د.إحسان فتحي
وكيف غيرت هذه الحادثة تاريخ العراق والمنطقة برمتها؟ كان يوم الخميس
15-5-1941 يوما صيفيا حارا وبسماء زرقاء جميلة وصافية. نسيم خفيف يهز نخيل
البساتين البغدادية بإيقاع متمايل. أهالي بغداد نزلوا توا من نومتهم القلقة في
سطوح بيوتهم ذلك لان الوضع السياسي كان متوترا جدا وحكومة ماسمي بـ (الدفاع
الوطني) كانت تتلقى الضربات العسكرية من القوات البريطانية في قاعدة الحبانية
وتتوجه نحو بغداد. رشيد عالي الكيلاني كان قد أعلن انقلابه على حكومة طه الهاشمي
يوم 1 نيسان 1941 وسبب ذلك في هروب الوصي عبد الإله بن علي في سيارة السفير
الأمريكي (بول نابنشو) الى الحبانية ،
ونقل بعد ذلك إلى بارجة حربية بريطانية راسية في شط العرب اسمها (كوكشيفر).
الطائرات البريطانية بدأت بقصف بغداد منذ 4 مايس.
السفير الألماني والحقوقي اللامع (فريتز غروبا) كان قد نسق مع الانقلابيين
منذ فترة طويلة للحد من نفوذ البريطانيين في العراق والاعتماد بدلا من ذلك على
المانيا النازية التي كانت تحقق الانتصارات تلو الاخرى وعلى كافة الجبهات وخاصة في
شمال أفريقيا. وبهدف تحقيق ضربة فاعلة للقوات البريطانية في المنطقة اختارت
القيادة الألمانية الطيار البارز الميجور (اكسل فون بلومبرغ) وهو ابن الفيلد
مارشال المشهور ( فيرنر فون بلومبرغ) للقيام بجولة استطلاعية بالعراق للتمهيد
بتأسيس فرقة عسكرية عراقية وعربية من المتطوعين وبقيادة المانية. اطلق الاسم
الحركي ( سبيشل ستاف اف) على الطيار اكسل وكان تحت امرة الجنرال (هلموت
فيلمي). كانت الخطة السرية هذه تتضمن قيام
مجموعة من الطيارين الالمان سميت ب (فلايجر
فوهرر اراك) تتبعه فور نجاح مباحثاته يوم السبت 17 مايس في مقر القيادة
العراقية. كان كل شيء يبدو مرتبا ومحكما. رشيد عالي ووزير دفاعه ناجي شوكت كانا
متلهفان لمقابلة هذا الطيار الألماني الوسيم.
اقترب الطيار اكسل من بغداد وشاهد من بعيد قبتي الروضة الكاظمية الذهبيتين
تسطعان ببريق يسحر العيون، ورأى نهر دجلة
العظيم وهو يتلوى كعاشق يحتضن حبيبته بقوة ويهيم بها في ملحمة وجودية أزلية. قرر الهبوط في مطار بغداد المدني في الوشاش،
على ما يبدو، وليس في مطار معسكر الرشيد البعيد الذي كان الانجليز يطلقون عليه اسم
(الهنيدي). كان صوت أي طائرة في سماء بغداد يعني انها انجليزية وستقصف
المدينة. وكان لدى الجيش العراقي آنذاك
عددا لا بأس به من المدافع الرشاشة المضادة للطائرات. ظهر له مدرج المطار بكل وضوح
وبدء يهبط بطائرته تدريجيا وبكل عناية. وفجأة انهال عليه الرصاص من كل صوب
واتجاه! حاول ان يصعد بطائرته مرة أخرى
ولكن الأوان كان قد فات! أصيب برأسه بطلقة نارية. بدأ نظره يتلاشى ولكنه
استطاع الهبوط بطائرته، والدخان الأسود ينفث منها، واستمرت الطائرة بالتحرك بسرعة حتى انزلقت في
منطقة ترابية في اخر المطار. هناك روايات
مختلفة تحاول تفسير ما حصل، احدهما تقول بان الطيار اصيبب (نار صديقة) من
العراقيين لاعتقادهم بأنه طيار انجليزي جاء ليقصفهم. ورواية أخرى تقول بأنه أصيب
من قبل طيارة انجليزية لأنه تبين بأنه أصيب برصاصة بأعلى رأسه مما يدل على إصابته
مباشرة من طائرة تطير فوقه. هرع الناس من
المناطق المجاورة لرؤية الطيارة المعطوبة ولكنهم شاهدوا الطيار قد فارق الحياة
مصابا بطلقة نارية في أعلى رأسه. أتت مفرزة من الجنود العراقيين وتم نقل جثة
الطيار السيئ الحظ إلى السفارة الألمانية ودفن لاحقا في المقبرة المسيحية في باب
الشرقي. في موقع الحادث كان احد الأشخاص
الذي كان يعملون في سوق السراجين قد انتبه إلى مقعد الطيار الجلدي الفاخر ذو اللون
البيجي واقتلعه بسرعة وذهب به فورا إلى احد الأسطوات المشهورين في السوق وباعه
إليه. فكر هذا الاسطة المتمرس في أحسن طريقة يمكن بها استغلال هذا الجلد الفاخر
الذي لم يسبق ان رأى مثله بكل حياته! قرر ان يصنع (جرابين) رائعين قد يغري بهما
بعض الشخصيات البغدادية الهامة لمسدساتهما المفضلة! وفعلا تم ذلك. الجراب الأول هو الآن عند ورثة
نجيب الربيعي، رئيس مجلس السيادة سابقا (1904-1965) والآخر هو الآن عند المحامي
نصير الجادرجي! ان هذا (الجراب) الجلدي الفاخر الذي تجدون صورته ملحقة مع هذا
المقال هو كل ما يتبقى من خطة ألمانية رهيبة كان من الممكن ان تغير خارطة الشرق
الأوسط تماما، لكن الأقدار تأتي بأمور غير متوقعة، والتاريخ يزخر بالأحداث
والمفاجآت المذهلة. أما الداهية فريتز جروبا فقد استطاع الإفلات من البريطانيين
الذين حاولوا المستحيل للقبض عليه! هرب
إلى الموصل ثم الى تركيا وبعدها وصل ألمانيا وواصل عمله الدبلوماسي.
ما ألذي جرى للطيار الألماني فوق
بغداد في 15 مايس 1941؟--
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق