قصة مشتركة
الشاطئ
حوا سكاس و حمودي الكناني
لم يكن
ينوي الانتظار طويلا عندما أحس بالضجر الذي بدأ يساوره مع كل دقيقة تمر، فراح يبحث عن مكان يتأمل فيه الساعة التي يتم فيها
اللقاء. حزم كل شيء يمكنه من مداعبة المكان
وأخذ يتمشى على مهل.
رمال تتكسر عليها أشعة الشمس المائلة، نوارس تحلق هنا وهناك، تطلق صرخات حادة،
صافية. البحر تداعبه نسيمات عليلة، فيتحرك ليتكور
أمواجا تضرب بعضها البعض برفق، وتتحطم على شاطئ البحر متناثرة، تنتهي في مكان ليس ببعيد عنه، ففضل أن يمد قدميه ليحس
بملاطفة الموج لهما.
انحنى قليلا يصغي إلى همس البحر، يلامس الأمواج المتكسرة تحت قدميه. مد نظرة طويلة
نحو الأفق البعيد والسماء المتعانقة مع البحر،
وساءل نفسه: ترى، هل ستوفي بوعدها له؟ هل ستأتي إلى الموعد المنشود؟ آم انه سيبقى ينتظرها ويتأمل لقاءها؟
إلى متى؟ إلى متى أنتظرك أيتها الجميلة الساكنة في قلبي منذ الأزل؟ يسأل نفسه مرارا
وتكرارا دون أن يدرك الجواب. غيابها يعصف
به في غمرة الشوق الذي يدب في عروقه، يجعله هائما في دوامة أفكاره وهواجسه، يبعثره كورقة متناثرة في أرض قاحلة، حزينة،
ويكاد يغلبه اليأس.
انسدلت الدقائق كالساعات الثقيلة، البطيئة. حملق في السماء، فرآها قد
رسمت له حروف اسمها بألوان الغسق الجميل، ففكر في
نفسه: من أي كوكب أتيتِ لتزرعي حبك في روحي بطيبتك، بنقائك وشفافيتك؟!في الأفق،
انحنت الشمس إلى مغربها، وصبغت الكون بخيوطها السحرية الحمراء والصفراء الداكنة، شقّت طريقها نحو الليل، وأخذت
العتمة تتسلل إلى كل الجوانب. يا للخسارة!
ها هو موعد آخر ينقضي دون أن تأتي.الخيبة تغلغلت في أعماقه
مرة أخرى، والحزن اجتاح كيانه بينما
كان يستقيم في وقفته ويهمّ بالذهاب.و فجأة...كاد لا يصدق ما ترى عيناه! إنها هناك.. في البعيد.. واقفة خلف الأشجار. لا بد أنها
هي. يكاد يجزم بذلك، رغم أنه لم يلتق بها
أبدا من قبل، ورغم أنها بعيدة. ولكنه أحس كأنه يعرفها جيدا، يعرفها بقلبه.
وقفت هناك ساكنة، مشرقة، متألقة. وبعد لحظات... تحركت نحوه بخطى بطيئة، مترددة. ريح
خفيفة هبت وداعبت خصلات شعرها المتموجة،
الطويلة، المشعة بانعكاسات الشمس الحمراء، الصفراء. وقفت قبالته، عيناها العسليتان، الجميلتان، ترمقانه بنظرة رقيقة،
نقية.وقف يتأمل وجهها، حلّق في
بحر عينيها، تذوّق طراوة شفتيها،
وتحسّس نضارة وجنتيها بعينيه. أراد أن يمد يده إليها ليتأكد من حقيقتها... و لكنه بقي جامدا في مكانه، ولم
يثن عنها عينا. انتظرتك طويلا.
- أعرف. أنا آسفة.
- المهم إنك هنا الآن.
- أتظن
أنها خطوة حكيمة؟
-ولِم كل هذا التردد؟
- مدينتنا
لا تجعلنا إلا مترددين... خائبين...
ميتين.
- أحبك بعيدا عن مدينتنا
التي أشبعتنا خيبة وقتلا وخرابا.
- إذن،
عليك أن تعرف شيئا.
- قولي.
- ... سأرحل.
- ماذا؟؟؟؟؟
- أنت
قلتها بلسانك. لم تعد هذه المدينة لنا.
يجب أن أرحل.
- إلى
أين؟
- لا
أدري. إلى أي مكان يحسسني بذاتي. ربما لهذا ترددت كثيرا
للقائك.
- لا
أتخيل أن تكوني بعيدة عني بعد كل ما كان
بيننا.
- ستنساني.
- كيف
أنساك وقد أصبحت الدم الذي يجري في عروقي
وأنفاسي التي تتردد في صدري؟؟ لا ترحلي. دعيني أعيش قرب حسنك الفتان. لا تتركيني لوحدي هنا.
- عليّ أن
أرحل. أنا آسفة.
طوقته بنظرة أخيرة.. حزينة.. مودعة.. واستدارت للذهاب... للرحيل... للأبد.
أحسّ بالحزن الذي يداهم صدره، يجتاحه كالطوفان.
كيف ترحل؟ ماذا سيفعل من دونها؟ كيف سيقضي لياليه دون أن يسمع صوتها الليلي،
الهامس،
الناعم كنسمة النقاء التي تلفح روحه وسط الخراب والصخب الذي يعيش فيه.
- انتظري!
ناداها بصوت عال، قلق، قبل أن تبتعد كثيرا.
توقفت... توجهت إليه.
ركض إليها... اقترب منها.
- خذيني معك. لا تتركيني
هنا وحدي دون أمل ولا حلم.
مدت إليه يدها.
- تعال. دعنا نذهب إلى أي
مكان يحترم إنسانيتنا، نجد فيه بعض الأمان، ونحقق فيه بعض الأحلام.
يدا
بيد، ها هما الآن يبتعدان عن الشاطئ...
عن اللا أمان... اللا معنى... ويرحلان... إلى حيث لا يدريان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق