الخميس، 15 سبتمبر 2011

أختام عراقية معاصرة,عادل كامل:القسم الثاني

أختام عراقية معاصرة

عادل كامل

القسم الثاني

[1] من الظلمات إلى النور
بين أن اترك أصابعي ترسم أشكالا ً لا واعية، أو غير مقصودة، وبين أن اصف العملية لأجل التدوين، إجراء شبيه بأول من رسم المثلث، أو الدائرة، وبين من كان يجد تبريرا ً ـ وتأويلا ً لهما. ثمة مسافة مزدوجة بين التنظير والتطبيق، وهي المسافة التي تتقلص ـ حد التلاشي ـ في التنفيذ، وتتسع في حالة الكتابة، حد التجريد، واللا حافات ـ أو اللا موضوع في نهاية المطاف.
هل كانت أصابعي تؤدي ما كان يدور في راسي ـ أو في كياني ـ من الأصابع إلى المخ، أم أن هناك انحيازا ً للحواس، أو للعقل في سيادة أسلوب أو موضوع محدد في التجربة؟
عندما وجدت نفسي ابتعد عن لون الخامة، وملمسها الطبيعي، وجدت بصري ينبهر بالألوان، فكنت امتلئ بنشوة شبيهة بنشوة طفل اكتشف أن الأرض لن تخذله بما تمنحه من عناية سأجدها ليست رمزية فحسب، بل وجمالية!
وإذا كنت حريصا ً بعدم الخلط بين النادر والتقليدي، وبين الفردي والجمعي، فان للألوان دورا ً مغايرا ً للتخطيط أو للتكوين، وحتى للمعاني. ففي سنوات الجدب العاطفي كانت الألوان لا تشكل جسرا ً ولا علاقة ولا لغة مع الآخرين، وكأنني كنت اعترف ضمنا ً بالعمى اللوني، مما جعلني أكرس سنوات لكتابة (الأوثان) بعد (عند جذر الوردة)، وبعد (ألفية الولد الخجول)، وهي تجارب لا تخفي ذلك اليباب بموت الإنسان، وليس بموت الفن أو موت الفلسفة حسب. ولم يكن هذا اكتشافا ً نظريا ً أو نقديا ً، بل جاء بفعل التجربة ذاتها.
فعندما يشتغل البصر، تكف الأصابع عن تباهيها بدورها. إنها تغدو زوائد كأرجل خنفساء كافكا بعد أن انقلبت ووجدت نفسها في مأزق: لا تعرف ماذا تعمل. على أن أصابعي كانت ترقص ـ إنها تؤدي الدور الذي أومأ إليه بوذا ، وجدنا للرقص. بمعنى أنني ـ هنا ـ رحت استبعد أي اهتمام بالمخالب، وبالدفاعات، والمضمرات العدوانية. فالسلام مع العالم غدا دربا ً متحدا ً مع غاياته. فأنا لا أريد أن أصل إلى نهاية الطريق ـ لا لأنه في الأصل لانهاية له، وإنما لأن الحركة ذاتها تمتلك لغز غايتها في السلام الروحي ـ بل أنا حررت ذاتي من الغاية عدا أنها سكنت الدرب. هذا المشترك بين الخامة والمقدمة سمح للألوان أن تعيد للأختام ـ النصوص المضادة للأثر ولكن السالكة دربه ـ بحجة إنسان لم يعد يجد في عالمه إلا تأملات كائن محكوم بسجن لا أبواب له ولا منافذ. فيا لها من لذّة ملغزة دمجت البصري، المرئي، بما هو ابعد منه، ابعد من رؤية ذرات ذات أطوال تتجاور باختلافها وتنوعها نحو مفهوم للروحي عبر اللذّة.
هل ثمة علاقة ـ صلة ـ ما تسمح للقلب أن يضطرب، أم ذكرى ما تتجدد ـ وتجدد ـ، لبرهة من الزمن، عمل الومضات؟ لا امتلك إجابة دقيقة، وأمينة، مع نفسي، بقدر انشغالي بحركات طفل ـ هو حفيدي ـ راح يذكرني بان العالم مازال حاضرا ً وزاخرا ً بالعطور والصخب.
وجدت بصري يعيد ـ بعد أن كانت الأختام علامات حرصت أن لا أنهكها بالمشفرات ـ معالجة الخامات بألوان طالما غذت سنوات طفولتي: الوان بعدد الذرات، وليس بعدد الأشكال! فالعالم ـ إن كان خارجيا ً أو داخليا ً ـ لم يعد مجموعة قوانين صارمة ومحكمة حد أنها دمجت النهايات بمقدماتها.
على أنني لم أتوقف عن متابعة كتابة فصول رواية استذكر فيها سنوات ما قبل عام 1980، عام الحرب. لكني توقفت لشهرين في الأقل عن الكتابة بسبب زميل كلفني بعمل وجدت نفسي أنجزه بلذة مرة ، وفي الأيام ذاتها (نيسان 2011) كان علي ّ أن أقدم نموذجا ً تخطيطيا ً لنصب كي احصل على مبلغ يساوي راتبي التقاعدي لخمسة أعوام، لكني ـ بدل ذلك ـ وبعد أن تحررت من تكليف زميلي لأيام خلت ستطول ـ انشغلت ـ ليلا ً بمتابعة الدوريات الأوروبية: الاسبانية/ الانكليزية تحديدا ً ـ ثم نهارا ً: أن لا أميز أكانت الألوان هي التي أعادت لي بصري، أم بصري هو الذي سمح لي أن أجد في الألوان عملا ً شبيها ً برسامي الكهوف وهم يؤدون أعمالا ً لم تبلغ نهايتها، في موت الحواس، أو في محوها، أو في جعلها تعمل بلون واحد.
كم استغرقت كي اعرف أن المسؤولية التضامنية بين البشر ـ في عالمنا برمته ـ وحدها تخفي عملا ً ما في حياة لن تبلغ نهايتها، لكني عمليا ً كنت دمجت النهايات بالأمل، والمشهد الكلي بأدق ما تراه الأصابع، لبصر لم يكل عن نسج تجمعت فيه العناصر ذاتها التي ـ أحيانا ً ـ تبدو خارج الرؤيا، والرؤية ـ وخارج مدى حركة الأصابع ـ ونبضات القلب.
كانت للألوان، داخل جدران غرفة مكتظة بالكتب، والصحف، والصور، رائحة طفل ـ هو حفيدي علي زيد ـ تغويني بالحفر في مدافن قلب لم يعمل دائما ً بالمثل السومري: ما من امرأة ولدت ابنا ً بريئا ً قط! ذلك لأنني لم اقلب ـ ولم اعدل ـ المثل بل رحت أوازنه بمضاداته. فالموت ذاته لم يعد إلا لغزا ً تتكون عبره الصيرورات ـ لكنني لم أقع في الغواية، ولم أهلهل لها، ففي الحكاية ذاتها التباساتها، ماضيها ومستقبلها: آثامها/ جدلها/ مفاتيحها/ انغلاقاتها مما جعلها تمتلك قدرة الامتداد، واستكمال دورتها. فانا مادمت لم اقدر على اختيار الموت، لم اختر الحياة كي ارتقي بها إلى النذالة، والعدوانية، والخساسة، بل رحت أعالجها كحقيقة علي ّ أن اترك كياني برمته أن يجاورها، نحو السكن فيها، ومعها، بصياغة ألوان تعيد للأعمى ـ الذي هو أنا ـ دربا ً سمح لي أن أوازن بين اللا وجود ـ والمرئيات، عبر ألوان تتحدث عن شهادة أعمى يمشي من الظلمات إلى النور، ومن العتمة إلى الفناء.
[2] ضد السلعة


الحقيقة الأقل إثارة للجدل ـ ولكنها الأكثر التباسا ً ـ أن الزمن يكمل دورته: إنه لن يرتد. وبمعنى ما كنت أتخيل ـ وأنا في المناطق النائية التي وجدت سكني فيها ـ مشهد اللا زمن: اللا مشهد، فازداد سكينة طالما أحسست أنني جزء من مديات تتخللها ومضات، وتصادماتـ وإشعاعات،فاستنجد بما فعله أسلافي: صناعة دفاعات! فثمة (عدو) ما يهدد اقتلاع كياني، جعلني اكتشف ـ ببساطة ـ أن المفتاح الذي امسك بدورته في القفل هو جزء من كياني ذاته! فلا أجد لذّة توازي عدم إهمالها تشاطرني الشرود: انه ليس الاكتشاف، وليس البحث، إنما هو هذا الذي لا امسك فيه وقد راح يتكوم فيّ، يتناثر مجتمعا ً في أقاصي هذا الشرود. وبمعنى ما فالمشكلة ليست فنية خالصة، أو لها علاقة بلغزها المشفر، والجمالي فحسب، بل بالمراقبة والاستئناف أيضا ً.
ما معنى أن انشغل بعمل أنا ـ هو ـ أول العارفين انه ليس سلاحا ً للدفاع لا عن الجسد، ولا عن النفس. فانا هنا ابلغ ذروة المصالحة. بمعنى ما أنني اكتشف ـ كأسلافي في تدشين الأعمال الشبيهة بالفن ـ أنني احتمي بما اصنعه: مجسمات بدت لي أنها تشبهني، لا كمرآة، بل كأجزاء متناثرة تعمل بنبضات القلب، وبلغز ومضات الوعي، وكأن الإدراك غدا شريكا ً مع الأصابع ومع باقي الحواس في هذه الرؤية ـ والرؤيا. فاكتشف فجوة ثانية تفصلني عن نفسي: ما هذا الوعي الذي غدا سكننا ً ـ وليس له منفذا ً، وليس له خاتمة؟
انه ـ من غير مقدمات ـ أصبح آلية لا سريالية، بل منطقية لكائن مخلوع، وليس مرميا ً أو منفيا ً في الوجود. فانا لا انتمي إلى ارض أو إلى نبات أو إلى قبيلة، بل أصبحت جزءا ً من الكل، بعد أن تحول العمل إلى شاهد علي ّ: فانا لم اربح شيئا ً ، مثلما لم ْ أعد أفكر في الخسارات. فما أنجزه يتجمع من حولي، منه إلي ّ، ومني إليه، ليمنحني رغبة مضادة لترك العمل، أو الانشغال بالصفر، أو بالفراغات. فلم يعد الختم مرآة، ولكنه سمح لي بانشغالات بصرية تخص ما هو قيد الانجاز، وليس بما أنجز، أو كان منجزا ً سلفا ً. أنني أكاد امتلك نظام خلية الخلق البكر: انتظام الومضات، من العوامل المكونة لها، وصولا ً إلى العمل الذاتي الآلي كاستحداث لذات تعلمت المكر، لكن من غير انشغال بالخديعة؛ بالربح أو بالخسارة، أو بما سيقال.
هل صاغ الصانع الأول مثلثاته، خرزه، إشاراته، دماه، خطوطه ومستطيلاته لأنه وجد حريته تنذره بالهزيمة، وبالموت، فجعل منها ـ كما فعل النحل/النمل/ والطير ـ معماره المقنن برهافات وتقانات بالغة الانضباط ـ كي أعيد، في سياق هذا اللاوعي ـ نهايات تحولت إلى غواية، وكلمات، لا امتلك إلا أن اشرع في صياغة مقدماتها، كأنها الضرورة سكنت ألتوق، وكأنه ألتوق وقد قيد بالضرورات....؟!

[3] الكتمان ـ مرئيا ً


سأعترف أنني لا امتلك حق القول أنني نفذت أختامي بموازاة ما كنت أريده، أو انه النتيجة المثلى، والأخيرة، ولكني لا اشعر أنني غادرت ولعي بإعادة صياغة أفكاري. إن أصابعي تعمل فانقاد إليها! أشيّد وأضيف مع الحذف كي ابلغ بالنص نهايته: إشارات تكاد تلغي ما تتضمنه العلامة من تجريد/ رموز/ وإيحاءات. ففي الإشارات يكمن اللا متوقع الذي كنت أراقبه، وانتظره، وليس في العلامات، بل ولا حتى في الأسلوب. فانا ازداد انشغالا ً بمغادرة أشكالي، وكل ما سيشكل خصائص الختم.
هنا اكتشف أني احفر في مدافني الأولى: في مقبرة شبعاد، قبل أكثر من نصف قرن، بجوار مقابر أور، على مسافة غير بعيدة عن الناصرية ـ مركز ذي قار ـ حيث استعيد حرارة الرمال، في الخارج، وأصداء أصوات ما جرى إبان نزول الأميرة شبعاد إلى العالم السفلي. أتذكر ـ بعد نصف قرن ـ أنني تحدثت إلى البروفسور هاوزه ـ مدير متحف برلين عام 2005 ـ عن لغز القبر السومري، وعن المعتقدات البكر للايكولوجيا الكونية. ماذا تقصد...؟ سألني. فقلت أن هناك فجوة للعبور، بين الموت والحياة، وبين الحياة والموت، تخيلها السومري كي تتحول إلى جسر، أو صلة يستحيل استبعادها. فثمة كون وجد نفسه فيه متوحدا ً عبر تحولات المظاهر، وهي التي ستظهر تأثيراتها في الهند ـ بعد ألف سنة ـ بعيدا ً عن المثنوية وصراع الضدين. فالوحدة التي تخيلها السومري تركت الزمن لا ينتهي عند خاتمة، بل يمتد، عبر دورات. فرأس الأفعى عندما يبلغ ذيلها، يمتد، عبر دورة اكبر، تتقاطع مع مفهوم الرجوع إلى التراب ـ أو إلى العدم.
موت له مذاق الأبدية! لكني لم استبعد أبدا ً حدود التجربة بحدود التصوّر؛ حدود الدفاع عن كياني، بما اعرفه، وخبرته، وعشته، مع أني لم الغ أن هناك خلايا تعمل بالنظام الأكثر تعقيدا ً، الخاص بالكون، وليس بحدود وجودي. انه إغراء آخر للعمل، كواجب، وليس ترفا ً أو بذخا ً.
على أن الكلمات أما تذهب ابعد من النص الفني، أو انها ستتحول إلى يد تدور في مفتاح الباب: الباب الذي ادخله، طالما من المستحيل العثور على سكن فيه، عدا الكون الذي لا علاقة له لا بالموت ولا بالحياة! وهنا ساترك إحساسي بالزمن، وبما سيقال حول تجربتي، فأنا بالختم اترك كياني مكبلا ً بحرية الضرورة، وبضرورات هذه الحرية.
فالفن لن يفصل الأثر عن صانعه، ولا صانعه عنه. فأدرك أن السومري صاغ مفهوما ً سترجع إليه البشرية في لحظة إدراكها انها لن تبلغ خاتمتها. فهي تتضمن دورات، شفرت عبر ما لا يحصى من الحروب والكتب في الجسد/ الوعي/ وفي الكيان بوجوده في الوجود: دينامية تتحول الحياة فيها إلى رقصة (بوذا) و (فناء ً) كما في مسلك الصوفي وطرقه.
لكن النشاط الفردي ـ الخاص ـ لن يعمم، الأمر الذي يجعل كل ختم، مستقلا ً عن سواه. فكما كل وردة، في البستان، لها تفردها، فان ما لا يحصى من الورود (والأزهار البرية) ستعمل على حماية هذا الختم: الهوية، والأسباب الكامنة في الأسباب، فلا ضرورة لسؤال مثل: لماذا اعمل ... ولا ضرورة لسؤال: ماذا لو تخليت عن العمل؟ لكني ـ هنا ـ اخترع لعبة، أو تسلية، بل وعيا ً له موقعه للتحرر من الأعباء، والضرورات اللا ضرورية، يسمح لكياني أن يتشكل مع الموجودات النائية، والمجاورة على حد سواء.
انه شرط يحرر الشرط بتحوله من قيد إلى توق. فتكف اللغة عن مجال عملها، في الاستغاثة، أو في المؤانسة، أو في الشهادة، أو الترميز، كي تغدو جزءا ً من الختم. فهو وحده يقول ما يكتمه، وهو وحده يفضح كتمانه.

[4]البحث عن الذي غادرني

ليس أكثر من تأمل ما ستؤول إليه النصوص: زوالها. وبمعنى ما فانا امسك بما أراه يندثر. ففي عالم كفت فيه قوانينه ـ عدا عنفه وأقنعته وغوايته ـ عن العمل، يغدو الفن ممرا ً للبحث عن الدوافع التي سمحت لأصابع أسلافي أن تنسج هذا الذي حفزني للعثور على توازن مستحيل في الفن:انه قيد لممارسة وهم الخلاص منه. لم يكن أسلافي في المغارات أو في أعالي الجبال يحلمون بأكثر من المرور في الدرب ذاته الذي لا طائل من المشي فيه! إلا أنني ـ وأنا أبصر حبيبات الزمن تذوب في الفراغات والمسافات اللانهائية ـ لا أرى شيئا ً باستطاعته أن يمنع بصري من الاستيقاظ: التاريخ بصفته لم يبدأ! وكأن لغز جلجامش مازال يمتلك غوايته: التفوق! والبحث عن سكينة غير التي يحدثها الفناء، أو الموت. فأتخلى عن المعاني ..فانا أدوّن بحثا ً عن هذا الذي لا أتوقعه: لون ما .. أو تصدعات، أو مخربشات تمتلك كل ما لا يمكن تحديده في الكل اللا متناهي وقد غدا مرئيا ً، أو تحت البصر. فانا لست منفصلا ً عن نفسي! ولا عن ختمي. لأننا ـ كلانا ـ لا نمتلك سوى استحالة نفي هذا الحضور ـ هذا الذي يتفتت، ويتجمع، كي يعلن عن صلابة نظام الامتداد؛ امتداد الفراغات وتجمعها، حد استحالة مغادرة حدود اللامحدود ـ والسكن فيه. لا مكان ولا زمن ـ للمؤجلات! فانا تام الموت، وتام الغياب، وحضوري وحده صار الختم بما يستحيل مغادرته. إنها لذّات أصابع أمسكت بالمفتاح وهو يدور في الهواء.
فبماذا امسك...وليس بين يدي ّ إلا ما أراه يغادرني، عدا إحساسي الخفي بان اللا متناهي يمتلك حضوره، لا كغواية، أو مناورة، بل واجبا ً.
هكذا ـ كما يحدث لمن تأجل موته ـ يختفي التذمر أو الاستسلام للتعب، فيغدو ـ هذا الغائب ـ حاضرا ً بما فقده. فاستعيد رغبة صياغة علامات أحاول فيها وضع مصيري برمته، لا للمباهاة أو لفت النظر، بل للتواري، والسكن بعيدا ً عن الرقابة. لكنني لم امتلك قدرة أن أصبح أعمى، إلا عندما ازداد ثقة بان مصيري يسبقني، فامشي خلفه، بلا استئذان، أو رغبة بالغفران. انه الذنب التام الموازي لولادة لا اختيار لي فيها بعزلها عن حتمية أن أراها تأخذ ـ غيابها وحضورها ـ كي أحافظ على شرود ـ وعزلة ـ كلاهما يجعلاني امشي في جنازتي ـ أو في موتي.
[5] المحنة: الفجوة ليست بعدا ً


عندما لا يقذف الفنان عمله (الفني) إلى السوق، بصفته سلعة، أو عندما لا يجد مبررا ً لعرضه خارج حدود المشغل، أو عندما لم يعد نتيجة أسباب خاصة، فانه، في لحظة استحالة العثور على ما يماثل مشاعر الانجذاب في الحب، أو في التصوّرات الاستثنائية، التي اتحدت وسائلها بغايتها، فان ثمة ظلمات لها فعل الغبار البركاني تجعل مصيره معلقا ً، فيرى انه ـ في العمق ـ قد هدم ما علق فيه من تاريخ، لكن ليس لصياغة علامات مميزة، وإنما كي لا يبدو ، في هذه المتاهة الحالكة ـ إلا وقد اجل خاتمته، مثلما أدرك انه كاد ينفصل عن ماضيه.
أليست هذه أزمة لاذعة، كالتي يكتوي فيها جندي في حرب لا معنى لوجوده فيها دخلها كي لا يغادرها، لا بالربح ولا بالخسارة، أو كحال من وجد انه غير قادر على الاندماج، حتى في الاستسلام لموته!
إنها ليست حالة سيكولوجية، أو اجتماعية (بسبب استحالة العثور على خلاص يوازي وعيه لوجوده) وإنما شبيه بموقف من وجد أن أفضل الاختيارات باطلة، فيكون ـ هنا ـ كمن حفر في الأرض قبرا ً لينبت فيه أسباب استحالة انه وجد فائضا ً، أو محض مصادفة، تاركا ً الأمل والخسارة والتصورات بعيدا ً عن الخاتمة.
هو ذا الطريق المائل المضاد للدرب العام، الذي لن يسمح بالارتداد أو الشكوى. فالصوفي يأمل ـ حد الصدق ـ بما سيجده في الفناء ـ أو بما لا يجده أيضا ً ـ وشبيه بمن تخلى عن أناه لقضية ما بلغت ذروتها في الوجد، والانجذاب حد المحو، إنما هنا تحدث المصالحة بين الكيان ـ كياني برمته ـ وما أراه أصبح شبيها بالملكية: الأشياء ذاتها لا تخفي إلا ما تعلنه، وهذا الذي تعلنه ليس هو الذي كنت أريد أن يكون مجموع الأشياء. إنها ـ اذا ً ـ المحنة وقد غادرت لغزها. فأنا أصبحت علامة مضادة؛ علامة بين علامات، كغريق لا يمتلك إلا أن يحيا حياة ما بعد الغرق: حال صوفي أخذه الوجد حد غياب غيابه. وهي ذاتها اللحظات التي طالما قاومت فيها موتي (المادي) كي أصحو ـ كآخر ـ كف أن يموت.
إن أصابعي تجرجر رفيف رغباتي فأراها تتداخل في وجه، أو في جسد مختزل، أو عبر اللا متوقع وقد أمد في ّ قدرة الموازنة بين المستحيلات والمنجز، وبين الأشكال وما تسترت عليه. فالإحساس الجمعي غدا لا صلة له بعلاقتي مع الآخرين، كما حرر (ذاتي) من قيودها، وغذاني بالتقدم، مرة بعد أخرى، وأنا أكاد امسك بالذي لم يسمح لي أن أعيش خارج انجذابه: أهو الفن، أم هو ما بجواره، أم هو حماية ما، أم الشيء الشبيه بـ (بالشيء)، الذي لن يقارن إلا بالمسافة بين الظل ونوره، أو ـ بمعنى أدق ـ هذا الذي اراه تكوّن عبر غيابي ..والا فانني اكون قد وجدت غواية ما للاندماج .. أي: للعزلة، كالميت وقد عثر على من يرقد بجواره!



[6] المحدود ممتدا ً

طالما أدركت ـ بعد تذوق مرارات العمل في الصحافة ـ أنني امشي آليا ضد إرادتي. فقد كانت الأخيرة لا تعمل على استنزاف الجهد ـ والتأمل ـ والشخصية فحسب، بل على دفع الفن باتجاه التداول. ان طبيعة الموجودات، منذ امتلكت الحد الأدنى للتحكم بمصيرها، وجدت أنها في الاشتباك. فالبشر ينقسمون إلى من هم في المقدمة، والى من هم في القاع: النظرية التي تعيد صياغة التقسيم القديم ـ الصياد/ الضحية، بما يناسب من يتحكم بالمصائر، وأنا أحسست، منذ الثالثة من عمري، بذلك الانقسام، ورحت أتتبع مساراته، ومشاهده، ونتائجه. ولست بصدد تفكيك خفايا المجال النفسي لدوافعي ـ هنا ـ بل لمعرفة دوافع من هم في المحيط/ الهامش لا يعملون من اجل استبدال أدوارهم بمن في المقدمة، وإنما لخلق توازنات لا تخلو من عدل، أو في الأقل: ليست جائرة. لكن العالم ـ بعد العصر الصناعي وما بعده ـ استثمر الأقنعة/ الأيديولوجيات، لجعل الاشتباك متواصلا ً. فالبشر لم يخلقوا للرقص، ولا لأداء أدوارهم في الاحتفال الجمالية، ولا للأعياد. فليس لدي ّ ما استند إليه عدا الأعداد الهائلة من الضحايا: في تدمير البيئة، والعناصر البكر، واستهلاكها حد الإيذاء ـ التلوث الشامل ـ، ومعاملة الحيوان بقسوة وجدت مبرراتها بأشكال مختلفة، فضلا ً عما خلفته الحروب من خراب وأخلاقيات قائمة على تعزيز التقسيم القديم. لكن العناصر وباقي الكائنات الحية لم تكف عن تشبثها بوجود اقل قسوة، وشراسة، ودناءة، إلا أنها لم تثمر إلا عن ذهاب القوى نحو غياب تام للشفافية. فالحياة ـ بزيادة السكان، وتراكم الموارد، وأدوات الفتك ـ مكثت تقسم البشر بين من يعمل مع المتحكم فيها، وبين من أصبحوا تابعين، وممحوين.
انه مشهد حفر في أسئلة أجوبتها ـ عند البحث ـ كانت مصدرا ً للمعاقبة، والإيذاء. فالسؤال، لماذا الفن، لم يفض إلى فضاء مغاير، أو ناء ٍ، عن تغذية التقسيم. لأن الفنون الجميلة ـ وضمنا ً الفنون الأخرى/ والفنون الهامشية ـ لم تجد جسورا ً مع من هم بحاجة إلى أساسيات الحياة: الخبز والماء والإضاءة والقليل من الهواء غير الملوث.
على أنني عقدت ثقة ليست عمياء تماما ً مع إرادتي في الانحياز إلى الفن. فثمة ظلمات لم أكن لأدرك كم هي بلا حافات لولا هذا القليل من الإنارة ـ وهذا القليل من الومضات. لكن القلب، هو الآخر، لا يعمل إلا كعمل مجرة بين المجرات! فهو لا ينبض بسبب أوامر يصدرها العقل، مع ان اللاوعي يسمح للوعي بمجاورة الضوء، والتدشينات السحرية. بمعنى اقل إحباطا ً للمغامرة فان القلب ـ بصفته مجرة وليس نجما ً أو كوكبا ً ـ يوازن بين برمجته نحو موته بغواية العثور على خلاص غير مزيف تماما ً. فانا لا اعمل وكأن كل جزء من الثانية ـ حد عمل قوى اللا مرئيات ـ برمج آليا ً في (الماكينة التي تخيلها ديكارت) وفي الوقت نفسه، فان تفنيد المصادفة/ المصادفات، لن يفند ظاهرة الاضطراب ـ ومبدأ: اللا متوقع ـ واللامعقول في الأخير. فالأشياء بوجودها ليست بحاجة إلى برهان ـ لأنها وجدت تلقائيا ً، أو خرجت من العدم ـ مادامت أفكر بأدوات، هي، غالبا ً، من أسهمت بصياغة هذه التصورات. فانا كمحدود أدركت ـ وهو مثال يقارن بحدود وعي الآخرين ـ ان اللامحدود الذي شغلني/ وشغلنا، لا يمتلك إلا ان يكون بحدود ما أنتجه المحدود، مع ان اللامحدود سيبقى ـ كالعدم أو كالأثير عند قدماء الحكماء ـ قائما ً ولا يمكن تفنيده. إلا أنني سأزداد شكا ً في تصوراتي، ولن استعين بها إلا نتيجة حتمية لاشتباكي مع المستحيلات؛ مع الزمن، ومع ديمومة التقسيم بين من اخترع التصورات وآخر لا يمتلك إلا ان يتدرب عليها، ويفندها، حيث العدالة ـ منذ أيوب السومري ـ لم يفلح إلا قلة ـ حد الندرة ـ من تخيل حتمية وجودها، كوجود العدم تماما ً. لقد كان عقلي احد أسباب انحيازي لرهافة طالما وجدتها في ما لا يحصى من المشاهد، ان كانت بالغة الدقة، أو باتساع المديات ما بين اللاحافات. ولكن قد تكون الرهافة ـ هنا ـ المصدر الأول، وليس الآخر الذي حدد عملها ـ هو السبب المباشر لها! لكني سأدرك ـ بالوعي وبالرهافة ـ ان احدهما لا يمكن فصله عن الآخر. فمن سوى العدم يستحيل ان يكون للوجود هذا التتابع، المحكم، حد ان اللا متوقع ـ والمصادفات ضمنا ً ـ مظهرا ً من مظاهره ـ وبرهانا ً على وجوده. لكن أي لغز سيحدد ماهية أو آلية عمل تلك القوة الداخلية ـ التي تبدو غير قابلة للدحض ـ في مواجهة استعادة العدم لموجوداته!
[7] اللاحافات ـ أو المشفر

أيا ً كانت النتائج: كل ما لم ْ ير عبر الحواس، أو عبر الحدس، أو عبر العقل، إن كان العدم الممتد ـ غير المدرك ـ أو الذي سينتج حلقة ما في التحولات، فان إرادة حياة الفرد لا يمكن عزلها عن مكوناتها ـ وتتابع أزماتها ـ كي ترتقي إلى الأفعال الخالصة. فالنسبية تعني أني مقيد بما امتلك، وليس بما أتخيل، أو افترض. لأن التصورات ليست مستقلة في ذاتها أو تعمل بمعزل عن مكوناتها.
أتذكر ـ هنا ـ أنني سألت زميلة لي في العمل حول سبب عدم نشرها مخطوطات كان والدها قد أنجزها ولم ينشرها، فقالت بصيغة سؤال: وماذا تنفعه إن لم تخلصه من الآثام؟ فسألتها: وما ـ بتصورك ـ فيها من آثام؟ فقالت: إن نصوصه الشعرية تتحدث عن مفاتن الحياة وغوايتها! هذا الحوار سمح لي أن استبعد نظام الذهاب إلى اللا عمل والوصول درجة الاتحاد بالكل، إنما ـ بعد أيام ـ سألتها: وما نفع كل ما تنجزه المخلوقات الزائلة للذي لا يزول؟ لم تبلغ في ردها ما كنت آمل أن تجمّد في ّ جذوة الشرود. لقد تحدثت عن الفضائل وما ينفع الناس. جيد. قلت لها: ربما في قصائده السر ذاته الذي لا يوجد إلا في الكلمات، أو عبر مشفراتها. السر الذي يتوارى في الأنظمة المشفرة للهندسات الجينية، بل الذي قد يكون سكن تصوراتنا ووعينا وحدوسنا التي تمتلك صدمات اللا متوقع، واللامعقول، لكن التي لها لغز هذا الذي يأتي من المجهول ليذهب ابعد منه! فقالت: أنا لا افهم هذا الكلام!
مع زميلتي المشفرة بدفاعاتها، استعدت حوارات لي مع الأستاذ مدني صالح ـ أستاذي وصديقي حتى رحيله ـ فلم يصدمني صالح بنبوغه وعبثه ووعيه الشعري كما صدمني وهو يتحدث عن عدم اكتراثي للغرائب، بل ولا للصدمات!
قلت لها: وهل يكترث المطلق ـ اللامحدود ـ لنا، ولشطحاتنا، ولظلالنا المائلة، ولعثراتنا...وماذا لو اكترث، وجرت معاقبتنا ـ بعد موتنا أو في حياتنا ـ إن لم تكن غاية لها ذروتها بما تمتلكه من حكمة! وأضفت: لكني أرى أن انشغال بعضنا بما يبدو فائضا ً، أو له معناه المغاير لانشغالات البشر بحياتهم اليومية، كالبحث أو الذهاب إلى المناطق النائية، لم يولد قسرا ً أو يولد من الفراغ. هل دار بخلدك أن يوما ما سيأتي يتمكن فيه الناس من استعادة ما حدث في أي زمن ـ وفي أي مكان، للتعرف على قانون: لا عبث ولا مصادفات في الديمومة، لا التي تعرفنا عليها ولا التي مكثت مقيدة بقيودها، إنما التي تجعل المعارف ـ كافة ـ مع قليل من الفضائل، لا يمكن عزلها عن نسبية أحكامنا، وأفكارنا. فاللامحدود يتسلل عبر نظامه كي يكتشف المحدود لهفته في المغادرة، لكن للامساك بما اعتقد فيه، أو تصوّره، بل للذي سيبقى ابعد من تحديد موقعه الذي استحال إلى قيود عند البعض، والى سكن في اللاحافات عند البعض الآخر!


[8] منعم فرات ـ السرداب خال ٍ من السلالم!

لم يكن النحات منعم فرات كاتبا ً، ولكن الكلمات القليلة التي تركها تكفي لمعرفة انه لم يكن مشغولا ً ببيع مجسماته، ـ وإن كان مضطرا ً لبيعها في بداية حياته ـ التي وضعته، ذات مرة، أمام القضاء، فقد كان يرى (الدنيا) سردابا ً خال ٍ من السلالم، وعراك البشر، عنده، غير مبرر، وهذا ما دفعه ليصغي إلى ذرات الخامات في تصادماتها، وفي عويلها العميق، وما تتركه من غموض ملغز، لا يليق بنا كبشر، ولا بأصول الاشتباك. انه سمح لي أن أتذكر أعظم شعراء العراق مرارة في المشهد ذاته، الملا عبود الكرخي، لأنهما كلاهما منحا الفلسفة الانتقادية سكنها في الفن. لم يكن منعم فرات بهلوانا ً، أو أيديولوجيا ، كي يخدعنا، ويوهمنا، ويغوينا، كانت مهمته قد سمحت له أن يستعيد تقاليد أقدم الانشغالات اللا متوقعة: الأشياء الشبيهة بالفن. لكن ليست الهامشية، أو المهمشة، بل المتجذرة في الشخصية الرافدينية، وايكولوجيتها العميقة. فالبدائي يذكرنا ـ في مجال مجاور ـ بالتماثل التكويني الحاصل في تكوينات أجنة الكائنات الحية، واختلافها، بعد ذلك. وكان هذا الاختلاف، في فنه البدائي ـ أو السابق على المعرفة التلفيقية ـ يخص إنسانيته، فلم يبحث عن الثراء أو الشهرة، فقد انشغل بأسئلة ترجع إلى المنطق: لماذا تنتهك حرمات المخلوقات الضعيفة، ولا تجد من يقف معها. الأسد لن يتحول إلى وليمة! ولكنه، لن يفلت من العقاب، عندما نعيد قراءة الدورة كاملة. كان هذا الانشغال يمتلك هويته ـ مع فجر التحديث في الحياة البغدادية ـ وبصماته، وشفافيته. فارجعنا منعم فرات إلى حكماء العصور السحيقة، من سومر إلى بابل، وصولا ً إلى مفهوم المعتزلة حول العقل، والمتصوفة بتخليهم عن غوايات التراب. فكان فنه إجابات لا تتضمن أسئلة، بل تزدحم بها، حد انه لم ير الحياة، إلا كما رآها الشاعر الملا عبود الكرخي ـ كما في رائعته المطحنة ـ فالدنيا ـ الحياة ـ لا تساوي شيئا ً كي تنتهي بالحساب! حساب يجري مع من: مع العناصر، أم مع المكونات، أم مع النتائج ... ومنعم فرات، كالكرخي، لم يهمل المسار المعقد للاشتباك، والتصادمات. فالضحية ـ كما في سفر أيوب السومري ـ يستعيد قراءة مفهوم العدالة برمتها. هذا الوعي العميق الكامن في فن منعم فرات، لم يكن بدائيا ً، أو شخصيا ً، كآخرين سيحولون فنهم إلى سلعة، والسلعة إلى ما تتطلبه من مهارة حرفية، وإنما بمهارة الفنان، كي تعالج قضايا توازي مرارة المحنة: المحدود إزاء مساحة الاشتباك وما تفضي إليه. فلم يحول فنه من اجل الكسب، ولم يسمح لحياته أن تكون عابرة. فلم يوظفها لأحد، أو يقع في غواية الدفاع عن وهم من الأوهام. لقد وجد مصيره شبيها ً بمن سبقوه، التمسك بالدفاع عن الهزيمة ـ وعن المهزومين ـ: فالاشتباك لن يقود إلى نصر، ولن يقود إلى خاتمة، عدا ديمومة مقدماته ونتائجه: الأكثر رهافة في مواجهة جبروت الظلم ـ والظالم. وحتى لو كان قد اختار الفلسفة ـ كأسلافه المعتزلة ـ لكان لقي حتفه في سرداب، أو لكان اختار الفناء/ والتطهر/ والعفة / كالمتصوفة، ومات ضحية الأنظمة ذاتها في إنتاجها لبنية الاشتباك. تلك كانت ريادة منعم فرات التي صاغها ولفت انتباه نقاد أوربا ـ وربما الاستثناء الجدير بالذكر هنا، هو استأذنا الدكتور أكرم فاضل في عنايته بالفنان ومهد للباقين في الحديث عن حياته وفنه ـ كي لا يذهب المجهول.
لكن مهاجرا ً لم يحتمل مقاومة الرداءة في وطنه، لن يرصد الجهد الممهد للوعي النقدي ـ على صعيد الكتابةـ أو في الانجاز الفني، خلال القرن الماضي، في التشكيل العراقي، كي يهمل الجهود كافة، ولا يستثني الا من راه عبر ثقب في بصره! فلم يذكر ان الوعي النقدي عند منعم فرات، ومحمود صبري، وجواد سليم، لم يكن عابرا ً، كما لم تكن المقدمات النقدية عند جبرا إبراهيم جبرا، وشاكر حسن، وعباس الصراف، بنزقة في هذا المجال. وسيقال لي: لماذا تشغل نفسك، وتشغلنا، بما هو بمصاف اللا فعل!
أعود إلى منعم فرات، كإجابة تلخص المسار ذاته لنسق من قال كلمته ومضى، كما قالت العرب، لكن هذا ليس اعترافا ً بالهزيمة، بل للفت النظر إلى البلاغة الزائفة لعصر الإعلانات، وإهمال سيسمح للدورة أن تبلغ نهايتها: الاستهلاك. لأن مفهوم صياغة الأختام البكر، لن يغادر لغز تكّون الرهافة ـ من الأصابع والحواس إلى الدماغ، ومن الأخير إلى الوعي والى النص الذي غدا نموذجا ً للأكثر احتمالا ً في تدشين الدروب الوعرة. فعندما تشتد العتمة ـ لا بغياب مصدر الإنارة فحسب ـ بل لانحسارها لدى الباحث وتحولها إلى حلقة بين لا محدودين ـ أو مجهولين. وإذا كان من الصعب إجراء مقارنة بين ما ينتجه المحدود، وصلته بما هو ممتد، فان الأخير، ليس فائضا ً في حضوره عبر علامات قاومت زوالها، لا كي تغوينا بالخالد، والسرمدي، بل كي لا تمجد الوهم كثيرا ً!
[9] اللاحافات ـ الصفر عددا ً


وأنا انظر إلى تلال القمامة، التي كانت ترمى إليها جثث المغدور بهم وتترك نهبا ً للكلاب التي لا اعرف أأنا كنت انظر إليها مذعورا ً أم هي التي كانت تؤجل مشروعها نحو جسدي، فكرت بالمخلفات: نفايات المدن في خرابها/ وما يخلفه الزمن/ ولا مبالاة الناس. فإذا كان الأوروبي يتداول سلعه، ليستهلكها، فهو أكثر فهما لمصيره بين خاتمته ومقدماتها. بضائع جميعها لم تصنع في بلدي، فالناس تحولوا إلى مستهلكين، الأمر الذي عزز عزلتهم، وهمومهم، إلا في الرصد والمراقبة. فالعمل أصبح ـ كما كان عمل المزارع أو الحائك قبل نصف قرن ـ لوثة! فكرت في النفايات المنتشرة، في الساحات، مع بقايا أشجار مهملة، وعند نهايات الأزقة، وفي الممرات الجانبية، ولماذا أصبحت لا تثير القرف! هل لأن من أسهم في دفن أحفاده يجد سلوى في عرض نشاطه، بعد أن صنعه، كي يدافع عنه في هذا العرض الغامض للأعماق، والخواء! فانا لن أنسى أن أستاذا ً يعمل في وزارة ثقافية وتربوية، طالما انجذبنا إلى حواراته حول ما يحدث، رايته، في يوم عاصف، يفّرغ سلة المهملات فوق تل الزبل الذي يقع في نهاية الشارع! ما علاقة هذا بعملي وأنا مشغول بالعثور على غواية للتنفس، وليس للخلاص! فالموت هو الذي بلغ ذروته، أما الحياة، فلم تعد إلا دحضا ًلكل ما تعلمته منها. الأمر الذي سمح لي أن احفر مساحة ارقد فيها، في الختم، ختمي، أو في العبارة، عبارتي. على أن دوافع الحياة ليست ذاتية، من غير محفزات حتى لو كانت بحجم مرور طير، أو تأمل شجرة معزولة بين مدافننا. فالمائة عام الأخيرة، التي أراها أمامي، ليس باستطاعتها إلا أن تسهم بموتي جزءا ًجزءا ً، وها هي تحول الأشكال إلى نفيها، ولا تترك للدوافع إلا أن تكون لا متوقعة، ولا معقولة. فهل كان إنسان المغارات ـ الذي وجد نفسه يحفر فوق الصخرة، أو يرسم فوق الجدران، يعمل بدوافع القهر، وهو ـ مثلي ـ أدرك أن الجدران لن تحمي شيئا ً، أم كان، لسبب ما، يعمل بقوة الديمومة، واليات غوايتها؟
أليس من العبث أن اسأل نفسي سؤالا ً حول اللغز الذي سكنه، وجعله متوازنا ً، وهو عرضة للافتراس، بدل أن أحاور الجزء الآخر في راسي؟ يصعب علي ّ ـ الآن ـ الإجابة عن سؤال: ما الصدق/ ما الواجب/ وما الصواب ...؟ فالاشتباك ـ الشبيه بحرب الجميع ضد الجميع ـ لا يستند إلا إلى نظام الصياد ـ الضحية، هذا الذي ـ خلال قرن ـ اتجه نحو خاتمته: بلدان غادرت التاريخ،وبعضها تُرك يحتضر فوق تلال القمامة، وعند الخرائب، وأخرى تنهش بعضها البعض الآخر؟ فأي أمل، أو حرية، أو خلاص، أو منطق، بإمكانه أن يستبدل الوهم، والرداءة، والتعفن، بهواء غير اسود!
لقد تحدث (ادلر) عن الدفاعات التي يستند إليها المنتحر، الدفاعات السلبية، لكنها، في الأخير، لا تقل رداءة عن عمل الشعوب التي تفترس أخرى، وتحولها إلى مخلوقات بلا غاية، ضائعة، وحشية، ولكنها ـ كالكلاب التي كنت أراقب شراستها ـ لا تعرف الرحمة.
وأنا أراقب الريح تهز سعف نخلة الجيران، اجهل ما اذا كانت هي التي تمشي في جنازتي، أم أنا هو من يمشي في جنازتها! الريح، بمعنى ما، الوسط المرئي للعبور، لا تمتلك إلا عفنا ً تحمله معها، داخل أرضنا، دون إضافات تذكر. فالعفن الذي حصل، بعد أن انفصلت الأرض عن نجمها، وتجمعت العناصر، وصار لها مجالها الحيوي، أنتج لغزه. فذرات هذا الجسد، جسدي، مع كل ما أنتجته، ونطقت به، وكتمته، سيكّون جزءا ً من الريح وهي تؤدي دورها ـ الذي لا مقدمات له، ولا خاتمة ـ في المرور، والعبور، والإعادة. فثمة آخر مغفل سيعمل لا على غواية الآخرين، أو إيذاء البيئة، بل في الذهاب بعيدا ً في مدياته من اجل التوازن. حقا ً أن من لا وجود له ـ أمامي ـ أراه يحفر ـ كما اشتغل في فك مشفرات مخلفات السابقين ـ واراه، مثلي، يجهل سر استحالة استبعاد القبول إلا بالغواية نفسها: المرور إلى هناك، وابعد، في انتظار الذي يمر بأسرع من زماننا ـ في أبدية اللاحافات!
[10] عودة: جذور التأمل


هل باستطاعتي أن اجري مقارنة بين عدد من المهن ـ بالمفهوم العام ـ كمهنة صانع الأسلحة، أو الأحذية، أو صانع الأواني الخزفية ...الخ بمهنة القاتل أو اللص أو المشتغل بإدارة أعمال لا شرعية ومنها إدارة المواقع الداعرة، أو التنكيلية، أو الخاصة بالشذوذ والغرائب، بمهنة شخص وجد انه مشغول بفك شفرات مقاومته للاندماج، حد المحو، والتلاشي، وتمسكه بفردية لا علاقة لها بالمهن، أو بأي مشروع للتعالي فوق البشر، أو عبادات سحرية سرية، بل، في الغاب، وجد انه غارق في مسار الترقب، وتتبع حلقاته...؟ إن انشغالا ً قديما ً ـ ومتجددا ً ـ يدفع بعدد من الأشخاص للإعلان ـ وللكتمان أيضا ً ـ عن هذا الضرب من الاضطراب، والتكيف، ان كان مرضيا ً، أو مجاورا ً له، نحو موقع صناعة (أشياء) ليست مهمتها لفت النظر، أو سلعا ً للتداول، أو حتى محاولة للاندماج المشروع، والواقعي. لكن هؤلاء المحصنين، والمحميين ذاتيا ً، لا يمتلكون الذهاب ابعد من وظيفة (ما) بين التقسيم الاجتماعي للأفراد: تقسيم العمل، كي لا يجد صانع (الفن) نفسه إلا ـ كالكاتب ـ وفي مجتمعات المنظمات المنغلقة ـ معزولا ً ووحيدا ً. مع ذلك فعدوى الرهافة، في الأصل، تمتلك ديمومتها، وعملها بين الأعمال الأخرى. فالتفرد ـ في الختم/ التوقيع ـ ليس علامة جذابة، ضمن بضائع السوق الحرة ـ أو عبر حرية السوق ـ بل للصانع نفسه. فهو ـ كما في عدد من حالات الشرود/ والتوحد ـ يغدو قوة لمغادرة الانعزال، والضمور. فهذا الذي سيحدث (ويحدث)، في واقع الأمر، شبيه بمن وجد نفسه موجودا ً، كي تتكرر الأسئلة ذاتها المحفورة في النصوص، إن كانت كتابية أو فنية، فالدورة لم تكتمل، وإلا لوجد الفنان مصيره مع الحرفيين، وغدا منسجما ً في أداء عمله، بدلا ً من انتظار الذي ذهب، أو الذي لن يأتي أبدا ً، وإنما الذي له حضور الغائب!
هنا، وهنا تحديدا ً، لم يعد للنبش في المخفيات، الاهتمام ذاته في التوغل خارج حدود الخامات، الأمر الذي يدحض ـ ولكن يكرر ـ انشغالات الساحر القديم: ليس المهم الحصول على الدهشة، بل كيف تبقى تحافظ على لغزها: هذا الانجرار، بطيب خاطر، إلى المتاهة بصفتها لذّة، ومضادة لها، في الوقت نفسه!


[11] ماض ٍـ يتقدم ـ وآخر يثب


فإذا كانت الدهشة قد تجمدت، وكفت أن تكون واقعا ً، وإذا كان الانشغال بعدم الربح شبيه باللامبالاة تجاه المحو ـ أو الخسران ـ فان أمرا ً ما مشتركا ً بين ذاتية الفنان ومحيطه يتحدان لا ضد الرغبة، بل بجعلها أكثر قربا ً من صياد أدرك انه لا مناص الضحية. على أن هذا الذي لا ابحث عنه ـ في أختامي ـ كالجراح لا مناص أبصر موت مريضه، كلانا منشغلان بحاضر سابق على الانجاز! ثمة أزمنة أجدها تستيقظ عنوة: فانا جزء كلما اتسعت مسافتي عن باقي الأجزاء أجد أنها تعمل في ّ: ما لا يحصى من التصورات حول ما بعد الموت، كالتي تراود مخيال الفيزيائي في احتمالات اتساع ـ أو تقلص ـ أو بقاء الكون على ما هو عليه. إن المشترك بينهما يخص استكمال بقاء الماضي ماضيا ً. فهو يزحف، ولن يتراجع، بل يكمل بعضه بالبعض الآخر في المسافة ذاتها.
محنة أخرى تثب، ستوازن بين المرارة وبين لذّات النشوة. فكما يجد العاشق أقاصي المسرة في استحالة لقاء من طلبه، فانا أتلمس في الدوافع شيئا ً ما آخر غير الذي أراه مرئيا ً، ليس ما توارى ـ أو ما هو قيد الاندثار ـ بل هذا الذي امسك في ّ وقيدني في العمل.
الفن شغل، بمعنى: عملا ً مضادا ً للعمل. لكن طبيعة هذا العمل ـ كالحرية ـ لا تعّرف بمفهوم أو بخاتمة. فهو اذا ً وجود ينفي وجوده. وهنا أكون قمت بما يؤديه الدياكتيك (الكلي) باستبعاد أي سبب عن الأسباب الأخرى. فإذا كانت نهاية ما أره يغادر، فان ما هو قيد الغياب سيتشبث بأبدية الثابت، أو ما غدا خالدا ً بحدود معنى الكلمة ـ وحروفها ـ وتصّوراتها.
فالعالم مكث ـ من بضعة كائنات إلى مليارات سبعة من السكان اليوم ـ راسخا ً باستحداث قدمه ـ ومقدماته المكتفية بذاتها. وهنا أجد رهافتي شذبت درجة أنها غابت في ّ. فالأجزاء غير القابلة للإحصاء ـ جزئيات/ ذرات/ كيانات/ مجموعات، وصولا ً إلى لا حافات الاتساع، أو نحو الصفر ـ قد قيدت ودونت في ّ. فانا، مرة أخرى، أجد نفسي بجوار شبيهي: ميتان يتبادلان الموت، لكنهما يعبران من الماضي ـ إليه ـ بعيدا ً عن الموت. فالدوافع تكاد ـ في انفصالها عني ـ لا تمتلك إلا حدود المفتاح وقد دار في القفل. انه المحدود ـ أو النسبي ـ وقد اتسع خارج إمكانية تلمس أي حافة من حافاته. فهل قصد أسلافي ـ في التحول من الشفهية إلى الحفر والى الكتابة ـ هذا الذي أنا أؤديه استكمالا ً لماض ٍ، بحسب قدراتي في التصور، ومن غير خاتمه له؟ لأنه لا يمتد، ولا ينبثق، ولا يرتد، ولا يتماثل، ولا يكتمل. بمعنى ما انه سيحافظ على ما في العمل من قيود، وأنظمة، وضمنا ً، من ارتواء يستدعي مستحيلاته. فالذي يقع هناك، غير منفصل عن التمهيدات التي استحدثته، لكنه سيبقى يمتلك ما يريد أن يؤديه، إنما بما أريد أن أنجزه، وليس بمعزل عني.


[12] ديمومة الغائب ـ الموت حاضرا ً


الأختام مجّفرة ـ مشفّرة ـ بمعنى أنها لا تخفي بصمات حاملها ومخفياته، بل ولا صانعها، لأنها، في ما تخفيه، امتلكت لغز موتها بتمام حضوره. فما دوّن فيها يمكن عزله: القصد والتداول والهوية، فيما اكتشف، بعد عزل الزمن عن حركته، أنها صنعت لتخفي ما لم ـ ولن ـ تعلن عنه. ففي الختم ديمومة علي ّ ان لا أقع في وهمها، ديمومة بدأت اعزلها عن أسبابها النائية. فجأة بدا الختم لي ـ مثل إنانا ـ علامة توارت فيها ما لا يحصى من العلامات. على ان الختم ليس علامة ـ للتداول ـ والتجاور ـ والمنفعة، فالختم قبر.
أعدت قراءة بعض الأشكال، فلم اخف ولم اصدم أنها شبيهة بما أراه في (ما أنا عليه/ جسدي، أو هذا النفس، أو الروح التي لا اعرف كيف آوتني معها فيه) هذا الجسد. فليس مصادفة أنني اشتغلت بالمدافن: مدفن شبعاد/ ومدفن والدي/ ومدفن الجنيد. فقبل عقدين، وفي ليلة شتاء باردة، قبيل الفجر، طلبني شيخي فذهبت إليه (كان معي عدد من الفنانين اذكر منهم هيثم حسن، سلام عمر) فلم أر إلا جسد الأرض: ختمها. لكنني كنت تعلمت ألا أقع في غواية الوهم. فالقبر ـ كالختم ـ ليس شكلا ً أو هيئة، بل ممرا ً من الأرض إلى لغزها. فاكتشف أنني لم اغدر جسدي بعد، إنما استطيع الاعتراف أنني تحررت منه. كذلك القبر لا علاقة له بمن فيه، إلا في حدود الأشكال. فهو مدرج سفر ـ وطيران ـ ولم يصنع للإقامة.
يا للفرحة التي بلغت ذروتها: كم يشبه جسدي القبر، وكم يشبه قبري جسدي! كي أعيد استذكار اللحظات التي عشتها وأنا انزل إلى سراديب قصر شبعاد، في رمال أور، وقد تحولت إلى خرائب. تلك الأختام المبعثرة، مع الحصى، كانت تعلن عن هذا الذي أراه يغادر، كما حصل في الماضي ـ وكما يحصل أمامي ـ أراه تام الغياب.
كم أشبه نفسي! فها أنا استطيع ـ بما يتضمنه الختم ـ أن أوحد بين المتضادات التي غطست فيها، حتى تحولت إلى رحم، أم باستطاعتي مغادرتها، كما تتكون النصوص الشبيهة بالفن؟
ها أنا أتكّون في مساحة اللاحافات. فانا لا اسكن من سكنني، ولكنني لا امتلك قدرة الانفصال عنه. فاستعيد قدرتي على صياغة لماذا كان اسم [إنانا] شبيها بختمها، ولماذا تركت أصابعي تنتج ما نسجته آلهة الحرب/ الحب في ذاكرة أسلافي، وفي ما يدفن في أختامي.
فانا غير معني ـ يا له من اكتشاف ـ بما زال، وبما أراه يتبعثر، أو أراه يأخذ حبيبات الأثير/ والزمن، بما يتجمع. فالختم ليس ما نقش أو ما حفر، بل بما هو قيد الحفر. انه السابق على التجربة ـ وهو الملحق بها. ولأنني مشغول بعدم التمويه أو التضليل أو المناورة، فان التجربة تأخذ أسبابها التي كونتها، ومادامت الأسباب بلا حافات، ولا نهاية لها في وجودها، فإنها لن تعد بحاجة إلى برهان أو نفي. وهنا اكف تماما ًعن الأسباب التي استدعت أسلافي لصياغة رموزهم النائية. لا لأنها محض تصوّرات، بل لأنها مناورة القبر لمن لم يسكنه بعد. أما ما بدا لي خارج ضرورة البرهان فهو شبيه بالمثلث أو المستطيل أو المربع، وككل الأشكال أينما تضعها فإنها لن تذهب ابعد من وجودها كما ظهرت عليه، لأنها، في واقعها، لا تمتلك إلا ما سيشكل مغادرة لحضورها: حضوري وأنا مسبوق بوجود سابق على هذه الأشكال!

ليست هناك تعليقات: