الجمعة، 28 أغسطس 2015

قصة قصيرة- حافات: عادل كامل

 قصة قصيرة


 حافات


عادل كامل


     بعد أن راقبه لزمن غير قصير، قرر الهدهد أن يذهب إلى الذئب، لعله يفك لغز ركونه إلى الصمت، ومعرفة أسباب اعتزاله. فوقف بجواره داخل القفص الكبير، وكما توقع الهدهد إن زيارته ستكون خالية من  اللياقة، وفيها الكثير من الفضول، فقد مكث الذئب ينظر بشرود إليه غير آبه لوجوده الغريب، وغير المبرر، بمحاذاته، وعلى بعد مسافة قصيرة عن عشه، وذلك لأن الهدهد، لم يره فتح فمه بشكوى، أو طلب  مرحمة، أو تظلما ً، ولم يره تذمر أو استنجد، ولا حتى نمت عنه رغبة بطلب الغفران. كان يمضي جل وقته نائما ً أو كالنائم، وبين مراقبة الزائرين، والغرباء، بلامبالاة تعزز رغبته بالصمت، حتى لم يسمعه عوى، أو اخرج صوتا ً عند تناوله للقليل مما كان يلقى له من الطعام.
    ولم يجد الهدهد وسيلة للدخول في حوار معه، فقد شاهد كيف أن الذئب لم يفتح فمه أبدا ً لا مع من كان معه، في القفص، ولا مع من حاول استفزازه، أو استنطاقه، من الآخرين، ولا حتى مع الطبيب، الذي عجز عن سبر سر هذا الموقف الغريب، فلم يجد لديه إلا رغبة أن يشاركه الصمت، وعدم بلبلة فكره بتأتات أو همهمات أو خشخشات لا فائدة منها إلا لهدر الوقت، فأغلق فمه، مكتفيا ً بإرسال نظرات قرأ فيها الذئب إنها غير قابلة للإفصاح عما تخفي، بعد أن وجدها غير شريرة إلا بما يوازيها من فضول سمح له بتبادل النظرات وعقد روابط قائمة على قراءة ما يدور في الذهن، وفي الجسد. فدار بخلد الهدهد انه لا يجهل شراسة الذئب وقوته ومكره طوال الفترة التي أمضاها في البرية، قبل أن يتم أسره، ووضعه في القفص، إنما كان ذلك قبل سنوات بعيدة...، ذلك لأن الذئب، بعدها، اكتفى بحياة الأسر، في منفاه، من غير عواء أو عصيان.
   حدس الذئب ما دار برأس الآخر، فسره أن يجد شريكا ً لا يعمل عملا ً قبل النظر له من الجهات كلها، مع انه لم يستنتج بان نهاية ما مغايرة قد يتخذها الهدهد، غير الابتعاد، والعودة إلى عشه. لكن الهدهد وجد أن حياة الذئب شبيهة بحكاية المخمور الذي التجأ إلى زريبة النعاج والحمير طالبا ً الحماية، والتخفي، تذكر الهدهد صوته الخفيض وهو يتضرع للنعاج والخراف بإخفائه بعد تهديد زمرة كانت تنوي قتله، فسألته إحدى النعاج: وماذا فعلت...؟ فلم يجب المخمور، لأنه وجد طمأنينة أدت به إلى فقدان الوعي، وما أن آفاق، في اليوم التالي، حتى غادر بهدوء من غير أن ينطق بكلمة، فتعجبت النعاج والحمير والخراف من حكايته، ولم ينشغل أحدا ً بفك لغز لجوءه إليها وهربه متسللا ً في اليوم التالي....، ذلك لان الهدهد شاهد كيف تم إلقاء القبض عليه، والدوران من حوله، ثم قتله، ورمي جثته إلى التماسيح، من غير أن ينطق بكلمة. لا يعرف الهدهد لماذا تذكر المشاهد المؤلمة وكيف راحت توخزه محدثة ألما ً في أعلى رأسه، ففطن الذئب للذي يحدث له، فرفع رأسه ثم أعاده إلى الأرض، ولكنه لم يجد وسيلة لمقاومة شعوره بالألم الذي يعاني منه الهدهد، فهو ـ دار بخلد الذئب ـ لا يقدر أن يمنع حدوث ما حدث، ولا يستطيع أن يتجاهل تأثيراته عليه أيضا ً. فالألم هنا ـ دار بباله ـ بليه تكاد تكون فائضة، مع إنها اشد وقعا ً من الحدث نفسه.
    فخطر بذهن الهدهد أن يحفر في الأسباب التي دعته لمعرفة مبررات صمت الذئب، بعد سنوات طويلة قضاها زعيما ً لعشيرة الذئاب، وسنوات أخرى عاشها مرفها ً في الحديقة، وهل ثمة ضرورة لم يقدر أن يتلافاها ويبقى بعيدا ً عنها، منشغلا ً بحياته الخاصة ...؟ لم يجد ردا ً، لأنه بدأ يتلقى ومضات من رأس الذئب تخبره أن النهايات كافة تذهب ابعد من محاولة الإمساك بها، فهي مبرمجة بأسلوب لا يدع من يراقبها  إلا أن يتتبعها ليجد إنها خارج أية خلاصة يظن انه استنتجها أو أدركها. كاد الهدهد يعلن عن نصر ما في العثور على مبرر لا يدعه يوغل في فقدان اللياقة، بإرباك حياة ذئب عجوز اختار عزلته، ذلك لأنه شعر بألفة ما معه...، كلا، قال انه عمليا ً مازال يفكر مع نفسه، وليس مع الآخر، فثمة لذّة سمحت له بمراقبة جسد الذئب النائم، والتسلل إلى المناطق البعيدة  التي يتجول فيها، رؤيته وهو يحلم بمراقبة ما مضى وما هو قيد الغياب، وانه ـ فظن بحرارة ـ لم يعد يؤدي الدور الذي طالما افسد عليه أحلامه، وأربك ضميره، حول فك العبور إلى المناطق المحرمة، والتجسس على نوايا الآخرين، فانا ـ كاد ينطقها بصوت مسموع ـ وجدت الأمر لا يقاوم طالما الأحداث تأخذ مسارات ملتوية، متقاطعة، ومتعرجة تجعل نهاياتها غير قابلة إلا للشروع بتدشين مسارات أخرى...
    ضحك الذئب رغم بذل جهد لاستحضار حالة المرح...، لأنه لم يصدق أن يجد آخر شبيها ً به تساوت عنده الأبعاد...، والحدود...، فوجد الهدهد فرصة لتبديد حاجز الصمت، فقال:
ـ مع إنني جئت بدوافع اجهلها....، فلا تظن إنني سأسألك لماذا اخترت الصمت...، ولماذا بادلتني هذه الابتسامة، بل الأمر يتعلق بقضية إن كلانا أدرك إنها خارج حدودنا....، فلا أنت بلغت ذروتها، ولا أنا استطيع تركها تحدث من غير ....
فقال الذئب بصوت مرتجف:
ـ عندما عشت في البرية تخيّلت إن نهاية حياتنا ـ هناك ـ لا علاقة لها إلا بنا....، ولكن عندما أسرونا، وقيدونا بهذه الأغلال، فقد شعرت إن الحرية  هي وحدها الوهم العنيد الذي  لا يدعنا نفقد حصول المعجزات.....، بالعودة إلى بريتنا!
قهقه الهدهد:
ـ لكن ليس هذا وحده هو الذي دفعك إلى الصمت...؟
ـ ها أنت تعود إلى السؤال الذي شغلك ومازلت بحثت عن إيضاح له...
ـ وماذا قبله..؟
ـ ليس هو المخمور الذي وقع بيد القتلة وهم يطلبون منه التوبة...، حتى قال لهم: توبوا انتم أولا ً من القتل  فانا لن اضطر إلى تدمير عقلي!
ـ آ ....، هل شاهدت ما حدث...؟
ـ وشاهدت ما هو أفظع....، لأن حديقتنا، يا سيدي، لم تعد الحياة فيها محتملة...
ـ ها أنت عدت تحلم بالعودة إلى الصحراء...
ـ أخبرتك ...، إن معجزة الخلاص من هذه الحديقة والفرار منها بحاجة إلى معجزات...
ـ ولهذا اكتفيت منشغلا ً بالأحلام...؟
ـ حتى الحلم بحاجة إلى أحلام تسمح له أن لا يدعك تموت...!
ـ الحلم بحاجة إلى معجزة...، والمعجزة بحاجة إلى حلم...، مثل قولنا لولا الباطل لما عرفنا الحق، ولولا الشر لما وجد الأشرار، ولولا الخطيئة لكانت البراءة صفر، أو وهما ، أو بلا وجود!
ـ بل هي تحديدا ً ذروته!
ضحك الهدهد مسرورا ً:
ـ استطيع القول أن كل ما يحدث هنا يقود إلى الصمت...؟
ـ ليس ما يحدث...، وليس ما سيحدث، بل ـ بالأحرى ـ  كل ما حدث لا يدعك إلا أن تكون مشاركا ً فيه...، فالشمس التي تتغنى بها الكائنات، هي، في الأصل...، من استحدث العفن...، هذا العفن، حياتنا برمتها!
ـ آ ....، أين ذهبت...؟
ـ لا..، أنا لم اجتز المحرمات...، ولا الممنوعات...، فانا، مثلك، مقيد  بهذا الذي يسمح لي أن أكون طليقا ً. فانا لم اكفر، ولم أجحد، ولم اعص، ولم أصر زنديقا ً...، لأن صمتي ذاته هو جزء من اللعبة...، أو قل: القانون!
ـ هكذا ...، يا شريكي، يصبح الواضح ملغوما ً...، والبسيط معقدا ً، وهكذا تختلط الحقائق، فيصير الأسفل أعلى، ويتحول الجور إلى عدالة...، فهذا يزعم أن الحقيقة هناك، وآخر يقول انه وحده يمتلك سرها، ولكنك عندما تعيد النظر في ما حدث ـ ويحدث ـ تكتشف إنها لم تكن هناك، ولا هنا...، ففي البرية كنتم تولدون وتموتون من غير ضرورة لمعرفة لماذا كنتم تموتون ولماذا كنتم تولدون...، أما هنا ـ في هذه الحديقة الغناء، الشبيهة بالفردوس، بل الأكثر شفافية منه ـ فالأسئلة توّلد الأسئلة، مادامت إجاباتها تنفي الإجابات، فإنها تكون شبيهة بالذي خلق الظلمات وقال كافحوا أن لا تسوّد وجوهكم، ومثل الذي يلقيك في المستنقع ويقول لك لا تتوسخ، بل وشبيه بمن خلق الشر قال انجوا فهذا امتحان للضمائر! لأنك، حتى عندما تمسك بالمعجزة التي تسمح لك بالحلم، وحتى عندما يأتي الحلم لك بالمعجزات فانك تدرك استحالة خلاصك من اللعبة، ومعناها، لأنها تكاد تجري خارجك، مع انك وحدك ضحيتها!
ـ قلت الفردوس ...، ولم تقل: الجحيم...؟
ـ لانك، مثلي، لم تعد تجد فجوة بينهما، ومثلي، لم يعد يسرك ما يسرهم، ولا ما يؤذيك يؤذيهم، فالبهائم او الانعام او المخلوقات عامة تولد كي تتقدم، وكي تخطو خطوة الى أمام، لأنها كلما تقدمت، كما تقول الحقائق، تزداد تخبطا ً بين الرجوع إلى بذرتها الأولى...، وبين ما هي عليه، عند خاتمتها...؟
ـ آ ...، أين ذهبت؟
ـ تقصد...، كم ارتددنا، وعدنا إلى ما قبل نشوء بذرة الخلق!
ـ مع انه لم يعد يعنيني التقدم، أو الارتداد، ولم يعد يعنيني ما إذا كان النهار خرج من الليل أم أن الليل خرج من النهار...، إلا إنني أراك أخفيت علي ّ، مثلما على الآخرين...، بل وانك أخفيت الأمر على نفسك...، سر انتظار معجزة تديم وجودك وأنت تمضي ما تبقى لك بين الحلم وغيابه...؟
ضحك الذئب بصوت أعلى:
ـ أنا لا انتظر معجزة ما، لسبب بسيط، هو لأنها قد وقعت! ولا انتظر شيئا ً ما لأنه بحكم ماضيه...، لهذا لم يعد لدي ّ إلا أن امضي حياتي بعيدا ً عن ـ نفسي ـ قبل أن أكون بعيدا ً عنكم....!
ـ هكذا ... تكون مثل الوليد الجديد إن صرخ جذب الأعداء والمفترسين إليه، وإن ركن إلى الصمت فسيكون بعداد الموتى ...، ويرحل وحيدا ً كمن لم يمتحن، أو يعاقب بالخروج!
ـ دعنا لا نختلف...، أرجوك، فأنت وأنا، لم تعد لدينا فواصل بين الحدود...، فالذي يذهب سيأتي، والذي يأتي سيذهب، فما من دورة إلا وهي جزء من دوره....، إن اتسعت فإنها ستتقلص، وتنكمش، وإن تقلصت وانكمشت حد الصفر فإنها ستنفجر! وخير مثال تعرفه، واعرفه، أن اكبر الشموس لا يقدر أن تحافظ على وجودها...، مثل الطاغية لا يدوم طغيانه إلا بديمومة الظلم...، والقانون لا يسمح بمثل هذه الديمومة، لأنها لا تستطيع أن تدوم!
عاد الذئب إلى الصمت، فخاطبه الهدهد:
ـ ها أنت تتحرى ـ في ذاتك ـ عن لغز القفل...، وليس عن لغز المفتاح...؟
قال بعد أن امتد صمته لزمن غير قصير:
ـ ها أنت تعمل العمل الذي بلغ ذروته!
ـ التفكير...؟
ـ لا! بل أن تفكر انك لا تستطيع إلا أن تفكر؟
ـ لو كان هذا، يا سيدي، حكما ً سليما ً  فان ما من قفل بلا مفتاح، مثلما لا بيت بلا باب، ولا سفر من غير مسافر...؟
ـ ها أنت، أيها الهدهد، تتحرى، وتنبش، وتبحث عما كنت أخفيته عنك...؟
ـ تقصد عن نفسك؟
ـ أحسنت! لأنني لو كنت اعرف ما في نفسي لعرفت ما في نفسك..؟
ـ وهل لي نفس، وهل تبقى منها شيئا ً، وأنا أوشك على الرحيل؟
فكر برهة:
ـ أنت جئت تنبش في قبر بائد، كالنابش عن الجمر في رماد،  وكالباحث عن ملاك في مستنقع، وقد كان الأجدر بك أن تتحرى عن فضولك هذا في نفسك قبل أن تبحث عن هذا الذي لم يعد له وجود...؟
ـ عدنا إلى القفل والمفتاح...، فأنت لم تختر صمتك إلا بعد أن أعياك العواء، والصراخ، والكلام...؟
وسأله:
ـ أم أنا أضعت المفتاح..؟
ـ لم تضعه...، ولم يضعك، فأنت لا تجهل حتى اللا أسباب أن لها أسبابها! مثل إدراك إن المصادفة لا تحدث إلا بوجود ما لا يحصى لها من المصادفات...! فالوضاعة شبيهة بالنتانة لها منافع اقل من مضارها! ولكنك الذي مازال يشغلك لم يستكمل دورته!
ـ اعرف ...، ولكن اخبرني هل اخترت صمتك كما كنت تختار فرائسك في البرية...، أم أن صمتك اختارك رغما ً عنك...؟
ـ لا ترغمني للاعتراف بكلام نهايته سابقة على مقدمته، مقدمته ابعد من نهايته!
ـ هذا ـ هو ـ ما قصدته...، فأنت  لم تختر صمتك، إلا لتخفي عويلك كي لا يفضحك...، ومع ذلك فانك تظن إن صمتك ـ هذا ـ سيزلل بوابات السماء، بعد أن دفن عميقا ً في الأرض...؟
ـ السماء، السماء، السماء....، دائما ً هناك الأعلى وهناك الأسفل...، هناك النار وما فوقها، هناك الأرض وهناك سراديبها...؟
ـ هذه هي خلاصة ما قلت... فماذا قصدت...؟
ـ أنا قصدت...، أيها الغريب، إنني سأفقد صمتي، أو قل، سينتزع مني عنوة في الأخير...؟
ـ ها أنت عدت إلى الصواب! لأنك ـ ببساطة ـ كنت مضطرا ً له.
ـ آ ....، ها أنت ترغمني لسؤالك: هل يصح وجود من يختار الذهب إلى المحرقة بنفسه...؟ هل يصح ارتكاب الخساسات والنذالات والدناءات بطيب خاطر...؟ هل يصح أن يتم اختيار الجحيم بعد أن زينت له الجنات بنعيمها....؟ أم هو أعمى، أو معتوه، أم لم يعد يميز بينهما...؟
ـ ماذا تقول أنت...؟
ـ أنا ليس لدي ّ ما أخاف عليه ...، فلم تعد الأسرار أسرارا ً إلا لأنها ذهبت ابعد من ملغزاتها، وظلماتها! فما جرى، يجري، وسيجري هو هذا الذي لن يترك قويا ً إلا وأهلكه، ولا خسيسا ً إلا وأذله، ولا متخما ً إلا وسلبه ما كان قد اغتصبه....، إنما هذه الأمثال تقال للتمويه...، في الغالب، فالمليارات، المليارات، المليارات تؤكد بطلانها! فمنذ تشكلت أول خلية وصولا ً إلى أعظم أستاذ يتحكم بمصائرنا لم تتغير قوانين اللعبة....، فالضحايا هم مادة ديمومتها...، كالعدل تراه سهل المنال إنما كلما دنوت منه ازداد بعدا ً...!
ـ آ ....، لديك ما تريد أن تخبرني به... أليس كذلك، وليس ما تتستر عليه، وتخفيه...؟
ـ تقصد ...، إنني لم اعد اقدر على حفظ السر؟
ـ هو لم يعد قفلا ً...
    رد بخوف ممتزج بالألم:
ـ ها أنت تدعني امسك بالمفتاح، وأنا سبق  لي بمعرفة انه لا يدور! فالقفل ُسمح لنا به كي يبقي أوار لعبته متوهجة!
ـ آن لك ...أن تقول كلمتك...
ـ وأموت..؟
ـ اجل! فلا معنى أن أخدعك...، لأنك لو لم تمت فهذا يعني انك غادرت قفصك، وما دامت حديقتنا مسورة، ومحمية، ومحروسة، ولا يمكن الهرب منها....، مثل الدنيا لا تخرج منها حتى لو ـ هي ـ غادرتك، فان دعائي لك بطول العمر يغدو سببا ً تاما ً لطردي...، كي تعود إلى صمتك!
ـ ألا ترى إن مرضنا لا يلتفت له إلا من يظن أن له عقارا ً ..، وانه يأمل بالشفاء؟
ـ لا تذهب ابعد من صمتك..!
ـ ها أنت تراني أتكلم بقوة أرغمت صمتي على التراجع...، فانا كالذاهب إلى الجحيم، طواعية، لكن اختياري ليس إلا كرها ً وبغضا ً... وعنوة.
ـ اعرف.
ـ ولأنك تعرف إن كلامنا لا يذهب ابعد من مسافته في التلاشي...، مادامت حديقة الفساد لا تقدر على قهر حديقة العدل...، فان حديقة العدل لن تقدر إلا أن تحافظ على ديمومتها...، فهي تعرف من تجرجر...، ومن تغوي!
ـ احد أصدقائي كان يقول لي إن لا معقولك غدا عدما ًمرحا ً! لأنه أراد أن يقول: إن لم تكن مع حديقة العدل فأنت ـ بالضرورة ـ تحت حماية حديقة الفساد...، فأنت ـ يقصد أنا ـ أتباهى بالذهاب إلى الجحيم كي لا اصدق إن هؤلاء سكان الجنان أبوا أن يبذلوا جهدا ً في خلاصنا.
ـ آ ...، بل أنت تريد أن تقول: أية حديقة هذه تجرجر أنعامها وطيورها وبراعمها إلى الجحيم، وتلقي بهم في بحارها المستعرة...، وأي صنف هذا الذي يخلص نفسه على حساب بهائم عمياء...؟
ـ دعك من سيدنا المدير...، استأذنا، وزعيمنا...
ـ ومن ذكره...ن وأنا شارد الذهن باستحضار ما أراه يقترب حتى أراه مندثرا ً... أم هذه علة العميان الأبديين...؟
ـ ها أنت تخلق جنتك رغم قيودك داخل هذا القفص...؟
ـ ها أنت أجبت...
ـ قسما ً بالفاسدين، الأنذال، الاخساء، الأنجاس، اللصوص، الـ ...، قسما ً بكل من أذلنا، وأعاقنا، وحفر لنا، ودس السم في زادنا، وانزل الوباء والخراب والموت فينا، قسما ً بهؤلاء ...، وقسما ً بالذين جرحوا قلوب أمهاتنا، ورملوا نساءنا، ويتموا أولادنا، وانتهكوا حرماتنا....
   لم يدعه يكمل:
ـ أتقسم باركان حديقة الفساد....؟
ضحك الهدهد:
ـ وما جدوى القسم بمن لا يؤمن لك حتى الأقل من القليل، كالزاد والأمن والشرف!
ـ وهذا ما فعله سيدنا الذي لم يحتمل هذه الحديقة...، عصى، تمرد، ثار....، فرفع رأسه حيث الأعالي...، وصرخ حتى زلزلت الأرض، فأخرجت أثقالها، ونزت بما حملت، تبعثرت جبالها، وتفككت هضابها، فسمعه صاحب الزمان...مديرنا الخالد، فأمر بقطع رقبته، وأمر أن يحمل رأسه فوق بالرماح! وقالوا إن من فعلها هم أهل الدار...، وما كانوا غرباء...، بل هم أبناء عشيرته...، فقد حثوه على الثورة، ثم انقلبوا عليه....، فتكلم فقطعوا رأسه...
، اعرف...، لكنك لم تصمت خشية الموت، أو إنزال ما هو أبشع منه؟
ـ ولا هو خاف من الموت...، فقد سعى لإقامة حديقة لا يموت فيها الضعفاء، ولا تسبى فيها الحرائر، ولا تنتهك فيها حقوق الماء!
ـ كأنك تتحدث عن أمراء سجوننا في هذه الحديقة الغناء، الباذخة....بالموارد، والثروات، والكنوز...؟
ـ الامثال تقال بغية التمويه، كما قلت لك...
ـ ولكنك تكلمت! فلم تخش ان يقطع رأسك، او ترمى الى المزابل، تتلهى بك الضواري، وتتعفن مع النفايات....، فلا احد يقترب منك، ولا احد يطالب بحقوقك...
ـ لقد أصغوا إلى صمتي، وسمعوه.
ـ ولم ينزلوا بك عقابهم..؟
ـ يا سيدي، انظر إلي ّ: لم يعد لدي ّ إلا هذا الجلد، وبقايا عظام، وخواطر شاردة....، داخل هذا الوكر، في هذا القفص، فما الفائدة من بتر رقبتي، أو برصاصة تكتم صوتي...؟
وأضاف:
ـ ثم إنهم اتخذوني ذريعة لمجدهم!
ـ لكنك لم تعد تقوى حتى على فتح فمك...
ـ لن أبوح لك بالسر الآخر إلا لأنه...، غدا يعمل عمل العواء!
ـ سر من لم يعص، يتمرد، ويعلن العصيان...، سر من كتم صوته، وأغلق بابه، وتدثر بالظلمات!
ـ اجل ...، فقد ظن انه امسك بالمفتاح، فمات كمدا ً...
ـ الم توص أحفادك بمثال الشاه إن خرجت عن القطيع مزقتها أنياب الضواري، وإن لم تخرج فان باب المسلخ  بانتظارها، لأنه الوحيد الذي لن يغلق أبدا ً!
ـ بل لم أوص إلا بتركي أموت من غير وصية...، فيا أيها الهدهد، الذي نبش في عتمة نفسي، ومدافنها، وعرف ما كان عليه أن لا يعرفه،إن لم تكمل ما أمرت به، قطع راسك، وإلا فأنهم سيرسلونك إلى الظلمات.
ـ لم افهم...
ـ ذلك لأن اشد البهائم غباء ً، يتصرفون تصرف أكثرها ذكاء ً، وحكمة، وذلك لأن أنبه الأذكياء، ما هم إلا، في النهاية، أما يحملون رؤوسا ً خاوية، تتبع أوهامهم، وأهواءهم،  وأما هم يتبعونها، لبلوغ الخاتمة ذاتها التي تذهب ابعد منهم، ومنا جميعا ً!
ـ ها أنت لم تعد تخشى موتك!
ـ وهل الذي حكم بالموت، قبل ميلاده، لديه ما يخشى عليه...، وهل لديه قدرة أن يفعل شيئا ً..؟
   كاد الهدهد، وهو  لا يستطيع منع منقاره من إصدار أصوات ذات إيقاع راقص، أن يعترف للآخر، بالنصر: النصر بوصفه متساويا ً ـ بل ومعادلا ً ـ للهزيمة، ولكنه تراجع، شعورا ً منه بان ما باح به الذئب، لا يذهب ابعد من حدود الصمت. فسأل نفسه: وماذا لو كنت لم انجح في استنطاقه....، هل كنت سأتذوق مرارة الهزيمة، وكأسها، الذي تذوقه سقراط، الذي لم يأبه  إن كان السم مرا ً حد الشهد، أم حلوا ً مثل العلقم، ما دامت القضية، بعد غيابها، كأنها لم تحدث، أو كأنها ـ دائما ً ـ حدثت قبل وقوعها؟ ولكنه حدس من غير تفكير انه لم يأت لاستنطاقه، ولم يكلف بمثل هذه المهمة الدنيئة أصلا ً، وانه لم يفعل شيئا ً مما نسب له، قائلا انه إن لم يكن يستحي من الخالق، فانه يستحي من نفسه! ليس لأن التستر على المعلومات لم يعد ممكنا ً، بفعل تقنيات قراءة ذبذبات الرؤوس وومضاتها، بل لأنها إن لم تكن لصالحنا جميعا ً، فان إخفائها لا يليق بنا أبدا ً. فقال الهدهد للذئب بصوت مرح:
ـ آسف...، آسف درجة إنني ابحث عن اعتذار غير الأسف... بل وأرجو أن تغفر لي... تطفلي...
ـ لكنك لم تفعل امرأ ً مشينا ً يا جاري، وشريكي في المحنة!
ـ لا...، بل سلكت معك سلوكا ً يثير الشبهات، مع إنني، في قراره نفسي، كنت أتتبع خطتك في اختيارك للصمت!
ـ آ .....، أصغ إلي ً برهة..، قبل أن تغيب، وقبل أن تتوارى، وقبل أن تختفي في أدغال هذه الحديقة وممراتها...، وقبل...، وقبل..
لم يدعه يكمل:
ـ اكرر اعتذاري، سيدي، مرة أخرى....
ـ دعك من هذا الوهم الآن...، ومن هذا التمويه، حتى لو كان صادقا ً....، آ ... لقد شرد ذهني! حتى إنني لم اعد أتذكر ماذا كنت أريد أن أقول لك ...
أجاب الهدهد حالا ً:
ـ كنت تريد أن تقول: الأول صرخ، استغاث، استنجد، ففصلوا رأسه عن جسده، أما الثاني، فتستر، كتم، وكظم غيظه، فتخلى عن رأسه أيضا ً، لكنه ترك صمته يرفرف، مثلما ترك الأول دمه يذهب ابعد من الجريمة...؟
ـ لا! صدقني لم يدر هذا بخلدي...، فانا لم أقع في المتاهة، ولم أترنح بين الليل والنهار، ولا بين الحياة والموت...، مع إن المتاهة شبيهة بانتصار النذل الخسيس والأكثر مكرا ً على الآخر المتخبط المجذوب إلى الظلمات..، فانا لم أساوم بين الأضداد، ولم امجد انتصار الأقوى على حساب المستضعف المقذوف إلى أسفل السافلين...، ولم أتراقص  بين الحدود، وحتى تلك التي لا يمكن فتح ثغرة فيها، كما لم اخلط بين من يموت دفاعا ً عن حفرته وبين الآخر الذي يردم الحفر على ساكنيها، ولم أكن لا أميز بين من يقتل نفسه ليقتل سواه، وبين من يقتل الآخرين كي ينجو بقتل نفسه ويتنعم بالجنان.....، لا، لكن ما حدث، وما يحدث، وما سيحدث، يجعلك تتجرع أخس مرارات السموم التي تجعل من الموت نهاية شبيهة بالحياة!
هتف الهدهد:
ـ إذا ً أنت بلغت الذروة لتقول: لا معنى للموت..، ولا معنى للصمت!
ـ ليس تماما ً...، وإنما تكاد تدرك انك أضعت الذي كان عليك أن ألا تتنازل عنه، لتدرك في الأخير انك لم تخسر بإرادتك ما كان عليك أن تحصل عليه من غير إرادة!
ـ عدنا إلى الحياة الشبيهة بالموت..، والموت الشبيه بالحياة، وكأن الليل نهار معتم، والعتمة نور تجمد حد الصفر...، بل وعدنا للحياة التي لا تشبه الحياة، ولا بالموت الذي يماثل الموت...، ولا بالموت الذي يشبه نفسه! فالجميع ـ حتى الذين عملهم غدا إفساد الفاسدين والأبرياء معا ً وإغواءهم من ثم دفعهم كنعاج، خراف، ماعز، أبقار، بعران، جاموس، دواجن وأرانب إلى الموت ـ توحدهم النهاية ذاتها بما لا تفصح عنه ولا تبوح به أبدا ً...
صمت الذئب طويلا ً، ليرفع رأسه، وينطق بتردد:
ـ  ها أنت أربكت المسافة بين من كظم الأذى ورحل كظيما ً وبين من فضل  أن لا يفطس في حفرته ويتعفن بهدوء...، بهدوء...، فيها.
وأضاف بعد صمت:
ـ ها أنت أربكت صمتي! فأنت انتزعت مني سكينتي...، مع إنني لا افتخر أن أرى أحدا ً يتملقني، وينحني لي، ويمجدني!
   اقترب الهدهد كثيرا ً من الذئب:
ـ آن لك أن تفترسني! فتستريح مني...، وأستريح من نفسي! فانا هو من تحرش بك...، واعتدى، مع إنني صفحة بيضاء!
تراجع الذئب خطوة إلى الخلف:
ـ لو كنت أفكر بكل من آذاني، واعتدى علي ّ، وعاقبني، وشهر بي ظلما ً، وبكل من حاول جرحي، وقتلي، وإنزال اشد العقوبات......، بمن سرقني، ووشى بي، وتلصص علي ّ، وغدر بي....
صرخ الهدهد:
ـ اعرف...، سيدي، حتى أكاد أبوح لك بما يدور داخل رأسك، وبإحساسك إن كل مخلوقات هذه الحديقة وجدوا من اجل إنزال العقاب بك! وما من مخلوق فيها لم يؤذك، ويجرحك، ورام إرسالك إلى المحرقة!
هز الآخر رأسه:
ـ  حتى أنت... للأسف ... لم تدعني أكمل ما كنت أريد الاعتراف به إليك....
ـ آن لك أن تقرر، وان تنزل أقسى العقوبات بي...
ضحك الذئب بصوت مرح لا يخلو من التندر:
ـ هذه ليست هي العدالة! وهذا ليس هو العدل! فانا لست من يقرر معاقبتك...، ولكن الذي يؤلمني إنني لم أجد من يفسر لي كيف يصبح الأعرج مدربا ً للرقص، والعليل حكيما ً، والأعمى يقود، وفاقد الضمير مرشدا ً، واللص أمينا ً على بيت المال، والمأبون قدوة .....؟
     ما أن صمت حتى أحس بوخزات حادة تضرب أعلى رأسه، فتراجع خطوة أخرى للخلف، نحو مغارته، متابعا ً:
ـ الآن اخبرني...، ما الفائدة من إنزال العقاب.... بكل من أوشى بي، وشهر، وبالباطل سعى للنيل مني...، ما الفائدة من افتراسك، أو لو أغلقت بالتراب علي ّ نفسي باب هذا الشق ، الشبيه بحفرة الجرذان، التي لا تتسع لمخلوق لو عوى إلى الأبد فلن يخرج صوته ابعد من حدود هذه المسافة...؟
ـ حدست!
ـ أرجوك...، دعني أغلق باب مغارتي علي ّـ مغارتي الشبيهة بباب بيت الموتى، وأنا اسكنها بجوار عرين الليوث وأقفاص النمور ، وارقد لصق كهوف الدببة، مغارتي التي تشرف على جانب من ضفاف مستنقعنا الخالد...ـ وأتدرب على إغلاق فمي، لكن ليس كي لا احلم، بل كي يكون لهذا كله ذلك الفاصل الذي ما أن اندمج بينهما، حتى يكون انتصار الموت برهانا ً تاما ً على أن الحياة مازالت تحث خطاها، حتى لو كانت تتعثر بعثراتها....، قبل حضورنا، وبعد غيابنا!
27/8/2015

ليست هناك تعليقات: