيها تلك الملامح مع نماذج من قصيدة الومضة العراقية لكتابات متقدمة كلغة وامضة .
الفصل الاول : الوحدة العضوية المتكاملة
الوحدة العضوية في قصيدة الومضة اكثر من واضحة ، بل احيانا لا تجد الاسناد الا لموضوع واحد ، يقول ناصر الحاج :
(الفكرةُ المتدليةَ
من نافذةِ
الليل
تقضمني
بعينيها خلسةً
من بياضها
المتورد
من أقاصي
الحياء )
من الواضح دوران جميع الكلمات و بشكل متراص و مكثف حول الفكرة ، التي هي قطب النص و محوره البين ، ونلاحظ بوضوح ذوبان الزمن و الذات و النعوت في عالم ذلك الموضوع ، فلا تجد شيئا بعيدا عن ذلك القطب المركزي .
و يقول خالد العزاوي :
(سيان عندي
أن أغني للحبِ
أو للحربِ
أغني ,فقط..
لست سوى
حنجرة ٍعمياء
ومغن أحمق. )
نلاحظ هنا دوران فلك القصيدة و كواكبها المشدودة الى مورد المجرة النصية بانجذاب عظيم ، الا وهو الانا الكونية ، انا المتكلم الغارقة في عمق الانسانية ، و تلك الظلال الوصفية و المسندات ، كلها مشدودة بعالم كتلي متراص نحو المحور النصي ذلك الانا العميق .
و يقول سعد عودة
(عندما أفاق
وجد حلمهُ على وشكِ الخروج
من الغرفة
فألتحف بيأسهِ
ونام )
نلاحظ تلك المعاني و الارادات و الرغبات و السكونات كلها منشدة و مجذوب نحو محور النص و مركزه و هو الغائب العميق ، ضمير ( هو ) المتناهي في جذور الانسانية و ضياعها المميت . ورغم سعة المعاني التي تجلت في فضاء النص ، كالحلم و الياس ، الا انها ذابت كليا في تلك الغرفة و ذلك النوم لذلك البطل الاسطوري البائس .
و يقول قاسم وداي :
( على النهر الممتد بين ضفاف البيوت… ناديتها
فكان الصدى حوار الصمت )
نلاحظ النص جميعه يتمحور حول تلك اللحظة المميزة في المكان الحبيب ، مع الصدى الحبيب ، بالصمت الحبيب ، انها شعلة مضيئة من الشعور العميق ، و النشوة العارمة الاخاذة ، المحور و المكرز الذي يذوب فيه الانا و الاخر و الزمان و المكان .
وتقول صبا ا لعنزي :
(خمائل العمر
بدت نائمة
على زهرة الرازقي اأبيض
حين اقبل الصبح
منتشيا
بسكر خفيف
من اشعة الشمس )
اننا نرى كيف ان النوم على الزهر ، حينما اقبل الصباح منتشيا ، كان يلتف خمائل العمر ، مركز النص و محوره ، جميع تلك الفضاءات و الارادت ، تذوب و بقوة في خمائل العمر النائمة .
و يقول وادي الحلفي :
(ايها المحبوك بحب النخيل
وانت تهز جذع البنادق
لينهال الرطب
هكذا انحنت لك السنابل
عند اخضرار عودك
في سماء الوطن )
الاخر المخاطب ، الحامل للمعاني الكبيرة و الحبيبة و العطاء الكبير في ، النخيل ،و الرطب ، و السنابل ، و الاخضرار ، لأجل سماء الوطن الحبيب ، كل هذه المعاني تتجسد شاخصة في محور النص و مركزه الا وهو الاخر المخاطب ، الذي يهز جذع البنادق .
لو لاحظنا النصوص المتقدم و رغم قصرها فانها تخلق تاريخا نصيا هائلا ، وهذا الامر لم يكن متيسرا الا لعمق الموضوع و تركيز النص ، و كثافة اللغة .
الفصل الثاني : اللغة المقتصدة
الاقتصاد في اللغة من الميزات المهمة لقصيدة الومضة ، ليس فقط في قصر المقطوعة بل ايضا في خلوها من الزوائد و الايضاحات ،و التكثيف بمعنى اخر ، انها تعتمد الايحاء و الاخفاء و عدم البيان التفصيلي و تهتم فقط بجوهر الفكرة و قضيتها المركزية .
يقول ناصر الحاج
(أخبرتكَ
للمرةِ الالف
وأنت تُعيد
الامساك بحجرين
من الغيم
ليس هناك
سلالمَ خلفيةٍ
للمطر .. )
من الواضح الاقتصاد الشديد في الكلام ، بحيث لا تجد نعتا الا ما هو ضروري في ( المرة الالف ) و ( السلالم الخلفية ) و التي لا بد منها ، و اما باقي المفردات فكلها مجردة ، انها لغة مركزة في بنائها و ليس فقط في بوحها و دلالتها .
و يقول خالد العزاوي
( أنا وطن كبير
يبحث عن ظلِ
في خوذةِ
جندي )
نلاحظ الاختزال الكبير في المفردات ، و خلوها من الزوائد فلا نعوت الا ما هو ضروري في ( وطن كبير ) و اما الباقي فخط مستقيم تعبيري نحو النهاية .
و في بناء تقليلي فذ فعلا و عالي المستوى يقول قاسم وداي :
( هم يملكون الظلام ..
وأنا سراجي أسنانها )
فليس هنا سوى خط بناء اختزالي مكثف و سريع بعيد عن كل تفرعات او ايضحات نعتية او اعتراضية ، و بكتلة كلامة متراصة ، بعوالم من المعنى واسعة ، ذات ايحاء و عمق كبيرين .
و يقول وداي الحلفي
(ما لهذه الظلال
تركت اشجارها
بارده في فمي
) نلاحظ ان الكلام يتجه بسرعة نحو النهاية دون توقف او اعتراض او تفريع ، يتجه نحو الكمال البوحي ، برمزية عميقة و مجازية واسعة و لغة وامضة .
و كذا الحال في لوحة لصبا العنزي
(العالم…
اكذوبة
في فراغ )
فاننا نجد العبارة تتجه بقوة نحو النهاية ، في بناء متراص بعيد عن الزوائد ، و من خلال ظلال المعنى و عوالم الدلالات تنفجر الجملة على فضاء واسع من البوح و الايحاء .
و يقول سعد عودة
( انا كأيّ أتجاهٍ اخر
مايهمّهُ فقط نقطة ارتكازه
في هذه اللحظة)
التكثيف و الاقتصاد يأخذ مساحة واسعة في النص ، فلا مجال الا لما هو ضروري من الاعتارض ب( كاي اتجاه اخر ) لبيان الوحدة ، فالعبارة ليس فقط تتجه نحو النهاية بقوة بل ايضا نحو نفسها نحو نقطة واضحة ، معبأة بسيل من نقاط التوهج المعنوي الكبير.
الفصل : اللغة الواضمة و المفارقة
تتجه قصيدة الومضة الى التكثيف الكلامي و القولي الشديد و السريع ، معتمدة في الادهاش كثيرا على المفارقة الظاهرية و الخفية ، سواء بالابتعاد المتقصد عن جو النص ، و خلق التضاد و التقاطع اللفظي و التعبيري ، او بنحو مفارقة عميقة بالتناقض بين ظاهر النص و باطنه المكشوف بمفاتيح و رسائل و اضحة ،و بينما الاخير من وسائل و تقنيات الشعر وخصوصا قصيدة النثر ، فان المفارقة اللفظية و كسر خط الافادة و البناء هي الاوضح و الألصق بقصيدة الومضة . و نجد كل ذلك ظاهرا في قصيدة الومضة العراقية .
يقول قاسم وداي
( يكفيني وجهها ……….
.أذا أزدحم الظلام .)
نجد هنا وجه الخلاص و وجه الامل ، الذي يكفي النفس الكبيرة المريدة ، في زمن يزدحم فيه الظلام ، هنا تلك المعاني التي تنطلق بسرعة كبيرة نحو المركز ، نحو بؤرة عميق في النص انه وجهها ، ثم تنبثق منه مرة اخرى لتضيء ، هذه الحركة العظيمة ضمن عالم مشدود متراص ، احد عوالم الادهاش و الوحدة .
و في انحناءة خطية كبيرة محققة المفارقة في خط البناء اللغوي يقول قاسم وداي
( خبئيني بين جفنيك حتى يزورني الدمع لأغسل ذنوبي )
اذ تأتي عبارة ( لأغسل ذنوبي ) بكل الصدمة و الادهاش و الانحاء في خط بناء الافادة .
و في لوحة وامضة رمزية و عالية يقول وادي الحلفي
(ما لهذه الظلال
تركت اشجارها
بارده في فمي )
فبعد اتجاه اللغة نحو درجة الصفر في الافادة يأتي كسر واضح لمنطقيتها بعبارة ( باردة في فمي ) لتحقق مفارقة مدهشة و صادمة .
و في تعبيرية وامضة و خاطفة يتحقق الكسر المنطقي لبناء اللغة في نص لناصر الحاج
(ذلكَ الحجر
الذي مستهُ
الروعةِ
مازال مثقوباً
بالكلمةِ
بما يكفي
ليتسرب منه
الحب )
فبعد ان صاغت المفردات و التراكيب في النص جوا خاص للنص متجها نحو حقل من المعنى معين ، تأتي الانحناءت المفارقية لتحدث استرجاعا قراءاتيا بعبارة ( منه الحب ) .
و في لوحة وامضة تعبيرية يقول سعد عودة
(عندما رأى وجهَ أبيه
الذي توفى قبل ساعة
ابتسم
لم يكن يفرق بين وجهِ أبيه
ووجوه الذين قتلهم )
هنا اكثر من موضع لكسر منطقية الافادة و البناء الخطي للغة ، ففي ( ابتسم ) خرق فاضح لجوّ النص الحزائني و في ( الذين قتلهم ) خرق اخر لجوّ الحميمية ، فتتحق المفارقة بنموذجية عالية هنا .
و في ومضة بارعة لصبا العنزي يتحقق ارتداد تعبيري في نص تقول فيه
(قلبي
ﻻ يحتمل الخطايا
هو يذوب بها فقط )
نلاحظ الانكسار التعبيري و الانحناء في خط الافادة من جو مليء بالاعتراض ، الى حالة من التسليم محققة للمفارقة الصادمة و المدهشة .
ان اهمية قصيدة الومضة لا تكمن فقط في ما تحققه من جمالية و تجسيد لغايات اللغة الفطرية من التكثيف و الاختزال ، و انما ايضا اعتمادها تقنيات لا تسعها الكثير من التناولات المعتمدة على الخطابية ،فالقصيدة الوامضة خرق حر لخطابية اللغة ، و من يجعلها ضمن اشكال الخطاب اللغوي انما يمارس التحكم و الاقحام و مثل تلك الدراسات ستصطدم بالذوق الفطري و المطالب الاولية لأصول التخاطب .
كما انه قد اتضح في ضوء ما تقدم ان قصيدة الومضة ليست جنسا مختلفا في قبال قصيدة النثر ، بل هي قصيدة النثر الا انها بتقنيات خاصة و نمطية معينة ، ربما تكون مبثوثة بشكل غير نمطي و غير منتظم في قصيدة النثر النموذجية التي تتسم بحرية اكبر و انبساطية و بوحية اكثر في عوالم و فضاءات واسعة تبلغ درجة الحلم و السحر .
و قصيدة الومضة بصفاتها المقومة تدخل تحت اللغة التعبيرية ، و تقترب كثيرا من حركة التعبيرية التقليلية في الفن التشكيلي (minimalism ) ، و الذي ربما يستدعي ايضا نقدا تقليليا بعيدا عن الزوائد و التفرعات ، يتكلم عن الجمال بلغة مكثفة و مختزلة و يشير الى عناصر الابداع بلغة مقتصدة ، و ربما سنشهد ولادة المقالة القصيرة جدا في المستقبل القريب .
1- المصادر المشار اليها
– لقمان محمود : ( جماليات قصيدة الومضة في مرايا صغيرة ) : جريدة الاتحاد
– فواز حجّو : الومضة الشعرية : ستارت تايمز
– علوان سلمان : شنوار ابراهيم و القصيدة الكردية الوامضة : صحيفة النور
– أديب حسين محمد : ما هي قصيدة الومضة : جريدة الحوار المتمدن .
ان التوظيف الجمالي للغة الاقتصادية المختزلة له مفهومه الواضح ادبيا ، كما انه قد يحاكي الحركة التقليلية (minimalism ) التي تعتمد على اقل ما يمكن من عناصر الفن كالألوان في الفن التشكيلي ، او الكلمات ، بعيدا عن الزوائد كما نراه واضحا في كتابات ستيفن كرين احد رواد اللغة التقليلية و قصيدة الومضة في القرن التاسع عشر . و لحقيقة تخلّي اللغة الفنية المعاصرة عن الجماليات الشكلية ، فلقد برزت ملامح فنية لقصيدة الومضة صارت مقومة لتعريفها و جوهرها .
لو تتبعنا المقالات النقدية التي تناولت قصيدة الومضة ( 1) ، نجد ان هناك ملامح واضحة للفنية فيها ، يمكن تلخيصها بالأمور التالية :
1 – الاقتصاد اللغوي بالايجاز ، و الكثافة و التركيز، و تجنب الزوائد و النعوت الفرعية .
2 الوحدة العضوية المتكاملة و الفكرة الواحد و اندماج الشكل و المحتوى بحصر المحتوى بدفقة فكرية واحدة واضحة البداية والنهاية .
3 اللغة الوامضة : بالإيماض داخل النص من جهة، وفي ذات المتلقي من جهة أخرى مع توتر شديد فعلي وانفعالي، يمنحها قدرة أكبر على التعامل مع الحدث، الّذي يومض داخل النص وخارجه معتمدة المفارقة الصادمة وكسر التوقع و الإدهاش العالي .
.فهنا لدينا ثلاثة فصول سنتناول فيها تلك الملامح مع نماذج من قصيدة الومضة العراقية لكتابات متقدمة كلغة وامضة .
الفصل الاول : الوحدة العضوية المتكاملة
الوحدة العضوية في قصيدة الومضة اكثر من واضحة ، بل احيانا لا تجد الاسناد الا لموضوع واحد ، يقول ناصر الحاج :
(الفكرةُ المتدليةَ
من نافذةِ
الليل
تقضمني
بعينيها خلسةً
من بياضها
المتورد
من أقاصي
الحياء )
من الواضح دوران جميع الكلمات و بشكل متراص و مكثف حول الفكرة ، التي هي قطب النص و محوره البين ، ونلاحظ بوضوح ذوبان الزمن و الذات و النعوت في عالم ذلك الموضوع ، فلا تجد شيئا بعيدا عن ذلك القطب المركزي .
و يقول خالد العزاوي :
(سيان عندي
أن أغني للحبِ
أو للحربِ
أغني ,فقط..
لست سوى
حنجرة ٍعمياء
ومغن أحمق. )
نلاحظ هنا دوران فلك القصيدة و كواكبها المشدودة الى مورد المجرة النصية بانجذاب عظيم ، الا وهو الانا الكونية ، انا المتكلم الغارقة في عمق الانسانية ، و تلك الظلال الوصفية و المسندات ، كلها مشدودة بعالم كتلي متراص نحو المحور النصي ذلك الانا العميق .
و يقول سعد عودة
(عندما أفاق
وجد حلمهُ على وشكِ الخروج
من الغرفة
فألتحف بيأسهِ
ونام )
نلاحظ تلك المعاني و الارادات و الرغبات و السكونات كلها منشدة و مجذوب نحو محور النص و مركزه و هو الغائب العميق ، ضمير ( هو ) المتناهي في جذور الانسانية و ضياعها المميت . ورغم سعة المعاني التي تجلت في فضاء النص ، كالحلم و الياس ، الا انها ذابت كليا في تلك الغرفة و ذلك النوم لذلك البطل الاسطوري البائس .
و يقول قاسم وداي :
( على النهر الممتد بين ضفاف البيوت… ناديتها
فكان الصدى حوار الصمت )
نلاحظ النص جميعه يتمحور حول تلك اللحظة المميزة في المكان الحبيب ، مع الصدى الحبيب ، بالصمت الحبيب ، انها شعلة مضيئة من الشعور العميق ، و النشوة العارمة الاخاذة ، المحور و المكرز الذي يذوب فيه الانا و الاخر و الزمان و المكان .
وتقول صبا ا لعنزي :
(خمائل العمر
بدت نائمة
على زهرة الرازقي اأبيض
حين اقبل الصبح
منتشيا
بسكر خفيف
من اشعة الشمس )
اننا نرى كيف ان النوم على الزهر ، حينما اقبل الصباح منتشيا ، كان يلتف خمائل العمر ، مركز النص و محوره ، جميع تلك الفضاءات و الارادت ، تذوب و بقوة في خمائل العمر النائمة .
و يقول وادي الحلفي :
(ايها المحبوك بحب النخيل
وانت تهز جذع البنادق
لينهال الرطب
هكذا انحنت لك السنابل
عند اخضرار عودك
في سماء الوطن )
الاخر المخاطب ، الحامل للمعاني الكبيرة و الحبيبة و العطاء الكبير في ، النخيل ،و الرطب ، و السنابل ، و الاخضرار ، لأجل سماء الوطن الحبيب ، كل هذه المعاني تتجسد شاخصة في محور النص و مركزه الا وهو الاخر المخاطب ، الذي يهز جذع البنادق .
لو لاحظنا النصوص المتقدم و رغم قصرها فانها تخلق تاريخا نصيا هائلا ، وهذا الامر لم يكن متيسرا الا لعمق الموضوع و تركيز النص ، و كثافة اللغة .
الفصل الثاني : اللغة المقتصدة
الاقتصاد في اللغة من الميزات المهمة لقصيدة الومضة ، ليس فقط في قصر المقطوعة بل ايضا في خلوها من الزوائد و الايضاحات ،و التكثيف بمعنى اخر ، انها تعتمد الايحاء و الاخفاء و عدم البيان التفصيلي و تهتم فقط بجوهر الفكرة و قضيتها المركزية .
يقول ناصر الحاج
(أخبرتكَ
للمرةِ الالف
وأنت تُعيد
الامساك بحجرين
من الغيم
ليس هناك
سلالمَ خلفيةٍ
للمطر .. )
من الواضح الاقتصاد الشديد في الكلام ، بحيث لا تجد نعتا الا ما هو ضروري في ( المرة الالف ) و ( السلالم الخلفية ) و التي لا بد منها ، و اما باقي المفردات فكلها مجردة ، انها لغة مركزة في بنائها و ليس فقط في بوحها و دلالتها .
و يقول خالد العزاوي
( أنا وطن كبير
يبحث عن ظلِ
في خوذةِ
جندي )
نلاحظ الاختزال الكبير في المفردات ، و خلوها من الزوائد فلا نعوت الا ما هو ضروري في ( وطن كبير ) و اما الباقي فخط مستقيم تعبيري نحو النهاية .
و في بناء تقليلي فذ فعلا و عالي المستوى يقول قاسم وداي :
( هم يملكون الظلام ..
وأنا سراجي أسنانها )
فليس هنا سوى خط بناء اختزالي مكثف و سريع بعيد عن كل تفرعات او ايضحات نعتية او اعتراضية ، و بكتلة كلامة متراصة ، بعوالم من المعنى واسعة ، ذات ايحاء و عمق كبيرين .
و يقول وداي الحلفي
(ما لهذه الظلال
تركت اشجارها
بارده في فمي
) نلاحظ ان الكلام يتجه بسرعة نحو النهاية دون توقف او اعتراض او تفريع ، يتجه نحو الكمال البوحي ، برمزية عميقة و مجازية واسعة و لغة وامضة .
و كذا الحال في لوحة لصبا العنزي
(العالم…
اكذوبة
في فراغ )
فاننا نجد العبارة تتجه بقوة نحو النهاية ، في بناء متراص بعيد عن الزوائد ، و من خلال ظلال المعنى و عوالم الدلالات تنفجر الجملة على فضاء واسع من البوح و الايحاء .
و يقول سعد عودة
( انا كأيّ أتجاهٍ اخر
مايهمّهُ فقط نقطة ارتكازه
في هذه اللحظة)
التكثيف و الاقتصاد يأخذ مساحة واسعة في النص ، فلا مجال الا لما هو ضروري من الاعتارض ب( كاي اتجاه اخر ) لبيان الوحدة ، فالعبارة ليس فقط تتجه نحو النهاية بقوة بل ايضا نحو نفسها نحو نقطة واضحة ، معبأة بسيل من نقاط التوهج المعنوي الكبير.
الفصل : اللغة الواضمة و المفارقة
تتجه قصيدة الومضة الى التكثيف الكلامي و القولي الشديد و السريع ، معتمدة في الادهاش كثيرا على المفارقة الظاهرية و الخفية ، سواء بالابتعاد المتقصد عن جو النص ، و خلق التضاد و التقاطع اللفظي و التعبيري ، او بنحو مفارقة عميقة بالتناقض بين ظاهر النص و باطنه المكشوف بمفاتيح و رسائل و اضحة ،و بينما الاخير من وسائل و تقنيات الشعر وخصوصا قصيدة النثر ، فان المفارقة اللفظية و كسر خط الافادة و البناء هي الاوضح و الألصق بقصيدة الومضة . و نجد كل ذلك ظاهرا في قصيدة الومضة العراقية .
يقول قاسم وداي
( يكفيني وجهها ……….
.أذا أزدحم الظلام .)
نجد هنا وجه الخلاص و وجه الامل ، الذي يكفي النفس الكبيرة المريدة ، في زمن يزدحم فيه الظلام ، هنا تلك المعاني التي تنطلق بسرعة كبيرة نحو المركز ، نحو بؤرة عميق في النص انه وجهها ، ثم تنبثق منه مرة اخرى لتضيء ، هذه الحركة العظيمة ضمن عالم مشدود متراص ، احد عوالم الادهاش و الوحدة .
و في انحناءة خطية كبيرة محققة المفارقة في خط البناء اللغوي يقول قاسم وداي
( خبئيني بين جفنيك حتى يزورني الدمع لأغسل ذنوبي )
اذ تأتي عبارة ( لأغسل ذنوبي ) بكل الصدمة و الادهاش و الانحاء في خط بناء الافادة .
و في لوحة وامضة رمزية و عالية يقول وادي الحلفي
(ما لهذه الظلال
تركت اشجارها
بارده في فمي )
فبعد اتجاه اللغة نحو درجة الصفر في الافادة يأتي كسر واضح لمنطقيتها بعبارة ( باردة في فمي ) لتحقق مفارقة مدهشة و صادمة .
و في تعبيرية وامضة و خاطفة يتحقق الكسر المنطقي لبناء اللغة في نص لناصر الحاج
(ذلكَ الحجر
الذي مستهُ
الروعةِ
مازال مثقوباً
بالكلمةِ
بما يكفي
ليتسرب منه
الحب )
فبعد ان صاغت المفردات و التراكيب في النص جوا خاص للنص متجها نحو حقل من المعنى معين ، تأتي الانحناءت المفارقية لتحدث استرجاعا قراءاتيا بعبارة ( منه الحب ) .
و في لوحة وامضة تعبيرية يقول سعد عودة
(عندما رأى وجهَ أبيه
الذي توفى قبل ساعة
ابتسم
لم يكن يفرق بين وجهِ أبيه
ووجوه الذين قتلهم )
هنا اكثر من موضع لكسر منطقية الافادة و البناء الخطي للغة ، ففي ( ابتسم ) خرق فاضح لجوّ النص الحزائني و في ( الذين قتلهم ) خرق اخر لجوّ الحميمية ، فتتحق المفارقة بنموذجية عالية هنا .
و في ومضة بارعة لصبا العنزي يتحقق ارتداد تعبيري في نص تقول فيه
(قلبي
ﻻ يحتمل الخطايا
هو يذوب بها فقط )
نلاحظ الانكسار التعبيري و الانحناء في خط الافادة من جو مليء بالاعتراض ، الى حالة من التسليم محققة للمفارقة الصادمة و المدهشة .
ان اهمية قصيدة الومضة لا تكمن فقط في ما تحققه من جمالية و تجسيد لغايات اللغة الفطرية من التكثيف و الاختزال ، و انما ايضا اعتمادها تقنيات لا تسعها الكثير من التناولات المعتمدة على الخطابية ،فالقصيدة الوامضة خرق حر لخطابية اللغة ، و من يجعلها ضمن اشكال الخطاب اللغوي انما يمارس التحكم و الاقحام و مثل تلك الدراسات ستصطدم بالذوق الفطري و المطالب الاولية لأصول التخاطب .
كما انه قد اتضح في ضوء ما تقدم ان قصيدة الومضة ليست جنسا مختلفا في قبال قصيدة النثر ، بل هي قصيدة النثر الا انها بتقنيات خاصة و نمطية معينة ، ربما تكون مبثوثة بشكل غير نمطي و غير منتظم في قصيدة النثر النموذجية التي تتسم بحرية اكبر و انبساطية و بوحية اكثر في عوالم و فضاءات واسعة تبلغ درجة الحلم و السحر .
و قصيدة الومضة بصفاتها المقومة تدخل تحت اللغة التعبيرية ، و تقترب كثيرا من حركة التعبيرية التقليلية في الفن التشكيلي (minimalism ) ، و الذي ربما يستدعي ايضا نقدا تقليليا بعيدا عن الزوائد و التفرعات ، يتكلم عن الجمال بلغة مكثفة و مختزلة و يشير الى عناصر الابداع بلغة مقتصدة ، و ربما سنشهد ولادة المقالة القصيرة جدا في المستقبل القريب .
1- المصادر المشار اليها
– لقمان محمود : ( جماليات قصيدة الومضة في مرايا صغيرة ) : جريدة الاتحاد
– فواز حجّو : الومضة الشعرية : ستارت تايمز
– علوان سلمان : شنوار ابراهيم و القصيدة الكردية الوامضة : صحيفة النور
– أديب حسين محمد : ما هي قصيدة الومضة : جريدة الحوار المتمدن .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق