الاثنين، 12 سبتمبر 2011

قصة قصيرة,خطاب العرش الأخير:عادل كامل





قصة قصيرة

خطاب العرش الأخير

عادل كامل

لم تكن العواصف قد هدأت ، ولا أصوات قرع الطبول في الشوارع ، عندما استدعت الملكة كبار حكماء القصر .. كانت في الواقع تقوم بآخر محاولة لتفسير فوضى رموز أحلامها الرديئة . وهذا ما دار بخلدها ، وهي ترتدي أفخر ما لديها من ملابس القصر ، وتسير ، بهدوء غريب ، باتجاه صالة الحكماء . تلك الصالة التي دخلتها قبل نصف قرن ، لمعالجة أحزان القلب الغامضة .
حدقت في وجوه الحكماء .. كانوا ثلاثة .. وكان كل منهم يحسب ألف حساب لهذا المساء الأخير في حياة ملكة الملوك ، التي حكمت البلاد ، مائة سنة وعشر سنوات إضافية .
قالت بصوت واهن ، إنما لا يخلو من إنذارات :
- لم تعد لدينا مشاكل تذكر .. إنما تقدم العمر بي ومضى كأنه لم يكن .. وتلك مشكلة لم تعالج . في الواقع كنت أحلم ان أبقى فلاحة ، أزرع الأرض ، في مكان خالٍ من الصخب ، بدل هذا الشعور المؤلم بالعجز والوهن .
ووجهت السؤال إلى البروفسور الأول :
- فماذا فعلت ، أنت ، أيها الأحمق ، لحل مشكلات الألم السعيد ؟
لاشيء .. لاشيء .. عدا الألم ألا بعد الذي يجعل النهايات متساوية في الأخير . هل أخبرت الكاهنة ، وأجهزة التذكر الضوئية ، بالعجز الأزلي لعقولنا بسبب التصورات الكسولة ؟ لم تفعل شيئاً يذكر ، باستثناء تحسن النوع البديل ، ولكنك أهملت بتكاسل القضايا الكبرى .
سكتت ، صاحبة الجلالة ، بإشارة من الجهاز الذي كانت تراقبه ، ويصدر لها الإشارات . وكان البروفسور قد تلقى الكلمات بخيال مرح ، ورحابة .. فقد كانت (( أم البلاد )) و (( القمر الأبدي )) و (( منقذة الإنقاذ )) تجد سلواها بهذه الكلمات مع خاصتها . أجل . قال لنفسه ، بحيل لا يكتشفها جهاز كشف الضمائر ، أنها أعظم داعرة لا تقل سوداوية من الموت في مستنقع ، ومن الزواج بحمقاء واحدة لا تجيد ألا تحويل الذهب الى تراب . أجل ، أنها المقدسة ذاتها التي يمر عليها الزمن مرتجفاً . وأسكت عمل العقل عنده ، ليتفحص محياها ، في مساء السخط والعواصف والحرب الغامضة التي لا تريد ان تضع أوزارها ، ليصدم وهي توجه الكلام أليه :
- لقد آن أوان أن أتخلى عن هذا العرش ، تصوّر ، أيها الطبيب الفذ ، تصوّر .. لقد آن أوان أن أموت .
ثم ضحكت . ووجهت خطابها للحكيم الثاني :
- تصوّر .. أني لن أبقى ألا .. ذكرى .. كلمات في سجلات هذه المملكة الفاسدة . تصوّر ، سأطوى كما تطوى الصفحات .. ها .. ها .. تصوّر .. أيها الأخ الذي كشفت له أم البلاد خفاياها ، تصوّر ، أني ، أني أنا ، أني التي حكمت بالعدل العادل ، مائة سنة وعشر سنوات ، سأدفن ، مثل بقرة مجنونة ، مثل أية أرملة شمطاء ، مثل أية شاعرة لم يسعفها الجسد باستئذان دخول شياطين الجمال المر . قل لي ..
ورفعت صوتها :
- ألا ترى ان الشعر أكذوبة . ؟
قال وهو يعالج دوار الرأس الذي يفقده الوعي :
- يا جلالة الملكة ، لم أشتغل ألا بمعالجة أمراض الجسد .. ولم أشتغل بمعالجة أمراض الكلام
تابعت ساخرة :
- المشكلة التي كادت على إمبراطورية عظمى ، مثل إمبراطوريتنا ، ان تغيب ، أمسكت بها أنا .. تلك هي مشكلة الكلام والكتابة ، بعد ذلك .
وقالت وهي تغادر كرسي العرش ، وتقف أمامه :
- أني أموت أيها السيد .. أيها العبد . وهذا هو آخر يوم لي في الدنيا . أي أني سأسلم المملكة لولدي العجوز المخرف الذي ينقب في ذاكرة الهواء . أصغ : ألا تعتقد أني مصابة بداء الحب .. وليس بأي ذهان أو بأي مرض من أمراض بلور الفضاءات .
أجاب بتردد :
- الإمبراطورية بخير .. وحبك لمليارات الذرات الحية هو سر خلودك .
- ولن أغادر.. ؟ وصرخت :
- ولن أذهب أرقد وحيدة تحت التراب في هذا البرد ؟ ولن أذهب جثة هامدة والحرب مشتعلة .. ها .. أيها الولد العاق أني لم أعد محاربة .. ولا أحد سيصدر أوامره الى الفرسان .. ولا أحد سيصنع للناس الأبرياء الأعياد . تصوّر ، أن الموتى سيدفنون فوقي .. بل وستدفن الماشية .. والكلاب .. ثم ، بعد ذلك ، تولد الأشياء الأخرى .
عادت الى كرسيها . وقالت تخاطب نفسها :
- كان عليّ ان أكون شاعرة ..
لكن الجهاز أشار لها بكلمات دارت بخلدها [ (( كنتِ أعظم شاعرة بالكلمات وبالصمت . من ذا الذي حكم ألف عام ومائة عام مضافة ؟ من ذا وضع أسمه في كل مكان . )) – (( من ذا كان قد حول الهواء الى مسرات ؟ ومن ذا الذي لا تصفق له الأبدية الى أبد الآبدين .. )) ]
- أجل .. هذا الجهاز غدا يكذب عليّ .. مثلما تكذبون عليّ ، في عقولكم .. أتعرفون ماذا قال لي ..
صرخ الجهاز :
- إنذار .. إنذار .. إنذار .
وساد الصمت .
قالت وهي تستعيد ذاكرتها :
- أه .. أيها البروفسور .. كنت أتحدث عن اللغة .. وعن الحب .. وهي مقارنة مقرفة لديكم أيها العلماء .. ولكني أشعر أننا كنا غير جادين في إدارة شؤون الوعي .. مثلما كنا في معالجات قضايا التسامي . لقد كنت أعتقد أني خالدة .. بينما اكتشف الآن أني مريضة بالحب ! امرأة تسلمت دفة القيادة وهي في الأربعين ، وحكمت ألف ومائة عام .. تشعر أنها ، كانت لا تعرف لماذا لم تصبح فلاحة أو شاعرة .. بدل ان تشغلها مشاغل حكم الحكم ..
وصرخت :
- كأن العواصف وحدها تعرف ذلك .
وساد الصمت برهة ، ثم قالت متابعة :
- ولا أحد سيقود الجند الى النصر . ها .. لا تسخر أيها الحكيم الثالث ، حكيم قلبي ، لا تسخر وأنت تقول لنفسك : ان المملكة هي التي تترنح . فأنا أسمعك ، أسمعك الآن تقول ، أني أترنح . كلا : أني للحق أعيش الدور الذي لم أعشه من قبل .
ثم سألته :
- نولد ونموت .. ونموت ونولد .. قل لي ماذا فعلتم لحل هذه المشكلة . ؟ ألم أقل ، قبل قرن ، لا نريد ان نموت ..
لم يجب . فقالت ، على غير عادتها ، بهدوء :
- أنا التي تموت الآن .. أيها الجنرال .. لكنك لم تفعل شيئاً . كنت لا تبحث ألا عن ثروتك .. وأخيراً علمت أنك تنصلت عن الواجب .. ألم أقل لك أننا لم نكن نفكر ألا بالشعب المتمتع بذكاء كبار الآلهة .. أنا لم أتطرق الى المستحيلات – وسأتكلم عنها اليوم ، قبل ان أدفن تحت أقدام الكلاب السائبة – أي أنك ، دفعت بالسكان الى الاستسلام بعيداً عن الشك الذي عذبني ..
نهض وركع أمامها :
- أبداً .
وأسترسل :
- لقد كنت أؤدي واجبي بأمانة . لكني كنت أفكر ان لا تموت الذكرى ، وان لا تمحو الأسماء الاسم ..
- ها .. وان لا تُمسح أقدامنا من فوق الرمال .. أيها الولد ، هذه هي الأكذوبة .. ولكي لا تشعر بالفزع ، قبل ان يحل أوانه ، أقول لك : لا أسماء هناك .
وضغطت على زر بالقرب منها ، ثم عدلت من جلستها ، وقالت للحكماء الثلاثة :
- أني سأرحل .. في هذا اليوم .. وهذه ليست مشكلة مملكة كبرى .. أو مشكلة إطلاقاً . ان الوعي يبحث عن بؤس آخر .
وقالت بمرح ، وهي تنهض من كرسيها :
- أنا أسأل نفسي ، يومياً ، منذ قرن ، لماذا لم ابق فلاحة وصرت ملكة .. ولماذا لم أمت ، مع مليارات الموتى ، بدل إثارة هذا السؤال : ما جدوى اختراع الأسئلة إذاً كنت أقدر ان أنحدر مع الغروب الى الصمت ؟ والآن أيها السفلة آن أوان قتلكم . أنت .. الأول : هل لديك كلمات أخيرة :
- أبداً : الذاكرة صماء . فأنا تعلمت ان لا أتعلم . ففي الحرب الكبرى علمت الجند الواجب الأول : الحرب هي الحرب وهي الكرامة . وعلمت نفسي ان لا أشك بهذا الواجب ، ما قبله أو ما بعده ، وقلت : الذاكرة محض استثناء لعمر مكبل بالخرائب . أجل يا جلالة المقدسة ذات الصولجان الشامخ ، لا يوجد ألا ما لدينا من كثافة كل الباطل في هذا الحضور ، هنا ، لديك ، وتحت ملكات الوعي ألا بعد للإنقاذ . أجل ، أننا تعلمنا ان نحتمي بظل شجرة لهذا القصر من أجل وهم حماية الوهم الأكبر . أني يا سيدة النجوم والقلائد والثروات القادمة تعلمت ان يكون سلسلة من الأستئذانات .
عاطت :
- أيها المؤرخ .. أنا لم أمت بعد .
- لم اقل ذلك . في الواقع لا يوجد موت بالمرة ..
- أيها الجرذ .. تعال .. أني أود أن أنتف لحيتك الطويلة .. بل أود ان أراك تتلاشى مع الهواء . لكني لن أفعل ذلك الآن . بل أسأل نفسي : لماذا كذبتم عليّ كثيراً . آخ : أنا أعرف ذلك كله . فقد كانت مخلوقاتي توازي وهم اللغة والكلام . مع ذلك لا أغفر لك .. فماذا تود ان تقول ؟
- بالدقة .. لا بد ان يلقى خطاب العرش .. أما بصدد القضايا التي تخص حياتي .. فأنا .. يا جلالة الملكة ، سأغادر ، حالاً .. ولا قدر ، ألا له قدره ..
قالت :
- أذهب .
لكنها ، قبل ان يغادر ، كانت أمرت ان يمنح آخر أعظم أوسمة البلاد حتى أنه – كما ظهر في شاشات التلفاز – يسير منحنياً .
قالت للثاني :
- وماذا عن النصر إذاً ؟
- لقد حسم منذ زمن بعيد ..
صرخت :
- أيها الخائن .. من ذا الذي حسم الكلمات ؟ لقد كانت الحياة لعبة ، لكنها لم تكن جميلة لتسكت ضوضاء السكان . أنا عشقت الهواء والمزارع .. وبسطاء الناس .. ثم جاءت هذه الأجهزة .. وأعترف لك أني خربت أكبر وأعظم شبكة صنعت حتى الآن .. أجل .. خربتها بنفسي .. وأمرت تدمير كل تلك الضمائر التي تراقب الضمائر .. بل وخربت العقل الكلي لهذا الخراب .. فماذا تقول ؟
- سيدتي .. سأغادر .. سأذهب الى الفرن .. وأستسلم لموتى .. فأنا هو العبد المخلص لإسراره .
ثم قالت للثالث : والآن .. ماذا ترى . ؟
- يا جلالة الملكة .. أننا نستطيع ان نعيدك الى الحياة : نركب لك العظام ، والذاكرة ، واستلام التوجيهات الجديدة ..
سألته بحذر :
- ماذا قلت ؟
- قلت أننا نستطيع ان نعيد لك الحياة ، سنة بعد سنة .. وعقد بعد عقد .. وقرن بعد قرن ..
وضحك متابعاً :
- ولا يقترب منكِ الموت ..
ضحكت ، قائلة :
- أنا لا أريد ألا ان يقترب مني هذا الشبح . لأني لا أريده أن يزعجني هناك ، في العالم الأخر .
- لا أبداً .
لكنها تابعت آمرة :
- هو ذا قدرك ..
- أعرفه .. فأنا كنت أومن به منذ البدء . لكنها نادته :
- وقلبي .. قلبي .. ؟
ورفعت صوتها بغضب :
- قلبي الذي سيكف عن إصدار الأوامر .. قلبي الذي عشق هذا الوجود ، ماذا عنه؟
- أنه يدور .. يدق .. يعمل مثل نجمة .
- مثل …
وكانت وحيدة : دائماً ، يأتي الموت خاتمة للاحتفالات .. يأتي ليعدل وهمه ، بوهم أبعد . وتناولت شراب الأرض المسكر ، وذاقت الكروم والثمار كلها ، واستعادت مجد الأتي من الزمن ، وكان عليها ، وهي تراقب الزمن ، المتحرك في ثباته ، ان تلقي خطاب العرش ، الخطاب الأخير للأمة . لكنها قالت لنفسها ، وهي تقف أمام المرآة المزركشة بالأزمنة والآثار الروحية :
- أنهم غادروني بلا أسف .. والآن لا أحد لديّ ، في عزلتي .. مع هذه اللحظة التي حاولت ان أتجانس معها ، وأتوحد ، وأقول : وداعاً أيها التطابق ! وداعاً أيها العالم .. أيها الوهم .
ثم أفاقت . وطلبت وزيرها الخاص بها ، وأمرته بإحضار الحكماء الثلاثة :
- لكنهم ذهبوا إلى الهواء . ماتوا يا جلالة العظيمة .. يا أمنا في الزمن كله .
- ماتوا .. من أمر بقتلهم .. ؟
- أنت .. يا جلالة الملكة .. أنت قلت لهم ان يغادروا الدنيا ..
وقالت لنفسها : لم يعد لديّ أي كلام . وهو ذا الذي كنت أعرفه منذ البدء .. فلكم قلت لنفسي : عندما لا يكون هناك أي كلام .. فما معنى ان نتكلم ؟ آه . أني لست حزينة وأنا أغادر هذا القصر القيد ..
طرقت الباب . قالت : أدخل . وكانت تعرف ان أبنها الوحيد هو الطارق . قالت له : كنت أعرف ذلك .
وجلس بهدوء ، ولم يتكلم . قالت :
- أيها العجوز .. هل تستطيع ان تحكم هذا الشعب ..
رفع رأسه قليلاً وقال بلا مبالاة :
- نعم .. فأنا علمتني الحكمة ان تأليف أكبر وأعظم كتاب أيسر لي من تربية طفل ..
- ماذا تقول .. يا ولي العهد ؟
- أقول : ان إدارة دفة الحكم أيسر لي من قيادة سفينة صغيرة في بحر !
صرخت :
- يا آلهتي أني أموت لأسباب وهمية .
ووجهت كلامها أليه :
- وماذا تريد إذاً ؟
- أريد ان أعود الى كوخي القديم ..
وكادت تفقد الوعي . لكنها أمرت ان تعاد الحياة الى الحكماء الثلاثة . وجاءوا حالاً . قالوا بصوت موّحد :
- نعم .. هل من واجب لم ينفذ بعد .. ؟
- نعم .. أننا سنذهب الى الموت معاً . فالدولة انتهت ..
قال الأول : أنه الجنون .. فالدولة ستبدأ .
وقال الثاني : بل الحياة ستبدأ مرة ثانية .. وثالثة .. بعدنا .
وقال الثالث : ولا أحد يتذكر أحد .
نهض ولي العهد وقال لكبير القصر : أقبض على الجميع .
قالت الملكة : لكني لم ألق خطابي الأخير .
قال بصوت هادئ : تم أعداده ، يا جلالة الملكة ..
قالت : وهل هناك ملكة تتكلم باسمي .
قال : نعم .. هناك الشعب كله ..
ثم راحت تضحك بجنون : يا ولدي كان عليّ ان أعترف لك قبل ان تتكوّن : أنا كنت قد دفنتك قبل ان تولد .
صرخ ولي العهد :
- كذب .
ثم طلب من كبير أمراء القصر بحجز الأربعة ، في قفص واحد . قالت الأم :
- أنت معنا .. ألا تعرف .. أنت تعمق موتك ..
- أعرف .. مثلما كنت أعرف تاريخك كله .
[ (( ليس لديّ تاريخ محدد . فأنا ولدت ملكة وقلت : سأموت ملكة . جاء هذا الولد الوحيد يحدث الاضطراب .. وقلت : حسناً .. ثم عالجت مشكلاته . تركته يتحرر من فزعه . لكنه كان يخطط لعالم آخر . وتلك بديهة . أنا نفسي لم أصنع مجد الألف عام ومائة عام ألا بالسياق نفسه . وقلت للسكان : الخطر يوّحد الكل ، ضد الخطر ، وليس ضد الكل . قلت التاريخ لن يبدأ ألا عندما ينتهي التاريخ . لكن هذا العجوز آمر بحرقي في سجون الملفات السرية .. فلا أحد سيطلع على تاريخي ، ولا يتعرف ، على مجد النوايا التي حكمت بها ، لإنقاذ رعيتي من الهلاك . ثم ها أنا هالكة وحدي بعد فشل إطالة عمر الوهم . لا تاج هناك ولا وزراء ولا عبيد . هناك الصمت الوحيد الذي كف عن التصفيق وأعلن ، بهدوء الحكماء ، ان الخلود ليس بحاجة إلى كلمات )) ]

ليست هناك تعليقات: