لعبة الحبال
عادل كامل
ـ أترى ما يحدث هناك، أم اختلطت عليك الرؤية، مثلي...؟
سألت السلحفاة الضفدع البدين، وهما يراقبان ما يجري في ساحة الحديقة الكبرى. فقال الأخير:
ـ لو كنت أرى جيدا ً لمكثت في القاع...، فالبركة مدفني وأنا مدفنها...، ولكن الضوضاء هي التي أثارت انتباهي، وفضولي...، وهي التي أثارت فضولك ِ أيضا ً.
رفعت السلحفاة رأسها المدبب، مصغية إلى الأصوات المبهمة المختلطة تأتيها مشوشة، متقطعة، مثلما كانت الصور تأتيها مبهمة فكانت تشاهد كرات تتطاير متلاصقة وأخرى متباعدة، وثمة حبال بدت لها شبيهة بحلقات الدخان وأخرى حلزونية ترتفع عاليا ً في الفضاء.
فقالت الضفدعة بتوجس:
ـ كأنها حفلة راقصة، كأنهم يبتهجون بيوم الفأر الأكبر، أو لمناسبة عيد الخفاش..!
ابتعدت السلحفاة قليلا ً عن الوحل بغية الغطس، لكنها سألت الضفدعة:
ـ للأسف لم يوجهوا دعوة لنا للاشتراك معهم في هذا الاحتفال..، أليس كذلك..؟
أومأت برأسها بنعم، لأنها حذرت ان ترفع صوتها خشية الرصد، والمراقبة، فقالت:
ـ ما شأننا بهم، وما شأنهم بنا، فهم في عالم ونحن في عالم آخر.
وأضافت:
ـ ثم متى كانوا يفكرون بما يجري في مستنقعنا ..، ومتى كنا نفكر بما يجري في أقفاصهم وحظائرهم وإسطبلاتهم، وأجنحتهم الأخرى...
ردت عليها بسخرية:
ـ وماذا يجري في بركتنا!
لم تجب، فقد خالجها إحساس بالحذر من زميلتها السلحفاة. فلم تسرف في الكلام.
فقالت السلحفاة وهي تراقب المشهد عن بعد:
ـ ها هم يلعبون بالحبال...، فانا أرى وثباتهم، إلى الأعلى، والى اليسار تارة، والى اليمين تارة أخرى....، فانا أرى هالات وغمامات تتداخل من ثم تأخذ بالاتساع...، وأخرى تتناثر فوق التراب.
ـ دعيني أشاهد...، فانا نظري كليل.
فقالت الضفدعة:
ـ بل أراهم يحّومون، يصعدون، يدورون، وارى الحبال هي التي تمسك بهم، مرة، واراهم يمسكون بالحبال مرة ثانية.
ـ وما هو الاختلاف...، إن أمسكت الحبال بهم، أو هم امسكوا بها، فاللعبة تتطلب مثل هذه المهارة...، ومثل هذا الذكاء!
اقترب جرذ بحجم قطة، منهما، بنية شرب الماء، من البركة، فسألته السلحفاة:
ـ في اعتقادك، أيها العزيز، ماذا يجري في الساحة الكبرى؟
رفع رأسه ونظر إلى اليسار، والى اليمين، ونطق بتردد:
ـ مع إنهم لا يسمحون لنا بالاقتراب، بل ولا يسمحون لنا بمغادرة حدود أجنحتنا، أي جحورنا، فانا اعتقد إنهم يتدربون!
اقتربت الضفدعة منه وسألته بصوت خفيض:
ـ يتدربون...، ماذا تقصد...؟
ـ وأنا أغادر جحري طلبا ً للارتواء بهذا الماء الأزرق، سمعت ثورا ً يتحدث مع ابن أوى ويقول له: إنهم يستعدون لخوض غمار الحرب!
اقتربت السلحفاة كثيرا ً منه وسألته بصوت مرتبك:
ـ ماذا قلت يا جرذ النفايات...؟
ـ اقسم لك...، أنا سمعت...، فانا أصغيت إلى الثور يتحدث عن الاستعدادات...، وهذا يعني إنهم رفعوا الشعار الخالد: التدريب، ثم التدريب، ثم التدريب!
ولم يكمل: ثم الهزيمة. ضحكت السلحفاة وهي تخاطب الضفدعة:
ـ دعينا نرجع إلى وطننا ونبحث عن حشرة، أو عن قشة.
فسألها الجرذ:
ـ أتأكلون القش، أم هذه إشاعة...؟
خافت السلحفاة:
ـ سيدي، أنت تعرف إننا لا نسرف في الطعام، فالإسراف مضر...، كما إننا كائنات عشبية في الأصل، وأخيرا ً لماذا تعتقد إننا نبث الإشاعات...؟
ابتسمت الضفدعة وهي تواصل كلامها:
ـ مع ان الأزمات ما انفكت تتفاقم علينا، لكنها أزمات خلاقة، ثم إنها ناعمة، وكما يقال: حريرية، وشفافة!
ـ آسف...، فانا لم اقصد الاستفزاز...، أو جس النبض، فانا لا أتصيد زلات اللسان، فقد ولى والى الأبد زمن الجواسيس، والتجسس، وزمن الوشاية، والوشاة، بفضل الرصد الالكتروني ذاتي الذكاء، ألا يكفي هذا ....للاطمئنان؟
بصوت ناعم اعتذرت وقال:
ـ في الواقع كنا سألناك عما يجري، هناك، في الساحة...، ولم يخطر ببالنا إضاعة الوقت في سفاسف عفى عليها الزمن، وأصبحت من الماضي.
فقال:
ـ أنا لم اقل كلاما ً زائدا ً، بل قلت لكما: إنهم يتدربون....، والتدريب ضرورة استعدادا ً للمواجهة...، فانا لم أتحدث حتى عن الأزمات الخلاقة.
صرخت الضفدعة في وجهه، بعد ان استنشقت رائحة كلب يقترب:
ـ أغرب عنا يا لص المزابل، وابحث عن حشفة لم تلتقطها العصافير!
قبل ان يولي الأدبار تمتم:
ـ هذا أفضل من العيش في مثل هذا المستنقع، والحشفة أفضل من القش، مع إنها نعمة لا تقدر بثمن وإن كانت محض فضلات!
اقترب كلب نحيل ولعق بلسانه قطرات من الماء، فسألته السلحفاة:
ـ يا صديقنا، يا شبيه النمور، ماذا يجري في الساحة الكبرى....؟
تأوه، وتنفس قليلا ً من الهواء، وهز ذيله:
ـ أين...؟
ـ قلت لك في الساحة الكبرى...؟
فقالت الضفدعة تخاطب السلحفاة:
ـ المسكين هرم، شاخ، ونوعه يوشك على الانقراض...، فهو لم يعد يكترث بالأصوات ...، ولا بالاحتفالات، ولا حتى بالمناسبات البهيجة!
فقال لها:
ـ تأدبي! فانا لم اعزل من العمل، ولم أصبح فائضا ً...، ولكن لماذا لم توجه لكما الدعوة للمشاركة في الاحتفال...، اقصد لماذا لم يتم استدعاءكما؟
ـ يستدعوننا....، ماذا فعلنا..؟
ـ اقصد للمشاركة في عرس مديرنا العظيم...!
ـ آ ...
وتأوهت السلحفاة بنشوة زائفة، لتسأله في الحال:
ـ لقد عرفنا الطرف الأول...، ولكن من هي صاحبة السعادة سيدة الحديقة الأولى...؟
فقال بصوت جهوري:
ـ وهل هناك غير أستاذتنا الببغاء تليق بمقام استأذنا كبير العظماء؟
ـ يا له من عرس كبير، زعيمنا الثعلب منحها حظوة السيدة الأولى، وجعل منها مستشارة فوق العادة!
اعترض الكلب، وقد بدأ يتراجع خطوات إلى الخلف:
ـ لا تفسدوا علينا حرية التعبير، ولا تدعوهم يتراجعون ويقننون الكلام علينا!
صاحت الضفدعة تنق نقيقا ً:
ـ من يفسد هذه الحرية، نحن أم أنت أيها الكلب السائب غير الملتزم بالولاء لزعيمنا الخالد...؟
ولى من غير اثر. فتقدم نحو البركة دب ضخم، وراح يرتوي من مائها. فسألته السلحفاة:
ـ بارد! ومنعش، هذا الماء الأزرق المشبع بالاخضرار...، أليس كذلك؟
رد الدب بنشوة:
ـ بل أكثر من ذلك...، حتى لو كان باردا ً في هذا الشتاء الشديد البرودة، وحتى لو كان اخضر مشبعا ً بالاحمرار والسواد البرّاق!
ـ آ ...، دب مؤمن! ولكنك لم تخبرنا بما يجري في ساحة العظماء...؟
ـ ماذا يجري...؟
تساءل شارد الذهن، ثم أضاف:
ـ آ ....، يتدربون على أعمال بهلوانية استعدادا ً لاستقبال زائر كبير...!
ـ كل هذا الهرج، وهذا الصخب، من اجل الاستقبال..؟
ـ من يعلم..؟ قد يكون ابتهاجا ً لمناسبة ما، فالمناسبات لا تعد ولا تحصى، حتى ان باقي الحدائق تحسدنا على هذا الترف الباذخ في المسرات، السعادات، والنعيم!
اقتربت الضفدعة منه وهمست في آذنه تسأله:
ـ لماذا تكذب، أثمة ضرورة لهذا الكذب...؟
ـ أنا...؟
رد باستغراب، وأجاب بذهول:
ـ اكذب على من...؟
ـ تكذب على نفسك!
كاد يسقط من شدة الضحك، فقالت السلحفاة له وهي تحدق في فمه الكبير:
ـ ما هذه الأسنان الخرافية..؟
ـ ما بها...؟
ـ كأنك سرقتها من تمساح ميت، أو من ديناصور منقرض...؟
أجاب وهو ينهض بصعوبة من شدة الضحك، مبتعدا ً لتلافي نتائج الجدل:
ـ بعد لحظات ستتهمونني بسرقتها من وحيد القرن، أو من ذئب أعمى!
قالت الضفدعة للسلحفاة:
ـ دعينا من هذا المشرد...، لنقترب ونرى ما يحدث، على ارض الواقع.
ـ أنا لا أجازف...، فقد نتعرض للاختطاف، أو القتل...، فالضواري طليقة، والجوارح تحّوم ...
ـ آ ...، منذ زمن بعيد لم نر مثل هذه الفعاليات والأعمال البهلوانية..، رغم البرد الشديد في هذا الشتاء القارص.
ـ بالفعل ...، فانا أرى النمر يثب إلى الأعلى، أعلى من الحبال، وارى القرود تمشي فوقها بلا حذر...، بل ها هو الدولفين ذاته يقفز أعلى منها ويدور في الفضاء، يا له من مهرجان يبعث في النفس البهجة، والمسرة!
فقالت السلحفاة:
ـ بل أنا أرى الحبال ترتفع إلى الأعلى، وتدور، والنمر يرقص بينها، تتبعه القرود تؤدي قفزات إلى اليسار والى اليمين بخفة ورشاقة...، والحبال تساعد الدولفين على الوقوف بثقة تامة، حتى إنني لا اعرف من يساعد الآخر على هذا اللعب؟
وأضافت:
ـ ها هو النمر يبتعد عن الحبال.
ـ أنا أراه ذئبا ً، أو كلبا ً أجنبيا ً...، بل ربما تكون فقمة، أو كائنا ً مستحدثا ً!
فردت بانشراح:
ـ ما الفارق...،فالكل يلعب، يتدرب، يلهو، ويمرح...، من الأسد إلى الغزال....، ومن أفراس النهر إلى المستحدثات الذكية، لأن من لا يلعب يطرد من اللعبة، بل ربما يعاقب!
ـ كما طردونا!
ـ دعك ِ من المزاح...، فهم لم يطردوننا...، بل نحن لم نلب الدعوة!
ـ وهل وصلتنا دعوة...؟
ـ أجل...، دعوات، ومنها المشاركة في فعاليات السيرك الكوني!
ـ آ ....، تذكرت، نحن اخترنا الرقص تحت الماء الأزرق الشفاف، وقلنا: لهم تسليانهم ولنا تسالينا! بل قلنا إننا نتفوق عليهم بان حبالنا أكثر مرونة وليونة وانسيابية!
ساد الصمت لبرهة، تبدد باقتراب أتان تترنح:
ـ يا لهذا الجمال، والرشاقة...، اقتربي، فالماء وفير....، فضلا ً عن توفر العشب والدغل.
اقتربت ببطء شديد. فصاحت الضفدعة تسألها:
ـ أأنت مريضة، أم ثملة، أم متولهة بحبيب...؟
ردت الأتان بصوت حزين:
ـ ولدت بغلا ً للتو!
ـ جميل...، سلامتك، فما أعظم هذا الانجاز، فولدك لن يصبح حمارا ً، وتحمل عليه الأثقال، مثل أسلافه، ومثلك ِ... ثم انه لن ينهق، ولن يصبح صوته من أقبح الأصوات! فلماذا أنت حزينة؟
ـ أنا لست حزينة، بغلي هو الحزين، ولدي العاق!
قالت السلحفاة بأسف:
ـ حتى الأمهات رحن يشهرن بأولادهن، ويقللن من شأنهم...، فيا لها من محنة تجعل الأم تشهر بوليدها، بدل ان تفرح به؟
قربت الأتان فمها من الماء وراحت ترتوي، وهمت بالانسحاب. فسألتها الضفدعة:
ـ لم تخبرينا عما يجري في المنصة الكبرى..؟
ـ مصيبة!
ـ يا ساتر ....
وتساءلت السلحفاة بخوف:
ـ هل هم حقا ً يتربون استعدادا ً للدفاع عن حديقتنا ...؟
صاحت الأتان:
ـ عن أي استعدادات تتحدثين ...؟
ـ إذا ً فهم يلعبون، يمرحون...، استعدادا ً لاستقبال زائر كبير...؟
ـ أي لعب، أي استقبال...؟
ـ لكن ما هذا اللعب بالحبال، أيتها الأتان الحزينة، ما هذا الصخب، الزعيق، التهريج، الزئير، العواء، والنباح، ما هذه الوصوصة، والخشخشة والهمهمات...، أليس من اجل الدفاع عن كرامتنا، وحقوقنا، ومجدنا العظيم ...؟
ـ أي مجد...، وأية عظمة...؟
قالت السلحفاة بصوت مرتبك:
ـ إذا ً...، هذا التدريب على الحبال يجري لإقامة الاحتفال بالعرس، عرس زعيمنا بالاقتران على سيدتنا الأولى...؟
ـ أي عرس...؟
ـ عرس مديرنا على السيدة مستشارته...؟
ـ ما هذا الكلام، من صرّح به...؟
ـ إذا ً هم يتدربون على الألعاب البهلوانية...، فانا رأيت النمر يقفز قفزات عالية في الهواء، تارة يدور الحبل من حوله، وتارة هو يدور من حول الحبل...، ورأيت ابن أوى، مثل الذئب، يجتاز الحبال برشاقة، بخفة، كأنه ساحر، مثل غزال ...، ورأيت الدب ...، بل انظري ـ أيتها الأتان العزيزة ـ كأنه يطير...، حتى وحيد القرن أصبح خفيفا ً مثل ريشة في مهب الريح!
ـ ما هذا الكلام ....، الغريب، غير المسؤول...؟
وابتعدت عنهما، تترنح، توشك على السقوط، صامتة ولم تجب. فصاحت الضفدعة مرة ثانية بصوت حاد النهايات:
ـ إذا ً فأنت تتجاهلين القرار القاضي بمعاقبة كل من لا يبتهج في هذا اليوم البهيج، ويعاقب كل من لا يفرح في هذا النهار السعيد، ويسجن كل من يتخلف عن حضور هذا الاحتفال المجيد....؟
نهضت الأتان بصعوبة، واقتربت منهما، وفتحت فمها ببطء:
ـ أفضل ان ترجعا إلى قاع المستنقع...، فقد تنجوان من ...، الكارثة!
فسألتها السلحفاة وهي ترتجف:
ـ أهناك كارثة في الأفق...، بعد ما جرى علينا...؟
ارتج جسد الأتان، وتمايل، وهي توشك ان تفقد توازنها، بعد ان استعادته قبل قليل، غير قادرة على النطق. فسألتها الضفدعة:
ـ ماذا حصل، ماذا يحصل...، اخبرينا، قبل ان نتوارى في مستنقعنا الخالد.
قالت بصوت مرتجف:
ـ إنها حفلة موت!
ـ حفلة موت.....؟
ـ نعم...، فانا رأيت الحبال تدور حول الرقاب، الواحدة بعد الأخرى ...، رقبة الذئب، النمر، الأسد، الفهد، الدب، التمساح....، ثم...، رأيتهم يجرجرون ولدي المسكين...، بغلي الذي ولدته فجر هذا اليوم، فلذة كبدي...، ورأيت أقدامه الصغيرة تتعثر بالأرض، وكاد يقع، ويسقط....، فقلت له: لا تخذلني. فقال لي: تبا ً لك، ماذا فعلت كي أموت، فصحت به: مت مغوارا ً بطلا ً كأنك في ساحات الوغى، والمنازلات الكبرى، ولا تمت ذليلا ً، مثل كلب أجرب يقتل في الظلمات!
قالت السلحفاة للضفدعة البدينة:
ـ دعينا نعترف بأننا لم نر صورة، ولم نسمع صوتا ً، ولم نرى شيئا ً غريبا ً، وان ما حصل ليس إلا آثار حمى برد، ووهن ابدأن خاملة...، دعينا نمحو هذا الذي كاد يبدو حقيقة، في هذا الفجر...، ولا نصّدع رؤوسنا بالحبال إن دارت حول رقابهم، أم ان رقابهم هي التي كانت تدور حول الحبال....، فقد ظننا إنها لعبة حبال بريئة، مسلية، ولم يخطر ببالنا إنها لعبة موت!
اقتربت الأتان منهما، وهمست:
ـ ألا تخشيان خشونة الحبل وقسوته عندما يدور حول الرقبة الناعمة....، الطرية؟
صرخت السلحفاة:
ـ نحن نخشى الرقاب الخشنة القاسية عندما تدور حول الحبال الرقيقة، الناعمة!
14/3/2015
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق