قصة قصيرة
ممرات
عادل كامل
صدر الأمر للطيور كافة التي لم تغادر أقفاصها، ضمن جناحها، لحضور الاجتماع الطارئ، بغية الاطلاع على ما يجري، ودراسة التقارير والمعلومات المتوفرة، للبت في اتخاذ قرارات يقوم رئيس الجناح ببلورتها وإرسالها إلى إدارة الحديقة، باستثناء الغراب، الذي أرسل للتعرف على ما يجري، بالجوار، وفي المناطق النائية. على أن آمر الجناح، وهو نسر عجوز، طلب التريث، والانتظار، وعدم التعجل بإصدار تصريحات، وإشاعات، وأخبار غير مؤكدة غايتها خلط الأوراق، والتمويه، كي يكون تقريره للإدارة دقيقا ً، أو في الأقل، لا يحتمل التأويل، والتفسيرات المخادعة. فراح يعيد سرد الحكاية التي حفظتها الطيور عن ظهر قلب: إن السفينة العملاقة التي نجت من أعاصير الطوفان وأمواجه، إبان العهد القديم، هي التي بذرت بذرة الحياة وحافظت عليها من التشتت، والزوال. وانه لولا هذه السفينة، فالماضي لم يكن باستطاعته أن يمتد، ويؤسس حاضره العنيد.
فسألته حمامة:
ـ ولكن سفينتنا، اقصد جناحنا في هذه الحديقة، يكاد يتعرض للخطر ذاته، لأن الأعاصير تنذر باقتلاعنا من الجذر...بل بمحونا..؟
ضحك البوم، وأجابها بمرح:
ـ جميع الطيور عادت...، لأن أحدا ً منها لم يجد موقعا ً أمنا ً له...، يخبرنا به.. عدا السيد الغراب...، فانه لم يعد...
ردت الحمامة:
ـ لا تتعجل...، لم يمض اليوم الثالث... بعد...
فقال النسر:
ـ ليس لدينا إلا الانتظار...، فأما أن نهلك معا ً، هنا، في أقفاصنا، وأما انتظار حصول معجزة ...
ـ سيدي، المعجزة لن تحدث إلا بمعجزة، وقد ولى زمن المعجزات.
ـ هذا الاعتراف المؤكد بعدم وجود معجزات لا يدل إلا على أن معجزة ما ستقع...
اقترب الهدهد منه وسأله:
ـ سيدي، بوصفك احكمنا، وأكبرنا سنا ً، أعقلنا وأكثرنا خبرة، وأكثرنا دراية وصبرا ً...
لم يدعه النسر يكمل:
ـ أوجز...، فالزمن يتسرب، ثم إنني أكاد اعرف قصدك...؟
ـ اقسم لك انه ليس الذي عرفته، فما دار برأسي غير الذي تعنيه!
ـ اكرر ـ ومن غير اعتذار ـ لا وقت لدينا نهدره في الكلام...
ـ آ ....، ها أنت فتحت كوة في الجدار المظلم...
ـ ماذا تقصد أيها الهدهد ..؟
ـ اقصد ...، تماما ً: انك أمضيت حياتك تتكلم، مثل وعاظ المدراء، والأمراء، والساسة، حتى يكاد الجميع يعرف ماذا ستقول... وها نحن نكاد نفقد قدرتنا على سماع ما سمعناه....
صاح النسر بصوت مرتجف:
ـ ما العمل إذا ً...، والجميع يسأل السؤال ذاته: إذا كان العمل منح الأشرار امتيازاتهم بالانفصال عنا، واستعبادنا، وببناء أجنحتهم الحصينة، الآمنة .... فماذا كان علينا أن نفعل غير البحث عن وسائل للخلاص....
قال الهدهد:
ـ سيدي، العمل هو سر استقلالهم عنا، وهو الذي سمح لهم بركلنا، ورفسنا، والهيمنة علينا، من ثم وصولنا إلى هذا الذي نحن فيه: لا نوافذ ولا أبواب، سوى الكلام، والكلام...داخل هذه الأقفاص، المحمية بالأسوار..
ـ أتقصد، أيها السيد الهدهد: إننا انشغلنا بالثرثرة، واللغو، وعمل الأشياء كافة عدا العمل...؟
ـ ليس تماما ً...، فسيادتك أفضل من حفظ الحكاية ورواها حول لغز نشوء الكلام، بعد الإشارات، فقد تحولت الأصوات إلى علامات...فيما المعضلة في مكان آخر...!
ـ آ ....، حكاية قديمة قدم ماضيها، لأنها ترجع بنا إلى الصفحات الأولى في هذا السفر العتيد: اجل...، ففي الزمن السابق على الزمن...، عندما لم تكن هناك اشتباكات، كانت هناك قوة غامضة تمهد لوجود هذا الذي آلت إليه بذرة الخلق.... قوة راحت تتحكم بالمصائر...، وقررت كل ما كان علينا أن لا نتوانى في إغفاله....
وصمت، تاركا ًالطيور بانتظار ما سينطق به، فقال:
ـ إن استخدام القوة، والقوة بإفراط، ومن غير شفقة، أو رحمة، لم يفض إلا للمزيد منها.
وسكت، فصرخ طير كان يراقب بانتباه:
ـ نعرف ذلك... فأنت لا تأتي إلا بالقديم وتنثره علينا...، فما الجديد...؟
ارتفعت همهمات أيدته، ممتزجة بغضب وفزع مكتوم، فقال النسر متابعا ً:
ـ لا جديد...، ومن قال هناك جديد...، عدا إن الجميع اضطروا إلى المصالحة، واستبدال الفوضى بالأعراف...، والعادات، أو ما يسمى بالقوانين...، فتم استبدال القسوة بالمودة، والعنف بالحوار، فولدت اللغة!
ـ درس بليغ! درس ممتاز في السفسطة، أستاذ...، فأنت تدفن المعضلة كي نراها من وراء التراب! مثل الكلام لا فائدة منه إلا كي يذهب ابعد منا، ومنه!
ـ اجل! وإلا بأية أداة تم العبور، والسفر، والانتقال من البراري والغابات والوديان والمستنقعات إلى ...هذه الحديقة؟
ـ بالخديعة، والوهم، والتمويه، والقسوة...؟
ـ ليس تماما ً...، فاللغة ـ عدا ما تمتلكه من أسرار ـ حتى لو كانت من أكثر الأدوات لا تصلح لتنفيذ ما كنا نحلم بانجازه، وتحقيقه...، إلا إنها تتمتع بعدد من الفوائد التي لا يمكن الاستغناء عنها. إنها شبيهة بخيوط العتمة التي لا يمكن للضوء الاستغناء عنها! بل ومثل الحياة ستفسد من غير موت، وهلاك!
ـ آ ...، كم هي ضارة! ومع ذلك فإنها تمتلك القليل من الحسنات!
ـ هذا ما أكدته الوقائع، أيها الشركاء، في هذا الجناح...
وأضاف النسر بعد فترة صمت:
ـ لكن ما علاقتنا بهذا كله...، ونحن مخلوقات واهنة، هشة، ناعمة...، وبلا تاريخ...، فنحن لا ندوّن أسانا، وأحزاننا، ونكباتنا...، ثم ما معنى إضاعة أعمارنا بكتابة حكاية غير جديرة بالسرد...، حكاية تأتي مع الريح وتذهب معه...، فهل لو كتبناها، ودوّناها، سنتحول إلى ذئاب، أو إلى اسود، أو إلى ديناصورات؟
ساد الصمت، ممتزجا ً بالخوف. فقال احدهم:
ـ لكن الأشرار ـ وباللغة ـ استقلوا عنا، وبها شيدوا مدنهم، وهم الآن يعلنون الحرب علينا، لأبادتنا، واجتثاثنا، ومحونا، للاستيلاء على .... مصائرنا، بعد سرقة أحلامنا، وآمالنا...؟
ـ ولكن، أيها العزيز، ستكون اللغة هي الشاهد الوحيد على زوال كل قاموا به، والشاهد على نهاياتهم أيضا ً..!
ـ لكنكم قلتم...، إنها كانت السبب بتحولهم إلى متوحشين، تنقصهم البصيرة، ويفتقدون إلى الرحمة......؟
ـ أكمل .. أيها الطاووس...
ـ لا استطيع أن أجد كلمة وافية للتعبير عن المعنى...، فانا عندما ذهبت للبحث عن ملاذ امن لي وجدت النيران تلتهم المدينة، وتحولها إلى رماد، فعدت احتمي بقفصي...
فتساءل عصفور:
ـ سيدي...، لقد تأخر الغراب كثيرا ً...؟
نظر النسر إلى لطيور، واحدا ً بعد الآخر، وقال بصوت لا يخلو من الأسى، والحزن:
ـ ليس لدينا إلا أن ننتظر...
تساءل احد البلابل، متذكرا ً الحكاية التي لم يكملها النسر:
ـ وماذا بعد أن اضطروا للدخول في الحوار...؟
ـ بدأت الجريمة تأخذ موقعها في الرواية...
ـ هذا يعني ـ إذا ً ـ لو إنهم لم يخترعوا اللغة، لكانوا يعيشون مثلنا..؛ بلا عنف، وبلا فساد، وبلا أوهام؟
ـ اسمع أيها الباز وأنت أيها القبج، أنت أيها الديك وأنت أيها اللقلق...، اسمعوا جميعا ً...، إن كانت هناك لغة أو لم تكن...، إن كانت هناك إشارات أو رموز أو علامات أو لم تكن، فالمخلوقات وجدت لأنها لو خيرت بين وجودها وعدمه لاختارت حكاية مغايرة، ومختلفة، ولا علاقة لها بما حصل...، وصار تاريخا ً، فإذا كانت اللغة أساس الحوار الذي وحدهم، جمعهم، وصهرهم، فإنها هي التي حافظت على لغز ديمومتهم، وهم حافظوا على لغز وجودها أيضا ً....!
انقضى الليل، وبزغ الفجر...، ومازال الجميع يتجادلون، يتحاورون، يتناقشون...، فقالت نعامة أفاقت من النوم:
ـ لم تتخذوا قرارات حاسمة بعد...؟
رد النسر:
ـ لم يأتنا الغراب بخبر سعيد أو ....
ـ لكننا سنهلك...؟
فعاد النسر إلى الكلام:
ـ ليس لدينا إلا أن ننتظر..، كما فعل أسلافنا، وأجدادنا، وآباؤنا...، لأن المجازفة بالمغادرة قد تقضي علينا لنصبح هباء ً منثورا ً ونسيا ً منسيا....؟
صرخ الطاووس:
ـ لا مناص من القبول بالتسوية...؟
ـ مع من... والحصار لن يسمح لنا حتى بالهرب...؟
ـ آ ...، فهمت، فأنت ترجعنا إلى أصل الحكاية، يا سيدي....؟
ورفع صوته:
ـ لكن السفينة تغرق...؟
قال البوم مؤيدا ً:
ـ إنها تحترق... أيضا ً.
وأضافت حمامة بصوت متلعثم:
ـ إننا نتعفن!
ومضى يوم آخر، وحل اليوم السادس، قال النسر الذي أفاق من كابوس:
ـ أيها الجمع الطيب، إننا لم نعتد على احد، وليس لدينا نوايا بالاعتداء، والإغارة، وسرقة حقوق الآخرين...، فلماذا الفزع...؟
وأضاف:
ـ فهل علينا أن نهرب إلى الموت ونلفت نظره إلى وجودنا...؟
ـ لكن حديقتنا محاصرة، والنيران تشتعل من حولها، ولا أمل لنا بالخلاص منه ..؟
أجاب النسر:
ـ أيها العصفور ...، أيها البلبل...، أيتها الحمامة...، لنعد إلى أصل الحكاية..... فالغراب آت آت ولا ريب في ذلك، وإن لم يأت ...، فهذا يعني انه ذهب من غير رجعة...، آنذاك ليس لدينا إلا ارتكاب حماقة نجهل خاتمتها...
ساد الصمت، ولم يفتح احد فمه بصوت أو كلمة. ليمر النهار، ويحل الليل. قالت النعامة:
ـ ربما لم يجد موطأ قدم فصعد إلى الأعالي....، لأنه طالما كان يود أن يفعل ذلك!
اجابت البوم:
ـ هذا يعني انه تنصل عن مهمته، وارتكب فعل الخيانة، فهو آثم، بحكم الخارجين على شريعتنا....، وقوانيننا...؟
ضحك اللقلق:
ـ أيها السادة، يا حكماء هذا الجناح...، اقترح أن نستنجد برفاقنا في الجناح المجاور...
ضحك النسر بصوت متلعثم:
ـ يا أحمق...، الكل بانتظار قرارنا...
ـ وماذا سنقرر...؟
ـ أن نصمت، ولا ندع الكلمات تخدعنا، أو تغوينا، أو تموه علينا...
رد اللقلق حالا ً:
ـ إن غادرنا نهلك، وإن مكثنا فالموت آت ٍ..، فماذا نفعل...؟
صرخ احد العصافير:
ـ الغراب... الغراب... الغراب ...
ساد الصمت، وهم يشاهدون الغراب يقترب ليحط بجوار النسر:
ـ أيها السادة، أيها المجانين، أيها الغرباء.....، ذهبت إلى نهاية الأرض فلم أر موقعا ً لا دخان فيه، فالقرى، والغابات، والمدن، كلها تحترق...، حتى لم استطع أن أرى السماء!
فسأله النسر:
ـ لكن لماذا تأخرت...؟
ـ أنا لم أتأخر، سيدي، بل جئت مبكرا ً!
ذهل النسر:
ـ ولماذا عدت مبكرا ً إن لم تكن أنجزت مهمتك، أيها الغراب...؟
ـ ظننت ذلك، فعدت، خشية بقاءكم بانتظاري...؟
ـ نعم، نحن كنا بانتظارك...، لكن مادمت لم تأتنا بنبأ سار....؟
ـ ومن قال إنني لم آت بهذا النبأ السار....، سيدي؟
راح الجميع يراقب بما سينطق به الغراب، بذهول، وصمت. لم يتكلم. وامتد الصمت حتى انتصف الليل، وحل فجر اليوم الثامن. لكزه النسر:
ـ متى تنطق ...؟
فقال الغراب بتردد:
ـ لا فائدة من الكلام!
ـ هل تطلب منا أن نستعد للمواجهة، وللدخول في الحرب...أم الفرار.. أم ....؟
أجاب ساخرا ً:
ـ نحارب من.....، والعدو توغل فينا، ولم يترك فجوة إلا وشغلها!
بكت كبيرة الحمام بهديل حزين:
ـ ماذا تقول يا احكم الحكماء...؟
ـ سيدتي، العدو لم يتسلل، ولم يخترق أسوارنا، ولم يداهمنا، ولكنه سبقنا في الهيمنة...، فخلال العشرة آلاف سنة الماضية...!
هز النسر رأسه وقال بصوت واهن:
ـ كأن سفينتنا لم تعد تقوى على الإبحار...
ـ أية سفينة...؟
ـ حديقتنا التي ولدنا فيها...
ـ آ ....، تقصد هذه الأقفاص، أم تقصد هذه المستنقعات، وهذه الزرائب، والحظائر، والزواغير، والشقوق، والحفر، والجحور ....؟
ـ ليس تماما ً...، فهناك أجنحة مازالت بالرفاهية...!
ـ دعني اعترف لكم ...
ومر النهار سريعا ً، وحل الليل، متابعا ً:
ـ صحيح، أنا تأخرت، لأنني بلغت المكان الذي لم أر فيه كائنات شبيهة بنا، أو بالأشرار البشر، أو بالزواحف، ولا بالثدييات، ولم أر أثرا ً للمنقرضات أيضا ً....، فشرحت لهم أمرنا، وما يحدث في حديقتنا، وجناحنا تحديدا ً، وقلت لهم: ماذا لو حل السلام ـ وهذا محض افتراض شبيه بأثر الكلمات لدى السامع ـ فما المعنى من وجودنا....، فقالوا: ما الذي تسعى إليه، أيها الغراب ...؟ لم اجب....، لأنني كنت لا اعرف ماذا أريد...، وعندما أعادوا علي ّ السؤال، وفكرت في الأمر، فضلت العودة إلى بلادي!
ضحك النسر العجوز:
ـ هذا يعني انك تخليت عنا أيها اللعين...، لأنك لم تعد تؤمن بالنصر....؟!
ـ لا...، سيدي، أنا لا أؤمن بالهزيمة...، ولهذا لم أؤمن بوجود نصر يستحق الكد والعناء... وفي الأخير فانا لا أؤمن بالنصر ـ أي نصر كان ـ يحصل على حساب قهر الأخر، وتدميره، ومحوه...؟ وإلا ما معنى حكاية قائمة على التصفيات، والتنكيل، والسحق...، وهل يليق بالحكاية أن يكون لغزها شديد العتمة، ومموه حد الفكاهة وقد اتخذت كابوس الذبح، والإبادات...؟
قالت النعامة:
ـ هذا جيد....، شرط أن يتم استبدال القانون ....، وهذا بمثابة دحض للتاريخ برمته...، تاريخنا، منذ البدء...، حتى حاضرنا الملطخ بالقاذورات، والأوساخ، والدناءات!
تنهد الغراب:
ـ بالتحديد...، في حواري معهم أخبرتهم إننا أمضينا حياتنا نخرج من حفرة للدخول في اخرى، ونخرج من قفص للدخول في اخر، نولد لنموت، ونموت لنولد...، فالشعارات لدينا هي دحض الاخر، وتدميره...، وفنوننا استندت الى نظام لا مجال للرحمة فيه...، فالمنتصر وحده يدوّن هزائم الاخر، والاخر لا يمتلك الا ان يتوارى، ويغيب، او يتول الى مكنسة، او خرقة عتيقة لمسح الاوساخ!
ـ ولهذا لم يمنحوك حق اللجوء...، والاقامة..؟
ـ كلا! لقد منحوني هذا الحق...، انا هو من رفض ذلك، لانني لم استطع ان افهم لغز تلك الحديقة واهدافها ....، فانا لم اسمع صوتا ً، ولم ار اشكالا ً، ولا عراكا ً، ولا لغطا ً...
ـ غريب!
وأضاف كبير البلابل:
ـ أيها الغراب...، يبدو انك تعمل لصالح جهة ما تضمر العداء للفصائل كافة، وذلك بالتستر أو بفعل الغباء المعروف عنك...؟
ـ كلاهما، الجهل المقدس والغباء الأبدي يمثلاني بالدقة التي يصعب تفنيدها!
ضحك النورس:
ـ ها أنت تنبش تاريخك، وتتركه بلا غطاء...؟
ـ أنا لم اشترك في التحريض على العدوان، ولم ارتكب سوءة تذكر، ولا فعلا ً آثما ً...، كل ما قمت به هو إنني علمت القاتل كيف يتستر على فعلته الشنيعة...!
تساءل كبير البجع:
ـ الم تصبح وسيطا ً بين القاتل والضحية...؟
حوّم الغراب واقترب منه:
ـ دعني اشرح لك المعضلة غير القابلة للشرح...ن كانت هناك قصة قديمة كادت تكون فاتحة لعصر سفك الدم...، لكنها انتهت بالمصالحة بين الراعي والمزارع، هنا، فوق ارض هذه الحديقة...
ـ ومن خربها، وحرفها، ودفع بها إلى ....
مضى اليوم بأسره ولم يجب الغراب. فسأله النسر:
ـ كأنك تكتم سرا ً...؟
ـ مع ان فضح السر هو بمثابة تمويه له..، إلا ان كتمانه لن يصبح حلا ً..، فأسوء الاختيارات هي بمثابة أفضلها، لحلول جميعها سيئة...، لكن الصلح حدث لأن أسبابه كانت بانتظار من يدحضها، فكان الشر يمهد للضحية ان تلعب دورها...، وهذا كل ما في الأمر!
وساد الصمت مرة أخرى، حتى نهاية اليوم الحادي عشر، حيث بدده النسر:
ـ لم تخبرنا بوضوح عن أسباب عودتك، أيها الغراب...، مادامت الحرب لم تجد من يضع حدا ً لنهايتها...؟
ـ آ ...، أولا ً: أنا لم اعد...، لأنني لو كنت وجدت ملاذا ً لكنت اخترته...
ـ ولكنك أخبرتنا إنهم يعيشون في عالم مختلف، وغير قابل للوصف...؟
ـ سيدي، لا أنا، ولا انتم، نصلح للسكن هناك. لماذا...؟ الجواب هو ان الحياة ذاتها غائبة، أو بالأحرى إنها شبيهة بحياتنا، من الموت إلى الحياة، ومن الحياة إلى الموت! فما الفارق بين حضور غائب، وبين غياب ليس له نهاية...؟
ـ ماذا تقصد...، لأنك تكاد تجدف....، فهل أنت هو .... ؟
ـ لا...، أنا ليس الذي دار ببالك، فانا لست النار، بل قصدت إنها هي الحياة التي لا توصف، بالأحرى غير القابلة للوصف...، لأنها بمنأى عن البصر، وعن البصيرة! فهي شبيهة بما يحلم به الحالم الذي يدرك ان أحلامه كلها حلم لا وجود له! أي مثل منزله الرائي الذي يرى المسافة بين السراب والسراب فيضنها هي الماء...؟ فالحياة هناك تكاد تدحض الحياة، حتى لا تشبه ما كنا نتخيله عن الجنات في الأعالي...؟
ـ لا يموتون ولا يولدون... ولا....؟
هز الغراب رأسه، ولم يجب. قال البوم:
ـ لا مفر من الاستسلام بوصفه النصر الوحيد المتاح لنا! سيدي النسر العجوز...، وما عليك إلا ان تخبر إدارتنا الحكيمة بأننا سنواجه عدوا ً تتجاوز قدراته أضعاف أضعاف ضعفنا، وهشاشتنا، ووهننا...
لكن تلثم وقال في الحال:
ـ أنا قصدت ان تخبر إدارتنا الحكيمة التاريخية إننا سنواجه هذا العدو حتى آخر واحد فينا...، فما معنى الحياة بلا كرامة...؟
أجاب النسر بتردد، وهو يراقب انسحاب الطيور، واختفائها، وتسربها، الواحد بعد الآخر، وجماعات جماعات...
فردد بالصوت المتردد نفسه:
ـ هذا يعني القبول المشرف بقدرنا....!
في اليوم التالي، اكتشف النسر انه أصبح وحيدا ً، لم يبق معه أحدا ً، إلا الغراب والبوم ومالك الحزين. فسأل الأخير:
ـ ماذا تقول...؟
ـ سيدي، لا جدوى من الكلام...، فالحكاية ولدت باعثة على الأسى، والفكاهة!
ـ الأسى والفكاهة...؟
ـ كما اخبرنا السيد الغراب...، فهو لم يختر مدينة الحلم، ولم يدلنا عليها.....، مما يفسر انه لا يمتلك إلا ان ينتظر ـ مثلنا ـ حتفه...؟
نعب الغراب، قائلا ً:
ـ إنها حكاية ولدت من الوحل...، فإذا كنا أمضينا ملايين السنين نتشبث بالنصر...، وبالعثور على حلول لها، فان أي حل عدا التشبث بهذا الأمل يبدو صفرا ً...؟
رد البوم:
ـ عدنا إلى الكلام...، عدنا نتكلم، نهذي...، لأن الكلمات أتعس بل أبلد أداة عمياء لنسج حكاية أصلها باطل...؟
قال الغراب مؤيدا ً كلمات البوم:
ـ عندما كنا نقصد ان الجهل وحده كان ينسج حكايتنا، فكنا نظن انه بمثابة تبرير غير لائق لتلك العقول الأذكى التي عملت على ديمومته...
ـ ها أنت تتحدث عن ...
ـ ليس تماما ً...، بل قلت: ان أذكى العقول لديها الكثير الذي ترفض انجازه ...، بل وتصر بذكاء مشفر وغامض عنيد وغريب على ترك الملايين تحافظ على ما هي عليه...! فليس الجهل هو سبب البلية، وهذه المحنة...، بل المعرفة!
ـ ها أنت عدت إلى أصل الجرثومة... إلى العفن... والمياه... والشمس... وباقي العناصر.....!
قال الغراب:
ـ ليست اللغة ـ سيدي ـ هي أصل الشر، ولا الأصوات، بل تلك الأفواه التي إن لم تجد ما تلتهمه فإنها ستفترس الحجارة...! انه الفم، فمنا، هذا الشق الشبيه بتلك الشقوق والفتحات التي خرجنا منها، مع البراز والبول، كي نبدو وكأننا ملائكة، ورؤوس خالية من الشوائب، والعفن...؟
ـ ها أنت تكتم علينا السر...؟
ـ أنا لا اكتم سرا ً...، السر ذاته لم يعد يمتلك مناعة الكتمان!
ـ كأنك تدعونا إلى العصيان....؟
ـ من أكون...، سيدي، وأنا لست أكثر من غراب شبيه بباقي المخلوقات الواهنة، يحسب انه صقرا ً، والصقر نفسه ليس إلا من تراب هذه الأرض ونجاستها! فهل اقدر ان اعصي، ها، أنا اعصي...، أو أتمرد، أو أجحد..، ثم هل هناك معنى ما لو استنجدت طالبا ً للرحمة، والأبواب كلها وجدت مفتوحة بحدود انغلاقها! وهذا لا يتقاطع مع وصفها موصدة على اتساعها!
ـ إذا ً لم يبق لدينا...، إلا ان نغطس داخل هذا المستنقع...، في هذه الحديقة، حتى بعد ان حطمنا بعض قيودها، وحتى بعد ان فتحنا فجوات في جدرانها....
ـ لكن الجميع لاذوا بالفرار...، وكأن الهزيمة وحدها أعلى مراحل المجد .
متابعا أضاف:
ـ رغم إنهم سيهلكون في الطريق... أما الباقي فلا يمتلك إلا ان ... يتصالح!
سأله النسر بشرود:
ـ مع من...؟
ـ لا اقصد التصالح مع أذكى العقول التي حاكت هذا النسج...، بل مع ما تبقى منها...! لأن أذكى العقول لا تمتلك حق المصالحة!
ـ ها أنت ترجعنا إلى العفن...إلى الأصل!
هز رأسه:
ـ نحن انحدرنا منه...، فهو وحده لن يسمح لنا بالانفصال عنه. انه الكامن في ذاته. فهو يجهل انه عفن!
نظر النسر إلى مالك الحزين بفزع:
ـ ابك! لك الحق بالبكاء حتى نهاية عصر الحدائق! أما إذا استبدلت أساك بالفكاهة، فلا بد إنها ستكون خالية من اللون...! أي مثل وجودنا تماما ً كلما عثرنا له على ممر ضاقت المسافات بما اتسعت...؟
أجاب مالك الحزين:
ـ أنا ابك على ما يجري في الزرائب، وعلى ما يجري في الحفر، وفي الحظائر، والجحور....، فالجميع مازالوا اسري أقفاصهم!
فرد النسر:
ـ آن لنا أن نعمل على كسر القيود....
هز مالك الحزين رأسه بلامبالاة:
ـ كما فعل أسلافنا...
فسأل البوم النسر:
ـ سيدي، الحديقة محاصرة...، فبعد أن نحررهم من أقفاصهم سيفترسوننا!
ـ كأنك لا تريد لحكايتنا ان تمتد....؟
ـ سيدي...، حتى لو امتدت، فالنهاية وضعت قبل أن توضع مقدماتها.
اعترض النسر:
ـ سنبقى نحلق عاليا ً، بعيدا ً عنهم، كما فعلت النار عندما انفصلت عن الوحل...!
ضحك مالك الحزين:
ـ وهل لدينا غير البحث عن أمل...؛ الأمل الذي يوهمنا بوجوده...؟
ـ عدت تحلم..؟
ـ مع إنها حكاية ستذهب مع أبطالها، في التيار... إلا أن هذه الـ (مع) اللعينة ليست فائضة، فالذي اخترعها، وحده، وهبنا الكثير، لكنه لم يهبنا إلا هذا الأمل...؟
ـ الأمل ... بماذا ... وأنت لم تقدر أن تختار إلا العودة إلينا...، لتنذرنا...، وتخبرنا بان أذكى العقول هي ـ وحدها ـ تحرص أن تلوّح لنا بهذا الأمل...؟
قال الغراب:
ـ إنها تعمل بدافع الحلم، لأنها تحلم كي تعمل، وحوارنا هذا هو الخطيئة الوحيدة التي نرتكبها من غير أسف! بل حتى الأسف، أيها السادة، أصبح لذّة، ربما لذّة خالصة، كالغفران لا معنى له من غير الغواية، والوقوع في الإثم. وهكذا أنا رأيت حديقة لا احد فيها سوى الأثير....، فلم استطع أن أتصالح معه! فهل سنتصالح مع الذئاب أم مع العقارب، مع التماسيح أم مع بنات أوى، مع الذباب أم مع البرغوث، مع أبو جعل أم مع الصراصير.....، وإدارة حديقتنا ما انفكت تتشبث بالأمل ذاته الذي أبى أن يغادر حدوده، وفراغه العنيد....، فهل ثمة أمل لنا غير البحث عن ....؟
ضحك النسر:
ـ إن لم نذهب إلى الموت، طواعية، فهو الذي يأتينا كرها ً..!
ـ لا.. سيدي، الموت ليس لغة؟
ـ وضّح...؟
ـ هو وسيلة لغاية رحنا ننسج أوهامها بألف ألف ألف وجه...، لكن الحقيقة لا علاقة لها بهذا الذي نراه....، ونتنفسه، ونتحسسه....، وندركه...، فهو لا يترك حتى أثرا ً لأثره...؟ لأن غياب الموت هو حضوره، وهو حضورنا، آنذاك تغيب اللعبة، وبغيابها تكون مهدت للذي لا علاقة له بأحلامنا، ومخاوفنا، وفزعنا، وأوهامنا، ولا بموتنا أيضا ً!
Az4445363@gmail.com
19/8/2015