الجمعة، 16 سبتمبر 2011

قراءة في فكر القرامطة-حواء سعيد عبد الفتاح



قراءة في فكر القرامطة
حواء سعيد عبد الفتاح
أديبة عربية
من مواليد مدينة الناصرة في فلسطين
تعمل معلمة للغة الانجليزية .
قال : عنها الأديب والكاتب والناقد المصري الأستاذ سمير الفيل /
الأستاذة / حواء سعيد ..
من الأقلام الجادة التي لفتت نظري
فهي تأخذ الموضوع بجد ، ولا تتأخر في أن تكون حاضرة ، وصاحبة كلمة ، وموقف ..
ربما من الأسماء التي كانت تعليقاتها منصبة في بنية النص لا خارجه .، بلا تهويمات في الفراغ ، أو تخريجات مطاطة مقصقصة الريش !! .
إنها تمارس عملها بحب و إخلاص لا حد له ..
وقال كذلك : على حواء سعيد في غير هذا الموقع .. وأذكر أنها قد ظلت تتعامل مع نصوصي القصصية التي أنشرها بذكاء، وفطنة ، ولمسة نقدية تشي بموهبة مؤجلة .
مرة قالت لي : إنني أنوي نشر قصة . ترددت في التحمس لها حتى قرأت عملها .
كان " بيت الدمى " هو نصها الجميل والمدهش ، والذي لم أكتب عنه كثيرا .. كنت وقتها متدفقا مع حدوتة (النقد ) بكل دفء وحرارة الذي تعرف على عالم جديد وغريب هو دنيا " النت " .. أعمل ليل نهار دون ان أكل أو أمل .
لكنني كنت بخيلا مع حواء سعيد ، وهي الكاتبة الموهوبة الدمثة التي تعمل في هدوء وصمت يليق بالزهاد .



في ضوء مقولة المفكر الجزائري [ محمد آركون ] (( مع اعتزازنا بالتراث لابد من قراءة جديدة له )) ، ولقراءة تأريخ القرامطة ، والتعرف على تلك الحركة الاجتماعية ، والفكرية ، والسياسية ، المغمورة في مدوناتنا ، والوصول إلى الأسباب ، التي أدت إلى خروج حركة اتهمت بالإلحاد ، ولم يمض على ظهور الإسلام سوى ثلاثة قرون !

فمنذ ظهورها، وحتى القرن الخامس للهجرة ، تصدت الأقلام المأجورة للكتابة عنها ، وسخرت خزائن المال والسلاح لمقاومتها ، ونصبت المشانق لكل أتباعها، وقطعت سيوف الخلافة أطرافهم ، وأحرقت مؤلفاتهم ، فتبخرت باحتراقها أفكار العلماء ، والفلاسفة ، والشعراء ، وكل من اتهم بمجاراتهم ، أو الاقتراب منهم .

إذن ، كيف لنا أن نقرأ تأريخ القرامطة قراءة جديدة ، دون تحيّز ، دون خوف ، دون استنتاجات مسبقة ؟

إن ثنائية ( السلطة /المعارضة ) من بداية تشكلها ، أي منذ أيام ( السقيفة ) إلى أيام صلب [ الحسين بن منصور الحلاج ] والقضاء التام على القرامطة وثورتهم الاشتراكية الخالصة ، ومن اتهم بجريمة الانتساب إلى فكرهم وحركتهم ، تحت أهم (فتوى) أعلنت من قبل السلطة آنذاك (( هذا داعية قرمطي فاصلبوه )) !

في بدايات تشكل حركات المعارضة ، والاحتجاج على ممارسات السلطة ، فمن [الكوفة ] أطلق [ زياد بن أبيه ] على هذه الحركة (( الجارية الحسناء )) ، لكنها أثبتت للتاريخ أنها (( نار متأججة )) حيث كانت هناك أسباب للتمرد ، والشكوى من سكانها ، وغالبيتهم من الفلاحين ، والحرفيين الحالمين بالعدالة ، والمساواة ، التي نادى بها الإسلام ، وأهمل تطبيقها حكام المسلمين .

صدر أول احتجاج ، أو نقد لإدارة [ أبي بكر] من قبل الأنصار ، والمسلمين الذين حضروا [ حجة الوداع ] وخطبة الرسول في [ غدير خم ] ولم يلتزم بها الخليفة بعد وفاته .

ثم عثمان ، وذلك حين قرروا الكتابة للخليفة ، يشكون له من سوء الأوضاع ، وتجاوزات عامله . سمّي الاعتراض في زمن أبي بكر [ ارتدادا ] ومأساة [ مالك بن نويرة ] نموذجا .

ثم في زمن عمر ، وإبعادهم أو إشغالهم بالفتوحات ، وتوسيع رقعة الإسلام .

أما في زمن عثمان ، والفتن وما بعده وتأجيج الفتن ، بتداخلات غير مسبوقة من قبل عائشة واتباعها !

إن ظهور حركة الخوارج ، كأول احتجاج منظم ، وخاصة بعد استشهاد الإمام علي بن أبي طالب( ع ) وما أدى إليه من حروب داخلية ،وفتن ، ومن ثم انتقال السلطة عن البيت الهاشمي ، إلى البيت الأموي ، تسبب بانقسام حاد في جسد الدولة الإسلامية الفتية ، ولم يكن انقسام المسلمين بعد مقتل عثمان هو البداية ، بل إن الفتنة ، كانت قد اشتعلت ، قبل ذلك التاريخ بأكثر من ربع قرن ، وبالتحديد في اليوم الأول لوفاة الرسول ( ص ) وفي سقيفة بني ساعدة يوم انتصار مقولة عمر (( الأمة من قريش )) .

إن وصول بني أمية للخلافة ، يمثل إذن تتويجا ، وتطبيقا عمليا لتلك المقولة .

وإذا كانت جماعة الإمام علي بن أبي طالب [ شيعته ] قد تحولت إلى فرقة دينية ، وخاصة بعد استشهاد الإمام ، وابنيه [ الحسن والحسين ] في كربلاء من بعده قد سار في مسار الأمويين ، في الدعوة لقريش فالاختلاف له جذوره التاريخية الموضوعية ، ومثلما ذكرنا أعلاه ، لولا حادثة [ السقيفة ] لما حدث ما حدث .

إن ممارسات بني أمية الوحشية ، الهادفة إلى الإبقاء على عروشهم وملكهم ، يجملها قول معاوية (( أنا أول الملوك )) وجعل القول فعلا حيث ورّث العرش لأبنه [ يزيد ] . وقد كانت فعلته هذه فتنة ، توازي فتنة عثمان وقميصه ، لأنها كانت تحولا مصيريا آخر عن مبدأ الشورى ، الذي اقره الإسلام ، ولم يطبق حتى في زمن الخلفاء الراشدين ، باستثناء خلافة الإمام علي بن أبي طالب ، حيث جاءت البيعة إليه ، دون أن يسعى إليها .

وأمام حركة [ التوابين ] ، و [شرطة الله ] ، و [ والكيسانيين ] ، والخوارج من قبلهم ، كان لابد من سقوط الدولة الأموية ، حيث تم ذلك بالتحالف [ الكيساني/ العباسي ] بعد أن عمّت الفوضى السياسية ، والتحولات الاجتماعية ، ووصول بني العباس للخلافة ، والتي لم يكن لهم في تأسيسها أي دور فعلي ، باستثناء القيادة الروحية ، المتمثلة بالشيعة الهاشمية ، وفرقهم منها [ الكيسانية ] أما الدور الحقيقي فانه يسجل [ لأبي مسلم الخرساني ] وجيشه ، ودعاته المنتشرين في أرجاء المعمورة .

وإذا كان بنوا العباس ، قد اعتلوا الخلافة باسم الدين ، والإمامة ، حيث قامت دولتهم على الخداع ، والدهاء ، والغدر . وكان قسم التحايل والمخادعة ، أوفر من قسم القوة والشدة ، على حد قول [ ابن طباطبا ] وكان أول ما فعله العباسيون ، هو نبش قبور بني أمية ، والتمثيل بما فيها ، وضربها بالسياط ، ثم صلبها ، وحرقها ، ودق رمادها ، وذرها في الريح ، وهذا ما فعلوه بالتالي مع الذين خرجوا عن طاعتهم ، مع عائلاتهم، فحينما قتل [ أبو جعفر المنصور ] [أبا مسلم الخرساني ] قيل له (( يا أمير المؤمنين ألان أصبحت خليفة )) .

كذلك لم يسلم منهم المفكرون ، والشعراء ، والأدباء ، الذين اتهموهم بالزندقة تارة ، وبالتآمر تارة أخرى .

أما شكل الحكم ، فلم يطرأ عليه أي تغيير ، عما كان عليه الحال ، في دولة بني أمية . إذ بقي الحكم وراثيا ، على رأسه بيت من بيوت قريش ، وكان من أزهى عصور الدولة العباسية ، عصر [ هارون الرشيد ] الذي جاء موازيا لما حدث فيه من عنف سياسي ، وأبشعه ما حدث [ للبرامكة ] الذين صودرت أموالهم وممتلكاتهم ، بعد إبادتهم جميعا . وكذلك واقعة [فخ ] في الحجاز وما آل إليه مصير [ الحسين بن علي الخير ] وأتباعه ، من تمثيل في جثثهم ، وقطع رؤوسهم وحملها على الرماح ، من الحجاز حتى بغداد ، حيث ادخلوها على الخليفة !

وكذلك ما حدث للعلويين ، وما رافق انتقال السلطة ، من خليفة إلى آخر ، من إراقة الكثير من الدماء ، والسلب ، والنهب ، كما هو الحال مع [الأمين ] وأخيه [ المأمون ] . ويشمل هذا الأمر كافة خلفاء بني العباس . ويبدو أن العنف يولد العنف . فقد شهد هذا العصر ظهور حركات معارضة ، أكثر مما شهده عصر بني أمية . واضطرت هذه الحركات إلى رفع شعار روحي ، ليكون مبررا لخروجها عن طاعة الخليفة العباسي .

باستثناء حركة واحدة ، وتجربة مختلفة مع [ أبي سعيد الجنابي ] وقرامطة البحرين ، ضمن حركات العلويين الكثيرة ، على طول العصر العباسي ، ومن قبله الأموي ، وأهمها حركة [ زيد النار ] ، الذي كان عقابه المفضل ، الحرق بالنار ، لكل من يلبس السواد . والولاء العباسي مرورا بحركة [ بابك الخرّمي ] و ثورة [الزنج ] ، التي عاصرت ظهور حركة القرامطة .

ومن الفرق الإسلامية العلوية [ الدعوة الإسماعيلية ] نسبة إلى [ إسماعيل ] الابن الأكبر للإمام [ جعفر الصادق ] وهذه الفرقة ينسبها بعض المؤرخين ، إلى الفرق الباطنية ، وكان لظهور الدعوة الإسماعيلية وبدايات تشكل حركة القرامطة في سواد الكوفة ، حيث ساد الفساد الإداري ، والانحلال الخلقي ، والتمييز العرقي والفوارق الطبقية ، مع نهاية الدولة العباسية جميعها مسببات لولادة معارضة فكرية ، اعتمدت في تحليلها للواقع ، وتصورها للمستقبل ، على أفكار فلسفية تناسب كافة الفئات التي تشكلت منها قاعدة الدعوة .

لهذه الأسباب جميعها ، استطاع الإسماعيليون ، وبفضل دعاتهم المنتشرين في أطراف الدولة العباسية ، التي لم يبق لخليفتها سيطرة فعلية عليها ، عندما أسسوا دولتهم الفاطمية الأولى ، في المغرب العربي ومصر . لكن هذه الدولة ، وحالما استقرت أمور أول خليفة لها [ المهدي ] حتى تكرر ما قام به المنصور العباسي قبل قرن من الزمان ، من تصفية لداعيته ، وتعذيب المعارضين ، وحبسهم ، وقتلهم ، إضافة إلى فرض الضرائب الباهظة ، على عامة الناس ، والتي تصب في جيب الخليفة .

لم يكن الحال كذلك في الدولة الفاطمية الثانية ، والتي تأسست في اليمن . فقد تمكن [ أبو الحسن الصليحي] من توحيد اليمن . دون تعصب لمذهب ، أو عقيدة . ولم يبشر بالدعوة الإسماعيلية بحد السيف . ولم يضطهد أتباع المذاهب الأخرى . وإنما ترك للناس حرية الاختيار ، وبالسلوك الحسن ، والاستقامة استطاع الوصول إلى قلوبهم ، وكسب ولائهم ، وإقناعهم بأنه داعية من اجل إعلاء كلمة الحق . لكن دولته لم تستمر طويلا .

وفي قلعة الموت ، حيث الداعية الإسماعيلي الكبير [ حسن الصباح ] كانت قد تشكلت الدولة الفاطمية الثالثة ، وبذلك فقد الخليفة العباسي سيطرته الفعلية ،على معظم الأراضي ، التي كانت تابعة لحكمه .

إن ما يميّز هذه الدول الثلاث ، التي بالنتيجة هي دول ذات مذهب واحد ، هو المذهب العلوي الإسماعيلي [فرقة من الشيعة ] . قولها وفعلها ( ( بعصمة الإمام )) وهذا الأخير يعتبر المرجع الثقافي الأعلى ، حيث أن السلطة المطلقة مرتبطة به وبالنتيجة فهي محصورة ب [ قريش ] . أما القرامطة فكان لهم رأياً آخر .

وإذا كان القرامطة الإسماعيليون ، قد شكلوا من البداية فرقة واحدة ، إلا إنهم مثل أي مدرسة عقائدية ، اختلفوا في أمور ، واتفقوا في أخرى .

لم تكن العصمة معروفة للقرامطة ، ولا يوجد من هو فوق [ النقد ] ، بما في ذلك الأئمة أنفسهم . أما اتفاقهم ، فكان في اعتماد رسائل [ أخوان الصفا ] ، ووضوح الفكر الشيعي التقدمي فيها . وكما كانت الكوفة مسرحا لاندلاع أول الثورات في عهد [عثمان ] حيث الأراضي الخصبة للثورات ، وحيث الطبقة المسحوقة ، التي ضاقت بنزق الحكام ، وبالفوضى السياسية السائدة ، فإنها أيضا ، موطن [ حسين الاهوازي ] أول دعاة القرامطة . وربما يكون هذا الداعية هو [ الحسين بن منصور الحلاج ] ، الذي دعى الفلاحين ، والحرفيين الفقراء ، إلى الإضراب ، وتعطيل الأعمال . كما نادى قبله الشهيد [ زيد بن علي ] . لكن الرايات البيضاء لم ترتفع في سواد الكوفة ، إلا مع [ حمدان قرمط ] المؤسس الحقيقي للمذهب . والذي اعتمد في حركته ، على قاعدة شعبية ، فقيرة في اغلب الأحيان ، ومن جنسيات ، وعقائد مختلفة . لذا كان منهج حركته عقلانيا فلسفيا ، اكثر من كونه روحيا عقائديا. وفي الحقيقة فان الفكر البديل ، الذي انتهجه القرامطة ، كان نتاجا لعصر [ التنوير ] ، الذي بدأ بعصر [الرشيد ] ، وبدار الحكمة ، في عهد [ المأمون ] وكذلك بالحركة النشطة للترجمة ، والتفسير ، والتأليف ، التي شارك فيها العلماء ، والأطباء ، والمهندسون ، والفلاسفة ، من جنسيات مختلفة .

لقد طبق [ حمدان قرمط ] النظام الاقتصادي ، في مجتمع الكوفة ، وبين مريديه . ومن الجدير بالذكر أن [ حمدان ] قد أوّل بعض آيات القرآن ، تأويلاً يحثُّ على الألفة ، والتعاون لصالح الجماعة . وفي ذلك تأويله للآية (( واذكروا نعمة الله عليكم ، إذ كنتم أعداء ، فألّف بين قلوبكم ، فأصبحتم بنعمته أخوانا )) بأنه لا حاجة بهم إلى الأموال ، لأن الأرض بأسرها ستكون لهم دون غيرهم . وطالبهم بشراء السلاح وإعداده . وكان ذلك في السنة السادسة والسبعين ومائتين من الهجرة . كذلك فان الضرائب التي فرضها عليهم ، انتهت بنظام الألفة ، وهو (( أن تجمعهم أموالهم في موضع واحد ، يكونوا فيها أسوة واحدة ، ولا يفضل أحد منهم صاحبه ، أو أخاه )) وهذا الإجراء هو الأول من نوعه في تاريخ الإسلام ، علما بأنه في ما سبق ظهور [ حمدان قرمط ] كانت الأموال تجمع من الأتباع ، لترسل إلى الخليفة ، أو الإمام . أما حسب الترتيب الجديد ، فإنها تصرف على أولئك الأتباع ، كذلك وضع [ حمدان ] لجماعته نظاما خاصا بهم ، حرص فيه على اختيار الدعاة ، حسب الشروط والمواصفات التي حددها فلاسفتهم ، ومنها العلم ، والتقوى ، والسياسة ، والمخاتلة ، والمقدرة على الجدل .

وقد كان لأولئك الدعاة ، دور رئيسي في أمور الدعوة ، فقد حرص [ حمدان ] على مشاركتهم في القرارات المصيرية ، واختلف في ذلك عن الإسماعيليين ، الذين كانوا يعتبرون الإمام وحده مصدر التشريع ، وعلى ذلك النهج تأسس في ما بعد [ مجلس العقدانيين ] في البحرين . وطبق مبدأ الشورى [ الديمقراطية ] عند [ أبي سعيد الجنابي ] داعية [ حمدان ] والمخلص للتعاليم الجديدة ، وصاحب أول دولة اشتراكية . والرجل الذي جعل من حلم [ حمدان قرمط ] حقيقة ، بعد أن قضى العباسيون على حركة القرامطة في العراق .

إن دولة القرامطة التي تأسست في البحرين ، وهي بلاد شاسعة ، امتدادها من البصرة حتى عمان ، يقيم فيها أقوام من جنسيات شتى، وتتعايش فيها العقائد المختلفة ، من مسيحية ، ويهودية ، ومجوسية ، ووثنية ، إضافة للإسلام . وكانت ملجأ للهاربين من ارض الجزيرة ، وبؤرة الردة على ساحلها الشرقي . كما كانت ارض الخوارج ، ومنطلق الزنج ، فلا غرابة من أن يتمكن [ أبو سعيد الجنابي ] القرمطي، تلميذ وداعية [ حمدان قرمط ] وخلال فترة لا تتجاوز خمسة عشر عاما [من 286- 301هجرية ] من بناء مجتمع عقلاني يحكمه القانون، ويبدو أن ذلك القانون [ كان قانونا وضعيا ] لا علاقة له بالشريعة . و لربما كان اجتهادا عقليا مستمدا من الشريعة الإسلامية على الأرجح ، حيث أن تنفيذ أركانها لم يكن مطبقا . فعلى سبيل المثال ، أن الجامع رغم وجوده معطل ، والصلاة اختيارية . أما الموارد الاقتصادية للدولة القرمطية في البحرين ، فكانت تتأتى من مصادر عديدة ، أهمها الضرائب التي كانت تجبى من السفن المبحرة في الخليج ، ومن تجارة اللؤلؤ ، وعائدات الشام ، والكوفة ، وطريق الحج ، إلى جانب مغانم الحروب ، وضرائب باب البصرة ، المفروضة على البضائع الخارجة منه إلى الخليج . ولم تذكر المصادر عن ضرائب فرضت على سكان البحرين ، أو محاصيلهم ، بل أن نظام الزراعة واستغلال الأراضي ، قد تحول إلى ملكية الدولة ، حسب نظام خاص لزراعة الأراضي وفلاحتها ، على أن يكون الإنتاج للجميع ، إلى جانب قيام الدولة بتوفير كافة المتطلبات الرئيسية لسكانها ، فالمسكن مؤمن ، والأراضي الزراعية تنتج كميات تزيد عن الحاجة وتكفي الطلب ، والطواحين تطحن بالمجان ، وبذلك ألغى [ الجنابي ] الملكيات الخاصة ، كما فعل [ حمدان قرمط ] من قبل . وأصبح نظام الملك جماعيا . أقول ربما اطلع الشيخ الألماني [ كارل ماركس ] على تاريخ الشعوب ، والحركات الثورية في بلاد مابين النهرين [ العراق نموذجا ] و لربما ( وهذا ليس نقصا ) انه غرف من الإسلام ومن معين القرامطة ، وثورتهم ، وجمهوريتهم ، ودولتهم التي أسسوها في العراق ، والبحرين . وليس من الضعف ، أو العيب ، بل إن من القوة تلاقح واندماج ما يخدم الإنسانية على هذه المعمورة ، من أفكار، وتجارب ، وعلم ، وفلسفة ، وكل جوانب العلوم الأخرى ، والنظريات ، لتسخير كل الخير، بما يتطلبه البناء في تقويم الإنسان ، وخاصة المستضعفين في الأرض . وهكذا كان متفقهوا شيعة العراق ، وتحديدا القرامطة . ومن هذه العبارات والدلالات ، نقول أن [ ماركس ولينين ] هم أبناء وأحفاد ل [ حمدان قرمط وأبي سعيد الجنابي ] وامتداد لهم ، فهم قرامطة الحداثة والتقدم في هذه القرون الجديدة .

ومن سنن القرامطة في جمهوريتهم الاشتراكية الأولى في التاريخ ، جمع المواشي ، والإبل ، والمحاصيل والثمار ، وتخصيص من يرعاها بصورة محددة ، وتحويل كل نتاج الأرض للسلطة المركزية . وتم تخصيص نظام مالي ، يمنح من خلاله جميع الأتباع ما يكفيهم للمعيشة . فلا غرابة إذن أن تهتز ارض العراق أمام شعارات القرامطة وأعلامهم البيضاء ، التي كتب عليها (( ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ، ونجعلهم أئمة ، ونجعلهم الوارثين ))

وعلى خطى [ حمدان قرمط ] كان [ ماركس ] وكان [ لينين ] في ثورته الاشتراكية ، التي غيرت وجه التاريخ والدنيا معا ، فهما قرامطة العصر الحديث فلسفة وتطبيقا .

ومن أفكار [ حمدان قرمط ] استمد [ أبو سعيد الجنابي ] عدم ادعائه بالنسب العلوي ، كما فعلت جميع الحركات الإسلامية قبله . ولم يعلن نفسه إماما. وعلى هديه سار أتباعه في نهج ديموقراطي ، وسلوك في غاية التواضع ، وكان[الجنابي] يدير السلطة من خلال مجلس استشاري [ مجلس العقدانيين ] ، مكوّن من ستة أشخاص ، يساعدهم ستة وزراء . وبعد مداولتهم بالأمور، يصدرون قراراتهم وأحكامهم بالاتفاق . ولأن حركة القرامطة إصلاحية عقلانية ، فان حرية المعتقد مكفولة ، وان علاقة الإنسان بربه (( دون وسيط سواء كان ذلك الوسيط أمام جامع أو حجرا مقدسا )) من هنا يمكن تفسير سرقتهم ل [ الحجر الأسود ] واحتفاظهم به في دولتهم اثنان وعشرون عاما .

في ظل هذه الأوضاع، لم يبق للسلطة العباسية إلا أن تسخر جميع طاقاتها لمحاربة (( أعداء الله والمسلمين )) كما زعموا باطلا، فشحذت أقلام المؤرخين الطبالين لتهاجم القرامطة، ليس بسبب معتقداتهم الدينية ، بل لأنهم كانوا يهددون الخلافة ، وبلاط الحكم ، ولأنهم تميزوا عن جميع الفرق الأخرى ، بنجاحهم في تأسيس دولة ، تتعايش فيها الأقوام ، والمذاهب المختلفة ، وتقوم على أسس لاقت استحسان ذلك الخليط من البشر . وأخذت تعاليمها من تراثهم ، وفلسفتهم ، ولبت حاجاتهم للحياة الآمنة .

وبالرغم من تكفير البعض لهم ، بحجة الخروج عن التفسير الرسمي للقرآن الكريم وتأويل آياته ، فان [ أبي حنيفة ] أحد أصحاب المذاهب الأربعة (( قد أفتى بالقتال إلى جانبهم ، وبمساندتهم عسكرياً )) ويعني هذا ضمن ما يعنيه أن تأويلهم للآيات القرآنية لا يبعدهم عن حظيرة الإسلام .

كانت حركة القرامطة حركة فكرية اجتماعية ، لم تتاجر بالدين ، ولا بالطائفية . وكان هدفها إقامة مجتمع تسوده العدالة الاجتماعية ، والمساواة بين الأجناس ، والألوان ، والأعراق ، وان غايتهم في إقامة جنة على الأرض ، لم تبعدهم عن إيمانهم في وجود جنة سماوية في الحياة الأخرى . وما تعطيلهم للمساجد إلا بسبب تحويلها لتكون منبرا للخليفة دون الملة ، ومركزا للدعاية له ، دون الاهتمام بأمور الرعية ، ولا بالأحوال المتدهورة ، في أنحاء مناطق الخلافة العباسية .

وهنا علينا أن نضع حركة القرامطة أمام أنفسنا لنتأملها مرة أخرى ، ولنتأمل الوجه الآخر ، الذي نرفض الاعتراف به ، أو بوجوده. حيث أن حركة القرامطة تثير قضية معرفية غاية في الأهمية ، ألا وهي تأويل القرآن. وبالتأكيد فان قضية تأويل القرآن باعتباره النص المركزي عند المسلمين ، ليست قضية معرفية فحسب وهذا هو الدرس الأكثر بلاغة ، وفاعلية ، وحياة .

فان كانت جميع الفرق الإسلامية ، رسمية كانت أم معارضة ، تدعي في حججها أنها لم تخرج عن روح النص المركزي ، أفلا يعني هذا انه ليس هناك قراءة بريئة ؟

وان لكل قراءة سلطة ؟

اعتقد أن الجواب نعم

وكلمة أخيرة في هذا السياق ، أقول : ولا اعتقد أن شخصا ما ، لديه ضمير حي ، أو حس إنساني تاريخي ، يمكن أن يغفل أن تاريخ البشرية يقسم إلى فترتين فقط كانت الأولى في العراق ، حيث انتصر الفقراء بقيادة [ حمدان قرمط ] على الحكم العباسي وأسسوا أول دولة شعبية . وعندما حوصروا انسحبوا إلى البحرين ودامت دولتهم نحو ( 124 سنة ) وكانت الفترة الثانية في روسيا ، بقيادة [ لينين ] وجموع الكادحين ، واستمرت ( 74سنة ) غيرّت مفاهيم الشعوب ، قضت على الاستعمار ، أنهت أسطورة تحكّم الأرستقراطية ، وحققت إنجازات لا تحصى للبشرية ، ثم سقطت بفعل [ التبويش ] التفريغ ، والتآكل الداخلي ، والتآمر الخارجي .

فهل ستعود يوما ؟

نعم ستعود ، ولكن بشكل إنساني أعمق ، وبإطار ديمقراطي أشمل ، ووفق ممارسات لا تبوأ القيادة فيها إلا إلى المخلصين ، فالتاريخ [ وكما تعودنا ] يعيد نفسه بصيغ حضارية متقدمة

ليست هناك تعليقات: