آمال سالم
الصورة أو مقاومة الغياب
اذا كانت المصوّرة الفوتوغرافية آمال سالم قد احترفت، كزملاء لها، مهنة الصحافة، فإنها لم تختر إلا عينها. فالصحافة لديها كاختيار شبيه بمن ينتظر من لا وجود له، لأنها، ببساطة، حاولت الإمساك بهذا الذي لم يترك إلا ماضيه: محوه: الغياب. فهي أدركت أنها لم تنشغل بمراقبة عمل (سيزيف)، وإنها لن تؤدي دوره حسب، بل عليها ان تخترعه! فهي اختارت العمل ذاته الشبيه بمن اختار هبات الضوء: مقاومة الظلام. لكن عملها في الصحافة لم يقيدها بنقل الخبر (الصورة). لا لأنها أدركت ان مهمة (الجسور) هي الإقامة، رمزيا ً في الأقل، وليس وسيلة للعبور، والنقل، بل لأن العمل ذاته، هو اللغز، وهو ان يحافظ على ديناميته.
على ان (اللغز) لا يكمن في المكان، ولا في مرور الزمن، بالمعنى المألوف، بل في العثور على علاماته وهي تنحدر إلى الغروب. كان عملها الفني لوعة أم اكتشفت أنها في الجحيم. فالخسائر وحدها ستعوضها بما تحول لدي البعض إلى مظاهر، بمعنى: أقنعة. لهذا ليس لديها إلا ان تصوّر عالمها الذي لا تعرف أكان قدرا ً أم عليها ألا تستسلم له.
فانشغالها بالتركيب، والجمع، والتوليف، والصهر ...الخ، كلها اهتمامات فلسفية لا علاقة لها بالأقنعة، سمح لها ان تدمج المسار الشاق ، والجذاب ـ للفنون بفن العصر: التصوير .
فما هو قيد الزوال، لم يعد سطحا ً، أو بعدا ً أحاديا ً، أو ملمسا ً، أو لونا ً، بل، كما في لا وعيها السحيق، يشتغل في الأقاصي، حيث الأبعاد لا وجود لها من غير من يعيد إليها ـ بروح الضوء والمراقب ـ عناصرها، وهنا رسخت آمال سالم أقدم قانون للحرية: فك القيود/ أو الاشتباك معها، والحفر في الظلمات.
فلم تجد للحرية أدق تعريف يماثل إنها ليست للدعاية. ذلك لأن الفن لم يمت، حتى وان تحول، كما تحولت بعض المقدسات، إلى سلع، وهوس بالمال، والبذخ، فكانت منحت حياتها برمتها للعمل، وربما، كما قال اكزوبري، ذات مرة، كي تنساه.
ولهذا انغمرت بتصوير المدينة التي سكنتها، من ثم لم تتخل عنها. فبغداد ليست مدينة أشباح، وموتى، ومقابر، وسفك دماء، كما إنها ليست أزقة، وبيوت تحجرت وتحولت إلى أقفاص، ومكعبات، بل مازالت تمتلك الرفيف المشفر وعليها ان تحاوره: تصوّره، حيث لحظة الإبداع، لا تخدعنا بالخلود، أو بالأبدية، بل بما لم يدشن بعد. ففي مرئياتها اجتمعت العلامات كي تحول الوهم إلى مشاهد كائنات تحمل أسرار مدينتها، وأسرارها هي أيضا ً.
وإذا كانت قد قدمت آلاف الصور للرسامين، كي يستثمروها في أساليبهم الواقعية، فانها لم تخف انها وحدت عمل الارض بالفكر: الرحم بالوعي، والقديم بالمستحدث. فلم تعمل بشعور الآسف، أو الجفاء، في بلد لا يجيد إلا محو علاماته، ورموزه الإبداعية، عامة، وإنما عبرت ـ بفنها ـ حيث صورها تدوّن مشروعها الطويل في قنص ولادات النهار ـ وما توارى في الظلمات.
عمليا تبلورت رؤيتها بدمجها لموروثات لغز البذرة، كأقدم علامة حملت مشفرات عمل الأم، الولادة، مع ما سيشكل تحولا ً إلى الجنسانية الذكورية، لم يحدث طوعا ً، أو طاعة، أو رضوخا ً لقيود المهنة، والمجتمع، بل وعيا ً في ما يمتلكه الوعي ـ للمستقبل ـ بما يمثله الفن من ارتقاء ـ ورقي ـ وتشذيب، كي يصبح الجمال هو هذا الذي لا يرتد، ولا ينغلق، بل الذي يمارس إقامته، في المرور، وليس في الاستهلاك.
إنها مصوّرة أعادت للأشكال ما كان توارى فيها من خلجات، وحياة، في الأصل، وكونت منها ـ رسالتها، من غير عون، عدا ما يمتلكه هاجسها الجمالي من العبور من الغياب إلى الحضور، ومن السطح إلى الأبعاد، انه، بإيجاز: كل هذا الكامن في لغز الوجود، وقلب مفهوم الغواية، إلى تحرر منها، والى حرية، وهي وحدها تصبح توغلا ً في مخفياتها، والإمساك بهذا الذي يمتلك سر ديناميته، وديمومته، حيث لم تخسر آمال سالم، إلا ما سيتحول إلى علامات ضوء، وعلامات تقاوم غيابها.
• وكنت كتبت، في مطلع تسعينيات القرن الماضي، الإشارة التالي:
ـ " تقنيات التصوير الفوتوغرافي وفن الرسم
في سياق تاريخ طويل للفنون، لا يمكن فصل الفعل (الحدث/ الحركة) عن الأثر الذي يدخل في تركيب الذاكرة، ذلك لأنهما سيشكلان أصول فن التصوير الفوتوغرافي، ومبررات تدشيناته البكر. والمصورة آمال سالم، لم تمارس عملها الفني، إلا بعد أن اشتغلت سنوات غير قصيرة في الصحافة، ورصدت ـ عبرها ـ الحياة المعاصرة في العراق. بيد أنها سرعان ما وجدت موهبتها في حقل أكثر صلة بالتشكيل، بمعناه الجمالي والفني معا ً .. فبهرتها العناصر في تداخلاتها، وحركتها، ومجالها المتجدد.
في هذا المسار، كما عند عدد قليل من المصورين العراقيين، دمجت الفنانة عمل العدسة بلغة الرسم وما يتوخاه من رهافة، وجعلت المكان ـ بحركته ـ البصرية علامة متداخلة بوظائف التصوير الفوتوغرافي: إنها ليست لعبة لاختزال الزمن، بل الوقوف بجواره، وإعادة صياغته كي يأخذ امتداده ومغزاه. هكذا ستوثق بغداد، وناسها، والطبيعة، محافظة على دينامية الأشكال، كفن له نظامه الخاص. وهذا الجهد ستتمسك به آمال سالم، كي يغدو مادة للرسامين، ولكنها ستبث خطابها داخل تكوينات تؤكد عنايتها بالإنسان، وتراثه الشعبي، ورموزه، مع الاحتفاظ بما سيشكل أسلوبها في الرؤية. فالأشكال لن تصير أشياء ً، وإنما سترتبط عناصر الرسم، كالضوء، وملمس الخامات، والمساحات، والمنظور، وحساسية الفضاء وشفافيته: إنها أولت نصوصها، عبر سنوات عملها كمصورة في الصحافة أو كفنانة تعمل لحسابها الخاص، ولإشباع رغبتها الجمالية، عناية ارتبطت بعملها اليومي، وبرصدها للمتغيرات والثوابت بتأملات لا تبعث إلا على الدهشة، والأسى العميق أيضا ً. وفي الوقت نفسه، لن تغادر مكونات الأثر، كبنية تتحرك داخلها الأفعال، والأشكال، حيث يغدو فن التصوير الفوتوغرافي مجاورا لفن الرسم، في علاقة جدلية تبلغ ذروتها في: بلورة نص تتكامل فيه الروافد، كعناصر وكحركة، وكخامات وتحويرات، لتندمج، وتتكامل لأجل النص الجمالي، بانتقاله من الرسم إلى العدسة، ومن الأخيرة إلى شفافية الرسم، ورهافته."
*آمال سالم
ـ ولدت في بغداد. وعملت في الصحافة منذ عام 1979 في الاتحاد العام لنساء العراق. وفي العام 1980 انتقلت إلى وكالة الأنباء العراقية. وأسهمت ـ كمصورة صحفية ـ في الوكالة بتوثيق معظم الأحداث التي شهدتها البلاد. كما شاركت في جميع معارض الوكالة داخل العراق وخارجه. ودربت عددا ً من الكوادر في التصوير الصحفي. وشركت في اغلب المعارض التي أقامتها جمعية المصورين العراقيين. وفي العام 1997 انتقلت للعمل في دائرة الفنون كمصورة للأعمال الفنية والمعارض الشخصية، وكان لها دورها في أرشفة الحركة الفنية منذ ذلك الوقت. وقد حصلت على جوائز وشهادات تقديرية. والفنانة تحمل شهادة الدبلوم في التصوير الفوتوغرافي منذ عام1989. تعمل في وزارة الثقافة، ومصورة في مجلة: تشكيل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق