10 قصص قصيرة جدا ً
عادل كامل
[1] اللعبة
ـ لا تسرع، لا تسرع، سألحق بك، فانا لا انوي إيذاؤك، ولا الثار منك، ولا الانتقام...، فلا تسرع، أرجوك...
كان يهرول خلفه، حتى لحق به، وأوقفه:
ـ ها أنت، مثلي، في بلد غريب، بعيدا ً عن سجون وطننا، فلِم َ تهرب مني...؟
مستعيدا ًاشد الساعات قسوة، التي قضاها في الزنزانة، عندما كان الآخر يقوم باستجوابه، وانتزاع الاعترافات منه:
ـ لكنك لم تأخذ مني، إلا ما لا فائدة منه، هذا الذي زال، فانا كنت أؤمن بالحرية، عندما كنت أنت موظفا ً في جهاز عمله الوحيد القضاء علينا، واجتثاثنا. انك لم تنزع الحرية من عقلي، ولا الشفقة من قلبي، مع انك كدت تحولني إلى جثة هامدة، لا تصلح حتى للموت!
وأضاف:
ـ لكن ...، كم جميل انك تستطيع الآن ان تنتزع مني ما تريد...، وما لا تريد، بحرية، بعيدا ً عن الإكراه، والتهديد، والتعذيب....،ـوكلانا يعيش في بلد أوى الضحية مع جلادها على حد سواء...!
لم يتفوه الآخر بكلمة، كان شارد الذهن، فقال متابعا ً:
ـ الآن فقط كلانا يعيش الفصل الأخير من اللعبة...، لعبتنا معكم، ولعبتكم معنا، فهل تود ان اعترف لك بما لم أبح به تحت اشد الضربات إيلاما ً...، وأنت تنتزع روحي من جسدي، وتعزل رأسي عني!
لم يجب الآخر، غارقا ً في الذهول، مصغيا ًبانتباه:
ـ أنت لم تكن محض محقق، أو محض جلاد، صدقني، فأنت كنت تبحث عن حريتك، مثلي، لكنك كنت تنتزعها مني، وأنا أيضا ً كنت اعمل على إخفاء حريتي عنك. لكن اللعبة مكثت تمضي نحو مسارها بعناد، ودقة، حيث اخترت أنت دور الجلاد...، وأنا اخترت ان أعيش دور الضحية، فلا أنت أفلحت بالقضاء علي ّ...، ولا أنا عدلت مساري، وتراجعت، لكننا، في نهاية المطاف، وصلنا درجة انك لا تود ان تراني، ولا أنا أود ان أراك...، لكن اللعبة، يا جلادي، لم تنته بعد، بانتهاء أدوارنا فيها!
[2] مطر
وأنا لا اعرف أين اختبأ من الأمطار، في البحث عن خيمتي، مع النازحين والفارين، وقد اشتد البرد، والريح مازالت هائجة، تذكرت الصديق الذي قال لي، قبل سنوات بعيدة، وهو يرفع رأسه نحو السماء: لا احلم بالذهاب إلى الفردوس...، ولا الهرب من الأرض، بل انتظر كتبا ً جيدة تهبط مع زخات المطر.....
ابتسمت، وأنا اردد مع نفسي: لقد أنارت الكتب لنا الكثير من الظلمات، وعلمتنا كيف نتجنب الكثير من العثرات، لكن ....ـ للآسف ـ سمحت لنا ان ندرك إننا لا نعرف ماذا نفعل في اجتياز هذه المحنة!
[3] الغابة والرماد
بعد ان التهمت النيران أشجار الغابة وشجيراتها، وحولتهما إلى رماد، لم تجد النار ما تفعله، انتابها القنوط، والحزن، فجلست صامتة، لا تعرف ماذا تعمل.
خاطبها الرماد:
ـ لا تكترثي، أيتها النار، فالأشجار ستنمو، أقوى مما كانت عليه!
ـ آ .....، كم علي ّ أن انتظر...؟
ـ لا تحزني، فالأشجار لا تكل من النمو، لتجدد شبابها.
بهدوء سألت النار الرماد:
ـ وأنت ما ـ هو ـ عملك أيها الرماد...؟
ـ عملي ـ هو ـ ان أساعد الأشجار على النمو، فانا أصبحت غذاء ً لها.
[4] الناس والحجارة
وأخيرا ً عثرت على ضريح الرجل الذي طالما أثار إعجابي، السيد برنارد رسل، فطرقت الباب. لم يجب، فلم اطرق الباب مرة ثانية، لأنه كان منشغلا ً بكتابة قصص بوليسية سبق لي ان قرأتها، فحزنت لأنني انتظرت شيئا ً آخر ينجزه. أخيرا ً سمعته يخاطبني:
ـ تفضل...، هل لديك أخبار سارة عن المستقبل؟
ابتسمت، فلم أجد جوابا ً، فسألني:
ـ أنت حزين لأن الماضي لا ينتج إلا مستقبله! فالعالم دخل في حروب لا احد يعرف نهايتها.
فجأة وجدت لدي ّ ما أبوح به، فقلت:
ـ سيدي، المشكلة ليست في الماضي، بل في الذي سبقه، والمشكلة، أيها الفيلسوف العظيم، ليس لأن عالمنا سيدمر بعضه البعض الآخر، بل ماذا سيحصل بعد تدمير الإنسان.
اقترب مني وهمس بصوت رقيق:
ـ فكرة طريفة صالحة لكتابة قصة جديدة!
فسألته:
ـ والفلسفة....؟
ـ آ ......، تلك هي التي لم تترك إلا هذا الذي تراه حاملا ً ماضيه إلى النهايات وهي تأخذ طريقها إلى الولادة!
ـ قصة طريفة حقا ً!
فقال بصوت جاد:
ـ كنت اعتقد ان الديمقراطية ستحل لغز التراكم، لكنها، كما ترى وارى، لا تشبع من الناس، ولا من الحجارة!
[5] عدنان المبارك
لم يبق لي، في شيخوختي، إلا صديق يكتب لي، بضعة كلمات، في نهاية الأسبوع، يخبرني فيها عن مشاعره، مسراته وعذاباته، فأشاطره هذه المشاعر، فهو يعيش في بلد بعيد، لم أره، لكن لا يقتل الناس فيه لأي سبب من الأسباب، وأنا كنت اعتزلت الحياة، داخل جدران بيتي، بانتظار الموت. وها هي رسالته الأخيرة تعبر المسافات الشاسعة، في لمحة، فاعرف ان أيامه ـ هو قال ذلك ـ بلغت ذروتها، وقال ان عظامه، ولحمه، وجلده، وما تبقى من جسده ستنفصل عن وعيه. يا الهي....، هل حقا ً سأبقى مصغيا ً بشرود إلى صمت كلماته وأنينها النائي، أم علي ّ ان انتظر دوري بصمت لتتبع خطاه في الذهاب إلى المجهول ...؟
[6] جواب
كتب إلى صديق قديم:
ـ أخبرني ....، إذا كانوا يقولون لنا ان أرواح أطفالنا تصعد إلى السماء، وان الثكالى، والشيوخ، والأرامل، يقدرون على تحمل ما لا يحتمل من الأوزار، حتى آخر أيامهم فوق هذه الأرض....، اخبرني ماذا يفعل هؤلاء الأثرياء، أمراء الحروب، بالمال...، هل ستدوم مسراتهم على حساب الضحايا، إلى الأبد، أم ان العدم وحده يمد الجميع بأسرار اللعبة التي لا تدوم أكثر من زمن زوالها...، وعبورها من المجهول إلى المجهول...؟
ونظر إلى كلماته، فراها تحفر في الأرض، آنذاك نهض، وراح يحفر معها، قبل ان يضع نهاية لرسالته، وقبل ان يجد ضرورة للبحث عن جواب!
[7] براءة
جاري الذي لم اسمع منه كلمة حسنة، كلمة حسنة واحدة، تخص السيدة زوجته، على مدى سنين، تجاوزت الخمسين سنة، اخبرني ـ في زيارته الأخيرة لي ـ انه ـ قبل أسبوعين، ودعها والى الأبد، وانه ـ راح يعترف لي ـ وعلى مدى حياته، انه لم يتوله بامرأة، كما تعلق بها، فراح يحدثني عن حسناتها، وخصالها الحميدة، التي لا تعد ولا تحصى، وأخيرا ً قال انه لا يعرف ماذا يفعل بعد غيابها.
لم اندهش، ولم اصدم، فانا نفسي ـ على مدى هذا الزمن ـ طالما شعرت كم كان جاري ثقيلا ً، ومضطربا ً، ليس في عواطفه حسب، بل في أفكاره، وآراءه، وأحكامه أيضا ً، فالرجل لم يترك أحدا ً لم يعثر له على شائبة، وسيئة ما من السيئات!
فانا شعرت، ببساطة، ومن غير تفكير، أنني لا أرى فيه إلا كائنا ً آخر، فها هو مثل طفل غدا ً يتيما ً، ووحيدا ً، رغم انه في التسعين من العمر. فكم بدا لي شفافا ً، وصادقا ً أيضا ً، مما دعاني للشعور بالآسف، ليس عليه، بل على آثام لا اعرف من ارتكبها بحق الآخر!
[8] شيخوخة
قالت السيدة لزوجها، وهي تراقب مجموعة من الصبية يعبرون الشارع، بأسى صامت:
ـ لقد فشل الطب في مساعدتنا بإنجاب طفل واحد...، واحد، واحد كان باستطاعته ان يملأ حياتنا بالبهجة، ويشغل فرغنا، ويمدنا بالسرور.
ـ أجل، لكن الطب لم يفشل في منحنا سنوات إضافية، كي نبلغ مرحلة الشيخوخة هذه التي اسمها أرذل العمر..!
ـ من غير بهجة!
صمت قليلا ً وقال:
ـ لم نعد في الزمن القديم، كي نتلقى العون من أولادنا، ثم إنني لم أفكر بك لأداء دور اللبوة، أو ....!
ـ أنا أتحدث عن نظام عمره ملايين السنين، يا زوجي العزيز.
ـ سيعدل...، سيعدل، وستأتي أنظمة اقل قسوة، وأزمنة اقل جورا ً!
ـ تقصد...، عندما تكف الأسود عن مطاردة فرائسها، والذئاب تتنزه مع الحملان، البشرية تكف عن سفك الدماء... ؟
ـ آ ....، لقد أمضينا ساعة ممتعة في الحديث عن العقم! فلا تقلقي، فلو كان لدينا ولد أو بنت، لكنا لا نمتلك هذا الوقت في الاستمتاع بهذا ....، الذي فشل الطب بمعالجته!
[9] غباء
قبل ان امسك بالقلم للشروع بالكتابة، في ذات صباح بارد، اقترب حفيدي البالغ ست سنوات من العمر، وسألني:
ـ هل أنت ذكي جدا ً يا جدي...؟
ـ لا! أنا منزلة بين المنزلتين!
ـ منزلة الذكاء اعرفها...، فما هي الأخرى؟
ـ لولا إنني لم أتمتع بشدة الغباء، أو الغباء بإفراط، ولا فخر ...، لكان وجودك بحكم المجهول!
ـ لهذا ماما تقول لي: أنت ذكي مثل جدك!
ـ إنها تمزح معك، فأنت تعرف إنها امرأة رقيقة، فلولا غبائي ربما لن تحصل حتى على القليل من هذا الذكاء!
[10] موعظة
وتابع الواعظ يتحدث بصوت مرتفع:
ـ ومن ولد أعمى، في هذه الدنيا، هو الآخر سيسترد بصره، في العالم الآخر، كالأعرج، والاثول، والأبرص، والأجرب، والمجذوم، والمصروع، والمخروس، والمشلول، والمكظوم، يولدون بعافية تامة، كالشيخ لا يولد إلا فتى تام الفتوة، وكالعجوز لا تولد إلا فاتنة في ريعان شبابها...
صمت برهة، ثم أضاف:
ـ وكل من التزم بالوصايا، وسلك الدرب القويم، واهتدى بالطريق السليم..، من الحاضرين، ومن الحاضرات، ومن الغائبين ومن الغائبات أيضا ً....، يولدون كأن الدنيا التي تركوها ليست إلا مفازة عبور، ومحنة عثرات، وامتحان عسير، إلى الأخرى، بطهر تام، وخلاص مبين!
فسأله احد العميان، بعد الانتهاء من الموعظة:
ـ وماذا عن الذي ولد مبصرا ً، وقد صدم بما رآه في عالمنا، فغاب بصره عنه...، وما عاد يرى، أيجزى هذا الأعمى بالنعيم؟
ـ هذا يرجع إلى رب العالمين، فهو اعلم بالنوايا، وإلا لماذا ضحى البعض ببصرهم لإنارة درب الآخرين ...؟
فسأله الأعمى:
ـ أنا أيها الشيخ الجليل سمعت ما لا يصدق...، ففقدت النطق، ورأيت ما لا يرى، ففقدت البصر، وأحسست بما لا يحس ففقدت الحس، واستنشقت كل الذي لا يمكن استنشاقه فلم اعد أشم شيئا ً، ولامست الذي لا يمس ويلمس وله حضور فغاب عني حضوره...، فهل اذهب إلى جهنم؟
دار بخلد الوعظ: لست أنا هو من يبت بأمرك يا أيها الذي ولد ميتا ً، بل قال له:
ـ سترى في العالم الآخر، وتسمع، وتستنشق، وتلمس، وتحس، كل ما غاب عنك في دنياك ....؟
فتمتم الأعمى بصوت خفيض: والله اختلطت علي ّ أمور الآخرة بأمور الدنيا، ولم تختلط على ّ كما فعلتها أيها الشيخ الجليل، حتى صرت لا اعرف لماذا ولدت...، ولماذا ينبغي ان ابعث مرة أخرى!
31/12/2014
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق