السبت، 9 أغسطس 2014





عبد الأمير علوان : رهافة


عادل كامل











كما ان الصراع لا يمكن حسمه في كل ثنائية قائمة على التضاد ، فان الأسلوب الواقعي سيبقى يلفت أنظار المتابعين أزاء أساليب الحداثة وما بعدها .. هذه الواقعية بمعناها المعروف الذي يمتد الى خمسة قرون من التجارب في مختلف بقاع العالم .. هكذا وجد الفنان عبد الأمير علوان نفسه يمضي بعيداً بالتمسك والمواصلة في تطوير واقعيته العراقية او ذات السمات العراقية . وإذا كانت تجارب عبد الأمير علوان قد جاءت في نهاية القرن العشرين ، فإنها تذكرنا ، وبقوة ، بتجارب عبد القادر الرسام التي جاءت في مطلع هذا القرن . ومائة عام من الرسم تضعنا في مشهد غريب .. فهل مكث الرسم يدور حول نفسه .. أم ان هناك أسباباً تخص بداية القرن بالواقعية ونهايته بالواقعية أيضاً ؟

لست راغباً بالدفاع عن الواقعية .. أو الحداثة .. بكل تنويعاتها ومغامراتها بقدر اعترافي وبحثي عن الأسلوب الذي يحمل هوية أو ( حضارة ) الفنان.. فنحن أمام أسلوب .. ورؤية .. وفلسفة .. ولكن قبل كل شيء أجد ان الأسلوب هو الذي يعنينا وفي أي اتجاه أو مدرسة كان .. لأنه يمثل صدق الفنان وخبرته وعمقه .. ولكن السؤال الشائك والمربك الذي قد تكون الحداثة الأوربية وراءه يضعنا في مأزق .. ففي عصر انهيار إمبراطوريات كبرى .. ومجاعات .. وحروب .. وتهديدات سيكولوجية يومية مذلة للإنسان .. هل باستطاعة الرسم الواقعي ، ان يذهب الى تلك المناطق المصدعة بالاغتراب ..؟ وبمثل هذا المعنى هل ينبغي للفنان ان يهجر ( الاغتراب ) ويعزل نفسه عن العالم .. ويكتفي بذاته .. كمتصوف لا يرغب بتحريك حجر ؟ أعني هل باستطاعة ( المبدع ) ان يخترع غابته بعيداً عن حرائق العالم ..؟ ان الإجابات الأولى – والمبسطة – تقول نعم .. بيد إننا نرى ذلك من المستحيلات .. فالفنان هو ابن العصر ونبضه .. وهو على اتصال بالعالم .. وبالشقاء البشري .. في التعبير على أقل تقدير ..! ولن أزيد من الأسئلة فالفنان عبد الأمير علوان لا يهرب من العالم .. بل يحاول أولاً – ان يعطينا الجانب الآخر من المشهد المؤلم للسكان .. انه هنا يرجعنا الى الطبيعة .. الى الهواء الصافي .. والى تلك الشفافية لتي نكاد لا نراها حتى في الأحلام .. فهو يعود الى ( الام ) الرمز والام الواقعية والام بالمعنى الدقيق للموقف الإنساني . فعبد الأمير علوان يختار الطبيعة وكأنه يريد إلغاء كل قسوة أخرى .. ففي الطبيعة نعثر على ذلك الهدوء والرقة والمشاهد الجمالية التي لم يؤكد عليها الرسام العراقي إلا قليلاً ، منذ عبد القادر الرسام . ولكن عبد الأمير علوان – ثانياً – يمنح المشهد الشيء الكثير من ذاته – كما كان يفعل محمد عارف مثلاً – حتى ان لوحاته ندرك انها متوازنة بين البعد الموضوعي – الطبيعة – والبعد الذاتي – الفنان – لكي يتوحدان بالتعبير عن شيء أسمه الشعر او الموسيقى . ان هذه الواقعية تأخذ مدى أبعد من النقل الفوتوغرافي .. انها تصور الانتقالات من الفنان الى الخارج .. ومن الطبيعة الى الداخل .. فهو يمنح الواقعية منهجاً تعبيرياً .. يضاف له عناية خاصة بالتقنية الجمالية .. أي بالتحرر من الرتابة .. وهكذا سنرى مصغراته..

ففيها براعة وتحد ، تحد للرسامين او لذاته بالدرجة التي تجعله يرسم ما لا يمكن ان تراه العين المجردة : انها مهارة لاعب متمكن من صنعته ، وهو – ثالثاً – يختار موضوعات أكثر صلة بالنفس وأبعادها الداخلية : تلك الأحلام الكابوسية لنمط خاص من المشردين والمشردات .. حيث تكاد الألوان تنعدم او تصير لوناً رمادياً واحداً موحشاً موحشاً . فالجمال او البهجة او النعيم كلها قد اختفت .. وصار الموضوع يلح على الفنان ، موضوع النشر والحزن .. فماذا بعد هذه الحياة .. كلها .. سوى القنوط والفراغ والبؤس . هذه الموضوعات ستتخذ منهجاً تعبيرياً خالصاً ، يناسب أفكار الفنان . وسينجز معظم أعماله بضرب من الألم الداخلي يبلغ درجة الرمز . ومع ذلك – رابعاً – تبقى الطبيعة ذات صلة بالمرأة .. وهو أمر رمزي تماماً .. فالمرأة عنده هي رمز العطاء والخصب والتأمل .. إنها بدء الأسطورة ونهايتها أيضاً . الأسطورة في بدء الجمال الأخاذ والمدهش .. والانتهاء بجدران او سرير وثمة أشلاء محطمة لنسوة مرت عليهن الأيام والفصول .. هذا المشهد يتكرر في تجاربه .. حتى يخيل لي انه لن يتخلى عنه إلا بعد ان يعود الربيع الى ( روح ) عبد الأمير علوان : الربيع في دورته الأبدية .. وكأن الفنان يرسم بقانون يحرك أعماقه ويده وبصره قبل كل شيء .. دورة بدأها برسم الفصول الأربعة .. ورسم القرى .. والغابات .. والمدن .. والأسواق القديمة .. والمشاهد الاجتماعية .. ثم انتهى برسم حالة الدوار .. الخريف الذي يغلق على الغابة الممرات . وقد عاش الفنان حالات مختلفة عبر عنها بحنين عميق الى الأرض والإنسان .. وحتى تكاد لوحاته تنطق بجماليات المشهد المرسوم .. ثم بجماليات الحزن وصمت الخطاب عند اكتمال الدورة .. ان هذا الإخلاص للرسم يمنح واقعيته صدقها وأهميتها وجاذبيتها ، بعيداً عن كل حداثة لا تمنحنا التوهج العذب .. والمؤلم ، معاً . انها واقعية تنتمي الى ( حضارة ) عبد الأمير علوان .. وأقول حضارة انطلاقاً من احترامي العميق لكل مبدعينا وهم يقفون بعناد عظيم أمام ليل الحصار والحرب العدوانية التي حاولت دفننا تحت غبار الزمن .. وأقول حضارة لأننا لن نكسب احترام أنفسنا لأنفسنا – أولاً – وسوانا إلا من خلال هذا الخطاب وهذا الحوار الذي نجسد فيه ، إرادة العدل والخير والجمال .. وقد عمل ، بعمق وإخلاص وهدوء ، الفنان عبد الأمير علوان ، على تعميقه ، وجعله منهجاً واقعياً معاصراً ، انطلاقاً من الذات نحو العالم .. ومن العالم الى المشهد الشعري الذي يجعل من الإنسان سيمفونية جديرة بالإصغاء .. والإصغاء بنبل جليل .

عادل كامل [ الرسم المعاصر في العراق] وزارة الثقافة ـ دمشق 2008/ الفصل الثامن ص 250 ـ 253


ليست هناك تعليقات: